
قصة
الطفل اليتيم وفاعل الخير
بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
26/10/2009م
تراه يجوب الشوارع ببراءته بفردتي حذاء باليتين، ورَثّ الثياب، في الصيف القائظ أو الشتاء القارس، أحيانا يبيع بعض الحاجيات الخفيفة لسد بعض من حاجاته، وكان يتعفف عن مد يده للمارة، ليسألهم ستر الحال، البعض يشتري منه، والبعض الآخر لا يدري بحالته البائسة.
عندما تتعب قدماه يلوذ إلى قارعة الشارع، يجلس القرفصاء، يجمع يديه وفخذيه على صدره لحمايته من برد الشتاء، وجسده ووجهه يرتعشان.. متكور حول نفسه.. يروح ويجيء بعينية مع المارة وهو يلاحظ الأطفال أقرانه كل مع والديه يتراكضون على جوانب الشوارع، ويسيرون على الأرصفة فرحين كفراشات في فصل ربيعي.
بينما هو، تنهمر دموعه حزناً على والده الذي وافته المنية لحظة أن ولدته أمه، ولا يعرف من والِدِه سوى صورته المعلقة على صدر بيتهم، وعلى والدته التي أرضعته وربته وسهرت عليه حتى صار في سن السابعة من العمر المصابة بمرض عضال أقعدها عن العمل، يتألم لألمها كلما شاهدها تتلوى على الفراش والمرارة تعتصر نفسه، ويحزن لحزنها، كانت هي الوالد والوالدة التي ربّته على الصبر وتحمل الشدائد والعصامية.. مُتَسمّرٌ في مكانه.. شارد الذهن لشعوره بالحرمان من طعم الطفولة.
كان يذهب إلى المدرسة صباحاً مقبوض النفس ليس كباقي الطلاب، ومع ذلك لم يسمح لليُتمِ والفَقرِ أن يسيطرا عليه، فقد كان طالباً ذكياً ومجتهداً في دروسه، ويتسامى على جراحه وأحزانه، ويتظاهر بأنه يعيش كباقي البشر رغم صغر سنه!! وعندما يعود منها إلى البيت يأكل مما تيسر له كما يطعم والدته المريضة، ثم يُمسّد بيديه الطريتين على جسدها النحيل الممدد على الفراش، ويتمنى لها من الله الشفاء العاجل ويطمئن على صحتها، ثم يخرج إلى الشوارع وهو يحمل على ظهره صندوقاً به بضاعة خفيفة لبيعها.
آناء الليل، يعود إلى منزله وفي جعبته ما يُعشّيهما في تلك الليلة ويُفطّرهما ويغذيهما في اليوم الذي يليه.. يُحضّر دروسه، ويعمل واجباته البيتية لليوم التالي على ضوء السراج الخافت.
كان همه دراسته، وكذلك مرض والدته التي أصبحت بسببه عاجزة عن العمل، وألم الفقر الذي يطارده.
هذا الطفل اعتاد في كل ليلة على النوم بجانب والدته التي تلف ذراعيها حوله، وتغطيه بحنان الأمومة.. و دائما تبتغي من الله أن يَحفَفهُما بعطفه، وأن يحمي ابنها الوحيد من البأساء والضَرّاء، وأن يرزقه بمن يَشُد أزرَهُ ويحسّن حالهم إلى أفضل حال.. وترضى عليه، ثم يَغُطّان في سبات عميق.
في هذه المنطقة يعيش رجل كريم يظهر على ملامحه الورع والإيمان، فمر ذات يوم بالقرب من الطفل وهو يبيع حاجياته.. اقترب منه.. سأله عن حاله ومن هم أهله.. فحكى له الطفل قصته الكاملة.
فما كان من هذا الرجل إلا أن اشترى منه كل حاجياته بمبلغ مالي لا بأس به.. رفض الطفل أن يأخذ هذه النقود الزائدة عن السعر الحقيقي لبضاعته.. أُعجب الرجل بعصامية هذا الطفل، وقرر في نفسه أن يساعده دون أن يعلم حتى يشتد عوده!!.
