
- يا من أحببت :
هتفت بصوت يكتنفه الشجن :
ـ "علاء".. "علاء".. أنت من أحببت 0
كان الألم الرهيب يرسم تجاعيده على جبينها .. بينما اصفر لون وجهها بشكل مخيف مقلق :
أردفت "نها" بصوت يشبه الأنين 00
ـ إنه يريد أن يملك جسدى .. لكننى أبدا .. لن أكون له .. فلن أصبح لأحد غيرك .
صرخ وهو يلوح بكفيه فى الهواء :
ـ "نها" حبيبتى .. إنه لن ينالك أبدا .. حتى لو أدى الأمر أن أقتله بيدى هاتين 0
ارتسم الرعب الهائل على وجهها .. تشبثت بيديه .. وهى تصيح متوسلة:
ـ أرجوك يا "علاء" .. من أجل خاطرى لا تفعل هذا .. إنه لا يستحق أن تضيع حياتك من أجله .
أضافت .. وهى تتمسك بأهداب الأمل 00
ـ قد يكون القاضى رؤوفا بى .. فيرفض حكم الطاعة .. ثم أن عمو "مصطفى" قد وعدنى ، بأنه سوف يبذل قصارى جهده .. حتى يكون الحكم لصالحى 0
غمغم بصوت أبح ، متألم :
ـ ولكن .. إذا 00
وضعت أناملها على فمه .. بينما لوحت بيدها الأخرى بعصبية .. و هى تصرخ :
ـ أرجوك لا تكمل عبارتك .. فهذا بمثابة حكم الإعدام على حياتى.
حاول أن يستجمع شتات نفسه المتهالكة .. ثم تساءل بنبرة صوت هادئة :
ـ ومتى سيعلن الحكم ؟
انقبض قلبها بعنف .. وهى تغمغم :
ـ عند العصر .. إن شاء الله 0
كان الوقت بعد الظهر بقليل .. كان الاثنان يجلسان فى بقعتهما المفضلة ،التى شهدت تطور واضطرام علاقتهما .. أيضا شهدت آلامهما وأفراحهما 0
نظر "علاء"إلى ساعته .. ثم قال :
ـ لم يبق على النطق بالحكم إلا ساعتين ونصف تقريبا 0
فى تلك اللحظة الأليمة .. أخذت "نها" تلهج بالدعاء فى خشوع ، والدموع تترقرق فى عينيها ..وما لبث أن شاركها "علاء" ابتهالها 0
قضيا تلك المدة ، وهما بجوار بعضهما فى صمت .. كل منهما يصارع هواجسه ووساوسه القاتمة 0
عندما اقتربت اللحظة الحاسمة .. هتف "علاء" .. وقد بلغ انفعاله إلى ذروته :
ـ هيا .. يمكننا معرفة الحكم الآن 0
تساءلت بصوت خافت :
ـ كيف ؟
أجاب :
ـ سوف نتصل بغرفة المحامين بالتليفون 0
هتفت "نها" وهى تضع يدها على قلبها المضطرب :
ـ لن أتحمل أى صدمة .. سوف أذهب إلى منزل صديقتى "هدى" .. وسأنتظر عمو "مصطفى ليخبرنى منطوق الحكم بنفسه 0
صمتت قليلا .. ثم عادت تقول :
ـ لا تتصور مدى الراحة التى أشعر بها .. عندما يجلس معى ، ويعطينى الأمل .. مما يجعلنى أطمئن مهما كان الحكم الصادر 0
تساءل بلهفة :
ـ لكن .. كيف سأعرف منطوق الحكم ؟
قالت ، وهى تتصنع الابتسام :
ـ لا تقلق يا حبيبى .. فسوف اتصل بك على الفور 0
هتف وهو ينهض من على الأريكة الخشبية :
ـ هيا لأوصلك بسيارتى 0
أثناء الطريق التزم كل منهما الصمت .. عندما وصلت السيارة على بعد أمتار من بيت "صديقتها .. هتفت "نها" :
ـ سوف أنزل هنا 0
هبطت من السيارة .. بينما شيعها "علاء" بنظراته القلقة .. حتى اختفت عن ناظريه ، وهى تدلف من خلال بوابة المنزل.
