
نافذة من بغداد: مجرشة الكرخي في لندن !!
بقلم : الدكتور كامل خورشيد
و ( المجرشة ) عبارة عن ألة تراثية كان اهلنا في العراق يستخدمونها لصنع الطحين بوضع الحبوب بهذه الآلة ومن ثم تدار بمقبض، وبمجرد ان يوضع القمح في المجرشة يطحن ويخرج ( الجريش ) من فتحة في الالة ويصبح طحينا بعملية صعبة جدا !
و( المجرشة ) خلدها الشاعر الشعبي العراقي الملا عبود الكرخي ( 1869-1946) بقصيدة حملت الاسم نفسه ، فاذا ذكرت المجرشة ذكر الكرخي والعكس صحيح ايضا ، اذ يقول بمطلعها على لسان امرأة تجرش وتنوح باسى ولوعة :
ذبيت روحي اعلى الجرش
وادري الجرش ياذيها
ساعة واكسر المجرشة
وأنعل ابو راعيها !!
و(( ذبيت روحي على الجرش )) تعني (( رميت نفسي على الحبوب المجروشة )) اذ تقرر المرأة المغلوبة المتعبة ان تكسر المجرشة ، وقيل ان المجرشة بقصيدة الكرخي كناية ذكية عن الوضع الماساوي للناس او هي الاحتلال البريطاني ، وان المرأة هنا هي الشعب الذي لا بد له من ان يكسر ( المجرشة ) اي الواقع المرير ، و طبعا كان هذا الكلام في ثلاثينيات القرن الماضي ! !
والملا( عبود بن الحاج حسين السهيل الكرخي ) من الشخصيات العراقية الوطنية التي احبت العراق وضحت من اجله ، تلقى علومه الأولية بالكتاتيب ، وحفظ القران الكريم وهو في الرابعة من عمره ، وتعلم اللغات الكردية والتركية والفارسية والالمانية حيث سافر الى المانيا ردحا من الزمن .
عمل الكرخي في بداية حياته مع والده بالتجارة ، وجرب الزراعة ولم يفلح بها ، فلجأ الى الصحافة والادب ، حيث يعد المؤرخون والمهتمون بالشأن العراقي الدواوين الشعرية التي وضعها الملا عبود الكرخي باللهجة العراقية الدارجة بمثابة أعظم موسوعة عراقية تؤرخ للثقافة العراقية السائدة في الزمن الذي عاش فيه الكرخي ولأحداث ومواقف وصور شعبية جميلة ، حتى انه لقب بامير الشعر الشعبي العراقي !
اما قصة ( المجرشة ) في لندن ، فما زلت أتذكر التاريخ : لندن ، الاربعاء 27 تشرين الثاني من عام 1985 ، الثامنة مساء ، وفي الطابق تحت الارضي المخصص للعروض المسرحية في المركز الثقافي العراقي بشارع توتنهام كورت رود ، كنت اجلس بمكاني ملبيا دعوة كريمة من مدير المركز الأخ وجيه القيسي ، اتابع العرض المدهش الذي قدمه الفنان يوسف العاني ، الذي جسد شخصية الملا عبود الكرخي ، واختار (المجرشة ) للتجوال برحاب تلك الشخصية البغدادية الفذة !
كان يشاركه الأداء ، في الغناء الذي يتطلبه العرض ، الفنان الدكتور سعدي الحديثي الذي اطرب الحضور ، وأبكاهم ، وهو ينوح بأغنية المجرشة بصوته الشجي ، تصاحبه معزوفات موسيقية رائعة ادتها احدى الفنانات العراقيات التي نسيت اسمها مع الاسف ، مما أضفى على العرض لمسة جمالية تندر ان تتوفر لعمل يؤديه ثلاثة انفار ويستغرق ساعتين من الزمن !!
كانت امسية عراقية تلبي حاجات نفسية ورغبات اجتماعية للمغتربين العراقيين والعرب في عاصمة الضباب ، حيث استحوذت ( مجرشة ) الكرخي التي جلبها يوسف العاني من كرخ بغداد الى عرب لندن ، على قلوب الحضور من الجالية العراقية والعربية وبعض المستشرقين الانجليز حتى ان القاعة كانت تغص بالحاضرين وبعضهم لم يجد مكانا حتى خارج القاعة !!
