
دفء عينيه
ـــ
انتفضت وعبارته تهبط على أذني ، عادت إلي أشواقي التي كفنتها بنفسي ، قبرتها بكامل إرادتي .. لم تملها علي أمي ولا أخي ولا حتى أبي الطيب أن أسحق تلك المشاعر الخلابة ، وهي في قمة عنفوانها وتوهجها .
لم تلتق عينانا في هذا اللقاء العابر ، وقد احتوانا المكان الضيق الواسع .. كنت أجلس جانبه لا يفصلنا سوى قيد أنملة .. بالرغم من ذلك يفصلنا هذا الزمن الطويل ، وقد سحق بين أنيابه سنين عديدة .. شخص عينيه إلى الطريق الذي كانت تتبدل مشاهده مع كل لحظة ، وهو ينطلق بالسيارة إلى هذا المكان المعلوم له ولي ..
رف صوته المتكسر على صخرة الزمن :
ـ تسربت حياتي من بين يدي ، ولم أشعر بها .
تردد صوته كأنه آت من زمن سحيق رحل عبر المسافات الفلكية ، استيقظ هذا الكائن القابع في أقصي زاوية الروح ، طرق بقسوة حجرات قلبي ليدخلها عنوة ، ويكاد يسطو عليها .
احتميت بكبريائي الذي لم ينل منه الزمن بعد وأنا أغمغم بسخرية ، فيها شيء من الأسى :
ـ الكل يدعي هذا .
سافرت عائدة مع الزمن إلى ساعة الصفر ، بدأ العد منذ تلك اللحظة .. كان متوهجا براقا وأنا أرنو إليه في نظرات خاطفة اختلست في أعماقها إعجاب كاد أن يطفو إلى السطح ، لكن سرعان ما رسمت على ثنايا وجهي نظرة صارمة .
مع الصبا المتفتح توا والمتلفع بالتحدي لذنا بالليالي ، يطربنا السمر ، نتكلم ونتكلم .. نتضاحك في براءة .. نستبق الصباح ولا نضيع الوقت .. أتفرس وجهه المشرق الوضاء ، وقد كلله شعره البني الناعم عدة لحظات ، قبل أن تتألق بسمته وقد داعبها ظلال النوم ، فيغلغل روحي تلك الغلالة الشفيفة .. أشعر بنفسي وقد غمرتها تلك السعادة السرمدية وهو يلقي عليَّ تحية الصباح بصوت يقطر رقة .. أكاد لا أصدق نفسي وصوتي الهامس يرد تحيته .. يشملني بنظرته الدافئة .. نستكمل مع النهار صحبتنا .. أقرأ له وهو ينصت .. يكتب علي الألواح الخشبية اسمي ويلفه بقلبه ، علي استحياء يخط اسمه صغيرا خارج دائرة القلب .
أرسم الزهور والأشجار .. يخط هو الكلمات .. أطرق برأسي أشيح عنه وجهي .. يلح هو بنظراته .. تلتقي عينانا فتستعر جذوة من لهب أخمدها قبل أن تستفحل نيرانها .. مع ذلك تغمرني عينيه بدفء لذيذ .. تتكرر محاولاته الصامتة ، ألوذ بالتحدي والعناد .. تلامس أنامله وجنتي .. أصفعه على وجهه .. أشعر بالخجل من نفسي لقسوتي عليه وبالغضب منه أيضا .
يحتوينا المكان ، يتوغل الليل بأسراره ، وقد تباعدت أعيننا ، استغرقنا الصمت والسكون .. أقوي حصوني وأحاصر قلبي ، تكاد الأسوار أن تدك منهارة وأنا أختلس الومقات إلى وجهه البهي ، فأفر بعيدا وأتزود بأفكاري العملية هازئة بالقلب النابض بالهوى .. أسمع صوت صياحي المستنكر :
ـ جميل هو !!