صعدت "نها السلالم على مهل .. تلقفت أنفاسها بصعوبة بالغة .. فقد شعرت بألم شديد فى صدرها ، وأخذ العرق الغزير يتصبب من جبينها 0
عتدما فتحت والدة "هدى" باب الشقة .. لمحت شحوب وجهها على الفور، والعرق الذى يغطى وجهها فى حبات كبيرة 0
هتفت جزعة :
ـ هل أنت مريضة يا "نها" ؟
أحاطت ذراعها حولها بحنو .. ثم قادتها إلى الداخل ، وأجلستها على أقرب مقعد فى الردهة .. استنجدت تنادى :
ـ "هدى".. "هدى" 0
برزت "هدى" من حجرتها .. وعندما وجدت صديقتها مرتخية على المقعد متهالكة القوة.. أسرعت بإحضار زجاجة عطرها .. وأعطتها لأمها .. التى أخذت تفك أزرار رداء "نها .. ثم قامت برش قطرات من العطر ، ودلكت صدرها برفق 0
تحسنت حالة "نها" بعض الشئ ، وانتظم تنفسها .. فصاحت الأم بابنتها :
ـ أعدى ليمون حالا 0
اختفت "هدى" فترة من الزمن داخل المطبخ .. ثم ظهرت وهى تحمل كوب الليمون .. جلست بالقرب من "نها" .. وقربت الكوب من شفتيها .. فارتشفت بعض قطرات من السائل .. ثم أشاحت بوجهها عنه 0
هتفت والدة "هدى" بحسم :
ـ اشربى باقى الليمون يا "نها" 0
أذعنت "نها" للأمر .. وتجرعت عصير الليمون كله .. لكنها كانت ما تزال خائرة القوة ، وقد تجمدت عيناها على ساعة الحائط المقابلة للمقعد الذى تجلس عليه 0
كانت عقارب الساعة تتحرك ببطء شديد 0
إن الزمن يعاندها ، ويقف لها بالمرصاد .. فالدقائق والثوانى .. تمر رتيبة متمهلة ! و الأستاذ "مصطفى" لم يصل بعد .. ليخبرها بمنطوق الحكم 0
فجأة تصاعد رنين الجرس .. فصرخت "نها" بصديقتها :
ـ افتح بسرعة يا "هدى" 0
أسرعت "هدى" إلى الباب ، وفتحته .. لتجد والدها أمامها 0
دلف إلى الشقة ، ووجد "نها" فى حالة يرثى لها .. فصاح قلقا :
ـ هل أصابك مكروها يا "نها" ؟
هتفت "هدى" بلهفة :
ـ ماذا حدث فى قضية "نها" يا أبى ؟
على الفور أدرك الأستاذ "مصطفى ما تعانيه "نها" من قلق مريع فهتف بحماس :
ـ بالطبع رفضت دعوى الطاعة 0
تقافزت "هدى" وهى تهتف :
ـ يحيا الأستاذ "مصطفى 0
ثم اقتربت من صديقتها وأخذت تقبلها ، وهى تهتف بسعادة بالغة :
ـ مبروك يا "نها" 0
عادت الحياة ودبت الحركة فى جسد "نها" المتداعى .. فهتفت بامتنان عميق :
ـ أشكرك يا عمو 0
أدركت "هدى" أن صديقتها ، تريد أن تنفرد بالهاتف ، بعيدا عن أنظار أسرتها .. لتتصل "بعلاء" وتخبره بالحكم .. فاستأذنت من والديها / وقادت "نها" إلى حجرة الاستقبال 0
فى هذه اللحظات الحاسمة .. كان "علاء" قابعا فى شقته ، يشعر بألم حاد يكاد يمزق أحشائه .. ينتابه فى انقبضات متوالية عنيفة 0
كان هذا الألم الجسدى .. معبرا عن ألمه النفسى الرهيب 0
تدافعت إليه الأفكار القاتمة المخيفة .. فحبيبته .. التى لا يتصور الحياة بدونها .. قد تصبح زوجة .. بل أسيرة .. أو جارية لرجل قاس .. بينما هو ساكن دون حراك .. لا يستطيع إبداء أى مقاومة .. ليدفع عنها هذا الخطر الداهم !