صار هذا الرجل- ذو اللحية البيضاء- يذهب بين الفينة والأخرى إلى هناك، ويشاهد مثابرة الطفل ومدى تشبثه بالحياة، وعينيه المليئتين بالأمل، ثم يذوب بين جموع الناس المارة.
وضع مبلغاً من المال في كيس صغير كتب عليه "فاعل خير" ثم توجه في المرة الأخرى إلى مكان الطفل، عندما شاهده يقترب من المكان اسقط الكيس مكان جلوس الطفل دون أن يراه أحد، وذهب وعيناه على الكيس يحرسانه.. وصل الطفل.. جلس.. ثم رأى الكيس.. تحسسه.. فتحه فوجد فيه مبلغاً من المال.
ظن الطفل في بادئ الأمر بأن أحدا ما فقد نقوده.. حمل الكيس وهو يسأل: من رأى منكم شخصاً اسمه فاعل خير ؟؟ لعدة مرات، ولم يرد عليه أحد.. كان الرجل يراقب هذا الطفل عن بعد ليعرف كيف سيتصرف!! فاطمأن لحسن تصرفه وأمانته.
حمل الطفل الكيس معه إلى المنزل.. احتفظ به عله يجد صاحبه يوماً ما ويرده إليه!!.. بعد أسبوعين تكررت العملية وعثر الطفل على كيس آخر وفيه نفس المبلغ!! ومكتوب عليه:" يا بني خذ الكيس، ولا تبحث عن فاعل الخير، فهذا ما قسمه الله لك ولأمك".
اغرورقت عينا الطفل بالدموع.. احتضن الكيس ببراءته، واطمأن لحقيقة النقود بأنها توضع خصيصا له، اشترى الدواء لوالدته وعاد إلى المنزل.
خجل الطفل كثيراً لدرجة أنه غيّر مكانه الذي كان يجلس فيه إلى مكان آخر، لكن الرجل الجليل كان دائماً يتتبعه ويَقُص أثرَه في الخفاء!! وصار في بداية كل عام دراسي يذهب إلى مدير مدرسته ويدفع عنه الأقساط المدرسية دون الإفصاح لمدير المدرسة عن هويته!! وكان المدير يدعو الطفل إلى مكتبه، و يبلغه بأن قسطه المدرسي دُفع من قبل "فاعل خير"؟؟
الطفل: استحلفك بالله، من هو هذا الرجل؟
المدير: لم يَقُل لي اسمه قط! وفقط قال: هذا من مال الله، وخرج مسرعاً، دون أن يراه أحد غيري.
احتار الطفل في أمر هذا الرجل، وكيف يَصرِفُ عليه! حتى يرد له الجميل يوماً ما. كبر الطفل وصار شاباً، وتفوق في مدرسته حتى تخرج منها، وواصل تعليمه الجامعي تخصص محاماة، وكانت مصاريفه الجامعية تُسدد وتُؤمن بنفس الطريقة السابقة. و يُحضر الطبيب والأدوية لوالدته كلما ازداد ألمها ويرفض الطبيب أخذ النقود منه، ويُعلمه بأن المصاريف دفها فاعل خير....
كم كان سرور والدته عظيماً وهي تراه يكبر ويتقدم في تعليمه حتى وصل إلى نهاية سنة التخرج من جامعته.. فهو منقذها من شقاء الحياة.. اشتد المرض على والدته، وأصبحت حالتها لا تطاق، وأيامها معدودة.