قلبي يلفه الجليد ، نفسي يعشش في جنباتها الخواء .. عشت السراب ومن أجل السراب سعيت .. الخريف يصارعني كما صارعني يوم رحيله .. غابت عنا الكلمات ، وقد أبيت إلا الخصام .. وقفت أرمقه وقد تحجرت دمعتي ، وهو يبتعد حاملا حقيبة سفره ليبتلعه الطريق .
رحل الصيف بمرحه الطرب ، حشد الخريف أشباحه الرمادية وسكنت أعماقي ترقص رقصة الوحشة والألم .. حتي الأشجار سلبها بهجتها فتناثرت أوراقه الذابلة عبر الشارع ، أخذت الريح العقيمة تناوئها فتلمها أكواما ثم تنفخ فيها فتبعثرها أشلاء .. في الليل كان هزيم الريح يكدرني ، أشعر بالبرودة تسري إلى أطرافي ، تتملك قلبي وأشعر بوحشة وأضم إلي وسادتي .. صورته ترتسم في أحلامي ، طيفه يطاول ظلي أينما ذهبت .
ألملم الألواح الخشبية .. أرنو إلى القلب وتستقر مقلتي على تلك الكلمة الصغيرة في أقصي اللوح ، أترنم اسمه .. ثم ما ألبث أن أمط شفتي امتعاضا من نفسي أعاتبها :
ـ قوية أنت !!
ألقي بالألواح بعيدا .. أطرد صورته من مخيلتي .. أستبق ظلي وأبدد طيفه أمامي
احتوانا الزمن ، واعتصر عمرنا .. رسم على أساريرنا الحسرة ، حفر في نفوسنا الندم .. الأدهى من هذا وذاك علامات التعجب والسخرية !!
قد أرسم تلك العلامة حتى تملأ مئات الصفحات .. فعلام كان التحدي ؟! ومن أجل ماذا ؟! .. عرفت في صوته المشروخ اللائذ بغبش المساء أنه ندم عندما تقاعص عن دك حصوني ، وهادني على السلم .. قابلا شروطى الجائرة .
انشرخ قلبانا ، وأدركتنا الهزيمة عندما سحب الزمن منا بساطه .. تيقنا أن الحياة لا تعد بعدد السنين .. إنما بعدد تلك الأيام القليلة التي سعدنا فيها سويا .. ارتشفنا فيها رحيق الحب .. هذا الحب الصامت ، وقد أنكرته بكارة الشفاه والأنامل .. فلا الشفاه أفصحت ، ولا الأنامل لامست نبض القلب المتأجج نارا .
قريب مني هو .. بعيد بعد هذا الزمن البعيد منذ أن ولي الصبا عنا .. صنعنا بأنفسنا الأسوار وأقمنا المتاريس ، قبضنا على قلبينا بيد من حديد .. الحديد فل ، وشمخت الحواجز واشرأبت إلى السماء .. فلينطلق القلب إلى أي مكان شاء .. فهو حبيس هذا القفص الكبير ولن يبرحه أبدا .
انقضت لحظات اللقاء وانفرط عقدينا عندما اجتمعنا بأهلنا لنشارك لحظة فرحتهم ، انشغل كلينا عن الآخر سويعات ، في طريق عودتنا مررنا بنفس الطريق ، في هدأه الليل المتوغل .. أخذت أجمع أشلاء مشاعري ، أرمم حجرات قلبي أحاصرها بسورها القديم .. يتلفع بالصمت هو .. في الضوء الواني أتفحص وجهه سريعا .. أكاد أضحك عاليا .. ملامحه البهية أطفأها الزمن برياحه العاتية ، وشعره الناعم البراق أعملت فيه عوامل التعرية .. فجأة تلتقي عينانا .. مازالت جذوة اللهب تستعر فيهما .. أهرب بعيدا عنهما .. تيقنت للتو أنني فررت من أسر تلك العينين .. وأنني أبدا يلفحني دفئهما .