لو طلبت أن يقدم حياته فداء لها .. لفعل ذلك طواعية .. لكن ماذا يفعل حيال حكم صادر من قاض .. يزن الأمور بمنطق العقل والدين !
دفع رأسه بين راحتيه ..وأخذ يهز جسده بعصبية .. بينما كان الألم الرهيب يمزق أحشائه دون هوادة 0
فجأة .. ارتفع رنين الهاتف .. فقفز إليه بسرعة ، ورفعه إلى أذنه ، وقد زاد توتره ، وانفعاله .. أيضا تضاعف ألمه الجسدى 0
انساب صوت "نها" يقول دون مقدمات عبر الهاتف :
ـ "علاء" لقد رفضت دعوى الطاعة 0
تراجع ألمه الجسدى ، والنفسى دفعة واحدة .. صاح بفرح غامر .
ـ مبروك علينا يا حبيبتى 0
انساب صوتها عبر الطرف الآخر :
ـ لم يبق .. إلا قضية الطلاق ، وينتهى الأمر تماما 0
انتعش الأمل فى قلبه ، وهو يقول بحماس :
ـ سوف نحصل على الطلاق يا حبيبتى بإذن الله 0
قالت تودعه :
ـ إلى اللقاء 0
هتف بسرعة :
ـ سيكون لقائنا بعد نصف ساعة .. وستكون سيارتى أسفل منزل صديقتك لنحتفل بهذه المناسبة السعيدة ، فى أجمل مكان فى الدنيا0
صاحت بسعادة :
ـ هل يمكن أن تشاركنا "هدى" فرحتنا ؟
هتف :
ـ إننى فى انتظاركما 0
تراجعت سعادة "نها" .. بعد أن أخبرها الأستاذ "مصطفى" .. بأنه سوف يسافر إلى مؤتمر فى فرنسا ، وسوف يتغيب عن مصر قرابة الشهر .. حيث يمكن أن تؤجل القضية خلال تلك المدة .. ثم أضاف قائلا :
ـ سوف يتولى الأستاذ "فريد" .. قضيتك خلال تلك الفترة 0
هتفت "نها" بفزع :
ـ إننى لا أستطيع أن أثق ، أو أشعر بطمأنينة لأحد غيرك يا عمو "مصطفى".
ربت على منكبها بعطف ، وهو يقول :
ـ اطمئن تماما يا "نها" .. فالأستاذ "فريد" هو أكفأ محامى فى مكتبى .. بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يصدر حكم نهائى خلال تلك الفترة 0
فى يوم الجلسة .. كان يجب حضور "نها" فى مواجهة "إيهاب" .. بينما كانت تمشى فى طرقات المحكمة .. فوجئت به يمشى برفقة محاميه .. فتوقف فجأة فى مواجهاتها .. أصبح الاثنان وجها لوجه 0
كانت تطل من عينيه نظرات حقد دفين .. بينما غام وجهه وانسابت تجاعيد على جبينه .. حولت وسامته إلى قبح ودمامة 0
هتف بصوت خشن قاس :
ـ لن تفلتى منى .. ولن تنالى حريتك مطلقا 0
أشاحت بوجهها .. أسرعت الخطى مبتعدة عنه .. فالتفت نحوها ، وأسرع فى أثرها 0
كان الخوف يملأ نفسها ، وهى تسمع خطواته .. التى استطاعت أن تميزها عن خطوات الآخرين 0
حاولت أن تندس بين لفيف الناس ، الذين كانوا يقفون ، ويتزاحمون بالقرب من باب القاعة .. لكنه أخذ بدوره يدفع هؤلاء .. حتى أصبح ملتصقا بها 0
أخذ يطأ قدميها بحذائه .. الواحدة تلو الأخرى .. فى محاولة عنيفة لإذائها .. فتأوهت ألما 0
انفلتت مرة أخرى من بين الجمع .. لكنه كان فى أثرها .. وفى هذه المرة كان يلكزها فى ظهرها .. رغم ألمها .. فقد حاولت أن لا تصدر صوتا أو أنينا .. حتى لا تثير الأنظار إليها 0
فجأة .. فتح باب القاعة المغلق .. بدأ الناس يتدافعون إلى الداخل .. وجدت نفسها تنجرف معهم .. فتباعدت المسافة بينها وبينه 0
فى لحظات امتلأت المدرجات الشاغرة بالناس .. نظرت حولها بحيرة وخوف .. علها تجد مكانا آمنا تجلس فيه .. بينما كان "إيهاب" يقترب منها .. حتى أصبح على بعد خطوات منها 0
لحسن الحظ .. وجدت مكانا فى أحد المدرجات بين عدد من النسوة .. فأسرعت إليه ..وتخللت صف النسوة ، وجلست فى منتصف المدرج تقريبا.