في إحدى الليالي، طلبت من ابنها أن يجلس بجوارها، حدجته بعينين فاحصتين، وقالت له: الحمد لله يا بني أنني أراك على أبواب التخرج، والآن أصبحت شاباً.. لا تحزن يا بني على حالي.. هذا اختبار من الله سبحانه وتعالي، وإذا وافتني المنية قبل تَخرُّجِك.. أمانة عليك بأن تأتي إلى قبري مع باقة زهور لتزورني وتقرأ لي الفاتحة وتبلغني بنجاحك الذي كان حلمي الوحيد؟؟!!. وأعلم يا ولدي إنني أودعك أمانة عند الذي لا يخون الودائع.. وأطلب من الله عز وجل أن يُثوّبَ هذا الرجل الكريم على عمله معنا، وأن يُكثر عليه من الخير من حيث لا يحتسب.. كم كنت أتمنى التعرف عليه؟.
قال لها وهو يخفي دموع الحزن عليها: سأتخرج من الجامعة بعد يومين يا أمي، وسآخذك معي إليها لتحتفلي معنا إن شاء الله؟؟.
بعد يومين، حملها ابنها في سيارة معه إلى الجامعة لحضور حفل التخرج، أجلسها على كرسي، ومكث بجوارها يرعاها وهي لا تحتمل المكوث.. عندما شاهدت ابنها بزي التخرج انشرح قلبها.. فصارت دموعها تعانق بسماتها.. عندما دعوا ابنها في مكبر الصوت لاستلام شهادته.. ذهب مسرعاً.. استلم شهادته وهو ينظر إلى والدته التي حاولت أن تزغرد إلا أنها سقطت عن الكرسي مغشياً عليها، وفارقت الحياة.
تمر الأيام، ويصبح ابنها محامياً مشهوراً، وشاءت الأقدار أن يتعرف بالصدفة على فتاة جميلة تكون ابنة الرجل فاعل الخير وهو لا يدري.. عرّفها على نفسه، وحكى لها قصته، وسألها عن اسمها ومن هم أهلها حتى يذهب إليهم ويطلبها على سنة الله ورسوله.. وعدته الفتاة بأن تقول لوالدها وترد له الجواب، وافترقا.
عادت الفتاة إلى منزلها.. أبلغت والدها بالأمر، وقالت له: إن محامياً مشهوراً يتيم الأبوين، ولا يوجد له إلا الله وفاعل الخير كما قال لها، ويرغب بالزواج منها!!
فهم والدها فوراً، وقال لها: هذا اسعد يوم في حياتي أن أراك عروساً.. يا بنيتي الغني برأيي هو غني النفس والعزة والكرامة وليس غني المال؟؟ أبلغيه موافقتي وبأن يشرفنا بزيارة مع جاهته لطلب يَدك على سنة الله ورسوله.
أبلغته الفتاة برد والدها. احتار المحامي من سيأخذ معه.. تذكر والديه المتوفيين في ذلك اليوم، وحزن كثيراً لعدم قدرته على التعرف على فاعل الخير لغاية الآن لدعوته للحضور معه وطلب العروس من والدها.. بكى بكاء حاراً، وطلب من الله العزيز القدير أن يجمعه به يوماً ما؟؟.
جمع المحامي عدداً من جيرانه، ومن زملائه المحامين، والمأذون لكتابة عقد الزواج، وتوجهوا إلى بيت العروس.
استقبلهم الرجل الجليل فاعل الخير مع أقاربه بحفاوة.. جلسوا في المضافة.
سأل والد العروس العريس: من أنت يا بني؟؟
المحامي: أنا فلان بن فاعل الخير!!
بُهت الحضور لسماعه قول المحامي، وبدأ كل واحد منهم ينظر إلى وجه الآخر بتساؤل؟
والد العروس: لم افهم ذلك!!
علماً أنه أدرك الإجابة بأن المحامي اختار هذا الاسم تيمناً بفاعل الخير، وتظاهر بأنه لا يعرفه.
