
قصة قصيرة
ابن الوالي والقرية
بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
3/2/2010م
لقد ملَّ الفتى حياة الثراء والبذخ والترف في قصر والده الوالي المليء بالخدم والحشم والفسق والحراسات المشددة، وصار يتطلع للعيش حياة طبيعية كعامة الناس دون موانع ولا حواجز يذهب أينما يشاء بعيداً عن عيون الحرس، ويأكل ما يشاء، وأن يتزوج ممن يشاء بعيداً عن فتيات الأثرياء وتقاليد والده الصارمة التي لا تسمح له الزواج بغير ذلك..
هذا الفتى هو أصغر أولاد الوالي، ويتمتع بروح طيبة ويحب المغامرات لاستكشاف جمال الحياة بعكس والده، فبدأ يفكر بكيفية الخلاص والتحرر من حياة القصر وقيوده!! فخطرت له فكرة بأن يطلب من والده السفر إلى الخارج - كحيلة للخروج من القصر- والتخفي فيما بعد بثياب الفقراء كعامة الناس، والذهاب للعمل في الزراعة في إحدى القرى النائية ليجرب طعم وحلاوة الحرية والحياة في أحضان الطبيعة، وكيف يعاني الناس في كسب قوت عيشهم اليومي من عرق جبينهم.. ولمعرفة العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد..
بينما كان يجلس الفتى مع والده وأسرته على مائدة الطعام ذات يوم، طلب من والده أن يسمح له بالسفر لوحده دون مرافقين.. استغرب الوالي من طلبه؟ و أصرّ على عدم السماح له خوفاً عليه من طمع الطامعين والغيورين في بادئ الأمر.. لكن بعد لُحاح الفتى المتواصل وافق له بالسفر متى شاء بعكس إخوته الثلاثة الآخرين الذين أجبرهم على الزواج من فتيات أصحاب النفوذ رغماً عنهم!!..
عندئذ ازداد شوقه إلى الرحيل.. استيقظ مبكراً في اليوم التالي.. ارتدى ملابسه كعادته حتى لا يثير الشكوك.. أخذ مبلغاً كافياً من المال لتدبير شؤون حياته.. ودع أسرته تاركاً القصر بما يحويه من نعيم.. وتوجه إلى خارج المدينة حتى وصل إلى إحدى القرى.. اشترى ملابس مستعملة وارتداها بدلاً من ملابسه السابقة، وكذلك حذاءً مستعملاً.. وأهمل شعر رأسه.. وتخفى بملابس الفقراء.. وغيّر اسمه إلى "عبد الله"، ثم ركب العديد من الحافلات متنقلاً حتى وصل إلى قرية نائية تقع على ربوة، وتحيط بها البساتين والحقول الخضراء.. وتملأ سماها موسيقى الطبيعة التي تنعش النفس من شدو وزقزقة العصافير والطيور، وحفيف أوراق الشجر، وخرير مياه الينابيع والوديان، وأصوات الحيوانات الدجنة.. وأهلها فقراء الحال لكنهم طيبون ويعيشون من كدهم في الزراعة وتربية المواشي..
أعجب بالقرية.. جال فيها بحثاً عن عمل.. لاحظه مختار القرية.. سأله: عن ماذا تبحث يا بني؟
الفتى: أبحث عن عمل أعيش منه، وغرفة صغيرة تؤويني، فأنا رجل فقير الحال كما ترى، وقد أحببت قريتكم..
المختار: تعال يا بني، وقل لي: هل توجد لديك مهنة؟
الفتى: لا.
المختار: هل تستطيع العمل في الزراعة كما أهل القرية؟
الفتى: نعم، هذه أمنيتي.
طلب المختار من الفتى أن يرافقه إلى أحد بيوت القرية حيث تعيش فيه امرأة أرملة مع ابنتها الجميلة بعدما فقدت ابنها البكر.. وتوجد بجواره غرفة مسقوفة بألواح الزينكو منعزلة عن البيت.. وطلب منها أن تُسكن الفتى بالأجرة التي ترغبها أملاً في تدبير شؤون حياتهما..
عندما شاهدت المرأة الفتى بثيابه الرثة وعلامات الجوع بادية على محياه أشفقت على حاله.. ووافقت.. ثم قال لها المختار: الله يجبر بخاطرك يا "أم جابر" هذا الفتى أمانة في عنقكِ!! ثم طلب المختار من الفتى أن يستعد للعمل يومياً منذ ساعات الصباح في أراضي القرية لقاء أجر يتقاضاه ..
