الأخبار
(يسرائيل هيوم): هكذا حاولت حماس اختراق قاعدة سرية إسرائيلية عبر شركة تنظيفجندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينية
2025/7/7
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأنباط : تاريخ وحضارة (الجزء7 من الفصل 2) لمؤلفه عزام أبو الحمـام

تاريخ النشر : 2010-07-15
الأنباط : تاريخ وحضارة (الجزء7 من الفصل 2) لمؤلفه عزام أبو الحمـام
ونتناول في هذا المبحث استعراضا لأنواع المساكن والأبنية في المناطق النبطية:

1-2- بيوت الشعر أو الخيام (البدوية):
ليس من السهل تحديد تاريخ دقيق لظهور بيت الشعر المصنع بالنول، فهذا الاختراع عرف منذ أقدم العصور في الكثير من الحضارات الإنسانية، لكنه ظل ملتصقا بالبوادي والجماعات المرتحلة، ومن مادته التي صنع منها نعرف أنه اختراع الجماعات البدوية، ونعرف أيضا من مصادر عديدة أن البداوة صارت مرحلة متقدمة على ما سبقها من المراحل التطورية للحضارات الإنسانية، فقبل ذلك كانت السيادة لنمط "الجمع والالتقاط" كنمط عيش في المجتمعات البدائية الأولى، ثم إن ذلك تطور لنمط "الصيد" ليفضي ذلك إلى تدجين الحيوانات ثم تربيتها ليسود هذا النمط وربما جنبا إلى جنب مع النمط "الزراعي" الذي كان قد تطور في أماكن أخرى بسبب البيئة المناسبة للزراعة التي تتوفر فيها المياه أيضا خصوصا الأنهار.
وإنه لمن المنطق القبول بنظرية "الكهوف" التي عاش فيها الإنسان قبل اهتدائه لصناعة النول، لكن الكهوف غالبا من صنع الطبيعة، وما كان على الإنسان سوى تحسينها بهذا القدر أو ذاك لتصبح صالحة لأغراضه المتواضعة آنذاك، ومع الاهتداء لصناعة بيوت الشعر، ظل الكهف أيضا يتمتع بأهمية كبيرة للإنسان، خصوصا في المناطق الجبلية، وتطورت وظائف الكهف ليلبي وظائف أخرى غير السكن. لكن بيت الشعر صار عنوانا أو رمزا لمرحلة جديدة من التطور، فهو سيمتاز عن الكهوف بالكثير من الخصائص، إذ أنه سهل النقل والحمل والتركيب، وهو أيضا مصنع من مواد خام وفيرة. وعلاوة على ذلك فهو الأكثر مناسبة للصحراء من أي نمط آخر من أنماط المساكن.
وقد عرفنا من خلال السجلات الأشورية أن القبائل العربية في الجزيرة العربية كانت تعيش في بيوت الشعر والخيام منذ آلاف السنين، وعرفنا من خلال النصوص والسجلات المصرية أن بلاد الشام أيضا كانت تنتشر فيها الخيام المصنوعة من الشعر والصوف. فمن بردية هارس من عصر رمسيس الثالث (1193-1162 ق.م) يقول: دمرت سعير ومن فيها من قبائل الشاسو ومزقت خيامهم بما فيها من ناس، وما بها من متاعهم ومثلها من قطعانهم التي لا تحصى، وقد كبلوا وقدموا كغنائم وجزية لمصر... وعلى الرغم من اختلاف العلماء في تحديد موقع قبائل الشاسو هذه إلا أن الرأي الراجح أنها قبائل انتشرت في بلاد الشام عموما وقد يكونون وصلوا شرق النيل أيضا(49).
