بقلم : فؤاد رشدي عبداللطيف الحطاب
كانَتِ السيارةُ تنتظرُهُ أمامَ بيتهِ،خرجَ متوتراً،ولكنَّهُ عادَ مرةً ومرة..،ثَمَّةَ شيءٌ يَجْذِبُهُ إلى الدَّاخل،وللوهلة ِالأولى يبدو للناظرِ مِنْ بعيدٍ أنَّهُ مُنْهَمِكٌ في البحثِ عَنْ شيءٍ ما نَسِيَهُ،لكنَّ عينيه المُنكسرتين تُكَذِّبانهِ،كانتْ أركانُ البيتِ تتجسدُ في صورةِ أُمِّهِ فاتِحةً ذراعيها له، وكُلَّما حاولَ اختلاسَ النظرِ هنا أوهناك رآها تَهِمُّ باحْتِضانِهِ،فَيَهْرُبُ بعيدا،وَيَلفُ،ويدورُ،وبينما هو كذلك؛أَدْرَكَهُ الزَّمنُ،وَقَفَ،رفعَ رأسَهُ للأعلى،أخذَ نَفَساً عميقاً، واستسلمَ للرحيل،ودارتْ يَدُهُ وهي ترتعشُ بالمفتاح تُغلقُ البابَ مُودِعاً خلفَهُ الأيامَ والسنين والذكرياتِ،ومشى بِخُطىً عاثرةٍ،استدارَ لِيُواجهَ بيتَهُ،ويحملَ قلْبَهُ مَعَهُ، فلم يَقْوَ على ذلك،واحترقتْ عيناهُ بعبراتٍ مُخْتَنِقَةٍ بقيتْ تَتَأَوَّهُ بِصَمْت. انطلقتِ السيارةُ مغادرةً،وابتعدَ بيتُهُ حَتَّى تلاشى في الزِّقاقِ،وَهوَ ما يَزالُ غارِقاً في الضياعِ..غائباً في الحضورِ..لقد تركَ قلبَهُ..وتركَ مَعَهُ كلَّ شيءٍ..وهوَ الآنَ لا يدري إلى أينَ وُجْهَتُهُ.وَمضتِ السيارةُ تَنْسَلُّ من المدينةِ كأفعى تتلوى مُخترقةً ضَواحيها وشَوارعها التي تَعجُّ بالحركة والحياة تَغْمُرُها شَمْسُ الصباحِ الربيعيةِ المُتلألِئةِ بالدفءِ والضياءِ والحبِّ والمرح،وفي كلِّ شارعٍ تَمُرُّ عليه،وفي كلِّ رُكْنٍ تتوالى الصورُ أمامَ ناظريْهِ،وتَخْتلطُ في ذاكرته؛...صور المارة..طلابُ المدارس..العمالُ...الكبارُ والصغارُ...النساءُ والرجالُ...المحلاتِ التجارية...رائحةُ الْخُبز...الأشجارُ الخضراءُ العالية...ألوانُ الإعلاناتِ الجذابةُ..أصواتُ الباعةِ...المقهى الذي يُمضي فيه وَقتا جميلاً مع رفاقه.