اندفع هو الآخر .. حاول أن يتخلل النسوة .. ليجلس بجوار "نها".. لكن تصاعد صوتهن الساخط .. ارتفع صوت أحداهن توبخه بخشونة :
ـ هل أنت أعمى يا أستاذ ؟!
اضطر أن يتراجع فى مؤخرة المدرج ، وهو يحدجها بنظراته الغاضبة 0
بعد قليل أعلن الحاجب عن بدأ الجلسة .. ليدخل ثلاثة قضاة .. جلسوا خلف المنصة 0
أخيرا سمعت "تها" رقم قضيتها .. فوقف الأستاذ "فريد" أمام القضاة، وبرفقته "نها" .. التى غادرت مكانها فى المدرج .. وفى الطرف الآخر ، وقف "إيهاب" بجوار محاميه 0
نظر القاضى إلى "نها" من خلال منظاره الغليظ .. ثم هتف :
ـ هل أنت مصرة يا بنيتى على طلب الطلاق ؟
ارتسم الإصرار على وجهها ، وهى تقول :
ـ نعم يا سيادة القاضى .
ثم التفت إلى "إيهاب" ، وسأله :
ـ و أنت يا بنى ؟
هتف "إيهاب" بتصميم :
ـ إننى مازلت أريدها .
هتف القاضى بلهجة لاذعة :
ـ أنها يا بنى لا تريدك .. فاعتقها لوجه الله 0
امتقع وجه "إيهاب" بشدة .. أخذ يزدرد ريقه الجاف بصعوبة ، وقد تصبب جسده كله عرقا ..وأنقذه من الحرج .. صوت حاجب الجلسة ، وهو يصيح :
ـ رفعت الجلسة 0
خرجت "نها" بصحبة الأستاذ "فريد" من القاعة .. قالت له برجاء:
ـ أرجوك يا أستاذ فريد .. لا تتركنى حتى استقل سيارة أجرة .. لأن "إيهاب" سيحاول اعتراض طريقى ، وقد يؤذينى 0
بالفعل اصطحبها إلى خارج المحكمة .. لم يتركها إلا بعد أن اطمأن عليها 0
انطلق "إيهاب" إلى سيارته .. اتبع سيارة الأجرة التى أقلت "نها" .. أخذ يصيح بصوت هستيرى :
ـ سوف انتقم منك أيتها السافلة 0
أخذ يرميها بالسباب .. فصاحت بصوت مذعور :
ـ أسرع يا أسطى أرجوك 0
فجأة ارتفع صوت اصطدام هائل .. عندما نظرت "نها" خلفها .. لمحت سيارة "إيهاب" ، قد انقلبت إثر ارتطامها بأحد أعمدة الإنارة
هتف سائق السيارة :
ـ إن ربك بالمرصاد يابنيتى .
استطاع "إيهاب" الانفلات من داخل السيارة المقلوبة ، وقد أصيب ببعض الجروح والخدوش .. بينما تعرضت سيارته لأضرار بالغة 0
اشتعل الغضب و الحقد فى قلبه .. بعد أن تأكد أن "نها" رأت الحادثة 0
أسقط فى يده ، وأحاطه اليأس .. عندما وجد نفسه بين رجال المرور ، الذين حرروا له مخالفة .. ثم ما لبث أن اصطحبه رجال الأمن إلى مركز الشرطة .. ليخوض حربا من نوع آخر !