طبعاً، لجأ الفتى إلى الغرفة المذكورة.. افترش أرضها، وصار في كل صباح ينهض باكراً كبقية الناس ويتوجه إلى الحقول والبساتين يعمل فيها بكل نشاط، ويتجول بحرية بين الأشجار والنباتات ويطرب لسماع أصوات حياة القرية والمزارعين، ويشرب الماء من ينابيعها العذبة، ويستنشق هواءها النقي الطلق، ويأكل كعامة الناس ما تيسر له من المنتوج الزراعي والحيواني الطبيعي الطازج، ويعود إلى غرفته كباقي الناس في نهاية اليوم مع غروب الشمس.. يشعر بشعورهم ويعاني مثلهم، ويحصل على أجره.. ويعيش حياة هادئة بدون ضوضاء.. مع مرور الأيام تعرف الفتى على علاقاتهم الاجتماعية الطيبة، وحسن ضيافتهم، وكرمهم، وأخلاقهم الحميدة، وأصبح واحداً منهم، حينئذ أدرك بعمق كم هو الفرق بين حرية الحياة رغم بساطتها وبين حياة الأسر رغم سعادتها.. كان نضاله منصباً لكي يكسب بساطة الحياة وحريته بعيداً عن الأموال الفاسدة التي تفسد الروح والعقل وألا يبقى أسير النقود..
مع مرور الزمن صارت الحياة الزراعية حرفته المحببة وجمع منها المال الوفير، وابتاع أرضاً زراعية خاصة به، واستقل بنفسه للعمل في أرضه ويتمتع بما تجود عليه من إنتاج، وكان يساعد المرأة وابنتها للخلاص من شظف الحياة.. ألمرأة لاحظت شهامته وطيبة أخلاقه، وبدأت تنظر إليه كابنها الوحيد الذي فقدته.. عندما اشتد عوده وأصبح شاباً.. أطلق لحيته وشاربه المبروم.. ثم وقع في حب ابنتها الوحيدة ثم تزوجها لطيب أخلاقها وتواضعها وذكائها وجمالها الأخاذ، وأنجبت فيما بعد منه طفلاً جميلاً سماه "الوالي" !! و لم تدرك حينها أم الطفل معنى ذلك!! وعاشوا معاً أسرة واحدة متحابة ومتماسكة ..
وقد استطاعت الزوجة بذكائها جعل حياتهما البسيطة ثمينة بالأخلاق الحميدة، والتعاون والإخلاص، والاحترام المتبادل، والكفاح في الحياة جنباً إلى جنب، وإدخال السعادة والبهجة الغامرة إلى حياتهما وأقاما لهما بيتاً صغيراً متواضعاً، وهي لم تعرف عن زوجها سوى أنه من فئتها الاجتماعية البائسة..
مرّ وقت طويل على غياب الشاب.. استفقده والده الوالي لعدم عودته عدة مرات.. وأصبح همه الوحيد البحث عنه، والبكاء بحرارة على فراقه الذي فطر قلبه.. استنفر جيشه بحثاً عنه لمعرفة أخباره، ولم يعثروا له على اثر!!! وطلب الوالي الإعلان بين الناس، وفي مكبرات الصوت والأماكن الدينية: أن من يعلم بمكان ابنه، أو يعلم عنه شيئاً سيكافئه مكافأة مالية مجزية..
ذاع الإعلان بين الناس كالنار في الهشيم، وتناقلوه في المدن والقرى حتى وصل الخبر إلى القرية التي يقطن فيها ابنه.. الابن رأى وسمع الناس وهم يحدثون بعضهم بعضا في الحارات، والأزقة، وأماكن التجمع عن ضياع ابن الوالي العزيز على قلبه، وعن ماهية المكافأة.. وكان يشاركهم الحديث دون الإفصاح لهم عن حقيقة أمره.. لكنه كلما خلا بنفسه أيقن في داخله مدى حزن والده ووالدته وأسرته المالكة عليه!! خاف على حياتهم خوفاً شديداً من أن يصيبهم مكروه.. عاد إلى منزله تحت جنح الظلام.. نادى زوجته.. جلسا معاً.. طلب منها الاستعداد لأخذ طفلهما والذهاب به إلى "الوالي" في المدينة على وجه السرعة، وأن تبلغه بأن هذا الطفل هو سِرُ العثور على ابن الوالي الضائع لكي تحصل على المكافأة المجزية..
