
وفاءً لفكري
قصة قصيرة
بقلم : عبدا لرحمن هويش
أبكرت هدى في الوصول إلى الجسر حيث يقام احتفال افتتاحه ، كانت الساعة تقترب من التاسعة ، نزلت من السيارة التي أقلّتها من مدينتها البعيدة تصحبها شقيقتها (نهال ) ، كان إصرارها راسخا ً، أرادت حضور الاحتفال ، ( انه نوع من الوفاء لفكري ) ، هكذا ردت عندما طالبها أهلها بالعدول عن حضور الحفل ، وفكري هذا هو زوجها الذي مات مع صديقه ثائر جراء انقلاب سيارتهم في طريق عودتهم من العاصمة حيث حضروا مؤتمرا للحزب الذي ينتمون إليه ، مرت بين كراسي المدعوين جاثية على كرسيها المتحرك تدفعها نهال ، اختارت مكانا في الزاوية القريبة تمكنها من رؤية بداية الجسر الموصد بشريط الافتتاح ،طلبت من نهال الجلوس على الكرسي الشاغر الملاصق لكرسيها المتحرك ، جالت بنظرها على طول الجسر القافز بين الضفتين ، كان فرحها كبيرا ، ( أخيراً تحقق ما حلم به فكري )، قالت لنفسها ، تراءى لها خياله يمشي على رأس الجسر ، تخيلته يأخذ المقص ليفتتح الجسر ، حنت إليه من جديد ، كان دنياها التي تعيش لها ، ومستقبلها الذي تتلقفه يوما بعد آخر ، سنين طويلة مضت لكنها لم تنسى اليوم الذي مات فيه ، حزنت عليه اشد الحزن ، وكان عزاءها أن تكون وفيةً له ، أن تكون له وحده ، لا ترى غيره ، اتجهت بنظرها صوب القرية الكبيرة المعتكفة في الضفة الأخرى ، كان يمكنها أن ترى البيت الذي جمعها به ، تعرفت عليه في الكلية حيث درست التاريخ بينما كان هو يدرس السياسة ، أحبا بعضهما ، هي من مدينة بعيدة وهو من هذه القرية المحاطة بالماء من جميع الجهات ، المعزولة عن الجميع ، لا يربطها بالمدن وحتى القرى الأخرى سوى جسر خشبي متهالك يأخذه النهر معه كلما علا ماءه ، تزوجته وسكنت بيت أهله ، عرفت أقاربه وذويه ، أصدقائه كثر إلا أن ثائر كان أقربهم إليه ، كانا لا يفترقان ، كأن الرابط بينهما روحيا ، أفكارهم واحدة ، وتطلعاتهم متشابهة ، حتى حلم بناء الجسر الممتد أمامها كان مشتركا بينهم ، ولطالما سمعتهم يتحدثون بضرورة أن يكون لقريتهم رابطا مع ما يحيط
بها من عوالم ، نشأت بينها وبين ( رجاء ) زوجة ثائر صداقة قوية ، ويبدو أن متانة علاقة زوجيهما امتدت لتكوّن علاقة وطيدة بينهما .
• رجاء ... ترى أين أنت الآن ...، قالت لنفسها باشتياق ، ثم أردفت:
• هل سعدت بزواجك بعد ثائر ... وهل كان اختيارك صحيحا أم أن خياري هو الصحيح ...لما لم يكن وفائك لثائر كوفائي لفكري ...
• إيه رجاء أو (رجاء الملا) كما كنت تقدمي نفسك لمن لا يعرفك ... لا زلت أتذكر وجهك جيدا ... ولازالت كلماتك تترد على مسامعي حين قلت لك أنني سأكون وفيةً لزوجي ولن أفكر بالزواج من غيره وكان جوابك : أن الحياة تستحق أن نحياها.
• زعلت منك وقتها ... زعلت كثيرا وانقطعت علاقتنا بعدها ... سمعت انك تزوجت من رجل آخر بعد انقضاء العدة ورحلت معه ... ترى أين أنت الآن وماذا حل بك ... هل وجدت ثائرا آخر أم انك رضيت بالاكتفاء في أن تكوني في ظل رجل ... أي رجل حتى لا تضطري إلى حائطا كما يقول المثل.