*******
هتفت بصوت يكتنفه الشجن :
ـ "علاء".. "علاء".. أنت من أحببت 0
كان الألم الرهيب يرسم تجاعيده على جبينها .. بينما اصفر لون وجهها بشكل مخيف مقلق :
أردفت "نها" بصوت يشبه الأنين 00
ـ إنه يريد أن يملك جسدى .. لكننى أبدا .. لن أكون له .. فلن أصبح لأحد غيرك .
صرخ وهو يلوح بكفيه فى الهواء :
ـ "نها" حبيبتى .. إنه لن ينالك أبدا .. حتى لو أدى الأمر أن أقتله بيدى هاتين 0
ارتسم الرعب الهائل على وجهها .. تشبثت بيديه .. وهى تصيح متوسلة:
ـ أرجوك يا "علاء" .. من أجل خاطرى لا تفعل هذا .. إنه لا يستحق أن تضيع حياتك من أجله .
أضافت .. وهى تتمسك بأهداب الأمل 00
ـ قد يكون القاضى رؤوفا بى .. فيرفض حكم الطاعة .. ثم أن عمو "مصطفى" قد وعدنى ، بأنه سوف يبذل قصارى جهده .. حتى يكون الحكم لصالحى 0
غمغم بصوت أبح ، متألم :
ـ ولكن .. إذا 00
وضعت أناملها على فمه .. بينما لوحت بيدها الأخرى بعصبية .. و هى تصرخ :
ـ أرجوك لا تكمل عبارتك .. فهذا بمثابة حكم الإعدام على حياتى.
حاول أن يستجمع شتات نفسه المتهالكة .. ثم تساءل بنبرة صوت هادئة :
ـ ومتى سيعلن الحكم ؟
انقبض قلبها بعنف .. وهى تغمغم :
ـ عند العصر .. إن شاء الله 0
كان الوقت بعد الظهر بقليل .. كان الاثنان يجلسان فى بقعتهما المفضلة ،التى شهدت تطور واضطرام علاقتهما .. أيضا شهدت آلامهما وأفراحهما 0
نظر "علاء"إلى ساعته .. ثم قال :
ـ لم يبق على النطق بالحكم إلا ساعتين ونصف تقريبا 0
فى تلك اللحظة الأليمة .. أخذت "نها" تلهج بالدعاء فى خشوع ، والدموع تترقرق فى عينيها ..وما لبث أن شاركها "علاء" ابتهالها 0
قضيا تلك المدة ، وهما بجوار بعضهما فى صمت .. كل منهما يصارع هواجسه ووساوسه القاتمة 0
عندما اقتربت اللحظة الحاسمة .. هتف "علاء" .. وقد بلغ انفعاله إلى ذروته :
ـ هيا .. يمكننا معرفة الحكم الآن 0
تساءلت بصوت خافت :
ـ كيف ؟
أجاب :
ـ سوف نتصل بغرفة المحامين بالتليفون 0
هتفت "نها" وهى تضع يدها على قلبها المضطرب :
ـ لن أتحمل أى صدمة .. سوف أذهب إلى منزل صديقتى "هدى" .. وسأنتظر عمو "مصطفى ليخبرنى منطوق الحكم بنفسه 0
صمتت قليلا .. ثم عادت تقول :
ـ لا تتصور مدى الراحة التى أشعر بها .. عندما يجلس معى ، ويعطينى الأمل .. مما يجعلنى أطمئن مهما كان الحكم الصادر 0
تساءل بلهفة :
ـ لكن .. كيف سأعرف منطوق الحكم ؟
قالت ، وهى تتصنع الابتسام :
ـ لا تقلق يا حبيبى .. فسوف اتصل بك على الفور 0
هتف وهو ينهض من على الأريكة الخشبية :
ـ هيا لأوصلك بسيارتى 0
أثناء الطريق التزم كل منهما الصمت .. عندما وصلت السيارة على بعد أمتار من بيت "صديقتها .. هتفت "نها" :
ـ سوف أنزل هنا 0
هبطت من السيارة .. بينما شيعها "علاء" بنظراته القلقة .. حتى اختفت عن ناظريه ، وهى تدلف من خلال بوابة المنزل.