زوجته تسأله: لكن ما علاقة الطفل بضياع ابن الوالي؟؟ أخشى أن يتهموني بشيء ويقطعون رأسي!! وأنا لم أعرف شيئاً عن قضية اختفاء ابن الوالي..
الزوج: لا تخافي.. نحن بحاجة إلى المكافأة لتطوير حياة الأسر المستورة في القرية، وقولي لهم هناك: إن زوجي والد هذا الطفل يعرف بعض المعلومات عن ابنكم، وأنه طلب مني أن آتي إليكم!! كما طلب من زوجته جعل ما جرى بينهما من حديث طي الكتمان حتى لا يخسرا المكافأة...
نامت زوجته في تلك الليلة وهي تحلم بالمكافأة، وحوار يدور في رأسها حول الغموض الذي يكتنف علاقتهما وضياع ابن الوالي!!! واستيقظت صباحاً مرعوبة من الكوابيس التي رأتها في منامها، تارة ترى نفسها في المنام مقتولة، وتارة أخرى أنها أصبحت غنية، وتارة ثالثة الشكوك بزوجها وكيف يريد التخلص منها؟؟ استعاذت بالله من الشيطان الرجيم.. جهزت نفسها بسرعة وحملت طفلها الرضيع، وأرسلها زوجها إلى اقرب حافلة.. وقال لها: إذا سألك أحد: إلى أين تذهبين؟ ، فأجيبيه: إلى معالجة طفلي فقط..
وصلت الزوجة إلى المدينة.. توجهت نحو قصر الوالي.. أوقفها الحراس عند المدخل الرئيس والخوف يعتصر قلبها.. طلبت منهم أن يسمحوا لها بالدخول لإبلاغ الوالي بمعلومات هامة.. ما أن سمع الوالي بالأمر حتى خرج مسرعاً و متلهفاً لسماع أي شيء عن ابنه.. طلب السماح لها الدخول بسرعة.. دخلت.. تقدمت نحو الوالي، وقالت: هذا الطفل هو سِرُ العثور على ابنكم الضائع؟؟
الوالي: ما اسم هذا الطفل يا ابنتي؟
الزوجة: اسمه " الوالي"..
الوالي: أتقولين أن اسمه الوالي؟ ومن سماه بهذا الاسم؟
الزوجة: زوجي.. والده..
الوالي: ومن هو زوجك؟
الزوجة: اسمه "عبد الله".. وتابعت: هو شاب فقير الحال جاء إلى قريتنا من زمن بعيد، أحبها وسكن فيها ويعمل فيها، وتزوجني فيها، ونعيش الآن معاً في بيت متواضع صغير..
الوالي: اقتربي لأرى هذا الطفل؟
اقتربت من الوالي.. حدجه بنظرة فاحصة.. سالت دمعتان من مقلتيه على وجنتيه دون إرادته، وصاح الوالي: جهزوا أنفسكم لنرافق هذه المرأة.. واشهدوا إن كان حديثها صحيحاً فسأمنحها ألف قطعة ذهبية..
عادت الزوجة أدراجها مع موكب الوالي ومرافقيه من حاشيته إلى بيتها في القرية.. استقبلهم الأهالي بالترحاب والأهازيج والتهليل دون معرفتهم بما يجري.. وكان زوجها من بين المستقبلين في ساحة القرية وقايضاً بيديه على بعض من أدواته الزراعية الشعبية..
سألها الوالي: من هو زوجك.. فأشارت إليه.. طلب منه الاقتراب للإدلاء بالمعلومات عن ابنه.. تقدم وهو مطأطئ الرأس.. طلب الوالي منه أن يرفع رأسه إلى أعلى.. فما أن رفع رأسه حتى تعرف عليه بالرغم من ملابسه البالية وشعثه.. هجم عليه الوالي و احتضنه بين يديه، وهو يقول: يا بني.. يا بني.. ماذا جرى بك؟ ثم احتضن الطفل وأخذ يُقبّله بحرارة، وسأله: لماذا رحلت عنا طوال هذه المدة، وتركتنا في حيرة من أمرنا؟ فرد عليه: ما أحوجنا إلى استحضار الحكمة النبوية " موت في طاعة الله، خير من حياة في معصيته".. هنا فهم الوالي مغزى جواب ابنه على الفور وحبسه في صدره..