بدأت الموسيقى تصدح معلنةً وصول الشخصية التي ستفتح الجسر .
• هو رجل أعمال ثري .. وهو من موّل عملية بناء الجسر ..، سمعت احد الجالسين خلفها يقول.
• ليس رجل أعمال فقط بل رجل سياسة أيضاً ... يقولون انه شخصية مرموقة ويتوقعون ان يكون لها دور مهم في دولتنا ..، ردّ آخر.
تمنت أن تكون قادرة على أن تنهض لتقدم شكرها الكبير لهذا الشخص العظيم ، لتشكره نيابة عن فكري ، وثائر وحتى رجاء ، فالحلم وان كان حلم فكري وثائر إلا انه صار في يوم من الأيام حلمهم جميعا ، وكان من الواجب على من بقي منهم أن يشكر من يحققه نيابة عن الباقين .
حركت نفسها في لحظة نسيان محاولة النهوض فلم يحملها جسمها ، انكفأت على كرسيها مرددة :
• ليس مطلوبا مني أن أقوم بالشكر فقد وفيت ... وفيت لفكري ولم أتقبّل غيره ... عرض عليّ رجال كثر مشاريع زواج ورفضت ...تحملت ما جرى لي جراء وفائي ... رفع رحمي بعد يأس من الولادة ... وكيف ألد ولا زوج عندي ... كنت أتمنى ولادة صبي يحمل اسم فكري ...ولما لم يتحقق هذا فلم تكن لي رغبة أن يحوي رحمي وليدا لرجل غيره... أحس بعم الحاجة إليه فأعلن احتجاجه ومرض فكان لابد من رفعه .... قص احد أثدائي بعد مرضه فلا جنين يمص لبنه ، وها أنا ذا تشرف سنوات عمري على خواتيمها ، لا استطيع النهوض ، وأعتمد على شقيقتي نهال التي أقعدتها من الزواج لترعاني .
انقطعت الموسيقى ، صحت من شرودها ، مدير الحفل يرحب بالجميع من خلال مكبر الصوت ، أدارت رأسها ناحية منصة الخطابة عند رأس الجسر القريب منها .
• يتفضل السيد برهان اسكندر المحترم .. السياسي المعروف ورجل الأعمال الناجح ... ممول مشروع إنشاء الجسر وصاحب الفضل في إقامته في قص شريط الافتتاح .
أجهدت نفسها كي ترى محقق حلمهم ، رجل أنيق همته عالية ، تبدو همة الشباب على حركاته ، ارتقى إلى المنصة ليلقي كلمته والأنظار تتجه صوبه ، رفع يده محييا الحضور فعلا تصفيق حاد :
• بداية أود أن اشكر لكم حضوركم وترحيبكم هذا ، لقد كنت فيما سبق تنحصر أعمالي بما يعود علي بربح ، وكنت لا اهتم لإقامة عمل يخدم غيري طالما لا يحقق لي ما اصبوا إليه من أرباح ترضيني ... إلا أن شخصا عزيزا علّي غير من قناعاتي هذه وجعلني أؤمن أن خدمة أهلي ونيل رضاهم هي أقصى ما يمكنني أن احصل عليه من أرباح ، فكان مشروعي في بناية هذا الجسر هو البداية لما آمنت به ..واعدكم بأنني سابني مشاريع أخرى تخدمكم .... وقبل أن افتتح الجسر اسمحوا لي أن أقدم لكم صاحب فكرة بناء هذا الجسر ، الشخص المتفضل علّي في كل نجاحاتي والسبب في ما أنا عليه اليوم .... ، ( طغى صمت يعم المكان في انتظار معرفة الشخص الذي كان له الفضل في إقناع الرجل ببناء الجسر) ، اسمحوا لي أن أقدم لكم صاحب فكرة بناء جسركم هذا ... زوجتي رجاء الملا .