صعدت "نها السلالم على مهل .. تلقفت أنفاسها بصعوبة بالغة .. فقد شعرت بألم شديد فى صدرها ، وأخذ العرق الغزير يتصبب من جبينها 0
عتدما فتحت والدة "هدى" باب الشقة .. لمحت شحوب وجهها على الفور، والعرق الذى يغطى وجهها فى حبات كبيرة 0
هتفت جزعة :
ـ هل أنت مريضة يا "نها" ؟
أحاطت ذراعها حولها بحنو .. ثم قادتها إلى الداخل ، وأجلستها على أقرب مقعد فى الردهة .. استنجدت تنادى :
ـ "هدى".. "هدى" 0
برزت "هدى" من حجرتها .. وعندما وجدت صديقتها مرتخية على المقعد متهالكة القوة.. أسرعت بإحضار زجاجة عطرها .. وأعطتها لأمها .. التى أخذت تفك أزرار رداء "نها .. ثم قامت برش قطرات من العطر ، ودلكت صدرها برفق 0
تحسنت حالة "نها" بعض الشئ ، وانتظم تنفسها .. فصاحت الأم بابنتها :
ـ أعدى ليمون حالا 0
اختفت "هدى" فترة من الزمن داخل المطبخ .. ثم ظهرت وهى تحمل كوب الليمون .. جلست بالقرب من "نها" .. وقربت الكوب من شفتيها .. فارتشفت بعض قطرات من السائل .. ثم أشاحت بوجهها عنه 0
هتفت والدة "هدى" بحسم :
ـ اشربى باقى الليمون يا "نها" 0
أذعنت "نها" للأمر .. وتجرعت عصير الليمون كله .. لكنها كانت ما تزال خائرة القوة ، وقد تجمدت عيناها على ساعة الحائط المقابلة للمقعد الذى تجلس عليه 0
كانت عقارب الساعة تتحرك ببطء شديد 0
إن الزمن يعاندها ، ويقف لها بالمرصاد .. فالدقائق والثوانى .. تمر رتيبة متمهلة ! و الأستاذ "مصطفى" لم يصل بعد .. ليخبرها بمنطوق الحكم 0
فجأة تصاعد رنين الجرس .. فصرخت "نها" بصديقتها :
ـ افتح بسرعة يا "هدى" 0
أسرعت "هدى" إلى الباب ، وفتحته .. لتجد والدها أمامها 0
دلف إلى الشقة ، ووجد "نها" فى حالة يرثى لها .. فصاح قلقا :
ـ هل أصابك مكروها يا "نها" ؟
هتفت "هدى" بلهفة :
ـ ماذا حدث فى قضية "نها" يا أبى ؟
على الفور أدرك الأستاذ "مصطفى ما تعانيه "نها" من قلق مريع فهتف بحماس :
ـ بالطبع رفضت دعوى الطاعة 0
تقافزت "هدى" وهى تهتف :
ـ يحيا الأستاذ "مصطفى 0
ثم اقتربت من صديقتها وأخذت تقبلها ، وهى تهتف بسعادة بالغة :
ـ مبروك يا "نها" 0
عادت الحياة ودبت الحركة فى جسد "نها" المتداعى .. فهتفت بامتنان عميق :
ـ أشكرك يا عمو 0
أدركت "هدى" أن صديقتها ، تريد أن تنفرد بالهاتف ، بعيدا عن أنظار أسرتها .. لتتصل "بعلاء" وتخبره بالحكم .. فاستأذنت من والديها / وقادت "نها" إلى حجرة الاستقبال 0
فى هذه اللحظات الحاسمة .. كان "علاء" قابعا فى شقته ، يشعر بألم حاد يكاد يمزق أحشائه .. ينتابه فى انقبضات متوالية عنيفة 0
كان هذا الألم الجسدى .. معبرا عن ألمه النفسى الرهيب 0
تدافعت إليه الأفكار القاتمة المخيفة .. فحبيبته .. التى لا يتصور الحياة بدونها .. قد تصبح زوجة .. بل أسيرة .. أو جارية لرجل قاس .. بينما هو ساكن دون حراك .. لا يستطيع إبداء أى مقاومة .. ليدفع عنها هذا الخطر الداهم !