رَحَلْتِ الْمدينةُ بعيداً،وما إن أوْغَلتْ في البعدِ حتى توقفتِ السيارةُ أمامَ بابِ الدارِ.نَزَلَ منها عجوزٌ هَرِمُ يتَوَكأُ على عصا،وقف ينظر حوله،ويتأمل في المكان الجديد مُحاوِلاً التآلفَ معه،كان الشارعُ شاحباً تَزْدَحِمُ فيه أبنيةٌ صَمَّاءُ تَحْجِبُ الأفقَ،لَفَتَتْ نَظَرَهُ لَوْحَةٌ عريضةٌ،رَفَعَ رأسَهُ للأعلى باتجاهها،فبدا وَجْهُهُ أمامَ شَّمْسِ النَّهارِ جلياً،كانتْ قسماتُ وَجْهِهِ تَحكي قَسْوةَ السنينَ العاتيةِ التي سرقتْ شبابه وتركته مشيبا،ترى فيه خَريْفَ العُمْرِ مُنَوِّساً،وحَدَّقَ في اللوحة فشدَّ عضلاتِ وجهِهِ فارْتَسَمَتْ أخاديدُ مُتكسِّرةً مُوقِّعةً بَصْمَةَ السنينَ،ولم تبدُ عيناه فقد غَرِقَتا بين جَفنينِ مُرْتَخِيَيْنِ وحواجبَ مُتهدِّلةٍ،ووَضعَ يَدَهُ على لِحيتهِ البيضاءِ الكثَّةِ،وبدأَ يَهْرُشُ بِها،وقرأَ اللوحةَ:(دَارُ الْـمُسِـنـيـْنَ)،قال لنفسهِ(وقد شعر بالأسى على ما مضى):ألْم يَجدْ هؤلاء اسْماً غيرَ هذا؟
عَاوَدَه ُرَجْعُ لَحنٍ لِربيعٍ من العمرِ ولّى واندثر،فَغَنَّى للخدِّ الصقيلِ والصِّبِا الجميلِ،ورَدَّدَ كذا كنتُ..وكذا بقيتُ..إيـه إيـه..وسارَ باتِّجاهِ الدار،ثُمَّ دخلَ إلى رَدْهَةٍ واسعةٍ دائريةِ الشكلِ،نصفُها الأيمنُ جدارٌ زجاجيٌ يلتفُ بطريقةٍ لطيفةٍ،يتضمنُ مقهىً ومطعماً وصالةَ جلوسٍ،تُطِلُّ على حديقةٍ غنَّاءَ،تضيءُ شَمْسُها النصفَ الآخرَ الذي يتقدمُهُ مكتبٌ للاستقبالِ على يَمينهِ حجرةُ إدارةِ الدارِ،ويسارهِ بوابةٌ تصلُ إلى الطابقِ العلوي،وَقفَ ودارَ حولَ نفسهِ لِيَعْرَفَ مِنْ أين البدايةُ،شَعَرَ بالدوارِ كادَ أنْ يقعَ،أسرعَ إليه موظفُ الاستقبالِ والْتَقَفَهُ،وأخذَ بِيَديهِ،وعرفَ منه أنَّهُ مُقيمٌ جديدٌ في الدارِ،وقدَّمَ له كافةِ التسهيلاتِ،ثم طلبَ منه إكمالَ الإجراءاتِ المطلوبةِ التي تجعلُ منهُ مُقيماً رسمياً في الدار.لم يَكنْ القيامُ بالإجراءاتِ بالمسألةِ السهلةِ،فقد كانت مُمِلةً جدا،إذْ أخذَتِ النهارَ بطولهِ،فقد تَطلبَ منه الانتقالُ إلى مستشفى المدينة لإنشاءِ ملفٍ للسيرةِ المرضيةِ،ثم الانتقالُ من مبنىً إلى آخر لإجراءِ الفحوصاتِ الضروريةِ اللازمةِ،وما إن أنْهى كلَّ ذلك حتّى أَرْخى الليلُ سُدولَهُ
رَجَعَ إلى الدار مُنهكاً جائعاً يَجرُّ نفسَهُ جَرّاً، ذَهَبَ إلى صالةِ المطعمِ فوجدَهم وهم يرفعون طعامَ العشاءِ،طلبوا منه أنْ يرتاحَ قليلا،ثم جاءَه طعامُ العشاءِ،كانَ شكلُ الطعامِ شهياً جداً لكنَّهُ خالٍ من كلِّ شيءٍ،تناول بَعضَهُ على مَضَضٍ،ثم مَسحَ فَمَهُ بالمنديلِ،وانتقلَ إلى الأريكةِ المقابلةِ للتلفازِ،كانِ مُولعاً بالأخبارِ،طَلََبَ كأساً من الشاي،وجلسَ يتابعُ،شعرَ بِنُعاسٍ شديدٍ،نَهضَ من مكانهِ إلى النومِ،فلمْ يَعُدْ بمقدوره الجلوس،صعدَ إلى الطابقِ العلوي مُتثاقلاً حتّى وصل إلى الْمُشرفة التي تَقِفُ خَلْفَ مكتبٍ كبيرٍ .قال لَها:مِنْ فَضْلِكِ؛أوْصِليني إلى غُرفةِ نوْمي.قالت له:انتظرْ قليلاً يا عَمّي،أقبلتِ الممرضةُ التي كانت تتفقد المنامة،وسألتها عنه،قالت:هذا الحاجُّ مقيمٌ جديدٌ أتى في الصباحِ،وقد جهّزْنا له سريرَ المرحومِ يحيى عبد الدايم رقم(17) لِيحلَّ مكانه،ابْتَسمَ،وقالَ في نفسهِ:يحيى ...؟ قالتِ المشرفةُ:أوصليهِ إلى سريرهِ،ذهبَ معها،وهو يقولُ في نفسهِ:كيفَ قالوا لي:إنَّ هناكَ غُرفاً خاصة لِكُلِّ مُقيم ٍ؟ آهٍ..لقد خَدعَني ذوو القُرْبى.!
