
القط النمر
بقلم : عصام ابو فرحه
رأيتهما متقابلين هناك قرب جدار قديم , كانا قطين سمينين في ريعان شبابهما , أدركت سريعاً أن معركة حامية الوطيس على وشك أن تندلع , فوقفتهما لا تحمل أية نذر للسلام , لا سيما أن كل منهما يحمل تحت ذيله أعضاء ذكرية لا بأس بها , وذلك يؤكد أن تلك الوقفة لا يمكن أن تكون ذات طابع غزلي قططي , خطر ببالي أن أنهرهما وأفض الاشتباك قبل أن يبدأ , لكن أنانيتي كإنسان دفعتني إلى الانتظار لأمتع نفسي بمشاهدة لقطة فريدة غير مكترث بما ستحمله النتيجة من آلام لأحدهما أو لكليهما .
اقتربا من بعضهما أكثر وأكثر فتلامست الأنوف أو كادت , حتى خلت أنني أسمع قرع طبول الحرب بأذني , حاولت أن أجتهد لمعرفة من سيكون المنتصر . فدققت في معالمهما دون جدوى , فحجمهما متقارب إلى حد كبير , والاستعدادات متكافئة نوعاً ما , تمنيت لو أن أحد الأصدقاء كان معي لنلعب لعبة الرهان على الفائز كما يفعل أهل الفلبين في الرهان على قتال الديوك , ولا فرق إن كانت ديوكاً أم قططاً , ولعدم وجود شريك الرهان قررت أن أراهن نفسي , فاستثرت فراستي وأمعنت التدقيق مرة أخرى , لكن الأحداث تسارعت بغرابة لتبطل جدوى الفراسة , ولتحدث بشكل جلي عن نتيجة تلك المعركة , فهاهو أحد القطط يتراجع إلى الخلف بضع خطوات , وتنكمش رقبته بين كتفيه , ويجلس ساكناً وكأنه قد ابتلع منجلاً , فإ ن هو بقي هكذا لن ينجو من ضربة أمامية قد تسحق أنفه الحساس , وإن استدار للهرب فلن ينجو من ضربة خلفية قد تسحق معالم ذكورته , أما القط الآخر فتحول في رمشة عين إلى نمر شرس , حيث رفع رقبته إلى الأعلى ووقف على رؤوس أصابع يديه , وانتفخ رأسه واستقام شاربه , ووقف شعر جسده حتى تحول إلى ما يشبه الدبابيس الحاده , وكشر عن أنياب كأنها سكاكين مسنونة , ولقد اكتمل المشهد المرعب بصوت خرج منه عالياً غاضباً :
( بخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخ ) ,
للحظات قليلة أفزعني الصوت بحدته وقوته وتوقيته المباغت , فعدت قليلاً إلى الوراء بحركة لا إرادية , استعدت توازني بعد ذلك وعاد إلي الهدوء , وحمدت الله على أنني لست طرفاً في تلك المعركة , مسكين هذا القط المتراجع , كيف لم يفقد وعيه أمام تلك الزمجرات , بل أمام ذلك الزئير , أنا لست قطاً ولست طرفاً ولم أستطع الحفاظ على ثباتي , فكيف لهذا المسكين أن يصمد أمام هذا القط النمر ؟
استمر المشهد , صوت القط الثائر يعلو ويعلو ويعلو , أحياناً كان الصوت أشبه بأصوات حيوانات الأدغال , وأحياناً أخرى تزداد حدته ليصبح إلى أصوات الطيور الجارحة أقرب , ويطول أحياناً ويتموج ليبدو وكأنه يصدر كلمات تهديد ووعيد ,
اعتادت أذني سماع زمجرات القط النمر فما عادت تهزني , واعتادت عيني رؤية ملامحه الغاضبة الثائرة فما عادت تأتي بجديد , تحولت بتركيزي إلى القط الآخر لأرقب ملامح خوفه , ولأرصد خطته للانسحاب , ذلك إن لم يمت ضرباً أو فزعاً ,
هدوء هذا القط غريب بل عجيب , لا يتحرك , لا يصدر أي أصوات , ثابت في مكانه , هل قضى جالساً أم أنه فقد الوعي أم ماذا ؟ لا لا , ما زال على قيد الحياة , هاهو يقف , لا بد وأنه قد قرر الهرب ففي ذلك أقل الخسائر ,
قررت أن أساعده عندما يبدأ انسحابه فلقد أشفقت على حاله , وانتظرت أن يستدير ويولي هارباً , حينها سأنهر القط النمر كي لا يلحق به , وكم فوجئت حين خطا القط الهادىء أول خطواته , والتي لم تكن إلى الخلف كما توقعت , بل تقدم بخطوات ثابتة إلى الأمام , لا يأبه بالأصوات والزمجرات الآتية من أمامه , تقدم بثقة وثبات وعاجل القط المزمجر بضربة على وجهه وبأخرى على بطنه وبثالثة على ظهره , تناثر شعره في الهواء , انقلب على ظهره , لم يحاول صد أية ضربة , ولم يحاول الدفاع , لكن صوته بقي كما هو , بل زاد علواً , يتلقى الضربات تلو الضربات ويزمجر , ينقلب على ظهره وعلى بطنه ويزأر كزئير الأسود , حتى عندما استطاع الإفلات , هرب ولا زال يصدر ذات الأصوات , مشيت في طريقي والضحكات تنطلق مني , قلت لنفسي كيف لم تخطر ببالي مقولة أمي : ( يا كثير الحكي يا قليل الفعل ) , واصلت المسير وتركت القط الهادىء ينعم بتناول قطعة لحم أظنها كانت سبباً في تلك المعركة .