واشتهر (بنو قيدار) وهم الثموديون على الأرجح - بخيمهم المصنوعة من شعر الماعز، وأصحاب الخيام المصنوعة من شعر الماعز أو صوف الضأن هم من الأعراب أصحاب الماشية، الذين يعيشون في مواضع تكثر فيها الأمطار وتكون غير بعيدة عن المدن والقرى ومواضع الماء، ولذلك فهم يعيشون في الغالب على الرعي(50). وبيوت الشعر عادة ما يختلف بعضها عن بعض من حيث سعتها، وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثرائه. والخيمة عادة ما تقطع إلى قسمين أساسيين: قسم (المحرم) وهو للنساء وقسم (المضيف) أو (المجلس) وهو للرجال وللضيوف ولباقي أفراد الأسرة في الأحوال الطبيعية. ثم يقسم إذا كان صغيرا إلى قسمين: الربعة والمحي، وإذا كان كبيرا يقسم المحرم لعدة أقسام لكل من الزوجات، إذا كان صاحب البيت ذا عدة زوجات أو له أم وأخوات يرى لزوما التفريق بينهن ،وهذا التقسيم يكون بواسطة الحواجز المصنوعة من القصب أو المنسوجة من الشعر وهي المسماة بالقطع أو الساحة، وخيام البدو على أنواع مختلفة في الحجم وفي الشكل وفي مادة التصنيع، فالمصنوع منها من شعر الماعز هو الغالب والأكثر تفضيلا لخصائصه الكثيرة ومنها سعته ومقاومته للظروف المناخية، ومن هذه الخيام أيضا ما يصنع من وبر الإبل أو صوف الضأن، ويسمى حينها "الخباء"، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو " بيت "، وقيل أن الخباء من شعر أو صوف، وهو دون "المظلة"، وذكر أن المظلة الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة أو شقتين وثلاثا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. وعرف العرب أيضا "الطراف"، وهو خباء من أدم يتخذه الأغنياء، و"الطوارف" من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر إلى الخارج.
والملاحظ أن البدو لا يستعملون كلمة خيمة ولا مضرب أو فسطاط ولا غيرها مما جاء في كتب اللغة، بل كلمة: "بيت" أو "بيت الشعر" فقط.
وعادة ما تتميز خيمة شيخ القبيلة أو سيدها بكبرها عما جاورها من سواد الناس، وهي قبلة للضيوف واللاجئين وأصحاب الحاجات الذين غالبا ما يستدلون عليها من حجمها، وهي أيضا منتدى أبناء القبيلة ومركز عمل الشيخ الذي يدير شؤون قبيلته. وفي بعض الحالات كان بعض السادة من القبائل العربية يجعل له قبباً خاصة من "الأدم" أي الجلود، وهي من إمارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه عند الملوك. وغالبا ما تتوسط خيمة الرئيس او الشيخ مستوطنة الخيام التي تتناثر حولها(51).
وبالنسبة للأنباط، فإن بيت الشعر والصوف ربما كان الأكثر انتشارا وشيوعا بينهم، نعرف ذلك ليس من خلال المخلفات الأثرية، بل من خلال نمط المعيشة الذي كان سائدا بينهم، فهم يربون الضأن الكبير الحجم مثلما ذكر سترابو، وكذلك الإبل التي كانت العماد الأول لاقتصادهم، ومن المحتمل أن ما لدى الأنباط من الإبل كان يفوق ما حولهم من قبائل. فهم إذن قبائل تعتمد على تربية الإبل بالدرجة الأولى ثم الضأن بعد ذلك، وبالنسبة للقيم البدوية، فإن مالك الإبل أرفع مكانة من مالك الضأن وأعلى منزلة، وترتفع هذه المنزلة بقدر ارتفاع عدد ما يملك من تلك الإبل، وهذا الاقتصاد يوجد عادة في الصحراء وعلى أطراف الجبال.
وإن الناظر في انتشار المستوطنات النبطية المستقرة، كالقرى والمدن، على امتداد رقعتهم لا بد من أن يلاحظ محدودية هذه المستوطنات وبالتالي قلة عدد سكانها، وثمة تقدير لعدد سكان البتراء في أوج ازدهارها بما يصل نحو الثلاثين ألفا(52)، ومعنى ذلك أن مجتمع الأنباط الحقيقي لم يكن مدنيا بل كان في أطراف المدن وعمق صحاريها، وبالطبع في مجتمعات من الخيام مثلما هي معروفة اليوم ولكن بصورة أوسع.
نشير إلى ملاحظة أخيرة في شأن بيوتات الشعر هي أن هذا النمط من المساكن لم يخلف لنا أثرا ماديا، وهذا الأمر مفهوم لأن مواد هذه البيوت من شعر وصوف وأخشاب، حتى الحلقات المعدنية الصغيرة لا تقوى على الصمود في أتربة الصحراء لأكثر من عشرات السنوات. ولذلك لم يجد الأثاريون أي شيء ذي قيمة في هذا الشأن.