فتحت المشرفةُ باب المنامة،فدخلت أمامَه،وهو متأخرٌ قليلاً وراءَها،وَلَمَّا دخل صُعِقَ مِمّا رأى،كانتِ المنامةُ طويلةً جدا،وتَمْتَمَ:هذه ليستْ منامةً بل ثكنةً عسكريةً بل سوقا كبيرا ..."يا حبيـبي"؟! ثَمَّةَ رائحةٌ عفنةٌ تَختلطُ برائحةِ المُطهِّراتِ تنبعثُ من المكانِ ، نظرَ- وقد تغيَّرتْ ملامحُ وجههِ- في الناسِ المُرتَمينَ على الأَسِرَّةِ،فَشاهدَ كائناتٍ طُفَيْليةً.. خُرافيةً..مُسْتَحَثَّاتٍ بشريةً..أشباحاً ملقاة على الجانبين وعلى طول المنامة. توقف قليلا، وقال:ما هذا؟ هذا ليس معقولا؛لابدَّ أنّ هذا من تأثير النعاس الشديد،لا..عليَّ أن أُنْعمَ النظرَ أكثر،ونظر إليهم كواحد منهم ينتمي إليهم،حدَّق فيهم مرة أخرى،فرأى أناسا حقيقيين من هذا المجتمع،اقترب منهم أكثر،فرأى فيهم صورتَهُ الحقيقية،رأى عيوناً متوسلةً ،وجوهاً ذابلةً، أجساماً متهدلةً،داروا في رحى السنينَ طويلاً،ودارتْ بِهم،فَطَحَنَتْهُمُ طحناً،وبعدما طُحِنُوا رمتهم بعيداً.هَمْ هَمَ وقال في نفسه: ألهذا ابتعدتِ الدارُ عن المدينة؟يا إِلَهي امنحْ عبدَك الضعيفَ هذا القوةَ كي يرجعَ إلى بيتِهِ سالِماً.
وشَعَرَ أنَّ النهايةَ قدْ بَدأتْ مِنْ هذا المكانِ،وقفتِ الممرضةُ أمامَ سريرَهُ ،وقالتْ له: هذا هو.كانَ سريرَهُ يَقعُ في مُنتصفِ الْمنامةِ،أَلقى بِنفسهِ عليه،وحاولَ النَّومَ فلمْ يستطعْ،تَقلَّبَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ،أغْمضَ عينيهِ،غطَّى رأسَهُ لكنَّ كلَّ محاولاتِهِ باءتْ بالفشلِ،أسندَ ظهرَهُ وجلسَ مُؤرَّقاً،وزادَ في أرقِهِ المشاهدُ المزعجةُ التي استمرتْ طوالَ الليلِ، فهذا يَسعلُ سُعالاً ناشِفاً،وهذا يَئِنُّ،وذلك يُصدِرُ شخيراً كدراجةٍ ناريةٍ تَتوقفُ ثم تَنطلقُ،وهو واضعٌ يدَهُ على خدِّهِ يرقبُ نوراً يُمَزِّقُ هذه الليلة،ولَمَّا تنقطع المشاهد بل بقيت مستمرةً،فلا يزال هناك من يتلوى،ومن يتقيَّأ،ومن يَتعَرَّى،ومن يقضي حاجته على نفسهِ.ضاقَ صدرَهُ ونَفدَ صبرُهُ،فالمشاهدُ أخافَتْهُ،وَلَوَّعَتْ قلبه،وتَمْتمُ: رُحْماكَ ربي،أكرمني ولا تُهِنِّي،آهٍ..لَمْ يكنْ الْمَجيءُ إلى هنا إلا خُطوةً ضائعةً.