طلب الوالي من المرافقين مكافأة المرأة بألف قطعة ذهبية.. تسلمت المرأة المكافأة وعيناها مغرورقتان بدموع الفرح لاكتشافها سر زوجها الذي كان غامضاً طوال حياتهما معاً، وكذلك للتغيير الجذري الذي سيطرأ على حياتها وأمها.. وأيقنت في هذه اللحظة لماذا تم تسمية طفلها بالوالي.. وقد كانت حياتهم الجديدة حلماً صعب المنال بالنسبة لها ولأمها، ولم تفكر به يوماً ما.. لكن الله أكرمها لحسن نواياها، وإخلاصها، ووفائها لزوجها، ورزقها من حيث لا تحتسب..
دهش الأهالي من هذا اللقاء الذي جمعهم بالوالي والذي كان أمنية بالنسبة لهم، وبابن الوالي الذي عاش معهم على الحلوة والمرة وبين ظهرانيهم، وقد عم الفرح جميع الولاية وبخاصة في القرية لمناسبة العثور عليه من ناحية، والعثور على الأهالي الفقراء والمستورين فيها بتقديم المساعدات السخية لهم للنهوض بمستوى حياتهم.. وصارت قصته تُحكى على كل لسان في الولاية.. وكأن اكتشاف الابن كاكتشاف القرية النائية..
وقرر الوالي - بعد سماع قصة عيش ابنه في القرية، وكيف تلاحم معهم، وكيف أكرموه وآووه وحافظوا عليه- إغداق الأموال على أهلها دون استثناء وتحسين حياتهم.. كما قرر الابتعاد عن المعاصي في باقي حياته.. وأصرَّ في طلبه من ابنه وزوجته وأمها العودة معه إلى المدينة للعيش في كنفه.. إلا أن ابن الوالي آثر الاستمرار بالعيش في القرية طيلة حياته مع زوجته وأهلها حتى مماته..
ــــــــــ
[email protected]
ابن الوالي والقرية
بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
3/2/2010م
لقد ملَّ الفتى حياة الثراء والبذخ والترف في قصر والده الوالي المليء بالخدم والحشم والفسق والحراسات المشددة، وصار يتطلع للعيش حياة طبيعية كعامة الناس دون موانع ولا حواجز يذهب أينما يشاء بعيداً عن عيون الحرس، ويأكل ما يشاء، وأن يتزوج ممن يشاء بعيداً عن فتيات الأثرياء وتقاليد والده الصارمة التي لا تسمح له الزواج بغير ذلك..
هذا الفتى هو أصغر أولاد الوالي، ويتمتع بروح طيبة ويحب المغامرات لاستكشاف جمال الحياة بعكس والده، فبدأ يفكر بكيفية الخلاص والتحرر من حياة القصر وقيوده!! فخطرت له فكرة بأن يطلب من والده السفر إلى الخارج - كحيلة للخروج من القصر- والتخفي فيما بعد بثياب الفقراء كعامة الناس، والذهاب للعمل في الزراعة في إحدى القرى النائية ليجرب طعم وحلاوة الحرية والحياة في أحضان الطبيعة، وكيف يعاني الناس في كسب قوت عيشهم اليومي من عرق جبينهم.. ولمعرفة العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد..
بينما كان يجلس الفتى مع والده وأسرته على مائدة الطعام ذات يوم، طلب من والده أن يسمح له بالسفر لوحده دون مرافقين.. استغرب الوالي من طلبه؟ و أصرّ على عدم السماح له خوفاً عليه من طمع الطامعين والغيورين في بادئ الأمر.. لكن بعد لُحاح الفتى المتواصل وافق له بالسفر متى شاء بعكس إخوته الثلاثة الآخرين الذين أجبرهم على الزواج من فتيات أصحاب النفوذ رغماً عنهم!!..