2-2- المغاور والكهوف:
ذكرنا أن بيوتات الشعر لم تكن لتلغي ما سبقها من مساكن الكهوف مثلما لم تكن البيوت الطينية أو الحجرية لتلغي بيوت الشعر أو غيرها من المساكن. ومع أننا لا نملك مخلفات أثرية دامغة، إلى أن هذا النمط كان معروفا بين الأنباط وبالطبع بين الأدوميين قبلهم والحوريين الذين أكثر ما عرف عنهم التصاقهم بالكهوف مثلما ذكرت ذلك التوراة والمصادر المصرية. فمساكن الكهوف كانت معروفة في هذه البلاد وما حولها منذ أقدم العصور، وبعضها كان ما يزال مستخدما كمساكن إلى وقت قريب في الكثير من أطرف القرى الأردنية والفلسطينية واللِبْنْانية والسورية، وقد استخدمت بعض هذه الكهوف ملاذا للمؤمنين المتعبدين أو الزهاد والمتصوفين، وقد رصد زيدون المحيسن العديد من الكهوف التي استخدمت كمساكن في بعض القرى التي درسها مثل بشرى وسال وحوارة من أعمال إربد شمال المملكة الأردنية الهاشمية، وذلك منذ أواسط القرن التاسع عشر بعد قدوم مجموعات قبلية من الجزيرة العربية واستخدم الناس هذه الكهوف في فصول الشتاء بينما استخدموا بيوت الشعر في الصيف، ووجدت في بعض هذه القرى كهوف معروفه لعائلات بعينها، وفي فترة لاحقة بنى كل واحد من هؤلاء بيتا فوق المغارة(53). ورصدنا بأنفسنا عشرات من هذه الكهوف التي استخدمت في جنوب وشرق بيت لحم والخليل وجبال الطفيلة والكرك لنفس الأغراض، وما يزال قليل من هذه الكهوف قيد استخدام بعض الرعاة في تلك المناطق. ومدينة البتراء نفسها تتضمن حتى الآن عددا كبيرا من هذه الكهوف التي غالبا ما كانت من صنع الإنسان، وبعضها وربما معظمها كان من عصور ما قبل الأنباط، لكن الأنباط – بالتأكيد – استخدموها لأغراض السكن وأغراض أخرى كالتخزين، وامتاز بعض هذه الكهوف الصخرية بارتفاعه عن مستوى الأرض لأسباب دفاعية ربما، والبعض الأخر من الكهوف استخدم بالتأكيد لأغراض إيواء قطعان الماشية وتخزين الحبوب والسكن في كثير من الحالات. وكذلك من السهل ملاحظة آثار الاستيطان القريب للكثير من الكهوف المنتشرة في جبال الشراة خصوصا الكثير من الوهدات الصحراوية، إذ أن آثار الحرائق ما تزال بادية، ويمكن ملاحظة طبقات من التربة السوداء الخصبة التي تحيط بهذه الكهوف مما يستدل معها على استيطان طويل المدى لهذه الكهوف، وبعضها أيضا يحتفظ ببعض الخربشات أو الرسومات البسيطة من صنع الإنسان في الكثير من المراحل التاريخية.
يشار أخيرا إلى أن الكهوف عرفت باسماء متعددة تبعا لحجمها أو شكلها مما يدل على أهميتها في حياة سكان المنطقة، وأكبر هذه الكهوف حجما هو "البد"، فالمغارة، ثم الكهف، وهذه غالبا ما تصلح لسكنى الإنسان وفيها أثر منه، ثم الشقيف، واللجف، والسلع، وهي غالبا ما تستخدم لأغراض أخرى غير السكن ولم يكن ليد الإنسان فيها أي آثر، وتتنوع تلك التسميات أيضا من منطقة لأخرى.