لو طلبت أن يقدم حياته فداء لها .. لفعل ذلك طواعية .. لكن ماذا يفعل حيال حكم صادر من قاض .. يزن الأمور بمنطق العقل والدين !
دفع رأسه بين راحتيه ..وأخذ يهز جسده بعصبية .. بينما كان الألم الرهيب يمزق أحشائه دون هوادة 0
فجأة .. ارتفع رنين الهاتف .. فقفز إليه بسرعة ، ورفعه إلى أذنه ، وقد زاد توتره ، وانفعاله .. أيضا تضاعف ألمه الجسدى 0
انساب صوت "نها" يقول دون مقدمات عبر الهاتف :
ـ "علاء" لقد رفضت دعوى الطاعة 0
تراجع ألمه الجسدى ، والنفسى دفعة واحدة .. صاح بفرح غامر .
ـ مبروك علينا يا حبيبتى 0
انساب صوتها عبر الطرف الآخر :
ـ لم يبق .. إلا قضية الطلاق ، وينتهى الأمر تماما 0
انتعش الأمل فى قلبه ، وهو يقول بحماس :
ـ سوف نحصل على الطلاق يا حبيبتى بإذن الله 0
قالت تودعه :
ـ إلى اللقاء 0
هتف بسرعة :
ـ سيكون لقائنا بعد نصف ساعة .. وستكون سيارتى أسفل منزل صديقتك لنحتفل بهذه المناسبة السعيدة ، فى أجمل مكان فى الدنيا0
صاحت بسعادة :
ـ هل يمكن أن تشاركنا "هدى" فرحتنا ؟
هتف :
ـ إننى فى انتظاركما 0
تراجعت سعادة "نها" .. بعد أن أخبرها الأستاذ "مصطفى" .. بأنه سوف يسافر إلى مؤتمر فى فرنسا ، وسوف يتغيب عن مصر قرابة الشهر .. حيث يمكن أن تؤجل القضية خلال تلك المدة .. ثم أضاف قائلا :
ـ سوف يتولى الأستاذ "فريد" .. قضيتك خلال تلك الفترة 0
هتفت "نها" بفزع :
ـ إننى لا أستطيع أن أثق ، أو أشعر بطمأنينة لأحد غيرك يا عمو "مصطفى".
ربت على منكبها بعطف ، وهو يقول :
ـ اطمئن تماما يا "نها" .. فالأستاذ "فريد" هو أكفأ محامى فى مكتبى .. بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يصدر حكم نهائى خلال تلك الفترة 0
فى يوم الجلسة .. كان يجب حضور "نها" فى مواجهة "إيهاب" .. بينما كانت تمشى فى طرقات المحكمة .. فوجئت به يمشى برفقة محاميه .. فتوقف فجأة فى مواجهاتها .. أصبح الاثنان وجها لوجه 0
كانت تطل من عينيه نظرات حقد دفين .. بينما غام وجهه وانسابت تجاعيد على جبينه .. حولت وسامته إلى قبح ودمامة 0
هتف بصوت خشن قاس :
ـ لن تفلتى منى .. ولن تنالى حريتك مطلقا 0
أشاحت بوجهها .. أسرعت الخطى مبتعدة عنه .. فالتفت نحوها ، وأسرع فى أثرها 0
كان الخوف يملأ نفسها ، وهى تسمع خطواته .. التى استطاعت أن تميزها عن خطوات الآخرين 0
حاولت أن تندس بين لفيف الناس ، الذين كانوا يقفون ، ويتزاحمون بالقرب من باب القاعة .. لكنه أخذ بدوره يدفع هؤلاء .. حتى أصبح ملتصقا بها 0
أخذ يطأ قدميها بحذائه .. الواحدة تلو الأخرى .. فى محاولة عنيفة لإذائها .. فتأوهت ألما 0
انفلتت مرة أخرى من بين الجمع .. لكنه كان فى أثرها .. وفى هذه المرة كان يلكزها فى ظهرها .. رغم ألمها .. فقد حاولت أن لا تصدر صوتا أو أنينا .. حتى لا تثير الأنظار إليها 0
فجأة .. فتح باب القاعة المغلق .. بدأ الناس يتدافعون إلى الداخل .. وجدت نفسها تنجرف معهم .. فتباعدت المسافة بينها وبينه 0
فى لحظات امتلأت المدرجات الشاغرة بالناس .. نظرت حولها بحيرة وخوف .. علها تجد مكانا آمنا تجلس فيه .. بينما كان "إيهاب" يقترب منها .. حتى أصبح على بعد خطوات منها 0
لحسن الحظ .. وجدت مكانا فى أحد المدرجات بين عدد من النسوة .. فأسرعت إليه ..وتخللت صف النسوة ، وجلست فى منتصف المدرج تقريبا.
