جنازة
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
في حارة من حواري الاسكندرية العتيقة تمتلئ صخبا وحركة
ووجوه هائمة في حركة الكون الذي لا يهدأ
تنطلق صرخة مدوية من احد بيوت الحارة المتهالك،يصمت الجميع للحظة
ثم يتساءلون فيهرولون تجاه الصوت(أنا لله وإنا إليه راجعون)
ينطق بها رجلا خارجا من غرفة مظلمة تحت بئر السلم .......
البقاء لله مات ابو كني
ينظرون لبعضهم مازال عندهم حياء لم ينطق بها احد ممن تراصوا وتجمعوا حول البيت إلا سيدة تخطت سنوات الحياء (الحمد لله خلى الغلبانة دي ترتاح بقى)
جميع الوجوه لم يبدي عليها حزن ولا فرح ، غريبة تلك الوجوه غائرة التجاعيد حتى الموت فقد هيبته لديهم
بدأت نسوة الحارة فى التوافد على البيت المكلوم(عفوا) الغرفة المكلومة لم يكن بيتا بمعنى الكلمة ، لم يكن غير غرفة واحدة بها سرير يستند على قوالب أسمنتية من جهة وعلبة دهان مملؤة بالحصى من الناحية الاخرى وحصيرة تعد من الاثريات والمقتنيات لدى الفقيد
والحمام ( أكرمكم الله ) هو عبارة عن ركن تحت سلم البيت يختفي فى ظلمة حالكة خلف جلباب قديم مشدود من الطرفين بمسمارين
مشترك بين أبو كني وجارته أم لبيب وابنائها الست
تجلس على الحصيرة متشحة بالسواد لم يجدََ عليها جديد فهى منذ عرفناها لا تخلع
هذا الثوب متحججة بحزنها على ابيها منذ سنين طويلة
تجلس غائرة العينين تتدبب عظامها تحت ثوبها المنقوش باهترائه عيناها جافتان آبت الدموع إطاعتها
يقتلها الحياء أمام الجيران تقلب عينيها بين الحاضرات وكانها تستجدي الدموع محدثة نفسها (هيقولوا عليكي فرحانة مش عارفة تعيطى طيب عددي)
تقبلت الفكرة وفتحت كفيها وبكل قوتها المنهكة انزلتهما على وجهها الذي لم يمر عليه ساعة مع المرحوم إلا وترك بصماته عليه
تجاعيد تمتزج بهم وذل وصبر ربع قرن لم ترى يوما فيه راحة
أستحسنت ما فعلت بعدما أخذت النسوة فى نهيها عما فعلت وإمساك يديها والحديث معها عن الصبر عند المصيبة
محدثة نفسها مرة اخرى (صبر تانى دة انا الصبر زهق مني )
فتعتدل فى جلستها وتنوي التعديد وبصوت مرهق لا يكاد يخرج من فمها
(ياعامود بيتى والعامود ...................)
وتدور عينيها فى انحاء الغرفة فلا تجد عامودا فيجول فى خاطرها كم الاهانات والضرب الذي تحملته اعوام تكاد لا تتذكر متى بدأت
يامستتني............كيف وهى لم تنام يوما وعليها غطاء يدثر جسدها النحيل إذا غطت أعلاه أنتفضت قدميها بردا
مضت الساعات ثقيلة على أم كني وهي لا تجد من كلمات للعويل على زوجها المرحوم وعينيها ترفض الاتيان بدمعة واحدة ، لقد جفت منابعها فهى منذ زواجها لم يمضي يوم إلا وهى باكية حتى ذبلت عينيها وجفت
تتذكر أولادها كني الكبير حصل على الشهادة الاعدادية وترك البيت دون ان يخبر احدا ولا تعلم عنه شيئاً
وحموكشة الابن الاصغر حصل على دبلوم الصنايع وسافر على إحدى القوارب إلى إيطاليا ولا تعلم هل نجا أم غرق
أحضرت النساء طعام العشاء وأدخلن الصواني إلى الغرفة ،
علقت أم كني نظرها على الطعام ولم تستطع تحويلها إلى مكان أخر
لاحظت أم لبيب ما بجارتها فدعت الجالسات للتفسح ووضعن الطعام على الارض
لتضغط أم لبيب على يد ام كني وتأمرها (كلي كلي ما دايم إلا وجه الله )
جلست ام كني ناظرة إلى الطعام واللحمة غير مصدقة انها ستأكل دون وجود من يعد عليها لقيماتها
إنتهى العزاء وتسللت النسوة الواحدة تلو الاخرى خارج الغرفة لأستنشاق الهواء والتحسر على أم كني متساءلين كيف عاشت كل هذا العمر فى غرفة خالية من الهواء كتلك
خلت الغرفة من النساء وبقيت أم كني مع صواني الطعام
ظلت تأكل لتشبع جوع ربع قرن من الزمان .