3-2 - حجرات وبيوتات الحجارة الغشيمة:
ما تزال بقايا من هذه الأبنية البسيطة قائمة في العديد من مناطق بلاد الشام ومنها جنوب الأردن التي كانت قلب بلاد الأنباط، ومعظم هذه الأبنية تهدم أو ترك بعد التطورات الكثيرة في الحياة. وفكرة هذه البيوتات التي غالبا ما تتكون من حجرة واحدة، هي أنها كانت بمثابة بيوت سكنية موسمية، وغالبا لفصلي الربيع والصيف، تأوي إليها الأسرة لأسباب اقتصادية تكاد تنحصر في جمع الحصاد من الحقول أو قطف الثمار وحراستها قبل أن تعود لممارسة حياتها المعتادة في البيوت الحجرية في القرى والمدن أو في بيوت الشعر في البادية.
ويمتاز البيت الحجري بالكثير من االميزات التي تجعل منه مسكنا موسميا مفضلا، فهو أولا قليل الكلفة في إنشائه، إذ أن ذلك لا يتطلب أكثر من جمع قدر كاف من الحجارة الغشيمة ثم القيام برصفها وبنائها بعضها فوق بعض بقليل من المهارة، ويجري ذلك بدون استخدام الملاط اللاصق "المونة" في أغلب الأحيان، أما السقف فيجري بناءه من أغصان الشجر أو من الأخشاب وما تجود به البيئة، وبما أن الجدران عادة ما تكون سميكة بصفين من الحجارة وبدون الملاط، فإن ذلك يحقق جوا لطيفا داخل البناء في الصيف، وهي لذلك تمتاز بأنها مصايف، ولذلك سميت في بعض قرى جنوب فلسطين بـ"القصور" لأنها بمثابة المرابع الصيفية لأصحابها.
وثمة استخدام آخر لهذه القصور البسيطة، ذلك أن البعض استخدمها كمراكز لبعض أعماله التجارية كالدكاكين، وتقام عادة على أطراف الطرق التجارية الدولية والداخلية، وما يزال بمستطاع المسافر على الطرقات الداخلية في محافظات الأردن ملاحظة بقايا هذه القصور كرجوم من الحجارة ويمكن ملاحظة بقايا جدران هذه الأبنية أو أساساتها، وبعضها ما يزال على حاله، ومنها ما جرت تقويته بالملاط الطيني، أو بالملاط الاسمنتي في فترات لاحقة، على أننا نذكر أن هذه الأبنية هي من فترات زمنية متأخرة، وأغلبها من زمن القرن العشرين، إذ أن القديم منها لم يقو على البقاء إذا ما علمنا أن البلاد تعرضت للكثير من الزلازل المتوسطة القوة في فترات لاحقة لحضارة الأنباط والرومان، حتى مرحلة الفتح الإسلامي، ثم إن معظم هذه الأبنية أعيد استخدام حجارتها من قبل السكان المتجددين في كل المراحل بحسب طبيعة التطور، وقد استخدم بعض هذه الحجارة لأغراض إقامة الجدران الزراعية وبعضها لأغراض البناء الحديث، مما لم يبقِ لنا معه أثراً مكتملاً لها.
ويجب التأكيد أخيرا أن الأنباط إنما استخدموا هذه الأبنية على نطاق واسع من وجهة نظرنا، يستدل على ذلك من أنماط معيشة السكان ومن بقايا مستوطناتهم، فإنك لتجد مستوطنات الأنباط المبنية لا تعدو أن تكون بمساحة القرى الصغيرة جدا بمقاييس أيامنا هذه، وإنك لو دققت النظر لتجد الكثير من الرجوم في الأراضي المحيطة بهذه الآثار، وثمة رجوم أخرى كثيرة في المرتفعات الجبلية، خصوصا الزراعية، وبعض هذه الرجوم ينتشر في الصحراء أيضا، لكنه ليس من السهل الكشف عن مخططات هذه الأبنية البسيطة ما دامت لا تقوم على أساسات عميقة، خصوصا أن الأثريين لم يبذلوا جهدا في هذا الصعيد لتركيزهم على المستوطنات المهمة التي تتضمن المنشآت والمرافق المبنية أو المنحوتة التي تعتبر الأغنى في آثارها المادية.