قصة قصيرة
بقلم : عبدا لرحمن هويش
أبكرت هدى في الوصول إلى الجسر حيث يقام احتفال افتتاحه ، كانت الساعة تقترب من التاسعة ، نزلت من السيارة التي أقلّتها من مدينتها البعيدة تصحبها شقيقتها (نهال ) ، كان إصرارها راسخا ً، أرادت حضور الاحتفال ، ( انه نوع من الوفاء لفكري ) ، هكذا ردت عندما طالبها أهلها بالعدول عن حضور الحفل ، وفكري هذا هو زوجها الذي مات مع صديقه ثائر جراء انقلاب سيارتهم في طريق عودتهم من العاصمة حيث حضروا مؤتمرا للحزب الذي ينتمون إليه ، مرت بين كراسي المدعوين جاثية على كرسيها المتحرك تدفعها نهال ، اختارت مكانا في الزاوية القريبة تمكنها من رؤية بداية الجسر الموصد بشريط الافتتاح ،طلبت من نهال الجلوس على الكرسي الشاغر الملاصق لكرسيها المتحرك ، جالت بنظرها على طول الجسر القافز بين الضفتين ، كان فرحها كبيرا ، ( أخيراً تحقق ما حلم به فكري )، قالت لنفسها ، تراءى لها خياله يمشي على رأس الجسر ، تخيلته يأخذ المقص ليفتتح الجسر ، حنت إليه من جديد ، كان دنياها التي تعيش لها ، ومستقبلها الذي تتلقفه يوما بعد آخر ، سنين طويلة مضت لكنها لم تنسى اليوم الذي مات فيه ، حزنت عليه اشد الحزن ، وكان عزاءها أن تكون وفيةً له ، أن تكون له وحده ، لا ترى غيره ، اتجهت بنظرها صوب القرية الكبيرة المعتكفة في الضفة الأخرى ، كان يمكنها أن ترى البيت الذي جمعها به ، تعرفت عليه في الكلية حيث درست التاريخ بينما كان هو يدرس السياسة ، أحبا بعضهما ، هي من مدينة بعيدة وهو من هذه القرية المحاطة بالماء من جميع الجهات ، المعزولة عن الجميع ، لا يربطها بالمدن وحتى القرى الأخرى سوى جسر خشبي متهالك يأخذه النهر معه كلما علا ماءه ، تزوجته وسكنت بيت أهله ، عرفت أقاربه وذويه ، أصدقائه كثر إلا أن ثائر كان أقربهم إليه ، كانا لا يفترقان ، كأن الرابط بينهما روحيا ، أفكارهم واحدة ، وتطلعاتهم متشابهة ، حتى حلم بناء الجسر الممتد أمامها كان مشتركا بينهم ، ولطالما سمعتهم يتحدثون بضرورة أن يكون لقريتهم رابطا مع ما يحيط
بها من عوالم ، نشأت بينها وبين ( رجاء ) زوجة ثائر صداقة قوية ، ويبدو أن متانة علاقة زوجيهما امتدت لتكوّن علاقة وطيدة بينهما .
• رجاء ... ترى أين أنت الآن ...، قالت لنفسها باشتياق ، ثم أردفت:
• هل سعدت بزواجك بعد ثائر ... وهل كان اختيارك صحيحا أم أن خياري هو الصحيح ...لما لم يكن وفائك لثائر كوفائي لفكري ...
• إيه رجاء أو (رجاء الملا) كما كنت تقدمي نفسك لمن لا يعرفك ... لا زلت أتذكر وجهك جيدا ... ولازالت كلماتك تترد على مسامعي حين قلت لك أنني سأكون وفيةً لزوجي ولن أفكر بالزواج من غيره وكان جوابك : أن الحياة تستحق أن نحياها.
• زعلت منك وقتها ... زعلت كثيرا وانقطعت علاقتنا بعدها ... سمعت انك تزوجت من رجل آخر بعد انقضاء العدة ورحلت معه ... ترى أين أنت الآن وماذا حل بك ... هل وجدت ثائرا آخر أم انك رضيت بالاكتفاء في أن تكوني في ظل رجل ... أي رجل حتى لا تضطري إلى حائطا كما يقول المثل.