ـــ
انتفضت وعبارته تهبط على أذني ، عادت إلي أشواقي التي كفنتها بنفسي ، قبرتها بكامل إرادتي .. لم تملها علي أمي ولا أخي ولا حتى أبي الطيب أن أسحق تلك المشاعر الخلابة ، وهي في قمة عنفوانها وتوهجها .
لم تلتق عينانا في هذا اللقاء العابر ، وقد احتوانا المكان الضيق الواسع .. كنت أجلس جانبه لا يفصلنا سوى قيد أنملة .. بالرغم من ذلك يفصلنا هذا الزمن الطويل ، وقد سحق بين أنيابه سنين عديدة .. شخص عينيه إلى الطريق الذي كانت تتبدل مشاهده مع كل لحظة ، وهو ينطلق بالسيارة إلى هذا المكان المعلوم له ولي ..
رف صوته المتكسر على صخرة الزمن :
ـ تسربت حياتي من بين يدي ، ولم أشعر بها .
تردد صوته كأنه آت من زمن سحيق رحل عبر المسافات الفلكية ، استيقظ هذا الكائن القابع في أقصي زاوية الروح ، طرق بقسوة حجرات قلبي ليدخلها عنوة ، ويكاد يسطو عليها .
احتميت بكبريائي الذي لم ينل منه الزمن بعد وأنا أغمغم بسخرية ، فيها شيء من الأسى :
ـ الكل يدعي هذا .
سافرت عائدة مع الزمن إلى ساعة الصفر ، بدأ العد منذ تلك اللحظة .. كان متوهجا براقا وأنا أرنو إليه في نظرات خاطفة اختلست في أعماقها إعجاب كاد أن يطفو إلى السطح ، لكن سرعان ما رسمت على ثنايا وجهي نظرة صارمة .
مع الصبا المتفتح توا والمتلفع بالتحدي لذنا بالليالي ، يطربنا السمر ، نتكلم ونتكلم .. نتضاحك في براءة .. نستبق الصباح ولا نضيع الوقت .. أتفرس وجهه المشرق الوضاء ، وقد كلله شعره البني الناعم عدة لحظات ، قبل أن تتألق بسمته وقد داعبها ظلال النوم ، فيغلغل روحي تلك الغلالة الشفيفة .. أشعر بنفسي وقد غمرتها تلك السعادة السرمدية وهو يلقي عليَّ تحية الصباح بصوت يقطر رقة .. أكاد لا أصدق نفسي وصوتي الهامس يرد تحيته .. يشملني بنظرته الدافئة .. نستكمل مع النهار صحبتنا .. أقرأ له وهو ينصت .. يكتب علي الألواح الخشبية اسمي ويلفه بقلبه ، علي استحياء يخط اسمه صغيرا خارج دائرة القلب .
أرسم الزهور والأشجار .. يخط هو الكلمات .. أطرق برأسي أشيح عنه وجهي .. يلح هو بنظراته .. تلتقي عينانا فتستعر جذوة من لهب أخمدها قبل أن تستفحل نيرانها .. مع ذلك تغمرني عينيه بدفء لذيذ .. تتكرر محاولاته الصامتة ، ألوذ بالتحدي والعناد .. تلامس أنامله وجنتي .. أصفعه على وجهه .. أشعر بالخجل من نفسي لقسوتي عليه وبالغضب منه أيضا .
يحتوينا المكان ، يتوغل الليل بأسراره ، وقد تباعدت أعيننا ، استغرقنا الصمت والسكون .. أقوي حصوني وأحاصر قلبي ، تكاد الأسوار أن تدك منهارة وأنا أختلس الومقات إلى وجهه البهي ، فأفر بعيدا وأتزود بأفكاري العملية هازئة بالقلب النابض بالهوى .. أسمع صوت صياحي المستنكر :
ـ جميل هو !!