في الصباحِ كانتِ الحديقةُ تَهْتَزُ جَمالاً وضياءً وهواءً رَطْباًً مُنْعِشاً،جَلَسَ مع رِفاقِ الدارِ في وَسَطِهَا، نَظَرَ في وجوهِهِم،فَوَجَدَ علاماتِ الرضا باديةً عليها رُغمَ ما فيها،سألوه:ما الذي أتى بك إلى هنا؟ - ليس من قلة،فأنا أملكُ بيتا،وأتقاضى راتباً تقاعدياً،ولكنَّ زوجتي توفيت منذ سنتين،ولم أستطع الزواج.ومن كان يرعاك؟جيراني،وأهلُ حَيّي غَمروني بِحبِّهم وعطفهم وحنانِهم،ولو علموا أنني سَآتي إلى هنا لَمَنَعوني بقوة.وكيف أتيت؟بعضُ الأقاربِ ومنعا لإحراج جيراني و أهل حَيّي نصحوني بالْمجيء إلى هنا،وأغروني بوجودِ عنايةٍ فائقةٍ ورعايةٍ مميزةٍ،وأَخْبَروني عن وجود غُرَفٍ خاصةٍ للمقيمين هنا،فقررتُ المْجيء إلى هنا و نفسي لا تطاوعني تَرْكَ الأحبِّةِ هناك،وما أظنُ أنني سأستمر هنا.ولِمَنْ تركتَ بيتَكَ؟لأقـــاربي. غداً ستتعودُ على هذه الحياةِ وتتآلفُ معها،وتُصبحُ واحداً منا.
قال لهم:أما أنا فأخبرتكم عن نفسي ،فأخبروني عن أنفسكم :
-أنتَ؛قال:أنا..... أولادي رَموني هنا أمامَ الدارِ،فقد نَظروا إلي باعتباري كائناً خرافياً بَشِعاً،وقاسوني على شكلي ونسوا كلَّ شيءٍ،وتوصَّلوا إلى أنَّني لا أليقُ بِمقاماتِهم الاجتماعيةِ ومستواهم الراقي...! لذلك زَووني بعيداً عن المدينة .
-وأنتَ؛قال:-كما ترى- أنا أتيتُ إلى هنا بكرامتي...وضَحِكَ بِقوَّةٍ وضَحِكْنا معه،وأردفَ:زوجة ابْني نظرتْ إِلَيَّ باعتباري كائناً طُفَيْلِياً،وَوَلَدي المسكينُ يُقْنِعُها بأنَّ هذا والدي،ويجبُ أن أعتنيَ به،وهي ترفضُ،وترفضُ بقوةٍ .
- وأنتَ ؛قال:تزوجتُ فتاةً صغيرةً لَعوباً ،أقعنتني بأنَّها تُحِبُّني،وَسَلَّمْتُ لَها ،فاستولتْ على بيتيَ ورصيدي وسيارتي،وقالتْ لي:أنتَ يا حبيبي، مُسْتَحَاثَّةٌ بشريَّةٌ،ليس لكَ مكانٌ عندي،مكانُكَ الصحيحُ هو الْمُتْحَفُ،وأتتْ بي إلى هنا .
نَظَرَ إليهم،وقال:أنتم هنا يَجمعُكم شراعٌ واحدٌ؛شراعٌ تَسْتُرونَ بِهِِِ عَوْرَةَ أبنائِكم،ولا تستطيعون تَمْزيقَهُ ،أمَّا أَنا،فَأَنا الغريبُ بَيْنكمُ،فلي شراعي....لي وطني الأول...تركتُ أُمّي هناك فاتحةً ذراعيها تنتظرني ... واختفى.