بدأت الموسيقى تصدح معلنةً وصول الشخصية التي ستفتح الجسر .
• هو رجل أعمال ثري .. وهو من موّل عملية بناء الجسر ..، سمعت احد الجالسين خلفها يقول.
• ليس رجل أعمال فقط بل رجل سياسة أيضاً ... يقولون انه شخصية مرموقة ويتوقعون ان يكون لها دور مهم في دولتنا ..، ردّ آخر.
تمنت أن تكون قادرة على أن تنهض لتقدم شكرها الكبير لهذا الشخص العظيم ، لتشكره نيابة عن فكري ، وثائر وحتى رجاء ، فالحلم وان كان حلم فكري وثائر إلا انه صار في يوم من الأيام حلمهم جميعا ، وكان من الواجب على من بقي منهم أن يشكر من يحققه نيابة عن الباقين .
حركت نفسها في لحظة نسيان محاولة النهوض فلم يحملها جسمها ، انكفأت على كرسيها مرددة :
• ليس مطلوبا مني أن أقوم بالشكر فقد وفيت ... وفيت لفكري ولم أتقبّل غيره ... عرض عليّ رجال كثر مشاريع زواج ورفضت ...تحملت ما جرى لي جراء وفائي ... رفع رحمي بعد يأس من الولادة ... وكيف ألد ولا زوج عندي ... كنت أتمنى ولادة صبي يحمل اسم فكري ...ولما لم يتحقق هذا فلم تكن لي رغبة أن يحوي رحمي وليدا لرجل غيره... أحس بعم الحاجة إليه فأعلن احتجاجه ومرض فكان لابد من رفعه .... قص احد أثدائي بعد مرضه فلا جنين يمص لبنه ، وها أنا ذا تشرف سنوات عمري على خواتيمها ، لا استطيع النهوض ، وأعتمد على شقيقتي نهال التي أقعدتها من الزواج لترعاني .
انقطعت الموسيقى ، صحت من شرودها ، مدير الحفل يرحب بالجميع من خلال مكبر الصوت ، أدارت رأسها ناحية منصة الخطابة عند رأس الجسر القريب منها .
• يتفضل السيد برهان اسكندر المحترم .. السياسي المعروف ورجل الأعمال الناجح ... ممول مشروع إنشاء الجسر وصاحب الفضل في إقامته في قص شريط الافتتاح .
أجهدت نفسها كي ترى محقق حلمهم ، رجل أنيق همته عالية ، تبدو همة الشباب على حركاته ، ارتقى إلى المنصة ليلقي كلمته والأنظار تتجه صوبه ، رفع يده محييا الحضور فعلا تصفيق حاد :
• بداية أود أن اشكر لكم حضوركم وترحيبكم هذا ، لقد كنت فيما سبق تنحصر أعمالي بما يعود علي بربح ، وكنت لا اهتم لإقامة عمل يخدم غيري طالما لا يحقق لي ما اصبوا إليه من أرباح ترضيني ... إلا أن شخصا عزيزا علّي غير من قناعاتي هذه وجعلني أؤمن أن خدمة أهلي ونيل رضاهم هي أقصى ما يمكنني أن احصل عليه من أرباح ، فكان مشروعي في بناية هذا الجسر هو البداية لما آمنت به ..واعدكم بأنني سابني مشاريع أخرى تخدمكم .... وقبل أن افتتح الجسر اسمحوا لي أن أقدم لكم صاحب فكرة بناء هذا الجسر ، الشخص المتفضل علّي في كل نجاحاتي والسبب في ما أنا عليه اليوم .... ، ( طغى صمت يعم المكان في انتظار معرفة الشخص الذي كان له الفضل في إقناع الرجل ببناء الجسر) ، اسمحوا لي أن أقدم لكم صاحب فكرة بناء جسركم هذا ... زوجتي رجاء الملا .