عندئذ ازداد شوقه إلى الرحيل.. استيقظ مبكراً في اليوم التالي.. ارتدى ملابسه كعادته حتى لا يثير الشكوك.. أخذ مبلغاً كافياً من المال لتدبير شؤون حياته.. ودع أسرته تاركاً القصر بما يحويه من نعيم.. وتوجه إلى خارج المدينة حتى وصل إلى إحدى القرى.. اشترى ملابس مستعملة وارتداها بدلاً من ملابسه السابقة، وكذلك حذاءً مستعملاً.. وأهمل شعر رأسه.. وتخفى بملابس الفقراء.. وغيّر اسمه إلى "عبد الله"، ثم ركب العديد من الحافلات متنقلاً حتى وصل إلى قرية نائية تقع على ربوة، وتحيط بها البساتين والحقول الخضراء.. وتملأ سماها موسيقى الطبيعة التي تنعش النفس من شدو وزقزقة العصافير والطيور، وحفيف أوراق الشجر، وخرير مياه الينابيع والوديان، وأصوات الحيوانات الدجنة.. وأهلها فقراء الحال لكنهم طيبون ويعيشون من كدهم في الزراعة وتربية المواشي..
أعجب بالقرية.. جال فيها بحثاً عن عمل.. لاحظه مختار القرية.. سأله: عن ماذا تبحث يا بني؟
الفتى: أبحث عن عمل أعيش منه، وغرفة صغيرة تؤويني، فأنا رجل فقير الحال كما ترى، وقد أحببت قريتكم..
المختار: تعال يا بني، وقل لي: هل توجد لديك مهنة؟
الفتى: لا.
المختار: هل تستطيع العمل في الزراعة كما أهل القرية؟
الفتى: نعم، هذه أمنيتي.
طلب المختار من الفتى أن يرافقه إلى أحد بيوت القرية حيث تعيش فيه امرأة أرملة مع ابنتها الجميلة بعدما فقدت ابنها البكر.. وتوجد بجواره غرفة مسقوفة بألواح الزينكو منعزلة عن البيت.. وطلب منها أن تُسكن الفتى بالأجرة التي ترغبها أملاً في تدبير شؤون حياتهما..
عندما شاهدت المرأة الفتى بثيابه الرثة وعلامات الجوع بادية على محياه أشفقت على حاله.. ووافقت.. ثم قال لها المختار: الله يجبر بخاطرك يا "أم جابر" هذا الفتى أمانة في عنقكِ!! ثم طلب المختار من الفتى أن يستعد للعمل يومياً منذ ساعات الصباح في أراضي القرية لقاء أجر يتقاضاه ..
طبعاً، لجأ الفتى إلى الغرفة المذكورة.. افترش أرضها، وصار في كل صباح ينهض باكراً كبقية الناس ويتوجه إلى الحقول والبساتين يعمل فيها بكل نشاط، ويتجول بحرية بين الأشجار والنباتات ويطرب لسماع أصوات حياة القرية والمزارعين، ويشرب الماء من ينابيعها العذبة، ويستنشق هواءها النقي الطلق، ويأكل كعامة الناس ما تيسر له من المنتوج الزراعي والحيواني الطبيعي الطازج، ويعود إلى غرفته كباقي الناس في نهاية اليوم مع غروب الشمس.. يشعر بشعورهم ويعاني مثلهم، ويحصل على أجره.. ويعيش حياة هادئة بدون ضوضاء.. مع مرور الأيام تعرف الفتى على علاقاتهم الاجتماعية الطيبة، وحسن ضيافتهم، وكرمهم، وأخلاقهم الحميدة، وأصبح واحداً منهم، حينئذ أدرك بعمق كم هو الفرق بين حرية الحياة رغم بساطتها وبين حياة الأسر رغم سعادتها.. كان نضاله منصباً لكي يكسب بساطة الحياة وحريته بعيداً عن الأموال الفاسدة التي تفسد الروح والعقل وألا يبقى أسير النقود..
مع مرور الزمن صارت الحياة الزراعية حرفته المحببة وجمع منها المال الوفير، وابتاع أرضاً زراعية خاصة به، واستقل بنفسه للعمل في أرضه ويتمتع بما تجود عليه من إنتاج، وكان يساعد المرأة وابنتها للخلاص من شظف الحياة.. ألمرأة لاحظت شهامته وطيبة أخلاقه، وبدأت تنظر إليه كابنها الوحيد الذي فقدته.. عندما اشتد عوده وأصبح شاباً.. أطلق لحيته وشاربه المبروم.. ثم وقع في حب ابنتها الوحيدة ثم تزوجها لطيب أخلاقها وتواضعها وذكائها وجمالها الأخاذ، وأنجبت فيما بعد منه طفلاً جميلاً سماه "الوالي" !! و لم تدرك حينها أم الطفل معنى ذلك!! وعاشوا معاً أسرة واحدة متحابة ومتماسكة ..