قلبي يلفه الجليد ، نفسي يعشش في جنباتها الخواء .. عشت السراب ومن أجل السراب سعيت .. الخريف يصارعني كما صارعني يوم رحيله .. غابت عنا الكلمات ، وقد أبيت إلا الخصام .. وقفت أرمقه وقد تحجرت دمعتي ، وهو يبتعد حاملا حقيبة سفره ليبتلعه الطريق .
رحل الصيف بمرحه الطرب ، حشد الخريف أشباحه الرمادية وسكنت أعماقي ترقص رقصة الوحشة والألم .. حتي الأشجار سلبها بهجتها فتناثرت أوراقه الذابلة عبر الشارع ، أخذت الريح العقيمة تناوئها فتلمها أكواما ثم تنفخ فيها فتبعثرها أشلاء .. في الليل كان هزيم الريح يكدرني ، أشعر بالبرودة تسري إلى أطرافي ، تتملك قلبي وأشعر بوحشة وأضم إلي وسادتي .. صورته ترتسم في أحلامي ، طيفه يطاول ظلي أينما ذهبت .
ألملم الألواح الخشبية .. أرنو إلى القلب وتستقر مقلتي على تلك الكلمة الصغيرة في أقصي اللوح ، أترنم اسمه .. ثم ما ألبث أن أمط شفتي امتعاضا من نفسي أعاتبها :
ـ قوية أنت !!
ألقي بالألواح بعيدا .. أطرد صورته من مخيلتي .. أستبق ظلي وأبدد طيفه أمامي
احتوانا الزمن ، واعتصر عمرنا .. رسم على أساريرنا الحسرة ، حفر في نفوسنا الندم .. الأدهى من هذا وذاك علامات التعجب والسخرية !!
قد أرسم تلك العلامة حتى تملأ مئات الصفحات .. فعلام كان التحدي ؟! ومن أجل ماذا ؟! .. عرفت في صوته المشروخ اللائذ بغبش المساء أنه ندم عندما تقاعص عن دك حصوني ، وهادني على السلم .. قابلا شروطى الجائرة .
انشرخ قلبانا ، وأدركتنا الهزيمة عندما سحب الزمن منا بساطه .. تيقنا أن الحياة لا تعد بعدد السنين .. إنما بعدد تلك الأيام القليلة التي سعدنا فيها سويا .. ارتشفنا فيها رحيق الحب .. هذا الحب الصامت ، وقد أنكرته بكارة الشفاه والأنامل .. فلا الشفاه أفصحت ، ولا الأنامل لامست نبض القلب المتأجج نارا .
قريب مني هو .. بعيد بعد هذا الزمن البعيد منذ أن ولي الصبا عنا .. صنعنا بأنفسنا الأسوار وأقمنا المتاريس ، قبضنا على قلبينا بيد من حديد .. الحديد فل ، وشمخت الحواجز واشرأبت إلى السماء .. فلينطلق القلب إلى أي مكان شاء .. فهو حبيس هذا القفص الكبير ولن يبرحه أبدا .
انقضت لحظات اللقاء وانفرط عقدينا عندما اجتمعنا بأهلنا لنشارك لحظة فرحتهم ، انشغل كلينا عن الآخر سويعات ، في طريق عودتنا مررنا بنفس الطريق ، في هدأه الليل المتوغل .. أخذت أجمع أشلاء مشاعري ، أرمم حجرات قلبي أحاصرها بسورها القديم .. يتلفع بالصمت هو .. في الضوء الواني أتفحص وجهه سريعا .. أكاد أضحك عاليا .. ملامحه البهية أطفأها الزمن برياحه العاتية ، وشعره الناعم البراق أعملت فيه عوامل التعرية .. فجأة تلتقي عينانا .. مازالت جذوة اللهب تستعر فيهما .. أهرب بعيدا عنهما .. تيقنت للتو أنني فررت من أسر تلك العينين .. وأنني أبدا يلفحني دفئهما .