وقد يكون هذا العمود قاصرا عن الإلمام بمسيرة الكرخي وعطائه الثري ، اذ جسد بنضاله ووطنيته ومبدئيته النموذج العراقي الأصيل ، ولم يكتف الكرخي بكونه صحفيا واديبا وشاعرا بل انضم الى ثوار ثورة العشرين عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني وكان من شعراء الثورة الشعبية ، وقاد مظاهرات صاخبة بنفسه من جامع الحيدر خانة بقلب بغداد ، واصدر العديد من الصحف، مناصبا العداء للانجليز ، وقد فرضت السلطات عليه الاقامة الجبرية عام 1940 ، ولكنه أصيب بانفجار الدماغ وتوفي عام 1946 مخلفا وراءه كما هائلا من التراث الشعبي الذي لابد وان نعيد قراءته ودراسته واستخلاص العبر والتجارب منه .
وللكرخي جولات وصولات فكاهية وساخرة ، وله مما يسمى بالادب المكشوف الشيء الكثير ولعل من ابرز ما دونه قصيدة ( داود اللمبجي ) وداود هذا كان يعمل بوظيفة ايقاد (اللمبات) التي تضاء بالليل في شوارع بغداد لتنيرها وكان يتقاضى أجره من البلدية ، وعندما مات داود نظم الكرخي قصيدة في رثائه جاء فيها :
مات اللمبجي داود وعلومه
تعالوا دا انعزي اليوم فطومة !!
اي ان داود مات وماتت معه ( علومه ) اي اسراره وخصوصياته ، فداود اللمبجي كانت له
وظيفة اخرى عند ( فطومة ) لا يسمح المقام هنا بشرحها !!
ومما يذكر من نوادر عن الملا عبود الكرخي ، انه كان في يوم من الايام يجلس في ما نسميه بالعراق ( بلما ) اي زورقا صغيرا ، قاصدا الانتقال من مدينة المسيب إلى الكوفة ، فوجد نفسه أمام شخص اسمه ( عطية المسودن ) ، وما ان تحرك الزورق حتى بادر الراكب عطية بالقول : ((اللف اذا تسمح وتتفضل عليَّ ملا علوان)) اي انه التمس من الملا عبد الكرخي ان يسلفه سيجارة من نوع ( اللف ) التي كانت هي الشائعة انذاك ! فسارع الملا عبود لتصحيح الاسم (( عفوا اخوي انا ملا عبود وليس ملا علوان )) !
واصل ( البلم ) رحتله الهادئة في نهر الفرات فوصل منطقة ( البو افشيكة ) وهنا سأله الرجل (( واش اسم المنطقة هذه ملا عليوي ؟)) ، فرد ملا عبود بشيء من الضيق : ( اخوي انا اسمي ملا عبود وليس ملا عليوي من فضلك ! )) .
وحان موعد الغداء على الزورق فقال عطية: (( ملا عودة تفضل على الغداء )) فنظر إليه الكرخي قائلاً: (( خاطر الله .. أنا ملا عبود .. ومشكور على الغداء )) وبعد الغداء قدم اليه عطية المسودن استكانا ( اي قدحا ) من الشاي وهو يقول (( ملا عيدان تفضل هذا الشاي مخدر ومهيل )) ، فصمت الشاعر وقال في نفسه ( ما كو فايدة ) وقبل ان يصل الزورق الى ضفة النهر الأخرى قال عطية للشاعر الكرخي : (( شنو قلت لي اسمك ملا ؟؟ )) ، فرد الشاعر قائلاً بعصبية وسخرية : (( ملا زبالة الكرخي )) !! فردد عطية (( هسه - اي الان - افتهمت)) !!
وحينما نزل عطية على ضفة النهر الاخرى قال له ((مع السلامة ملا زبالة )) فما كان من الكرخي الا ان صاح به (( يا ابن ال.... هسه افتهمت ها !؟ تنسى كل هاي الأسماء وتتذكر بس ملا زبالة )) !!