ومما هو معروف ان الأنباط كانوا قد بدأوا في مستهل سكناهم لمنطقة حوران بإنشاء أبنيتهم بالحجر البازلتي المتوفر في المنطقة بشكله الطبيعي مع تشذيب وتوجيه بسيطين، حيث كان التنقل عماد نشاطهم البشري المتنوع، فبدأوا ببناء مواقع متفرقة على الطرق والنقاط الجغرافية الهامة التي كانوا يجوبون محيطها، ومثالنا الأهم على ذلك هو موقع " تل دبة بريكة" في محافظة السويداء، الذي يعطينا مثالا عن عمارة الأنباط المبكرة، حيث تم الكشف عن معبد وبناء إداري وبرج حراسة وثكنة عسكرية، ولقد بني المعبد بالحجر الغشيم دون استخدام المونة وأقلوا من الفتحات والنوافذ زيادة في تحصين البناء(54).
ومن المؤكد أن بعض الأنباط جعل من هذه الأبنية بيوتا دائمة بعد أن قاموا بتوسيعها، وقد لاحظنا أن بعض هذه الأبنية اشتمل على طابقين بعد أن جرى تعزيز السقف الأول بالملاط المدعم إما بالأخشاب أو بالحجارة المرصوصة، وبعض هذه الأبنية اشتمل على عدد من الحجرات والمرافق أيضا كغرف التخزين وحجرة الحيوانات والمستلزمات الزراعية. ومن المرجح أيضا أن مثل هذه الأبنية التي ظلت تستخدم حتى وقت قريب كمراكز تجارية أو خدمية كانت قد عرفت لدى الأنباط وهم يقدمون كل احتياجات القوافل التجارية والمسافرين والمتنزهين في أطراف الريف وعمق الصحارى، وبما أن القوافل التجارية كانت تسير وفق مواسم وطرق محددة، كرحلة الشتاء والصيف التي كانت لتجار قريش، فإن هذه الأبنية البسيطة كان من السهل إشغالها في بعض المواسم وهجرها في مواسم أخرى إذا ما تطلب الأمر ذلك، بل إنه كان من السهل على البعض استخدامها في النهار وإفراغها في الليل بعد أن ينقل حاجياته منها لمكان آمن ثم ليعود لمباشرة عمله أو تجارته في النهار التالي، ومثل هذه الفرضيات تصدق على الكثير من الخدمات غير التجارة، ومنها مثلا: الخدمات المتعلقة بالحيوانات كحذو الخيول والبغال والحمير التي كانت ترافق التجار، ومنها أيضا إصلاح معدات القوافل التجارية وترميمها كالبرادع والسرج والمقادم وغيرها من الأعمال المهمة للحيوانات المصاحبة للتجار وربما البيطرة أيضا. ومما يعزز مثل هذه الفرضيات، أن الأنباط كانوا قد قاموا بكل ما يمكن القيام به لنجاح التجارة عبر بلادهم وازدهارها، وقد وفروا الأمن فوق كل الخدمات الأخرى، وإن ظاهرة المخربشات الكثيرة التي يعد المكتشف منها بالآلاف في اطراف الصحراء وطرقاتها ليسهل تفسيره إذا ما قبلنا فرضية انتشار الأبنية الحجرية المؤقتة أو المبسطة هذه، فإن أصحاب هذه الأبنية كان لديهم ما يكفي من الوقت والاحتكاك لتعلم الكتابة وللقيام بتسجيل هذه الذكريات على الحجارة جنبا إلى جنب مع تجار القوافل ومع محصلي ضرائب الدولة الذين ربما انتشروا أيضا في ربوع البلاد لتحصيل ضرائب الأنعام والمحاصيل.
4-2: البيوت الحجرية المطينة:
ثمة نمط آخر من الأبنية البسيطة التي لاحظناها في المنطقة، وهي أبنية غالبا ما تكون من حجرة بسيطة واحدة أو حجرتين متلاصقتين أو ثلاث متلاصقات، وقد بنيت من الحجارة الغشيمة أو بعد معالجة بسيطة، لكنها تمتاز عن النمط الأبسط بعد أن جرى تعزيزها بالملاط الطيني من الخارج أو من الداخل أو من كليهما، وفي بعض الحالات كان يجري سقفها بالملاط الطيني أيضا بعد تدعيم السقف بالأخشاب أو بالحجارة المرصوصة بإحكام على شكل قبب أو أقواس، وهذه الأبنية لم تكن من بقايا الأنباط بالتأكيد، فهي من نتاج مراحل متأخرة جدا، وربما كان معظمها من بقايا القرن العشرين والنصف الأول منه على الأرجح، لكن النمط المعماري ينبىء بما درس من أنماط كانت معروفة للسكان الأول، ثم ما تفرضه البيئة ثانيا من خلال مقدراتها ومناخها وغير ذلك من الخصائص.