كانَتِ السيارةُ تنتظرُهُ أمامَ بيتهِ،خرجَ متوتراً،ولكنَّهُ عادَ مرةً ومرة..،ثَمَّةَ شيءٌ يَجْذِبُهُ إلى الدَّاخل،وللوهلة ِالأولى يبدو للناظرِ مِنْ بعيدٍ أنَّهُ مُنْهَمِكٌ في البحثِ عَنْ شيءٍ ما نَسِيَهُ،لكنَّ عينيه المُنكسرتين تُكَذِّبانهِ،كانتْ أركانُ البيتِ تتجسدُ في صورةِ أُمِّهِ فاتِحةً ذراعيها له، وكُلَّما حاولَ اختلاسَ النظرِ هنا أوهناك رآها تَهِمُّ باحْتِضانِهِ،فَيَهْرُبُ بعيدا،وَيَلفُ،ويدورُ،وبينما هو كذلك؛أَدْرَكَهُ الزَّمنُ،وَقَفَ،رفعَ رأسَهُ للأعلى،أخذَ نَفَساً عميقاً، واستسلمَ للرحيل،ودارتْ يَدُهُ وهي ترتعشُ بالمفتاح تُغلقُ البابَ مُودِعاً خلفَهُ الأيامَ والسنين والذكرياتِ،ومشى بِخُطىً عاثرةٍ،استدارَ لِيُواجهَ بيتَهُ،ويحملَ قلْبَهُ مَعَهُ، فلم يَقْوَ على ذلك،واحترقتْ عيناهُ بعبراتٍ مُخْتَنِقَةٍ بقيتْ تَتَأَوَّهُ بِصَمْت. انطلقتِ السيارةُ مغادرةً،وابتعدَ بيتُهُ حَتَّى تلاشى في الزِّقاقِ،وَهوَ ما يَزالُ غارِقاً في الضياعِ..غائباً في الحضورِ..لقد تركَ قلبَهُ..وتركَ مَعَهُ كلَّ شيءٍ..وهوَ الآنَ لا يدري إلى أينَ وُجْهَتُهُ.وَمضتِ السيارةُ تَنْسَلُّ من المدينةِ كأفعى تتلوى مُخترقةً ضَواحيها وشَوارعها التي تَعجُّ بالحركة والحياة تَغْمُرُها شَمْسُ الصباحِ الربيعيةِ المُتلألِئةِ بالدفءِ والضياءِ والحبِّ والمرح،وفي كلِّ شارعٍ تَمُرُّ عليه،وفي كلِّ رُكْنٍ تتوالى الصورُ أمامَ ناظريْهِ،وتَخْتلطُ في ذاكرته؛...صور المارة..طلابُ المدارس..العمالُ...الكبارُ والصغارُ...النساءُ والرجالُ...المحلاتِ التجارية...رائحةُ الْخُبز...الأشجارُ الخضراءُ العالية...ألوانُ الإعلاناتِ الجذابةُ..أصواتُ الباعةِ...المقهى الذي يُمضي فيه وَقتا جميلاً مع رفاقه.