وفى الصباح جاءت جارتها أم لبيب تطرق الباب فلم ترد فأزاحت الباب
فوجدت أم كني على وجهها داخل صينية الطعام
لقد فارقت الحياه وفمها مملوء بالطعام أخيراً
بقلم/ نهلة فراج
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
في حارة من حواري الاسكندرية العتيقة تمتلئ صخبا وحركة
ووجوه هائمة في حركة الكون الذي لا يهدأ
تنطلق صرخة مدوية من احد بيوت الحارة المتهالك،يصمت الجميع للحظة
ثم يتساءلون فيهرولون تجاه الصوت(أنا لله وإنا إليه راجعون)
ينطق بها رجلا خارجا من غرفة مظلمة تحت بئر السلم .......
البقاء لله مات ابو كني
ينظرون لبعضهم مازال عندهم حياء لم ينطق بها احد ممن تراصوا وتجمعوا حول البيت إلا سيدة تخطت سنوات الحياء (الحمد لله خلى الغلبانة دي ترتاح بقى)
جميع الوجوه لم يبدي عليها حزن ولا فرح ، غريبة تلك الوجوه غائرة التجاعيد حتى الموت فقد هيبته لديهم
بدأت نسوة الحارة فى التوافد على البيت المكلوم(عفوا) الغرفة المكلومة لم يكن بيتا بمعنى الكلمة ، لم يكن غير غرفة واحدة بها سرير يستند على قوالب أسمنتية من جهة وعلبة دهان مملؤة بالحصى من الناحية الاخرى وحصيرة تعد من الاثريات والمقتنيات لدى الفقيد
والحمام ( أكرمكم الله ) هو عبارة عن ركن تحت سلم البيت يختفي فى ظلمة حالكة خلف جلباب قديم مشدود من الطرفين بمسمارين
مشترك بين أبو كني وجارته أم لبيب وابنائها الست
تجلس على الحصيرة متشحة بالسواد لم يجدََ عليها جديد فهى منذ عرفناها لا تخلع
هذا الثوب متحججة بحزنها على ابيها منذ سنين طويلة
تجلس غائرة العينين تتدبب عظامها تحت ثوبها المنقوش باهترائه عيناها جافتان آبت الدموع إطاعتها
يقتلها الحياء أمام الجيران تقلب عينيها بين الحاضرات وكانها تستجدي الدموع محدثة نفسها (هيقولوا عليكي فرحانة مش عارفة تعيطى طيب عددي)
تقبلت الفكرة وفتحت كفيها وبكل قوتها المنهكة انزلتهما على وجهها الذي لم يمر عليه ساعة مع المرحوم إلا وترك بصماته عليه
تجاعيد تمتزج بهم وذل وصبر ربع قرن لم ترى يوما فيه راحة
أستحسنت ما فعلت بعدما أخذت النسوة فى نهيها عما فعلت وإمساك يديها والحديث معها عن الصبر عند المصيبة
محدثة نفسها مرة اخرى (صبر تانى دة انا الصبر زهق مني )
فتعتدل فى جلستها وتنوي التعديد وبصوت مرهق لا يكاد يخرج من فمها
(ياعامود بيتى والعامود ...................)
وتدور عينيها فى انحاء الغرفة فلا تجد عامودا فيجول فى خاطرها كم الاهانات والضرب الذي تحملته اعوام تكاد لا تتذكر متى بدأت
يامستتني............كيف وهى لم تنام يوما وعليها غطاء يدثر جسدها النحيل إذا غطت أعلاه أنتفضت قدميها بردا
مضت الساعات ثقيلة على أم كني وهي لا تجد من كلمات للعويل على زوجها المرحوم وعينيها ترفض الاتيان بدمعة واحدة ، لقد جفت منابعها فهى منذ زواجها لم يمضي يوم إلا وهى باكية حتى ذبلت عينيها وجفت
تتذكر أولادها كني الكبير حصل على الشهادة الاعدادية وترك البيت دون ان يخبر احدا ولا تعلم عنه شيئاً
وحموكشة الابن الاصغر حصل على دبلوم الصنايع وسافر على إحدى القوارب إلى إيطاليا ولا تعلم هل نجا أم غرق
أحضرت النساء طعام العشاء وأدخلن الصواني إلى الغرفة ،
علقت أم كني نظرها على الطعام ولم تستطع تحويلها إلى مكان أخر
لاحظت أم لبيب ما بجارتها فدعت الجالسات للتفسح ووضعن الطعام على الارض
لتضغط أم لبيب على يد ام كني وتأمرها (كلي كلي ما دايم إلا وجه الله )
جلست ام كني ناظرة إلى الطعام واللحمة غير مصدقة انها ستأكل دون وجود من يعد عليها لقيماتها
إنتهى العزاء وتسللت النسوة الواحدة تلو الاخرى خارج الغرفة لأستنشاق الهواء والتحسر على أم كني متساءلين كيف عاشت كل هذا العمر فى غرفة خالية من الهواء كتلك
خلت الغرفة من النساء وبقيت أم كني مع صواني الطعام
ظلت تأكل لتشبع جوع ربع قرن من الزمان .
وفى الصباح جاءت جارتها أم لبيب تطرق الباب فلم ترد فأزاحت الباب
فوجدت أم كني على وجهها داخل صينية الطعام
لقد فارقت الحياه وفمها مملوء بالطعام أخيراً
بقلم/ نهلة فراج