صورة ((منزل مختلط الأساليب من بلدة الكرك القديمة (مؤاب)من أواخر القرن التاسع حتى بداية القرن العشرين، حجارة غشيمة وشبه مهذبة وحجارة مدقوقة حول النوافذ، وسقف مختلط من الخشب والقصب والطين- تصوير الباحث))


وهذا النمط من البناء ما تزال بقاياه منتشرة في بعض القرى أو الأرياف البعيدة عن مراكز القرى، ومن المحتمل أن مثل هذا التطور كان أساسيا في التحول من نمط البداوة أو نصف البداوة إلى النمط الزراعي الدائم، لأن مثل هذه الأبنية كانت مناسبة لاستقرار دائم خلال الصيف والشتاء، وأصحاب هذه الأبنية غالبا ما جعلوا لها أبوابا محكمة من الأخشاب، وأقاموا من حولها بعض المرافق، وبعض هذه المرافق وصل في البناء الأساسي، كحجرات التخزين، وحجرة الدواب، وحظيرة جانبية للأغنام، وقد تكون حظيرة الأغنام مغارة تحت البناء أو بجانبه أو قريبا منه، ومثل هذا البناء كان يقام في أطراف المناطق الزراعية أو في القرى الصغيرة الناشئة، وذلك يعتبر مرحلة انتقالية لاستقرار دائم، وفيه كذلك الجمع بين العمل الزراعي وتربية الماشية، وفي بعض المساكن من هذا النمط، أقيمت ساحات داخلية للبناء.
والسمة الأساسية أن أصحاب هذه الأبنية قد غادروا البداوة وصاروا أقرب إلى النمط الفلاحي أو الريفي، فالزراعة هنا هي الأساس، وتربية الماشية هي من ملحقات العمل الزراعي.
وإذا ما علمنا أن الأنباط أجادوا العمل الزراعي أيما إجادة، وأنهم فوق ذلك طوروه بعد أن توارثوه عن أسلافهم الأدوميين، فإنهم لا بد من أنهم انتشروا لبناء مستوطنات من هذا القبيل في أطراف الوهدات الزراعية، وأن قسماً كبيراً منهم قد تحول عن نمط العيش البدوي بعد أن صار للزراعة عائد تجاري مجزٍ ما دام الناتج الزراعي أصبح سلعة سهلة التسويق بفضل استمرار ازدهار التجارة فترة طويلة من الوقت. وتقوى هذه الفرضية بعد الاحتلال الروماني للبلاد وتحويل طرق التجارة إلى بصرى الشام مما قلل من أهمية العمل التجاري الذي كان النشاط الأهم للأنباط.
وقد كشفت الحفريات الأثرية في العديد من المناطق عن مستوطنات زراعية واسعة، ومن ذلك مستوطنات وادي موسى قرب البتراء التي تحيط بمنطقة "الجي" وقد عثر فيها على معاصر الزيتون بكثرة ثم معاصر العنب لإنتاج الخمور إضافة إلى إتقان الأنباط هندسة المصاطب الزراعية التي جعلتهم يعملون على استغلال كل ما يمكن استصلاحه من الأرض لأجل الزراعة(55).