رَحَلْتِ الْمدينةُ بعيداً،وما إن أوْغَلتْ في البعدِ حتى توقفتِ السيارةُ أمامَ بابِ الدارِ.نَزَلَ منها عجوزٌ هَرِمُ يتَوَكأُ على عصا،وقف ينظر حوله،ويتأمل في المكان الجديد مُحاوِلاً التآلفَ معه،كان الشارعُ شاحباً تَزْدَحِمُ فيه أبنيةٌ صَمَّاءُ تَحْجِبُ الأفقَ،لَفَتَتْ نَظَرَهُ لَوْحَةٌ عريضةٌ،رَفَعَ رأسَهُ للأعلى باتجاهها،فبدا وَجْهُهُ أمامَ شَّمْسِ النَّهارِ جلياً،كانتْ قسماتُ وَجْهِهِ تَحكي قَسْوةَ السنينَ العاتيةِ التي سرقتْ شبابه وتركته مشيبا،ترى فيه خَريْفَ العُمْرِ مُنَوِّساً،وحَدَّقَ في اللوحة فشدَّ عضلاتِ وجهِهِ فارْتَسَمَتْ أخاديدُ مُتكسِّرةً مُوقِّعةً بَصْمَةَ السنينَ،ولم تبدُ عيناه فقد غَرِقَتا بين جَفنينِ مُرْتَخِيَيْنِ وحواجبَ مُتهدِّلةٍ،ووَضعَ يَدَهُ على لِحيتهِ البيضاءِ الكثَّةِ،وبدأَ يَهْرُشُ بِها،وقرأَ اللوحةَ:(دَارُ الْـمُسِـنـيـْنَ)،قال لنفسهِ(وقد شعر بالأسى على ما مضى):ألْم يَجدْ هؤلاء اسْماً غيرَ هذا؟
عَاوَدَه ُرَجْعُ لَحنٍ لِربيعٍ من العمرِ ولّى واندثر،فَغَنَّى للخدِّ الصقيلِ والصِّبِا الجميلِ،ورَدَّدَ كذا كنتُ..وكذا بقيتُ..إيـه إيـه..وسارَ باتِّجاهِ الدار،ثُمَّ دخلَ إلى رَدْهَةٍ واسعةٍ دائريةِ الشكلِ،نصفُها الأيمنُ جدارٌ زجاجيٌ يلتفُ بطريقةٍ لطيفةٍ،يتضمنُ مقهىً ومطعماً وصالةَ جلوسٍ،تُطِلُّ على حديقةٍ غنَّاءَ،تضيءُ شَمْسُها النصفَ الآخرَ الذي يتقدمُهُ مكتبٌ للاستقبالِ على يَمينهِ حجرةُ إدارةِ الدارِ،ويسارهِ بوابةٌ تصلُ إلى الطابقِ العلوي،وَقفَ ودارَ حولَ نفسهِ لِيَعْرَفَ مِنْ أين البدايةُ،شَعَرَ بالدوارِ كادَ أنْ يقعَ،أسرعَ إليه موظفُ الاستقبالِ والْتَقَفَهُ،وأخذَ بِيَديهِ،وعرفَ منه أنَّهُ مُقيمٌ جديدٌ في الدارِ،وقدَّمَ له كافةِ التسهيلاتِ،ثم طلبَ منه إكمالَ الإجراءاتِ المطلوبةِ التي تجعلُ منهُ مُقيماً رسمياً في الدار.لم يَكنْ القيامُ بالإجراءاتِ بالمسألةِ السهلةِ،فقد كانت مُمِلةً جدا،إذْ أخذَتِ النهارَ بطولهِ،فقد تَطلبَ منه الانتقالُ إلى مستشفى المدينة لإنشاءِ ملفٍ للسيرةِ المرضيةِ،ثم الانتقالُ من مبنىً إلى آخر لإجراءِ الفحوصاتِ الضروريةِ اللازمةِ،وما إن أنْهى كلَّ ذلك حتّى أَرْخى الليلُ سُدولَهُ
رَجَعَ إلى الدار مُنهكاً جائعاً يَجرُّ نفسَهُ جَرّاً، ذَهَبَ إلى صالةِ المطعمِ فوجدَهم وهم يرفعون طعامَ العشاءِ،طلبوا منه أنْ يرتاحَ قليلا،ثم جاءَه طعامُ العشاءِ،كانَ شكلُ الطعامِ شهياً جداً لكنَّهُ خالٍ من كلِّ شيءٍ،تناول بَعضَهُ على مَضَضٍ،ثم مَسحَ فَمَهُ بالمنديلِ،وانتقلَ إلى الأريكةِ المقابلةِ للتلفازِ،كانِ مُولعاً بالأخبارِ،طَلََبَ كأساً من الشاي،وجلسَ يتابعُ،شعرَ بِنُعاسٍ شديدٍ،نَهضَ من مكانهِ إلى النومِ،فلمْ يَعُدْ بمقدوره الجلوس،صعدَ إلى الطابقِ العلوي مُتثاقلاً حتّى وصل إلى الْمُشرفة التي تَقِفُ خَلْفَ مكتبٍ كبيرٍ .قال لَها:مِنْ فَضْلِكِ؛أوْصِليني إلى غُرفةِ نوْمي.قالت له:انتظرْ قليلاً يا عَمّي،أقبلتِ الممرضةُ التي كانت تتفقد المنامة،وسألتها عنه،قالت:هذا الحاجُّ مقيمٌ جديدٌ أتى في الصباحِ،وقد جهّزْنا له سريرَ المرحومِ يحيى عبد الدايم رقم(17) لِيحلَّ مكانه،ابْتَسمَ،وقالَ في نفسهِ:يحيى ...؟ قالتِ المشرفةُ:أوصليهِ إلى سريرهِ،ذهبَ معها،وهو يقولُ في نفسهِ:كيفَ قالوا لي:إنَّ هناكَ غُرفاً خاصة لِكُلِّ مُقيم ٍ؟ آهٍ..لقد خَدعَني ذوو القُرْبى.!