اندفع هو الآخر .. حاول أن يتخلل النسوة .. ليجلس بجوار "نها".. لكن تصاعد صوتهن الساخط .. ارتفع صوت أحداهن توبخه بخشونة :
ـ هل أنت أعمى يا أستاذ ؟!
اضطر أن يتراجع فى مؤخرة المدرج ، وهو يحدجها بنظراته الغاضبة 0
بعد قليل أعلن الحاجب عن بدأ الجلسة .. ليدخل ثلاثة قضاة .. جلسوا خلف المنصة 0
أخيرا سمعت "تها" رقم قضيتها .. فوقف الأستاذ "فريد" أمام القضاة، وبرفقته "نها" .. التى غادرت مكانها فى المدرج .. وفى الطرف الآخر ، وقف "إيهاب" بجوار محاميه 0
نظر القاضى إلى "نها" من خلال منظاره الغليظ .. ثم هتف :
ـ هل أنت مصرة يا بنيتى على طلب الطلاق ؟
ارتسم الإصرار على وجهها ، وهى تقول :
ـ نعم يا سيادة القاضى .
ثم التفت إلى "إيهاب" ، وسأله :
ـ و أنت يا بنى ؟
هتف "إيهاب" بتصميم :
ـ إننى مازلت أريدها .
هتف القاضى بلهجة لاذعة :
ـ أنها يا بنى لا تريدك .. فاعتقها لوجه الله 0
امتقع وجه "إيهاب" بشدة .. أخذ يزدرد ريقه الجاف بصعوبة ، وقد تصبب جسده كله عرقا ..وأنقذه من الحرج .. صوت حاجب الجلسة ، وهو يصيح :
ـ رفعت الجلسة 0
خرجت "نها" بصحبة الأستاذ "فريد" من القاعة .. قالت له برجاء:
ـ أرجوك يا أستاذ فريد .. لا تتركنى حتى استقل سيارة أجرة .. لأن "إيهاب" سيحاول اعتراض طريقى ، وقد يؤذينى 0
بالفعل اصطحبها إلى خارج المحكمة .. لم يتركها إلا بعد أن اطمأن عليها 0
انطلق "إيهاب" إلى سيارته .. اتبع سيارة الأجرة التى أقلت "نها" .. أخذ يصيح بصوت هستيرى :
ـ سوف انتقم منك أيتها السافلة 0
أخذ يرميها بالسباب .. فصاحت بصوت مذعور :
ـ أسرع يا أسطى أرجوك 0
فجأة ارتفع صوت اصطدام هائل .. عندما نظرت "نها" خلفها .. لمحت سيارة "إيهاب" ، قد انقلبت إثر ارتطامها بأحد أعمدة الإنارة
هتف سائق السيارة :
ـ إن ربك بالمرصاد يابنيتى .
استطاع "إيهاب" الانفلات من داخل السيارة المقلوبة ، وقد أصيب ببعض الجروح والخدوش .. بينما تعرضت سيارته لأضرار بالغة 0
اشتعل الغضب و الحقد فى قلبه .. بعد أن تأكد أن "نها" رأت الحادثة 0
أسقط فى يده ، وأحاطه اليأس .. عندما وجد نفسه بين رجال المرور ، الذين حرروا له مخالفة .. ثم ما لبث أن اصطحبه رجال الأمن إلى مركز الشرطة .. ليخوض حربا من نوع آخر !
*******