المحامي: أيها الحضور الكريم، لا أخفيكم سراً، انتم تعرفون حياتي وقسوتها ويتمي منذ الصغر، لكن الله بعث لي فاعل خير لا اعرفه على الإطلاق، كان يساعدني في الخفاء حتى تَخرّجت من جامعتي. وتقديراً لجهوده الخيرة والنبيلة، ودوره الإنساني أطلقت اسمي عليه حتى يكون هذا الاسم محط الاستفسار والسؤال إلى أن أتعرّف عليه يوماً ما!!.. كنت أرغب بإحضاره معي في هذا اليوم - لو كنت أعرفه- ليطلب لي يد ابنتكم الكريمة..
غرغرت عيناه، وسكنت الدموع في جفونها حزناً وفرحاً، ثم سكت.
وجم الحضور بخشوع برهة لسماعه القصة.. ثم نهض أحد زملائه المحامين، وطلب الفتاة من والدها للمحامي.
والد الفتاة، قال: اعلموا أنني موافق على زواج ابنتي من هذا الشاب، ولا اطلب منه شيئاً، وألف مبروك.
تعانق المحامي مع والد الفتاة والحضور ابتهاجاً بالنسب.. وعاش الاثنان معاً.. و كلما صادف المحامي طفلاً فقيراً يتصدق عليه ويساعده في محنته كما فعل معه فاعل الخير.. وكان هذا المحامي يُحدث نسيبه- الرجل الجليل- كلما زارهم عن كيفية مساعدته للأطفال اليتامى والفقراء، ويُسعَد هذا الرجل لسماعه الأخبار السارة. ويقول له: يا بني إن تزرع حبة تنبت سبع سنبلات...
هذا الرجل أصبح طاعناً في السن، ولا يقوى على الحركة، ثم وافته المنية وهو يُسِرُّ في نفسه فعل الخير.. وبينما كانت ابنته- زوجة المحامي- تبحث في أوراق والدها الثبوتية ذات مرة عثرت على وصولات دفع للمدرسة وللجامعة باسم زوجها المحامي.. فدهشت مما رأت!!.. اطلعت زوجها على الوصولات فأيقن المحامي حينئذ أن نسيبه هو فاعل الخير.. وعاش حياة سعيدة مع زوجته.
ــــــــــــ
[email protected]
الطفل اليتيم وفاعل الخير
بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
26/10/2009م
تراه يجوب الشوارع ببراءته بفردتي حذاء باليتين، ورَثّ الثياب، في الصيف القائظ أو الشتاء القارس، أحيانا يبيع بعض الحاجيات الخفيفة لسد بعض من حاجاته، وكان يتعفف عن مد يده للمارة، ليسألهم ستر الحال، البعض يشتري منه، والبعض الآخر لا يدري بحالته البائسة.
عندما تتعب قدماه يلوذ إلى قارعة الشارع، يجلس القرفصاء، يجمع يديه وفخذيه على صدره لحمايته من برد الشتاء، وجسده ووجهه يرتعشان.. متكور حول نفسه.. يروح ويجيء بعينية مع المارة وهو يلاحظ الأطفال أقرانه كل مع والديه يتراكضون على جوانب الشوارع، ويسيرون على الأرصفة فرحين كفراشات في فصل ربيعي.
بينما هو، تنهمر دموعه حزناً على والده الذي وافته المنية لحظة أن ولدته أمه، ولا يعرف من والِدِه سوى صورته المعلقة على صدر بيتهم، وعلى والدته التي أرضعته وربته وسهرت عليه حتى صار في سن السابعة من العمر المصابة بمرض عضال أقعدها عن العمل، يتألم لألمها كلما شاهدها تتلوى على الفراش والمرارة تعتصر نفسه، ويحزن لحزنها، كانت هي الوالد والوالدة التي ربّته على الصبر وتحمل الشدائد والعصامية.. مُتَسمّرٌ في مكانه.. شارد الذهن لشعوره بالحرمان من طعم الطفولة.