فتحت المشرفةُ باب المنامة،فدخلت أمامَه،وهو متأخرٌ قليلاً وراءَها،وَلَمَّا دخل صُعِقَ مِمّا رأى،كانتِ المنامةُ طويلةً جدا،وتَمْتَمَ:هذه ليستْ منامةً بل ثكنةً عسكريةً بل سوقا كبيرا ..."يا حبيـبي"؟! ثَمَّةَ رائحةٌ عفنةٌ تَختلطُ برائحةِ المُطهِّراتِ تنبعثُ من المكانِ ، نظرَ- وقد تغيَّرتْ ملامحُ وجههِ- في الناسِ المُرتَمينَ على الأَسِرَّةِ،فَشاهدَ كائناتٍ طُفَيْليةً.. خُرافيةً..مُسْتَحَثَّاتٍ بشريةً..أشباحاً ملقاة على الجانبين وعلى طول المنامة. توقف قليلا، وقال:ما هذا؟ هذا ليس معقولا؛لابدَّ أنّ هذا من تأثير النعاس الشديد،لا..عليَّ أن أُنْعمَ النظرَ أكثر،ونظر إليهم كواحد منهم ينتمي إليهم،حدَّق فيهم مرة أخرى،فرأى أناسا حقيقيين من هذا المجتمع،اقترب منهم أكثر،فرأى فيهم صورتَهُ الحقيقية،رأى عيوناً متوسلةً ،وجوهاً ذابلةً، أجساماً متهدلةً،داروا في رحى السنينَ طويلاً،ودارتْ بِهم،فَطَحَنَتْهُمُ طحناً،وبعدما طُحِنُوا رمتهم بعيداً.هَمْ هَمَ وقال في نفسه: ألهذا ابتعدتِ الدارُ عن المدينة؟يا إِلَهي امنحْ عبدَك الضعيفَ هذا القوةَ كي يرجعَ إلى بيتِهِ سالِماً.
وشَعَرَ أنَّ النهايةَ قدْ بَدأتْ مِنْ هذا المكانِ،وقفتِ الممرضةُ أمامَ سريرَهُ ،وقالتْ له: هذا هو.كانَ سريرَهُ يَقعُ في مُنتصفِ الْمنامةِ،أَلقى بِنفسهِ عليه،وحاولَ النَّومَ فلمْ يستطعْ،تَقلَّبَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ،أغْمضَ عينيهِ،غطَّى رأسَهُ لكنَّ كلَّ محاولاتِهِ باءتْ بالفشلِ،أسندَ ظهرَهُ وجلسَ مُؤرَّقاً،وزادَ في أرقِهِ المشاهدُ المزعجةُ التي استمرتْ طوالَ الليلِ، فهذا يَسعلُ سُعالاً ناشِفاً،وهذا يَئِنُّ،وذلك يُصدِرُ شخيراً كدراجةٍ ناريةٍ تَتوقفُ ثم تَنطلقُ،وهو واضعٌ يدَهُ على خدِّهِ يرقبُ نوراً يُمَزِّقُ هذه الليلة،ولَمَّا تنقطع المشاهد بل بقيت مستمرةً،فلا يزال هناك من يتلوى،ومن يتقيَّأ،ومن يَتعَرَّى،ومن يقضي حاجته على نفسهِ.ضاقَ صدرَهُ ونَفدَ صبرُهُ،فالمشاهدُ أخافَتْهُ،وَلَوَّعَتْ قلبه،وتَمْتمُ: رُحْماكَ ربي،أكرمني ولا تُهِنِّي،آهٍ..لَمْ يكنْ الْمَجيءُ إلى هنا إلا خُطوةً ضائعةً.