بقلم : الدكتور كامل خورشيد
و ( المجرشة ) عبارة عن ألة تراثية كان اهلنا في العراق يستخدمونها لصنع الطحين بوضع الحبوب بهذه الآلة ومن ثم تدار بمقبض، وبمجرد ان يوضع القمح في المجرشة يطحن ويخرج ( الجريش ) من فتحة في الالة ويصبح طحينا بعملية صعبة جدا !
و( المجرشة ) خلدها الشاعر الشعبي العراقي الملا عبود الكرخي ( 1869-1946) بقصيدة حملت الاسم نفسه ، فاذا ذكرت المجرشة ذكر الكرخي والعكس صحيح ايضا ، اذ يقول بمطلعها على لسان امرأة تجرش وتنوح باسى ولوعة :
ذبيت روحي اعلى الجرش
وادري الجرش ياذيها
ساعة واكسر المجرشة
وأنعل ابو راعيها !!
و(( ذبيت روحي على الجرش )) تعني (( رميت نفسي على الحبوب المجروشة )) اذ تقرر المرأة المغلوبة المتعبة ان تكسر المجرشة ، وقيل ان المجرشة بقصيدة الكرخي كناية ذكية عن الوضع الماساوي للناس او هي الاحتلال البريطاني ، وان المرأة هنا هي الشعب الذي لا بد له من ان يكسر ( المجرشة ) اي الواقع المرير ، و طبعا كان هذا الكلام في ثلاثينيات القرن الماضي ! !
والملا( عبود بن الحاج حسين السهيل الكرخي ) من الشخصيات العراقية الوطنية التي احبت العراق وضحت من اجله ، تلقى علومه الأولية بالكتاتيب ، وحفظ القران الكريم وهو في الرابعة من عمره ، وتعلم اللغات الكردية والتركية والفارسية والالمانية حيث سافر الى المانيا ردحا من الزمن .
عمل الكرخي في بداية حياته مع والده بالتجارة ، وجرب الزراعة ولم يفلح بها ، فلجأ الى الصحافة والادب ، حيث يعد المؤرخون والمهتمون بالشأن العراقي الدواوين الشعرية التي وضعها الملا عبود الكرخي باللهجة العراقية الدارجة بمثابة أعظم موسوعة عراقية تؤرخ للثقافة العراقية السائدة في الزمن الذي عاش فيه الكرخي ولأحداث ومواقف وصور شعبية جميلة ، حتى انه لقب بامير الشعر الشعبي العراقي !
اما قصة ( المجرشة ) في لندن ، فما زلت أتذكر التاريخ : لندن ، الاربعاء 27 تشرين الثاني من عام 1985 ، الثامنة مساء ، وفي الطابق تحت الارضي المخصص للعروض المسرحية في المركز الثقافي العراقي بشارع توتنهام كورت رود ، كنت اجلس بمكاني ملبيا دعوة كريمة من مدير المركز الأخ وجيه القيسي ، اتابع العرض المدهش الذي قدمه الفنان يوسف العاني ، الذي جسد شخصية الملا عبود الكرخي ، واختار (المجرشة ) للتجوال برحاب تلك الشخصية البغدادية الفذة !
كان يشاركه الأداء ، في الغناء الذي يتطلبه العرض ، الفنان الدكتور سعدي الحديثي الذي اطرب الحضور ، وأبكاهم ، وهو ينوح بأغنية المجرشة بصوته الشجي ، تصاحبه معزوفات موسيقية رائعة ادتها احدى الفنانات العراقيات التي نسيت اسمها مع الاسف ، مما أضفى على العرض لمسة جمالية تندر ان تتوفر لعمل يؤديه ثلاثة انفار ويستغرق ساعتين من الزمن !!
كانت امسية عراقية تلبي حاجات نفسية ورغبات اجتماعية للمغتربين العراقيين والعرب في عاصمة الضباب ، حيث استحوذت ( مجرشة ) الكرخي التي جلبها يوسف العاني من كرخ بغداد الى عرب لندن ، على قلوب الحضور من الجالية العراقية والعربية وبعض المستشرقين الانجليز حتى ان القاعة كانت تغص بالحاضرين وبعضهم لم يجد مكانا حتى خارج القاعة !!