كان يذهب إلى المدرسة صباحاً مقبوض النفس ليس كباقي الطلاب، ومع ذلك لم يسمح لليُتمِ والفَقرِ أن يسيطرا عليه، فقد كان طالباً ذكياً ومجتهداً في دروسه، ويتسامى على جراحه وأحزانه، ويتظاهر بأنه يعيش كباقي البشر رغم صغر سنه!! وعندما يعود منها إلى البيت يأكل مما تيسر له كما يطعم والدته المريضة، ثم يُمسّد بيديه الطريتين على جسدها النحيل الممدد على الفراش، ويتمنى لها من الله الشفاء العاجل ويطمئن على صحتها، ثم يخرج إلى الشوارع وهو يحمل على ظهره صندوقاً به بضاعة خفيفة لبيعها.
آناء الليل، يعود إلى منزله وفي جعبته ما يُعشّيهما في تلك الليلة ويُفطّرهما ويغذيهما في اليوم الذي يليه.. يُحضّر دروسه، ويعمل واجباته البيتية لليوم التالي على ضوء السراج الخافت.
كان همه دراسته، وكذلك مرض والدته التي أصبحت بسببه عاجزة عن العمل، وألم الفقر الذي يطارده.
هذا الطفل اعتاد في كل ليلة على النوم بجانب والدته التي تلف ذراعيها حوله، وتغطيه بحنان الأمومة.. و دائما تبتغي من الله أن يَحفَفهُما بعطفه، وأن يحمي ابنها الوحيد من البأساء والضَرّاء، وأن يرزقه بمن يَشُد أزرَهُ ويحسّن حالهم إلى أفضل حال.. وترضى عليه، ثم يَغُطّان في سبات عميق.
في هذه المنطقة يعيش رجل كريم يظهر على ملامحه الورع والإيمان، فمر ذات يوم بالقرب من الطفل وهو يبيع حاجياته.. اقترب منه.. سأله عن حاله ومن هم أهله.. فحكى له الطفل قصته الكاملة.
فما كان من هذا الرجل إلا أن اشترى منه كل حاجياته بمبلغ مالي لا بأس به.. رفض الطفل أن يأخذ هذه النقود الزائدة عن السعر الحقيقي لبضاعته.. أُعجب الرجل بعصامية هذا الطفل، وقرر في نفسه أن يساعده دون أن يعلم حتى يشتد عوده!!.
صار هذا الرجل- ذو اللحية البيضاء- يذهب بين الفينة والأخرى إلى هناك، ويشاهد مثابرة الطفل ومدى تشبثه بالحياة، وعينيه المليئتين بالأمل، ثم يذوب بين جموع الناس المارة.
وضع مبلغاً من المال في كيس صغير كتب عليه "فاعل خير" ثم توجه في المرة الأخرى إلى مكان الطفل، عندما شاهده يقترب من المكان اسقط الكيس مكان جلوس الطفل دون أن يراه أحد، وذهب وعيناه على الكيس يحرسانه.. وصل الطفل.. جلس.. ثم رأى الكيس.. تحسسه.. فتحه فوجد فيه مبلغاً من المال.
ظن الطفل في بادئ الأمر بأن أحدا ما فقد نقوده.. حمل الكيس وهو يسأل: من رأى منكم شخصاً اسمه فاعل خير ؟؟ لعدة مرات، ولم يرد عليه أحد.. كان الرجل يراقب هذا الطفل عن بعد ليعرف كيف سيتصرف!! فاطمأن لحسن تصرفه وأمانته.
حمل الطفل الكيس معه إلى المنزل.. احتفظ به عله يجد صاحبه يوماً ما ويرده إليه!!.. بعد أسبوعين تكررت العملية وعثر الطفل على كيس آخر وفيه نفس المبلغ!! ومكتوب عليه:" يا بني خذ الكيس، ولا تبحث عن فاعل الخير، فهذا ما قسمه الله لك ولأمك".
اغرورقت عينا الطفل بالدموع.. احتضن الكيس ببراءته، واطمأن لحقيقة النقود بأنها توضع خصيصا له، اشترى الدواء لوالدته وعاد إلى المنزل.