في الصباحِ كانتِ الحديقةُ تَهْتَزُ جَمالاً وضياءً وهواءً رَطْباًً مُنْعِشاً،جَلَسَ مع رِفاقِ الدارِ في وَسَطِهَا، نَظَرَ في وجوهِهِم،فَوَجَدَ علاماتِ الرضا باديةً عليها رُغمَ ما فيها،سألوه:ما الذي أتى بك إلى هنا؟ - ليس من قلة،فأنا أملكُ بيتا،وأتقاضى راتباً تقاعدياً،ولكنَّ زوجتي توفيت منذ سنتين،ولم أستطع الزواج.ومن كان يرعاك؟جيراني،وأهلُ حَيّي غَمروني بِحبِّهم وعطفهم وحنانِهم،ولو علموا أنني سَآتي إلى هنا لَمَنَعوني بقوة.وكيف أتيت؟بعضُ الأقاربِ ومنعا لإحراج جيراني و أهل حَيّي نصحوني بالْمجيء إلى هنا،وأغروني بوجودِ عنايةٍ فائقةٍ ورعايةٍ مميزةٍ،وأَخْبَروني عن وجود غُرَفٍ خاصةٍ للمقيمين هنا،فقررتُ المْجيء إلى هنا و نفسي لا تطاوعني تَرْكَ الأحبِّةِ هناك،وما أظنُ أنني سأستمر هنا.ولِمَنْ تركتَ بيتَكَ؟لأقـــاربي. غداً ستتعودُ على هذه الحياةِ وتتآلفُ معها،وتُصبحُ واحداً منا.
قال لهم:أما أنا فأخبرتكم عن نفسي ،فأخبروني عن أنفسكم :
-أنتَ؛قال:أنا..... أولادي رَموني هنا أمامَ الدارِ،فقد نَظروا إلي باعتباري كائناً خرافياً بَشِعاً،وقاسوني على شكلي ونسوا كلَّ شيءٍ،وتوصَّلوا إلى أنَّني لا أليقُ بِمقاماتِهم الاجتماعيةِ ومستواهم الراقي...! لذلك زَووني بعيداً عن المدينة .
-وأنتَ؛قال:-كما ترى- أنا أتيتُ إلى هنا بكرامتي...وضَحِكَ بِقوَّةٍ وضَحِكْنا معه،وأردفَ:زوجة ابْني نظرتْ إِلَيَّ باعتباري كائناً طُفَيْلِياً،وَوَلَدي المسكينُ يُقْنِعُها بأنَّ هذا والدي،ويجبُ أن أعتنيَ به،وهي ترفضُ،وترفضُ بقوةٍ .
- وأنتَ ؛قال:تزوجتُ فتاةً صغيرةً لَعوباً ،أقعنتني بأنَّها تُحِبُّني،وَسَلَّمْتُ لَها ،فاستولتْ على بيتيَ ورصيدي وسيارتي،وقالتْ لي:أنتَ يا حبيبي، مُسْتَحَاثَّةٌ بشريَّةٌ،ليس لكَ مكانٌ عندي،مكانُكَ الصحيحُ هو الْمُتْحَفُ،وأتتْ بي إلى هنا .
نَظَرَ إليهم،وقال:أنتم هنا يَجمعُكم شراعٌ واحدٌ؛شراعٌ تَسْتُرونَ بِهِِِ عَوْرَةَ أبنائِكم،ولا تستطيعون تَمْزيقَهُ ،أمَّا أَنا،فَأَنا الغريبُ بَيْنكمُ،فلي شراعي....لي وطني الأول...تركتُ أُمّي هناك فاتحةً ذراعيها تنتظرني ... واختفى.