
حقيقة لا يختلف عليها اثنان أكانا عاقلان أو مجنونان وهي أن الحمار ذاك الدابة يعتبر أول مهندس طرق في العالم ومخططاته لا يشق لها غبار, فهو متمرس بمهنته تماما وعارف لمقصده. لا يريد أن يتدخل أحد بعمله ,ولا هو يقحم نفسه في شؤون الغير. هذه الحقيقة أكبرتها في حمار صديق لي يسكن منطقة جبلية وعرة بعيدة عن كل أسباب الحضارة ومراكزها ومخترعاتها. لقد ملّ الحمار من جملة أوامر صاحبه, فأمْرُه يجب أن يُطاع وإلا حلَّت عقوبةٌ شديدة على رأس ذاك المخلوق البريء تتراوح بين الحرمان من حبات شعير أو إبقائه خارج الحظيرة في يوم شتاء لاسع. تمرّد الحمار يوما خلال رحلة عودته من المدينة إلى القرية وانطلق مسرعا في طريق غير الطريق وصاحبه يلهث وراءه ملوحا بعصاه علّهُ يقبض عليه ويشفي غليله منه , ولكن الأمر سرعان ما تبدل عندما حط الاثنان معا بسلام أمام المنزل في زمن قياسي غير معهود, وتبدلت العقوبة بمكافئة لم يحظ الحمار بمثلها يوما من قبل ولم يره صاحبه مبتسما على هذا النحو ولو ان للحمار أصابع لرفع شارة النصر. أبرقت لصديقي مباركا هذا التواصل الإنساني الحماري الذي أثمر الكثير. وبقدر ما أمتعني ما رأيت إلا أنه فتح جرحا غائرا في نفسي لأن التواصل الإنساني عليل وتتشابك فيه خطوط الاختصاصات خاصة في عالمنا العربي العجيب المميز في كل شيء, فالكل عندنا عارف, موسوعي ومهني مما شرّع أبوابا من جهنم للصراع والتنافر وعَقْدِ التحالفات لمواجهة الخصوم , وبين هذا وذاك ضاعت الحقيقة وضعنا معها, فنحن أمة تتقن فن إلغاء الآخر واختصاصه , فأنا لم أصبح طبيبا لأكون نجارا أو حدادا. ولم أصبح مدرسا للغة العربية لأتحدث عن المركبات الفضائية وعن طبيعة صخور الأرض والقمر والمسافات التي تفصل بين الكواكب ولا معالجا لدائي السكري والاكتئاب النفسي . في إحدى الجلسات حظيت بفرصة لقاء طبيب متخصص في أمراض العيون قلت: جاءت فرصتك على يديها ورجليها وبادرته بالسؤال عن مشكلة إحمرار عينَي. وما أن أخذ الطبيبُ وضعية الإجابة حتى إنبرى أحد الجالسين الجاهلين في علوم الصحة والحياة ليشخص المرض من خلال نوافذ جهله ويعطينا فيضا من وصفاته الطبية الشعبية المُجرّبة. صمت الطبيب واندحر مهزوما أمام صاحبنا العارف دون أن ينبس ببنت شفه طيلة الجلسة ووجهه ممتقع وحاجباه قاطبان من هول ما سمع.غضب أحد الحضور وقد امتقع وجهه وارتعشت يداه وقال: إرحمونا يرحمكم الله وليلعب كل في ملعبه مثلما فعل حمار صاحبنا لنقدم عطاء وطنيا نحن والله بأشد الحاجة اليه. لم يفقه الجاهل الرسالة حتى انهى علاج العيون وانتقل الى تشخيص داء السكري وضغط الدم الذي ارتفع بالتأكيد عند جميع الحضور باستثنائه. حاولتُ أن أُغيّر الحديث فقلت : سمعت اليوم أن مسبارا فضائيا أمريكيا حط بعد خمس سنوات من التحليق على المريخ ليلتقط صورا عن هذا الكوكب الأحمر البعيد. قاطعني الرجل نفسه : يا رجل تقول خمس سنوات والمريخ جار القمر, صحح معلوماتك لون المريخ أخضر مثل خضار بلادنا, وبعدين كلمة مسبار من أين أتيتَ بها فأنا لم أسمع بها حتى الآن. قاطعته: المسبار هو..., فتصدى لي على الفور : بالله عليك لا تقطع سلسلة أفكاري, الذي انطلق الى المريخ صاروخ أسرع من طائرة البوينج بقليل وظل يدور خمس سنوات ليتأكد من سلامة الهبوط , حط وما عاد طار, وهاي الامريكان عم يدورو عليه ومش لاقيونه حتى اليوم. قال مسبار قال شو هالحكي الفاضي. نفثت من صدري نارا كالتنين قهرا وأحسب الساعة التي جالسته فيها دهرا . وقف الجميع قبل المغادرة دقيقة صمت حدادا على بلوى الأمة. مِلتُ على صاحب الحمار وقبلت شاربيه وكدت أن أجثو على ركبتي متوسلا وسألته أن يُقنع هذا الجاهل بحضور دورة تدريبية عند حماره المتمرس بعلم الاصول. رفض طلبي على الفور وقال: أخشى على عقل حماري فتضيع فيه تربيتي ويفقد رزانة نهيقه وبوصلة الطريق.