خجل الطفل كثيراً لدرجة أنه غيّر مكانه الذي كان يجلس فيه إلى مكان آخر، لكن الرجل الجليل كان دائماً يتتبعه ويَقُص أثرَه في الخفاء!! وصار في بداية كل عام دراسي يذهب إلى مدير مدرسته ويدفع عنه الأقساط المدرسية دون الإفصاح لمدير المدرسة عن هويته!! وكان المدير يدعو الطفل إلى مكتبه، و يبلغه بأن قسطه المدرسي دُفع من قبل "فاعل خير"؟؟
الطفل: استحلفك بالله، من هو هذا الرجل؟
المدير: لم يَقُل لي اسمه قط! وفقط قال: هذا من مال الله، وخرج مسرعاً، دون أن يراه أحد غيري.
احتار الطفل في أمر هذا الرجل، وكيف يَصرِفُ عليه! حتى يرد له الجميل يوماً ما. كبر الطفل وصار شاباً، وتفوق في مدرسته حتى تخرج منها، وواصل تعليمه الجامعي تخصص محاماة، وكانت مصاريفه الجامعية تُسدد وتُؤمن بنفس الطريقة السابقة. و يُحضر الطبيب والأدوية لوالدته كلما ازداد ألمها ويرفض الطبيب أخذ النقود منه، ويُعلمه بأن المصاريف دفها فاعل خير....
كم كان سرور والدته عظيماً وهي تراه يكبر ويتقدم في تعليمه حتى وصل إلى نهاية سنة التخرج من جامعته.. فهو منقذها من شقاء الحياة.. اشتد المرض على والدته، وأصبحت حالتها لا تطاق، وأيامها معدودة.
في إحدى الليالي، طلبت من ابنها أن يجلس بجوارها، حدجته بعينين فاحصتين، وقالت له: الحمد لله يا بني أنني أراك على أبواب التخرج، والآن أصبحت شاباً.. لا تحزن يا بني على حالي.. هذا اختبار من الله سبحانه وتعالي، وإذا وافتني المنية قبل تَخرُّجِك.. أمانة عليك بأن تأتي إلى قبري مع باقة زهور لتزورني وتقرأ لي الفاتحة وتبلغني بنجاحك الذي كان حلمي الوحيد؟؟!!. وأعلم يا ولدي إنني أودعك أمانة عند الذي لا يخون الودائع.. وأطلب من الله عز وجل أن يُثوّبَ هذا الرجل الكريم على عمله معنا، وأن يُكثر عليه من الخير من حيث لا يحتسب.. كم كنت أتمنى التعرف عليه؟.
قال لها وهو يخفي دموع الحزن عليها: سأتخرج من الجامعة بعد يومين يا أمي، وسآخذك معي إليها لتحتفلي معنا إن شاء الله؟؟.
بعد يومين، حملها ابنها في سيارة معه إلى الجامعة لحضور حفل التخرج، أجلسها على كرسي، ومكث بجوارها يرعاها وهي لا تحتمل المكوث.. عندما شاهدت ابنها بزي التخرج انشرح قلبها.. فصارت دموعها تعانق بسماتها.. عندما دعوا ابنها في مكبر الصوت لاستلام شهادته.. ذهب مسرعاً.. استلم شهادته وهو ينظر إلى والدته التي حاولت أن تزغرد إلا أنها سقطت عن الكرسي مغشياً عليها، وفارقت الحياة.
تمر الأيام، ويصبح ابنها محامياً مشهوراً، وشاءت الأقدار أن يتعرف بالصدفة على فتاة جميلة تكون ابنة الرجل فاعل الخير وهو لا يدري.. عرّفها على نفسه، وحكى لها قصته، وسألها عن اسمها ومن هم أهلها حتى يذهب إليهم ويطلبها على سنة الله ورسوله.. وعدته الفتاة بأن تقول لوالدها وترد له الجواب، وافترقا.
عادت الفتاة إلى منزلها.. أبلغت والدها بالأمر، وقالت له: إن محامياً مشهوراً يتيم الأبوين، ولا يوجد له إلا الله وفاعل الخير كما قال لها، ويرغب بالزواج منها!!