بقلم : عصام ابو فرحه
رأيتهما متقابلين هناك قرب جدار قديم , كانا قطين سمينين في ريعان شبابهما , أدركت سريعاً أن معركة حامية الوطيس على وشك أن تندلع , فوقفتهما لا تحمل أية نذر للسلام , لا سيما أن كل منهما يحمل تحت ذيله أعضاء ذكرية لا بأس بها , وذلك يؤكد أن تلك الوقفة لا يمكن أن تكون ذات طابع غزلي قططي , خطر ببالي أن أنهرهما وأفض الاشتباك قبل أن يبدأ , لكن أنانيتي كإنسان دفعتني إلى الانتظار لأمتع نفسي بمشاهدة لقطة فريدة غير مكترث بما ستحمله النتيجة من آلام لأحدهما أو لكليهما .
اقتربا من بعضهما أكثر وأكثر فتلامست الأنوف أو كادت , حتى خلت أنني أسمع قرع طبول الحرب بأذني , حاولت أن أجتهد لمعرفة من سيكون المنتصر . فدققت في معالمهما دون جدوى , فحجمهما متقارب إلى حد كبير , والاستعدادات متكافئة نوعاً ما , تمنيت لو أن أحد الأصدقاء كان معي لنلعب لعبة الرهان على الفائز كما يفعل أهل الفلبين في الرهان على قتال الديوك , ولا فرق إن كانت ديوكاً أم قططاً , ولعدم وجود شريك الرهان قررت أن أراهن نفسي , فاستثرت فراستي وأمعنت التدقيق مرة أخرى , لكن الأحداث تسارعت بغرابة لتبطل جدوى الفراسة , ولتحدث بشكل جلي عن نتيجة تلك المعركة , فهاهو أحد القطط يتراجع إلى الخلف بضع خطوات , وتنكمش رقبته بين كتفيه , ويجلس ساكناً وكأنه قد ابتلع منجلاً , فإ ن هو بقي هكذا لن ينجو من ضربة أمامية قد تسحق أنفه الحساس , وإن استدار للهرب فلن ينجو من ضربة خلفية قد تسحق معالم ذكورته , أما القط الآخر فتحول في رمشة عين إلى نمر شرس , حيث رفع رقبته إلى الأعلى ووقف على رؤوس أصابع يديه , وانتفخ رأسه واستقام شاربه , ووقف شعر جسده حتى تحول إلى ما يشبه الدبابيس الحاده , وكشر عن أنياب كأنها سكاكين مسنونة , ولقد اكتمل المشهد المرعب بصوت خرج منه عالياً غاضباً :
( بخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخ ) ,
للحظات قليلة أفزعني الصوت بحدته وقوته وتوقيته المباغت , فعدت قليلاً إلى الوراء بحركة لا إرادية , استعدت توازني بعد ذلك وعاد إلي الهدوء , وحمدت الله على أنني لست طرفاً في تلك المعركة , مسكين هذا القط المتراجع , كيف لم يفقد وعيه أمام تلك الزمجرات , بل أمام ذلك الزئير , أنا لست قطاً ولست طرفاً ولم أستطع الحفاظ على ثباتي , فكيف لهذا المسكين أن يصمد أمام هذا القط النمر ؟
استمر المشهد , صوت القط الثائر يعلو ويعلو ويعلو , أحياناً كان الصوت أشبه بأصوات حيوانات الأدغال , وأحياناً أخرى تزداد حدته ليصبح إلى أصوات الطيور الجارحة أقرب , ويطول أحياناً ويتموج ليبدو وكأنه يصدر كلمات تهديد ووعيد ,
اعتادت أذني سماع زمجرات القط النمر فما عادت تهزني , واعتادت عيني رؤية ملامحه الغاضبة الثائرة فما عادت تأتي بجديد , تحولت بتركيزي إلى القط الآخر لأرقب ملامح خوفه , ولأرصد خطته للانسحاب , ذلك إن لم يمت ضرباً أو فزعاً ,
هدوء هذا القط غريب بل عجيب , لا يتحرك , لا يصدر أي أصوات , ثابت في مكانه , هل قضى جالساً أم أنه فقد الوعي أم ماذا ؟ لا لا , ما زال على قيد الحياة , هاهو يقف , لا بد وأنه قد قرر الهرب ففي ذلك أقل الخسائر ,
قررت أن أساعده عندما يبدأ انسحابه فلقد أشفقت على حاله , وانتظرت أن يستدير ويولي هارباً , حينها سأنهر القط النمر كي لا يلحق به , وكم فوجئت حين خطا القط الهادىء أول خطواته , والتي لم تكن إلى الخلف كما توقعت , بل تقدم بخطوات ثابتة إلى الأمام , لا يأبه بالأصوات والزمجرات الآتية من أمامه , تقدم بثقة وثبات وعاجل القط المزمجر بضربة على وجهه وبأخرى على بطنه وبثالثة على ظهره , تناثر شعره في الهواء , انقلب على ظهره , لم يحاول صد أية ضربة , ولم يحاول الدفاع , لكن صوته بقي كما هو , بل زاد علواً , يتلقى الضربات تلو الضربات ويزمجر , ينقلب على ظهره وعلى بطنه ويزأر كزئير الأسود , حتى عندما استطاع الإفلات , هرب ولا زال يصدر ذات الأصوات , مشيت في طريقي والضحكات تنطلق مني , قلت لنفسي كيف لم تخطر ببالي مقولة أمي : ( يا كثير الحكي يا قليل الفعل ) , واصلت المسير وتركت القط الهادىء ينعم بتناول قطعة لحم أظنها كانت سبباً في تلك المعركة .