وقد استطاعت الزوجة بذكائها جعل حياتهما البسيطة ثمينة بالأخلاق الحميدة، والتعاون والإخلاص، والاحترام المتبادل، والكفاح في الحياة جنباً إلى جنب، وإدخال السعادة والبهجة الغامرة إلى حياتهما وأقاما لهما بيتاً صغيراً متواضعاً، وهي لم تعرف عن زوجها سوى أنه من فئتها الاجتماعية البائسة..
مرّ وقت طويل على غياب الشاب.. استفقده والده الوالي لعدم عودته عدة مرات.. وأصبح همه الوحيد البحث عنه، والبكاء بحرارة على فراقه الذي فطر قلبه.. استنفر جيشه بحثاً عنه لمعرفة أخباره، ولم يعثروا له على اثر!!! وطلب الوالي الإعلان بين الناس، وفي مكبرات الصوت والأماكن الدينية: أن من يعلم بمكان ابنه، أو يعلم عنه شيئاً سيكافئه مكافأة مالية مجزية..
ذاع الإعلان بين الناس كالنار في الهشيم، وتناقلوه في المدن والقرى حتى وصل الخبر إلى القرية التي يقطن فيها ابنه.. الابن رأى وسمع الناس وهم يحدثون بعضهم بعضا في الحارات، والأزقة، وأماكن التجمع عن ضياع ابن الوالي العزيز على قلبه، وعن ماهية المكافأة.. وكان يشاركهم الحديث دون الإفصاح لهم عن حقيقة أمره.. لكنه كلما خلا بنفسه أيقن في داخله مدى حزن والده ووالدته وأسرته المالكة عليه!! خاف على حياتهم خوفاً شديداً من أن يصيبهم مكروه.. عاد إلى منزله تحت جنح الظلام.. نادى زوجته.. جلسا معاً.. طلب منها الاستعداد لأخذ طفلهما والذهاب به إلى "الوالي" في المدينة على وجه السرعة، وأن تبلغه بأن هذا الطفل هو سِرُ العثور على ابن الوالي الضائع لكي تحصل على المكافأة المجزية..
زوجته تسأله: لكن ما علاقة الطفل بضياع ابن الوالي؟؟ أخشى أن يتهموني بشيء ويقطعون رأسي!! وأنا لم أعرف شيئاً عن قضية اختفاء ابن الوالي..
الزوج: لا تخافي.. نحن بحاجة إلى المكافأة لتطوير حياة الأسر المستورة في القرية، وقولي لهم هناك: إن زوجي والد هذا الطفل يعرف بعض المعلومات عن ابنكم، وأنه طلب مني أن آتي إليكم!! كما طلب من زوجته جعل ما جرى بينهما من حديث طي الكتمان حتى لا يخسرا المكافأة...
نامت زوجته في تلك الليلة وهي تحلم بالمكافأة، وحوار يدور في رأسها حول الغموض الذي يكتنف علاقتهما وضياع ابن الوالي!!! واستيقظت صباحاً مرعوبة من الكوابيس التي رأتها في منامها، تارة ترى نفسها في المنام مقتولة، وتارة أخرى أنها أصبحت غنية، وتارة ثالثة الشكوك بزوجها وكيف يريد التخلص منها؟؟ استعاذت بالله من الشيطان الرجيم.. جهزت نفسها بسرعة وحملت طفلها الرضيع، وأرسلها زوجها إلى اقرب حافلة.. وقال لها: إذا سألك أحد: إلى أين تذهبين؟ ، فأجيبيه: إلى معالجة طفلي فقط..
وصلت الزوجة إلى المدينة.. توجهت نحو قصر الوالي.. أوقفها الحراس عند المدخل الرئيس والخوف يعتصر قلبها.. طلبت منهم أن يسمحوا لها بالدخول لإبلاغ الوالي بمعلومات هامة.. ما أن سمع الوالي بالأمر حتى خرج مسرعاً و متلهفاً لسماع أي شيء عن ابنه.. طلب السماح لها الدخول بسرعة.. دخلت.. تقدمت نحو الوالي، وقالت: هذا الطفل هو سِرُ العثور على ابنكم الضائع؟؟
الوالي: ما اسم هذا الطفل يا ابنتي؟
الزوجة: اسمه " الوالي"..