فهم والدها فوراً، وقال لها: هذا اسعد يوم في حياتي أن أراك عروساً.. يا بنيتي الغني برأيي هو غني النفس والعزة والكرامة وليس غني المال؟؟ أبلغيه موافقتي وبأن يشرفنا بزيارة مع جاهته لطلب يَدك على سنة الله ورسوله.
أبلغته الفتاة برد والدها. احتار المحامي من سيأخذ معه.. تذكر والديه المتوفيين في ذلك اليوم، وحزن كثيراً لعدم قدرته على التعرف على فاعل الخير لغاية الآن لدعوته للحضور معه وطلب العروس من والدها.. بكى بكاء حاراً، وطلب من الله العزيز القدير أن يجمعه به يوماً ما؟؟.
جمع المحامي عدداً من جيرانه، ومن زملائه المحامين، والمأذون لكتابة عقد الزواج، وتوجهوا إلى بيت العروس.
استقبلهم الرجل الجليل فاعل الخير مع أقاربه بحفاوة.. جلسوا في المضافة.
سأل والد العروس العريس: من أنت يا بني؟؟
المحامي: أنا فلان بن فاعل الخير!!
بُهت الحضور لسماعه قول المحامي، وبدأ كل واحد منهم ينظر إلى وجه الآخر بتساؤل؟
والد العروس: لم افهم ذلك!!
علماً أنه أدرك الإجابة بأن المحامي اختار هذا الاسم تيمناً بفاعل الخير، وتظاهر بأنه لا يعرفه.
المحامي: أيها الحضور الكريم، لا أخفيكم سراً، انتم تعرفون حياتي وقسوتها ويتمي منذ الصغر، لكن الله بعث لي فاعل خير لا اعرفه على الإطلاق، كان يساعدني في الخفاء حتى تَخرّجت من جامعتي. وتقديراً لجهوده الخيرة والنبيلة، ودوره الإنساني أطلقت اسمي عليه حتى يكون هذا الاسم محط الاستفسار والسؤال إلى أن أتعرّف عليه يوماً ما!!.. كنت أرغب بإحضاره معي في هذا اليوم - لو كنت أعرفه- ليطلب لي يد ابنتكم الكريمة..
غرغرت عيناه، وسكنت الدموع في جفونها حزناً وفرحاً، ثم سكت.
وجم الحضور بخشوع برهة لسماعه القصة.. ثم نهض أحد زملائه المحامين، وطلب الفتاة من والدها للمحامي.
والد الفتاة، قال: اعلموا أنني موافق على زواج ابنتي من هذا الشاب، ولا اطلب منه شيئاً، وألف مبروك.
تعانق المحامي مع والد الفتاة والحضور ابتهاجاً بالنسب.. وعاش الاثنان معاً.. و كلما صادف المحامي طفلاً فقيراً يتصدق عليه ويساعده في محنته كما فعل معه فاعل الخير.. وكان هذا المحامي يُحدث نسيبه- الرجل الجليل- كلما زارهم عن كيفية مساعدته للأطفال اليتامى والفقراء، ويُسعَد هذا الرجل لسماعه الأخبار السارة. ويقول له: يا بني إن تزرع حبة تنبت سبع سنبلات...
هذا الرجل أصبح طاعناً في السن، ولا يقوى على الحركة، ثم وافته المنية وهو يُسِرُّ في نفسه فعل الخير.. وبينما كانت ابنته- زوجة المحامي- تبحث في أوراق والدها الثبوتية ذات مرة عثرت على وصولات دفع للمدرسة وللجامعة باسم زوجها المحامي.. فدهشت مما رأت!!.. اطلعت زوجها على الوصولات فأيقن المحامي حينئذ أن نسيبه هو فاعل الخير.. وعاش حياة سعيدة مع زوجته.
ــــــــــــ
[email protected]