وقد يكون هذا العمود قاصرا عن الإلمام بمسيرة الكرخي وعطائه الثري ، اذ جسد بنضاله ووطنيته ومبدئيته النموذج العراقي الأصيل ، ولم يكتف الكرخي بكونه صحفيا واديبا وشاعرا بل انضم الى ثوار ثورة العشرين عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني وكان من شعراء الثورة الشعبية ، وقاد مظاهرات صاخبة بنفسه من جامع الحيدر خانة بقلب بغداد ، واصدر العديد من الصحف، مناصبا العداء للانجليز ، وقد فرضت السلطات عليه الاقامة الجبرية عام 1940 ، ولكنه أصيب بانفجار الدماغ وتوفي عام 1946 مخلفا وراءه كما هائلا من التراث الشعبي الذي لابد وان نعيد قراءته ودراسته واستخلاص العبر والتجارب منه .
وللكرخي جولات وصولات فكاهية وساخرة ، وله مما يسمى بالادب المكشوف الشيء الكثير ولعل من ابرز ما دونه قصيدة ( داود اللمبجي ) وداود هذا كان يعمل بوظيفة ايقاد (اللمبات) التي تضاء بالليل في شوارع بغداد لتنيرها وكان يتقاضى أجره من البلدية ، وعندما مات داود نظم الكرخي قصيدة في رثائه جاء فيها :
مات اللمبجي داود وعلومه
تعالوا دا انعزي اليوم فطومة !!
اي ان داود مات وماتت معه ( علومه ) اي اسراره وخصوصياته ، فداود اللمبجي كانت له
وظيفة اخرى عند ( فطومة ) لا يسمح المقام هنا بشرحها !!
ومما يذكر من نوادر عن الملا عبود الكرخي ، انه كان في يوم من الايام يجلس في ما نسميه بالعراق ( بلما ) اي زورقا صغيرا ، قاصدا الانتقال من مدينة المسيب إلى الكوفة ، فوجد نفسه أمام شخص اسمه ( عطية المسودن ) ، وما ان تحرك الزورق حتى بادر الراكب عطية بالقول : ((اللف اذا تسمح وتتفضل عليَّ ملا علوان)) اي انه التمس من الملا عبد الكرخي ان يسلفه سيجارة من نوع ( اللف ) التي كانت هي الشائعة انذاك ! فسارع الملا عبود لتصحيح الاسم (( عفوا اخوي انا ملا عبود وليس ملا علوان )) !
واصل ( البلم ) رحتله الهادئة في نهر الفرات فوصل منطقة ( البو افشيكة ) وهنا سأله الرجل (( واش اسم المنطقة هذه ملا عليوي ؟)) ، فرد ملا عبود بشيء من الضيق : ( اخوي انا اسمي ملا عبود وليس ملا عليوي من فضلك ! )) .
وحان موعد الغداء على الزورق فقال عطية: (( ملا عودة تفضل على الغداء )) فنظر إليه الكرخي قائلاً: (( خاطر الله .. أنا ملا عبود .. ومشكور على الغداء )) وبعد الغداء قدم اليه عطية المسودن استكانا ( اي قدحا ) من الشاي وهو يقول (( ملا عيدان تفضل هذا الشاي مخدر ومهيل )) ، فصمت الشاعر وقال في نفسه ( ما كو فايدة ) وقبل ان يصل الزورق الى ضفة النهر الأخرى قال عطية للشاعر الكرخي : (( شنو قلت لي اسمك ملا ؟؟ )) ، فرد الشاعر قائلاً بعصبية وسخرية : (( ملا زبالة الكرخي )) !! فردد عطية (( هسه - اي الان - افتهمت)) !!
وحينما نزل عطية على ضفة النهر الاخرى قال له ((مع السلامة ملا زبالة )) فما كان من الكرخي الا ان صاح به (( يا ابن ال.... هسه افتهمت ها !؟ تنسى كل هاي الأسماء وتتذكر بس ملا زبالة )) !!