الوالي: أتقولين أن اسمه الوالي؟ ومن سماه بهذا الاسم؟
الزوجة: زوجي.. والده..
الوالي: ومن هو زوجك؟
الزوجة: اسمه "عبد الله".. وتابعت: هو شاب فقير الحال جاء إلى قريتنا من زمن بعيد، أحبها وسكن فيها ويعمل فيها، وتزوجني فيها، ونعيش الآن معاً في بيت متواضع صغير..
الوالي: اقتربي لأرى هذا الطفل؟
اقتربت من الوالي.. حدجه بنظرة فاحصة.. سالت دمعتان من مقلتيه على وجنتيه دون إرادته، وصاح الوالي: جهزوا أنفسكم لنرافق هذه المرأة.. واشهدوا إن كان حديثها صحيحاً فسأمنحها ألف قطعة ذهبية..
عادت الزوجة أدراجها مع موكب الوالي ومرافقيه من حاشيته إلى بيتها في القرية.. استقبلهم الأهالي بالترحاب والأهازيج والتهليل دون معرفتهم بما يجري.. وكان زوجها من بين المستقبلين في ساحة القرية وقايضاً بيديه على بعض من أدواته الزراعية الشعبية..
سألها الوالي: من هو زوجك.. فأشارت إليه.. طلب منه الاقتراب للإدلاء بالمعلومات عن ابنه.. تقدم وهو مطأطئ الرأس.. طلب الوالي منه أن يرفع رأسه إلى أعلى.. فما أن رفع رأسه حتى تعرف عليه بالرغم من ملابسه البالية وشعثه.. هجم عليه الوالي و احتضنه بين يديه، وهو يقول: يا بني.. يا بني.. ماذا جرى بك؟ ثم احتضن الطفل وأخذ يُقبّله بحرارة، وسأله: لماذا رحلت عنا طوال هذه المدة، وتركتنا في حيرة من أمرنا؟ فرد عليه: ما أحوجنا إلى استحضار الحكمة النبوية " موت في طاعة الله، خير من حياة في معصيته".. هنا فهم الوالي مغزى جواب ابنه على الفور وحبسه في صدره..
طلب الوالي من المرافقين مكافأة المرأة بألف قطعة ذهبية.. تسلمت المرأة المكافأة وعيناها مغرورقتان بدموع الفرح لاكتشافها سر زوجها الذي كان غامضاً طوال حياتهما معاً، وكذلك للتغيير الجذري الذي سيطرأ على حياتها وأمها.. وأيقنت في هذه اللحظة لماذا تم تسمية طفلها بالوالي.. وقد كانت حياتهم الجديدة حلماً صعب المنال بالنسبة لها ولأمها، ولم تفكر به يوماً ما.. لكن الله أكرمها لحسن نواياها، وإخلاصها، ووفائها لزوجها، ورزقها من حيث لا تحتسب..
دهش الأهالي من هذا اللقاء الذي جمعهم بالوالي والذي كان أمنية بالنسبة لهم، وبابن الوالي الذي عاش معهم على الحلوة والمرة وبين ظهرانيهم، وقد عم الفرح جميع الولاية وبخاصة في القرية لمناسبة العثور عليه من ناحية، والعثور على الأهالي الفقراء والمستورين فيها بتقديم المساعدات السخية لهم للنهوض بمستوى حياتهم.. وصارت قصته تُحكى على كل لسان في الولاية.. وكأن اكتشاف الابن كاكتشاف القرية النائية..
وقرر الوالي - بعد سماع قصة عيش ابنه في القرية، وكيف تلاحم معهم، وكيف أكرموه وآووه وحافظوا عليه- إغداق الأموال على أهلها دون استثناء وتحسين حياتهم.. كما قرر الابتعاد عن المعاصي في باقي حياته.. وأصرَّ في طلبه من ابنه وزوجته وأمها العودة معه إلى المدينة للعيش في كنفه.. إلا أن ابن الوالي آثر الاستمرار بالعيش في القرية طيلة حياته مع زوجته وأهلها حتى مماته..
ــــــــــ
[email protected]