ومن الخصائص المعمارية لهذه الأبنية أنها بنيت من الحجارة الغشيمة غالبا، وفي بعض الحالات كان يجري تحضير أو تشذيب بعض قطع الحجارة الأساسية مثل (القمط - جمع قمط) وهي "الأسكفة – جمع سكف" التي هي سقف الأبواب والنوافذ، وكذلك " العتبة " وهي عبارة عن حجر مستطيل مشذب يوضع في أرضية الباب، ومثل هذه القطع المشذبة ضرورية ليغدو إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ ممكنا. وبخصوص النوافذ والأبواب فهي غالبا ما تكون صغيرة وقليلة العدد ومرتفعة، وعلى الراجح فقد غطيت بألواح من الأخشاب، وليس لدينا أية بقايا أثرية من الفترة النبطية لهذه الأبواب، لكننا نعرف تمكن الأنباط من الصناعات الخشبية من خلال تمكنهم من صناعة السفن التي مخروا بها عباب البحار خصوصا البحر الأحمر. ثم من خلال التوابيت الخشبية التي وجدت بحالة جيدة في مقبرة صلخد في محافظة السويداء(56) ثم من خلال ما استدل عليه من مسامير حديدية وخشبية وجدت في بعض القبور في خربة الذريح وغير ذلك من الدلائل(57). وعرف أيضا عن الأنباط قدرتهم الفائقة في التعامل مع الحجارة والبازلتية منها، فقد وجدت ألواح كبيرة من الحجارة البازلتية التي استخدمت كأبواب أو نوافذ، ويبدو أن ذلك أصبح ممكنا في فترة متوسطة من حضارة الأنباط. أما بخصوص الأرضيات، فهي غالبا دكة ترابية يجري تحضيرها بعد خلط التربة الحمراء بكميات من القش أو التبن المتوفر في البيئة، وبعد خلطها بالماء وربما الحصى الصغير، يجري تسويتها في أرضية الحجرة ومن ثم يجري دكها من خلال حجارة اسطوانية يعمل على تمريرها فوق الدكة مرات عديدة، وللقش الذي تخلط به التربة فوائد حيث تزيد تماسكها، ويعمل كذلك على العزل الحراري صيفا وشتاء.
5-2: البيوت الطينية الخالصة:
يمتاز هذا النمط من البناء باعتماده على الطين المحلي بالدرجة الأولى، وهو من أكثر أنماط المساكن المبنية بساطة وتواضعا وأقلها دواما لافتقادها إلى مواد الدعم الأساسية، وعادة ما كان يجري الالتجاء إلى أنواع التربة الزراعية خصوصا الحمراء لبناء هذه المساكن، وكان يجري خلط التربة ببعض المواد المحلية كالقش أو "التبن" المتوفرين في المناطق الزراعية، أما استخدامات مثل هذه المنازل فقد انتشرت في المناطق الزراعية لفقراء المزارعين والأقنان الذين توارثوا هذه المكانة كابرا عن كابر منذ أزمان بعيدة. وقد عرفت منطقة غور الأردن بمثل هذا النمط أكثر من غيرها من المناطق، وقد وجدت أيضاً مثل هذه المساكن في بعض المناطق الجبلية ونادرا ما كانت معروفة في المناطق الصحراوية لعدم ملاءمة تربتها لمثل هذا البناء.
ومن الناحية التاريخية، فقد عرف مثل هذا النمط في تل دير علا (الأغوار) وخلال العصر الحديدي في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، وعثر في هذا الموقع على بيوت كانت مبنية من اللِبْنْ ، كما هو حال المباني التي بنيت في منطقة الأغوار منذ أقدم العصور، حتى قبل ما يقارب الخمسين عاما(58). وعلى الأرجح إن اللِبْنْ (الآجر) المشار إليه لم يكن ليشوى في أفران مثلما هي العادة عند بعض الشعوب التي كانت تستخدم هذا النمط من البناء، بل كان من النوع "النيء" وفق ما خبرناه في تاريخ المنطقة، وكان يجري أحيانا بناء الجدران أولا بأول، أي دون تحضير قوالب "اللِبْنْ"، وقليلا ما كانت الأخشاب تستخدم في تدعيم الجدران وإن كانت تستخدم في تحضير السقوف والأبواب والنوافذ الصغيرة الحجم عادة. ويلاحظ كذلك أن الوحدات السكنية من هذا النوع كانت تتألف من حجرة واحدة أو عدد قليل من الحجرات دون الاهتمام ببناء مرافق واضحة مخصصة كالمطبخ أو الحمامات وغير ذلك.
في المناطق الزراعية الجبلية كانت مثل هذه المساكن تبنى لأغراض السكن المؤقت لاستخدامها خلال مواسم العمل الزراعية، وبنيت أيضا كمرافق بجانب المنازل وفي ساحاتها لإيواء الحيوانات أو كغرف تخزين أو حجرة لطابون الخبز وغير ذلك، وأتوقع أن بعضها استخدم أيضا بشكل مؤقت خلال المواسم التجارية لتلبية حاجيات الطرق التجارية أو لأغراض حكومية لإيواء بعض موظفيها الموسميين كرجال الأمن والجمارك.
الملاحظة الأخيرة أن غالبية هذا النمط من البناء جاء قليل الحجرات، وربما اقتصر على حجرة واحدة فقط، مع وجود مساكن أقل ذات حجرات متعددة وساحة وسطية أو أمامية مما يعني أن هذا النمط كان حاجة لبعض العائلات الزراعية النووية غير المستقرة، ومن المحتمل أن بعضا من هذه العائلات نجح في الاستقرار طويلا ليبني أسرة ممتدة أكثر تطورا من سابقتها. إذ بدأ مثل هذا النمط ينتشر في العصر الحديدي الثاني (900-700 ق.م )، ويؤشر وجود الساحات إلى قيام الأسرة بأعمال منتظمة كأعمال الطبخ والنسيج، وبعض هذه الساحات كان مسقوفا(59). مما يدلّ على استيطان طويل المدى لا استيطان موسمي.
6-2: البيوت الحجرية المهندسة، أبنية عامة، معابد، مساكن:
لقد آثرنا أن نتأخر في استعراض هذا النمط المعماري على أهميته قياسا إلى الأنماط الأخرى الأقل تطورا وذلك لسببين: أنه جاء لاحقا للأنماط الأخرى، أي أنه مرحلة متطورة من الفن المعماري النبطي سبقته الأنماط الأخرى من الناحية الزمنية، ثم إن هذا النمط المعماري احتل - في حقيقة الأمر- جل اهتمام الباحثين والدارسين ومنقبي الآثار نظرا لروعته الفنية التي جعلته العنوان الوحيد لعمارة الأنباط بل، لمجمل حضارتهم، وإن في ذلك بعض التجني على حضارة الأنباط التي امتازت بالتنوع والغنى في الناحيتين المعمارية والروحية.
وإيفاء هذا النمط من أنماط المعمار النبطي ليس بالأمر اليسير في معالجة جزئية، وعلى الرغم من أن الكثير من الدراسات والأبحاث ركزت على هذا الجانب من حضارة الأنباط، إلا أنه ما يزال بحاجة إلى المزيد بعد أن ظلت مناطق واسعة ومهمة دون إجراء المسوحات والحفريات الأثرية، ومن ذلك بعض المناطق في الأردن وفي البتراء تحديدا كما فهمنا، وفي السويداء وخربها وقراها في سوريا، وكذلك في منطقة " الحجر" مدائن صالح في المملكة العربية السعودية.
وأصبح من الواضح أن مدينة البتراء أضحت العنوان الوحيد لهذا الفن المعماري الرائع، لكن ذلك لم يكن ليلغي الروائع الأخرى من فن المعمار النبطي خصوصا في "الحجر" وفي "النقب" وفي "السويداء" وفي مناطق أخرى متفرقة من جنوب الأردن تحديدا.
وقد أظهرت دراسة (الخطاطبة، 2006) أن مساكن الأنباط كانت استمرارا طبيعيا لمساكن العرب في الشرق الأدنى الغني بموروثاته المعمارية التي كانت نتاج خبراته واحتياجاته وتفاعله مع محيطه ومع الحضارات والثقافات التي احتك بها طواعية أو قسرا، أخذ منها ما يناسبه وطوره بأسلوبه وصبغه بلونه، فتكونت له ثقافته التي تميزه بين الأمم. وقد ميزت الدراسة بين فترتين أو مرحلتين لبناء المساكن: الأولى هي الفترة الممتدة من نهاية القرن الأول قبل الميلاد إلى منتصف القرن الأول الميلادي، وهي المساكن الواقع معظمها في منطقة جنوب الأردن، في البتراء وخربة الذريح والحميمة والعقبة (إيلة) وفي الحجر شمال غرب المملكة العربية السعودية. أما الفترة الثانية فهي الفترة الممتدة بين منتصف القرن الأول الميلادي إلى بداية القرن الثاني الميلادي. وعادة ما يجري تقسيم أنماط العمارة النبطية على النحو اللاحق حيث فضلنا استعراضه مستقلا عن أنواع المساكن والأبنية(60).

الجزء التالي (8 من الفصل الثاني) ويشتمل على:
ثالثاً- أنماط العمارة النبطية وسماتها المعمارية:
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف