الأخبار
(يسرائيل هيوم): هكذا حاولت حماس اختراق قاعدة سرية إسرائيلية عبر شركة تنظيفجندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينية
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العفريت بقلم:أحمد الجنديل

تاريخ النشر : 2010-06-29
العفريت
منذ صغري وأنا أحملُ لقبَ العفريت ، من ألصق هذه الصفة بي ؟ ومن الذي منحني هذا اللقب ؟ لا أعرف ذلك بالضبط . ما أعرفه أن العفريت أصبح ملازما لي ، يسيرُ معي أينما ذهبت ، ويحلّ معي أينما حللت ، والجميع لا يعرف ( رشاد ) إلا إذا التحم بالعفريت ، والمعلم في المدرسة كان يناديني العفريت رغم أنّ ( رشاد عبد الرحمن محمد العوف ) مدوّن لديه في سجل الصف ، وأمي رحمها الله كانت تناديني بهذا اللقب ، وعندما صرختُ بوجهها ذات يوم وأعلنتُ كرهي لهذا العفريت ، أجابتني بهدوء :
ــ العفريت ، يعني الرجل الذي لا يُغلب .
ضحكتُ في سرّي على ما قالته أمي ، وأدركتُ منذ ذلك الوقت أنّ الكثير من المعتقدات دخلت إلينا وترسخت في نفوسنا عن طريق التكرار والإعادة ، مثل أناشيدنا الصباحية ، نرددها كلّ يوم دون معرفة بدلالات كلماتها أو ألحانها ، واللقب الذي أصبح ظلـّي ، دخلَ إلى رأسي فأصبحَ بالتكرار مألوفا لديّ ، وعندما كبرتُ أصبحتُ لا أعرف إلا به ، والآن أفتخرُ به لأنه الرجل الذي لا يـُغلب ، هذا ما قالته أمي وأنا صغير ، رغم أني لم أسجّل حالة واحدة من الغلبة على أحد ، فالخسارة هي النتيجة الوحيدة الـتي أمسكُ بها في كل المحطات الـتي دخلها حصان حياتي المتعثـر .وكلما حاولت التخلي عن لقب العفريت نتيجة هزائمي المتلاحقة إلا أنّ الاعتقاد الراسخ الذي زرعه الجميع في رأسي يدفعني إلى التمسك به أكثر ، ويقودني إلى ارتكاب حماقات لا تحمد عقباها .
عندما كنتُ في الجامعة ، وبعد الانتهاء من المحاضرة التي ألقاها الدكتور العجوز ، جرتْ مناقشة حول الشخصية السويّة ، كان الحديث يسحبني إلى المشاركة بإغراء من ( العفريت ) ، استأذنتُ من الأستاذ الفاضل الذي أحترمه كثيراً لغزارة علمه ودقـّة ملاحظته وقوّة حجته ، وبدأتُ بطرح أفكاري مستعرضاً مخاطر ازدواج الشخصية وأثرها السلبي في بناء المجتمع ، وبعد الانتهاء من مشاركتي رأيتُ الوجوم يفترسُ الوجوه المنغلقة على الكره ، والذهول يأكل ملامح أستاذي الذي أومأ بإصبعه مشيرا لي بالخروج من قاعة الدرس ، خرجتُ متعثر الخطى وسط استياء بالغ من الجميع ، وبعد ساعة قضيتها في مراجعة دقيقة لما قلته في قاعة الدرس ، استدعاني أستاذي إلى صومعته وأمرني بإغلاق الباب وهو يقول مبتسماً :
ـــ أفكارك كانت صائبة ، وطريقة عرضك لها كانت رائعة .
غمرتـني مـوجة من الفرح لهذا الإطراء المفاجئ ، إلا أنه تابع يقول :
ــ لكن عليك أن تدرك أيها الفيلسوف الصغير أن ليس بمقدورك أن تجهر بكل ما تؤمن به ، وتكشف عن كلّ ما تراه مفيدا .
تلاشى الفرح الذي كنتُ فيه ، وغزتني مشاعر متناقضة ليس بمقدوري فكّ رموزها في تلك الساعة ، إلا أنني عندما خرجتُ رأيـتُ الأستاذ المتعالي يسقط إلى الحضيض .
العفريت لم يستطع إكمال دراسته ، خرجتُ من الجامعة دون شهادة ومودّعاً باللعنات ، وآخر شخص التقيتُ به صاحب الشهرة الواسعة في علم الاجتماع ، كان يبادلني النظرات الساخطة ، وعندما أبديتُ له رغبتي في ترك الدراسة قال بغير اكتراث :
ــ حسنا تفعل ، فالدراسة خلقتْ لغيرك .
قالها باستخفاف واضح ، ورغم هذا مددتُ له يدي وصافحته بفتور ونظراتي مزروعة في الأرض متحاشيا النظر إلى وجهه المجدور ، ومن يومها لم أدخل إلى قاعة درس ، أو ألتقي بأستاذ .
فاتني القول ، أنّ العفريت قد يوحي لكم ، أني أمتلكُ طولاً باذخاً وصدراً عريضاً ورأساً يشبه رأس الثور ، وتلك واحدة من المفارقات المضحكة لدى الذين سمعوا برشاد العفريت دون رؤيته والالتقاء به ، كنتُ أشعرُ بالحرج وأنا أرى الدهشة طاغية على ملامح البعض عند اللقاء الأول وهم يرونني بهذه الضآلة في التكوين ، جذع صغير يستند بالكاد على ساقين نحيفين ، ورأس يقف بطريقة مضحكة على رقبة طويلة ، ووجه بعينين يشبهان عيني بومة مريضة ، وشفتين قال لي صديقي مسعود ذات يوم أن فيهما من الوحشية ما يلفت الأنظار إليك ، وأنف دقيق ربما الوحيد الذي يعلن حالة الانسجام مع الوجه الأسمر الذي أمتلكه .
مات أبي وأنا لم أكمل العاشرة من عمري ، وتعهدتني أمي ، ترعرعتُ في حضنها مرّة وفي حضن خالتي أخرى ، وإذا ما تصرفتُ أحيانا تصرفاً لا يليق بالرجال الشجعان ، أسمعُ بعضهم يهمس في أذن البعض الآخر باني خريج تربية ( النسوان ) ، ولهذا السبب ولغيره كنتُ أرغبُ في العزلة ، وعلاقتي محصورة بين أماكن عملي والبيت الصغير الذي ورثته من أبي وبقيتُ فيه بعد وفاة أمي تشاطرني في العيش مجاميع كبيرة من الفئران التي احتلت أرضه وعبثت بأثاثه ومع العناكب التي تجحفلت لتقضي حياتها بين سقوفه المبنية من جذوع النخيل وهي الآن في تكاثر مرعب ففي كلّ صباح أرى أعدادها تزداد وبيوتها تنتشر بكل الاتجاهات .
بعد أن وضعت الدراسة وراء ظهري ، عملتُ في مطحنة المدينة التي يديرها أحد أعيان المدينة ومشايخها الذي اكتسب لقب ( أبو الخير ) فأصبح بالتكرار الكنية التي ألغت أسمه الحقيقي من ألسنة المتعاملين معه .
كانت الخيبة تملأ قلب أمي وتكسو ملامحها دون الكشف عمّا يعتمل بداخلها ، وفي ساعة رحيلها رأيت الخيبة تعيش أوج لحظات انتعاشها وهي تودعني الوداع الأخير ، ومنذ تلك الساعة وأنا أواجه الحياة بطريقة غاضبة رغم الخجل الملاصق لحركاتي والناتج عن تلك النظرات المنكسرة والمحتقنة بالإحباط التي كنت أراها في نظرات أمي الراحلة .
تركتُ المطحنة ، وانتقلت إلى العمل في أحد الفنادق الذي يقع وسط المدينة ، بقيت فيه ثلاثة أشهر بعدها طردني صاحبه المتغطرس متهمني بالزندقة ، وفي غرفتي بحثتُ عن مفهوم الزندقة ووجدتُ نفسي بعيدا عن هذه التهمة التي قذفني بها صاحب الفندق المتغطرس . عدتُ بعدها إلى العمل عند الحاج إبراهيم الحلواني ، كان المصنع واسعا وقد شيدت عليه عدة مواقد وضعت فوقها قدور كبيرة ، وفي مدخله انتصبتْ إدارة المصنع التي يقضي فيها الحاج جلّ وقته ، ينبش في دفاتر قديمة ، ويستقبل ضيوفه ، وعندما يغلق الباب عليه يعلم الجميع أنه منهمك في عدّ نقوده ، يتأملها ورقة ورقة ثمّ يحزمها على شكل رزم ويودعها في دولاب حديدي محكم ، وبعد أن يتأكد أنّ كلّ شيء على ما يرام ، يخرج ليشرف على سير العمل ، يوجّه هذا ويوبّخ ذاك ويصرخ في وجه ثالث . ورغم أنّ العمل تكتنفه المخاطر عندما توقد المشاعل وتبدأ النيران تنطلق بسرعة مخيفة لتنشر ألسنتها على السطوح التحتية للقدور وتبعث حرارة لا تطاق ، إلا أنني كنت راضياً عن عملي الذي يمنحني فرصة الذهاب إلى بيتي للاغتسال وتهيئة طعامي والسهر مع الكتب التي بدأ عمودها يرتفع إلى جانب سرير النوم في غرفتي الفقيرة .
كان الحاج إبراهيم طويلاً ولا أثر للانحناء في جذعه رغم أنه تجاوز الخمسين ، وكانت عيناه تشعان بوهج الفتوّة ، وعندما أتأملهما جيدا أحسبهما لفتى في العشرين من عمره ، شارباه ولحيته على نسق واحد من النمو ، ووجهه مرصّع بخدين متوردين ، وشفتين العليا تبدو ضامرة إذا ما قورنت بالسفلى ، وكرشه مندلقا إلى الأسفل كلطخة سوداء وضعها عابث على لوحة جميلة ، ولسانه يلهج بالبسملة والحمدلة كلما خرج إلينا بعد عدّ نقوده .
كنتُ أنهضُ في السادسة صباحاً على رنين الساعة الصغيرة التي أضعها فوق الرفّ الخشبي الذي يعلو فراشي ، وبعد الانتهاء من واجبات الصباح ، أخرجُ مسرعا إلى المقهى الصغير الذي يعجّ بالعمال الذين اعتادوا على تناول فطورهم واحتساء الشاي الأسود لينطلقوا بعدها إلى أعمالهم ، وكان مصنع الحاج إبراهيم قريبا من المقهى ولم يكلفني جهداً أو وقتاً لأكون بذلك أول من يدخله بعد الحارس الموكل بحراسته ليلا .
في صباح يوم قائظ ، خرجتُ صباحاً إلى المقهى ، وأثناء ذهابي إلى المصنع التقيتُ ( بهيجة ) الخبّازة ، أعرفها منذ كانت صغيرة ، كانت ضفائرها بلون الذهب الخالص ، وكان صدرها المكشوف يشّع ببياض ناصع ، وطالما حملتها بين ذراعي لأضعها في حضن أمها ، لكنّ ( بهيجة ) ما عادت كما كانت هذا الصباح ، امرأة مكتملة النضوج ، وعند سماعي صوتها وهي تلقي تحية الصباح ، أحسستُ أنَ صوتها قادم من عالم آخر ، إلا أنني لم أعر لذلك اهتماما ، فلا يجوز الذهاب بخيالي أكثر من ذلك ، وليس لي تجربة مع المرأة ، والسنوات التي انسلخت من عمري كانت تأتي وتموت بين دهاليز الغربة وكهوف الإحباط .
مرّة واحدة دخلتُ عالم المرأة ، لم أدخله أنا ، هي التي أدخلتني إليه ، كانت امرأة متزوجة حديثا لكنها لعوب ، وكانت فاتنة لكنها لم تتمتع بسمعة طيبة ، فبعد وفاة أمي طرقت بابي فمنعتها ، قلتُ لها بوضوح أن لا أحد غيري في البيت ، أدارت ظهرها وابتلعها الزقاق القريب ، لكنها عادت بعد أيام ، طرقت بابي ثانية ، وعندما خرجتُ إليها كان العطر يفوح من جسدها ونظراتها تنضح بالإغراء ، لم تمهلني الوقت الكافي لأخبرها أن لا أحد غيري لتذهب كما ذهبت في المرّة السابقة ، انزلقت كسمكة فتية من جانبي ودخلت البيت ، وقفتُ مشدوها وهي تغلق الباب ، اتجهتْ إلى غرفة نومي ، كنتُ أسير وراءها كطفل يقتفي أثر أبيه خوفاً من الضياع ، جلستْ على فراشي ونظراتي تلاحقها بخوف ولساني قطعه الخوف ، لكنّ الملعونة استطاعت دفعي إلى الحديث عندما ذكرت أمي بخير ، شعرتُ بدفء جسدها عندما ألصقته بجسدي ، وبحرارة أنفاسها عندما استدار وجهها وهي تسقط العباءة التي كانت تسترها مخلفـّة وراءها أنوثة مستعرة بالشهوة وجسداً يحترق بالإغراء ، وضعتْ يدها على رأسي فأحسستُ برعشة استوطنتْ جسدي ، ورفعتُ نحوها نظرات تائهة متعثرة ، كان شعرها الفاحم له بريق الماس الأسود وهو يرسم إطاراً لوجهها المستدير ، استطعتُ التقاط صورة الابتسامة الماجنة التي تسيل من شفتيها وعندما مررتُ على وجهها كان الخوف يسحقني وأنا متعلق بعينيها اللتين تفيضان جداول من السحر والتحدي ، لم أستطع معهما الصمود وعند الهروب منهما اصطدم بصري بصدرها الشقي ، كان ثوبها مفتوحا من الأعلى بلا حياء ، ولا يقف في طريقه سوى النهدين الجسوريْن النافريْن ، كنتُ في غيبوبة عن عالمي المحبط عندما طوتْ ذراعيها على رقبتي ، أسقطتني على ظهري ، كان ثوبها محسورا عن فخذين ملتهبين بالتحدي ومتهيئين للمنازلة ، سمعتُ صوتها كزقزقة عصفور جائع وهي تجذبني مرّة أخرى وتنزل صدرها بكل كنوزه على صدري ، وصوتها العصفوري المحموم مدفوعاً بأنفاسها الحارقة يجلد رأسي :
ـــ أرني شطارتك أيها العفريت .
ابنة الكلب ، غرّها العفريت فجاءت إليه دون أن تعلم أني جرو صغير أنوحُ تحت ثقل صدرها وأجاهدُ في الهرب من هذا البلاء الذي وضعتني فيه .
كانت مشاعري متنافرة ومتخاصمة إلى حد كبير ، والضياع هو المتحكم برقاب أفكاري ، وما دامت تريد من العفريت أن يظهر شطارته فلا بأس في ذلك ، حاولتُ أن أدفع بعواطفي نحوها ، وأن ألغي من داخلي حالة التشظي ، بدأ الثأر يتحرك في دمي ، العفريت الذي بداخل العفريت سوف ينهض قريبا ، مددتُ يدي نحو نهديها ، انتقلت أصابعي تلعب على سطح بطنها ، مسكتها من شعرها ، زحفتُ بوجهي على وجهها ، أطلقتُ صرخات خافتة كي أوهمها أني على أبواب النصر المبين ، والعفريت قد حمل رايته وامتطى فرسه وتقدم إلى ساحة المعركة والويل لمن يعترض سبيله ، كانت المعركة شرسة لم تمهلني فرصة الانتباه عندما منحتني فرصة التنفس لتعود ثانية لتنام على صدري وتصلب إرادتي في تحقيق ما أصبو إليه ، دفعتها بقوّة فتدحرجت إلى جانبي ، وعندما أردتُ لأنفاسي أن تستقيم في صدري ، نهضتُ من جديد ، أماتت الدهشة بوادر الثأر التي احترقت في رأس العفريت ، كانت العاهرة عارية تماما ، لم أستطع النظر إليها ، تلاعبتْ بقواعد اللعبة ، قامت بتزوير أصولها ، تحولتُ بفعل هذا الانعطاف الخطير إلى قطعة كبيرة من الصقيع ، أعلنتُ الاستسلام ورفعتُ راية هزيمتي ، إلا أن المعركة بقيتْ مستمرة بين طرف يجرّ ذيول فشله وآخر يحاول سحب غريمه إلى بؤرة جهنم حيث المعادن تظهر بوضوح . حمحمتْ ولهثتْ واندفعتْ تعبث بقطعة الجليد ، وعندما لم تجن من كل ما فعلته سوى الفشل نهضتْ من الفراش ، لا أعرف كيف ومتى ارتدت ملابسها ؟ كنتُ ساعتها غارقا في بحر الخزي ومشاعري تطفو على مستنقع الانحطاط ، سمعتُ ضحكتها وهي تهمُ بالخروج ، اقتربتْ منـّي وأمسكت شفتيّ بإصبعيها ، ضغطتْ عليهما بقوّة قائلة :
ـــ سأزورك قريبا ، أرجو أن أراك على غير ما أنتَ عليه الآن .
خرجتْ بهدوء ، نهضتُ مسرعاً ، لحقتـُها عند الباب ، أخرجتُ ما في جيبي من نقود ، عرضتُ عليها نقودي ، توسلتُ بها على أخذ ما يكفيها ، أشارت لي بالرجوع وخرجتْ تاركة الباب مفتوحاً وراءها ، لم تأخذ شيئاً على أتعابها ، يبدو أنها امرأة نبيلة وعلى عكس ما يتفوه عنها الرجال .
هذه الحادثة وضعتني أمام التجربة وجها لوجه ، والعفريت بدأ يجلدني بسوط خيبته وما عدتُ أطيقه ولا أريد الالتصاق به ، وعندما عرضتُ هذا الأمر على صديقي ( مسعود ) أشار عليّ بالخمر كدواء ساعة المواجهة ولأني أثقُ بصديقي ( مسعود ) حاولت الانجرار وراء نصيحته والدخول إلى هذا العالم .
في البداية أرسلتٌ صبياً يعمل في المقهى لشراء قنينة خمر ، أتاني بها بعد منحه مكافأة مغرية ، وفي الليل بدأتُ بتناول الدواء ، احتسيتُ ثلاثة كؤوس ، شعرتُ بالعفريت ينهضُ في داخلي ، كنتُ مسروراً بهذا التحول المفاجئ ، شعرت ساعتها أني أمتلك تحدياً كبيراً للمواجهة ، واجتاحتني رغبة الذهاب إلى المرأة التي دفنت رأسي في رمال الخزي وأهانت كرامة العفريت .
في صباح اليوم التالي عانيتُ من ألم في معدتي ودوار في رأسي ، وعند الظهيرة شعرتُ بالجوع اللعين يغزو معدتي المريضة ، أسرعتُ إلى تناول بعض الطعام وأنا أستطلع نظرات العاملين خوفا من اكتشاف ما أقوم به .
بدأت الخمر تلازمني في كلّ ليلة ، أبرمنا اتفاقا أخلاقيا مع بعضنا ، أشربُ منها ما يكفيني وتشربُ منـّي ما يكفيها ، ومع مرور الأيام اعتدتُ على شرائها بنفسي ، أقفُ في الشارع المقابل للحانة ، أتأمل الصبية الذين يخطفون القناني ويسرعون بها إلى السيارات المتوقفة بعيدا ، فالمدينة لا تسمح أعرافها وتقاليدها بشراء الخمر مباشرة من قبل الوجهاء والأعيان ، ولابدّ من مرور الصفقة عبر وسيط ، والصبية الفقراء خير وسيط لمثل هكذا صفقات ، تذكرتُ وأنا أتأمل هؤلاء الصبية وهم مشغولون بأعمالهم أستاذي الذي طردني من قاعة الدرس والذي كان يقول ( عليك بالصمت فليس من حقك التصريح بما تؤمن به ) ولابدّ من القول أنّ وجهاء مدينتي لا يشربون الخمر لأنها تأتيهم عبر وسيط .
كنتُ حريصاً على إبقاء حياتي الخاصة بعيدة عن كلّ ما يتعلق بعملي ، وكنتُ أخشى أن يصل إلى مسامع الحاج إبراهيم ما أقوم به ليلا ، لكنّ الأمور بدأتْ تسير بعكس هذه الرغبة ، فأحد المقربين للحاج أوصل إليه ما أخشاه ، وبدأت العلاقة تنكمش بعد انبساط وتتعثر بعد استقرار .وصرتُ أحسب خطواتي وأحبسُ أنفاسي أثناء وجود الحاج في المصنع ، وعندما يخرج على خير ، أحسّ أني أنجزتُ نجاحا في عمل إضافي ، كان يغادر المصنع قبل غياب الشمس بقليل من كلّ يوم وهو يحملُ عدة علب من الحلوى يوزعها في طريقه على البيوت الفقيرة ، وفي الليل يعكف على أداء طقوسه الدينية ، يقرأ القرآن ، ويقيم صلاة النوافل ، ويقضي وقتا في مناجاة الخالق لطلب المغفرة ، بعدها يأخذ طريقه إلى الفراش ، هذا ما نسمعه كلما اختلى بأحد معارفه ، أو إذا طابتْ نفسه للحديث معنا ، وكان ودوداً معي لأني أفوّت عليه فرصة الزجر والتوبيخ التي يكيلها للآخرين ، إلا أنّ الوشاية التي وصلته جعلته يتعامل بشكل آخر أدركتُ أني مطرود لا محال ، وقد صدق ما كنتُ أعتقد به ، ففي أحد الأيام وعند خروجه من المصنع نظر لي بطريقة عدائية غريبة ، ولمّا لم يجد منطقة هشّة يفجّر عليها غضبه ، أومأ لي بسبابته وبدون مقدمات صرخ غاضباً :
ــ أخرج من هذا الباب أيها الزنديق ولا تعد إلى هنا ثانية .
أردتُ أن أطالبه بتسديد الأجر المتبقي لديه ، إلا أنّ الغضب الذي تملكه في تلك اللحظة جعلني أسرعُ بالخروج .
في الليل مارست طقوسي المعتادة ، وأنا مشغول بالتعرف على مفهوم الزندقة ، وعندما قرأتُ عنها كثيراً وجدتها بعيدة عنّي ، وضحكتُ في سرّي لأنها تشبه لقب ( العفريت ) الذي لا أعرف من ألصقه بي عندما كنتُ صغيرا .
في الصباح وقبل أن تعلن الساعة عن موعدها بقليل كنتُ قد أفرغتُ ما في رأسي ومعدتي على الأرض المزدحمة بالشقوق داخل الحمام ، شعرتُ بعدها بحالة من الصفاء حرصتُ فيها على إلغاء ما حدث لي في الليلة الماضية ، خرجتُ مسرعاً إلى المقهى الصغير ، حشرتُ نفسي على أريكة صغيرة من الخشب العتيق تزاحم عليها ثلاثة عمال كنتُ رابعهم ، أعرفهم جيدا من خلال ترددي على المقهى ، يأتون خفافاً ويخرجون خفافاً ويعودون إلى بيوتهم وقد طحنتْ هممهم قسوة العمل التي لا ترحم أحدا .
تناولتُ فطوري على مهل فليس أمامي عمل ينتظرني هذا اليوم وغادرتُ المقهى بعد أن دبّت الحركة في المدينة الكسيحة ، كنتُ منسجماً مع نفسي ، وأعصابي هادئة مستقرة ، وقدماي تقوداني إلى سوق المدينة دونما تخطيط مسبق بذلك ، زعيق الباعة أبعدني إلى زقاق فرعي أدخلني بدوره إلى زقاق آخر أضيق منه يفضي إلى شارع عريض ربما هو الشارع الوحيد الذي يربط شمال المدينة بجنوبها ، واجهتني بناية المكتبة العامة بأشجارها الباسقة وحديقتها المنسقة ، لحظة الصفاء التي أعيشها وحالة التوحد مع نفسي جعلتني أجتازها ، لا أريد لمزاجي الرائق أن يتلوث بصفحات الكتب المرصوفة بإهمال على رفوف متربة ، اتسعتْ خطواتي لدحر الرغبة في الدخول إليها ، ابتعدتُ عنها قليلا ، شعرتُ بزهو الانتصار يمنحني مزيداً من الرضا ، كنتُ منتشياً بهذا الفوز وأنا أحثّ خطواتي إلى الأمام بالاتجاه المعاكس ، وعندما استدرتُ صوبَ البيت الحكومي كنتُ مع بهيجة الخبّازة وجهاً لوجه ، كان وجهها ينضح بالعافية عندما ألقت تحيتها ، سحبتني إلى جهة الرصيف بإشارة منها ، أسئلتها المتلاحقة لم أستطع معها الإمساك بفرص الإجابة ، كيفَ أنت ؟ وأين تعيش ؟ وما هو عملك ؟ في اللقاء الأول لا أستطيع التحدث إليك ، لا تنس العلاقة التي تربط أمي بأمك ، كنّا عائلة واحدة .
كانت عيناها ترسل بريقاً غريباً يصعب وصفه ، وشفتاها مصممتان بإتقان غريب وعندما انفرجتْ عباءتها قليلا وبانَ صدرها بدتْ لي كحورية خرجت للتو من بحيرة دافئة في عالم غارق بالبرد والضباب ، لكنـّي شعرتُ بالقرف عندما عرضتها بهذه الطريقة فهي امرأة شريفة وأمها صديقة لأمي المرحومة ، ولا يجوز لخيالي الذهاب أبعد من ذلك .
قاطعتُ أحلامي ، وبدأتُ أجيبها باقتضاب ، وعندما أرادتْ جواباً على عملي ، أخبرتها بشيء من الخجل عن عملي في مصنع الحاج إبراهيم الحلواني .
بدتْ مندهشة عند سماعها اسم الحاج ، ذكرته بخير ، وبدلاً من إنهاء هذه المقابلة الطارئة ، سألتها بلهفة :
ــ وهل تعرفينه جيدا يابهيجة !! ؟
نظرات مترعة بالثقة غرستها في وجهي ، وهي تقول :
ــ نعم أعرفه ، كيف يعاملك ؟
أجبتها إجابة الهارب من وضع يريد التخلص منه :
ــ انه رجل شريف ، وكان يعاملني معاملة حسنة ، لكنّي تركتُ العمل منذ يوم أمس .
اتسعتْ عيناها ، وأحسستُ بشفتها السفلى تتهدل قليلا :
ـــ ولماذا تركت العمل ما دام يعاملك بلطف !!؟
قلتُ مستسلما :
ــ لقد طردني دون أن يدفع أجوري المستحقة عليه .
بدتْ متأثرة عند سماعها ما قلته ، مدّت يدها نحو كتفي ، ضغطتْ عليه ، وكلماتها تنهال سريعة من فمها :
ـــ سأنتظرك عصر هذا اليوم في بيتي ونتحدث في هذا الموضوع ، لم يبقَ لي وقت أقضيه معك ولا يجوز الحديث ونحن على قارعة الطريق .
اختطفها الزقاق بينما بقيت مغروساً في الأرض ، بعدها استدرتُ وعدتُ من حيث أتيت بعد أن غادرني الصفاء الذي كانت نفسي تسبح على شواطئه باطمئنان وحلّ محله شعور ملوث ، حاولتُ معه حجز الأفكار العابثة في رأسي في قفص الإهمال لحين عودتي إلى البيت ، مررتُ بالمقهى الصغير فرأيتُ المكان يسكنه صمت موحش ، دلفتُ إلى الزقاق وأسرعتُ إلى البيت ، لم انتبه لصوت الشغب الذي تحدثه الفئران وهي تبحث عن طعام تسدّ به رمقها ، كنتُ مشغولا بألغاز كثيرة ، وكلما أمسك بأحدها لفكّ طلاسمه أجد نفسي أسيراً لآخر ، استنهضتُ العفريت الذي بداخلي ، فكانت النتيجة لا تختلف عن النتيجة التي حصلتُ عليها من المرأة التي جثمتْ على صدري وغادرت المكان دون أن تأخذ أجور أتعابها . دفنتُ رأسي تحت غطاء سميك وتشابكتْ ذراعيّ حول صدري وبدأت رغبتي تتصاعد في تحقيق النوم ، وقد نجحتُ في ذلك ، فقد استغرقتُ عدة ساعات في نوم عميق ، وعندما أفقتُ شعرتُ بالجوع ينهش أمعائي والتفكير بموعد الذهاب إلى بهيجة الخبّازة يطرقُ دماغي ، لم يكن في بيتي ما يتغلب على جوعي بسبب احتلال الفئران له ، ولابدّ من تناول الطعام خارج البيت . في المقهى الصغير تناولتُ طعاماً بارداً من بقايا فطور العمال واحتسيتُ قدحاً من الشاي الساخن ، كانت الساعة تقتربُ من الرابعة ولابدّ من حسم موقفي حول الذهاب إلى بهيجة ، لم أتعبْ نفسي كثيرا في هذا الموضوع ، غادرتُ المقهى مسرعاَ وسلكتُ أقرب الطرق التي تؤدي إلى تحقيق اللقاء ، وفي تمام الساعة الرابعة كانت يدي تقرع الباب الحديدي الأسود المزخرف ، أطلّت بهيجة ببهجتها وبهائها ، استقبالها الحسن وكلمات الترحيب الساخنة امتصت من عروقي الخجل الذي أعانيه ، دخلتُ بعد إشارة منها ، أثارني صوت الباب عندما أغلقته بهيجة ، سرتُ وراءها وأنا أسترق النظر إلى مؤخرتها ، كانت ممشوقة القوام وشعرها يغطي كتفيها ورقبتها وينزل على ظهرها كجناحي طائر خرافي ، ثوبها ألكحلي ملتصق على جسدها بطريقة مغرية ، وقدميها محشورتين في شبشب يقترب لونه من لون ثوبها ، دخلتُ غرفة الاستقبال وجلستُ على مقعد خال من المساند قريباً إلى الباب ، كانت جدران الصالة الصغيرة مصبوغة باللون الأخضر الفاتح ، ومن السقف تتدلى نجفة رائعة من الكريستال ، وأرضها فرشتْ بالسجّاد الفاخر والطنافس الثمينة ، واحتلتْ وسطها منضدة سطحها من الزجاج المنقوش ، وضعت عليه تماثيل صغيرة من العاج الأبيض وفي وسطها انتصبتْ مزهرية طويلة العنق مكللة بباقات من الورود الجميلة ، وهناك لوحة كبيرة رسمت بمادة الزيت مؤطرة بخشب الصاج المدهون حديثا معلقة على احد الجدران ، وفي الركن المقابل كانت صورة المرحوم زوجها الشاب الذي توفي في ظروف غامضة .
انتبهتْ بهيجة إلى المكان الذي جلستُ فيه ، فأشارت لي بالجلوس على الأريكة التي تقابل اللوحة الزيتية ، كانت بهيجة في تلك اللحظة فاتنة لدرجة الانبهار ، جميلة حدّ الهيام ، وعندما خرجتْ منحتني فرصة التأمل أكثر في هذا العالم ، في الركن المقابل للباب الموصل بين صالة الاستقبال والداخل حاملة رفوف ذات لون أسود برّاق ، وعلى الرفوف الزجاجية مجموعة من التماثيل والدمى الصغيرة ، وفي الأسفل استلقتْ دمية ذات شعر أصفر لامع وعينين زرقاوين ، تطلعتُ من جديد إلى المكان ، كان ينـّم عن ذ وق رفيع واختيار حسن ، وكانت المصابيح التي ألصقت على الجدران تبعثُ ضوءا مريحاً ، وثمّة مصابيح أخرى صغيرة زُرعتْ بين التحف والتماثيل ، وفي الجانب الآخر كان تمثالٌ من الفضة المطعمة بالمينا الزرقاء يمثـّل امرأة عارية وهي تمسك رأس أفعى ملتفة على جسدها .
تأخرتْ بهيجة فتقدمت الهواجس لتستوطن رأسي ، يوم الهزيمة الكبرى والفشل المريع تجسد لي بطريقة المشاهد المفككة ، ولحظات الخزي انتصبت أمامي لتدّق ناقوس الخطر ، والدمية أطلقت بكاءً خافتاً ، كانت تفتح عينيها وفمها بطريقة ميكانيكية مثيرة ، ومع بكاء الدمية دخلتْ بهيجة حاملة علبة من الحلويات وضعتها أمامي ، وقع نظري على العلبة التي أمامي ، كانت من إنتاج مصنع الحاج إبراهيم الحلواني ، رفعتُ قطعة منها وأدنيتها إلى فمي ، شممتُ رائحتي فيها وفعل أصابعي عليها ، أدركتُ على الفور ، كم هو رائع هذا الرجل عندما يصل إحسانه إلى الجميع ، فهذه العلبة ربّما دخلت إلى هنا كواحدة من العلب الكثيرة التي يوزّعها الحاج على الفقراء والمحتاجين ، لكنّ صور المعاملة الخشنة التي كنّا نتلقاها من الحاج قفزتْ إلى ذهني لتلغي الصورة المشرقة التي كنتُ قد رسمتها قبل قليل ، وصلني صوت بهيجة كـنغمة خرجتْ من بين أنامل عازف ماهر :
ــ أريد أن تحدثني عن أسباب تركك للعمل .
أردتُ الإمساك بسبب غير السبب الحقيقي الذي أوصلني إلى طردي من العمل ، وتحت تأثير ما أنا فيه ، قلتُ بنبرة فيها من الانفعال :
ـــ لا أعلم سبب طردي ، لكني أعلم انّ الحاج كان متسلطاً وقاسياً في تعامله مع الجميع .
لم يرق لبهيجة ما قلته ، فتساءلتْ بهدوء :
ـــ ماذا يعني متسلطا على الجميع ؟
ضاعت الكلمات بين فكـّي الخجل والإحراج ، أجبتها بتعثر :
ـــ يريدنا عبيداً وليس عمالاً !!
خرجتْ ضحكة قصيرة مصطنعة ، أعقبتها بشيء من السخرية :
ـــ وكيف يكون العفريت عبدا !!؟
العفريت مرّة أخرى ، هذه اللعنة التي رافقتني منذ خروجي إلى الدنيا ، ولا زالت تجرّني إلى خنادق الخيبة والمرارة ، تحفزتُ للإجابة بانفعال واضح ، اعتدلتُ في جلستي ، وبدلا من إظهار حسنات الحاج إبراهيم والالتفات إلى علب الحلوى التي يوزعها على الفقراء ، ذهبتُ لكشف الوجه الآخر له :
ـــ يابهيجة ، اسمعيني جيدا ، الحاج إبراهيم يريدنا أن نقبـّل يديه كلّ صباح ليرضى عنّا .
ـــ وماذا يضيرك لو قبلت يده كلّ صباح .
قالتها بطريقة مرحة ، فأجبتها باستياء واضح :
ــ لستُ عبداً لأفعل ذلك .
أطلقت ضحكة عالية ، وأردفت تقول :
ـــ قبّل يديه كلّ صباح ، وسأتكفل بإرجاعها إليك كلّ مساء ، مع قبلات من معك .
الجفاف يدحرُ رغبتي بالاستمرار في هذه الحديث ، وبهيجة تضعني في متاهات الشكوك التي لا أريد الاقتراب منها ، وعندما رفعت رأسي وجدتُ البريق المتدفق من عينيها وشفتيها قد أصبح رماداً ، أدركتُ وأنا في تلك الحالة أنّ القبح والجمال يجسدّه الوضع النفسي الذي أنا فيه ، وعليّ اختصار الوقت والخروج خوفا ًمن تسرب الشك حول هذه المرأة الرائعة التي كانت أمها صديقة لأمي الراحلة .
أحستْ بهيجة بالذي يراودني ، قامتْ من مكانها وجلستْ بقربي ، وبلهجة الآمر سمعتُ صوتها :
ـــ اسمعْ أيها العفريت ، ستكون غدا ً في مصنع الحاج ، وستجد هناك ما يسعدك ويرضيك .
قالتها بطريقة أوحتْ لي أن اللقاء قد انتهى ، فقمتُ متعثرا ً، مددتُ يدي إليها ، ضغطتْ على أصابعي ، لم يراودني شعور مريض رغم إحساسي بنعومة ودفء كفـّها المعانقة لكـّفي ، وعندما صرت خارج البيت بدأت أتنفس بعمق .
في المساء ، كانت حركة الفئران تجوس في غرفة نومي ، أتابع تحركاتها المشبوهة وهي تنتقل من مكان لآخر ، ربما كانت تلعب فيما بينها لعبة ( الغميضة ) ، أو تتخاصم على هيئة أحزاب وتكتلات ، وقد يضاجع بعضها البعض من أجل أن تستمر الحياة ، فانا أجهل أسرار حياة هذا الحيوان كما هو جهلي بأسرار اللعبة التي أنا أحد أطرافها .
في الليل أخذتُ كأسا ًمن الخمر أعقبـْتها بكأس أخرى ، ومع اشتداد غليان الأفكار ، شعرتُ بالنعاس ، استجبتُ فورا لهذه الرحمة القادمة من السماء ، ورحتُ في نوم دون أدفع إلى معدتي الخاوية شيئا من الطعام .
في الصباح أول ما وقع نظري على الساعة الهاجعة فوق رأسي ، كانت تشير إلى الثامنة صباحا ، انتقل بصري إلى باب غرفتي ، كان ضوء الشمس يغسلُ مدخلها ، نهضتُ سريعا ، ارتديتُ ملابسي على عجل وخرجتُ إلى المقهى ، تناولتُ فطوري دون شهيّة ، واحتسيتُ قدحاً من الشاي ، وقبل أن أطلب قدحا آخر ، دخل احد العمال ليخبرني بضرورة مقابلة الحاج الحلواني ، أسرعتُ وإيـّاه إلى المصنع وأنا فخور بما فعلته بهيجة ، حيث أثمرت وساطتها ، وجاء فعلها بأسرع ممّا توقعت ، تركني العامل عند باب إدارة الحاج وأسرع ليلتحق بعمله ، وبقيتُ واقفاً لا تفصلني عنه سوى المسافة الممتدة من الباب إلى كرسيه الجلدي الكبير الأسود اللون ، رفع رأسه فأطلّت ابتسامة لم أعهدها منه سابقا ، نهضَ من مكانه ومدّ يده مصافحاً فأسرعتُ لأشدّ على يديه واعتذر لهذا التواضع الذي لا يخرج إلا من إنسان نبيل ، أمرني بلطف بالجلوس على المقعد القريب منه وابتسامته ظلّت متعلقة بين شفتيه :
ـــ أهلا أيها العفريت ، سأنسى ما حدث ، ولن أعاتبك على تركك العمل .
بداية مفرحة رغم ما فيها من كذب ، ولكي يستمر الحديث ، أجبته بصوت ذابل :
ــ لم أترك العمل ياحاج ، بل خرجتُ مطرودا منه .
ضحك الحاج ، فخرجت أسنانه بهيئة ممتازة ، وأردف يقول :
ــ أرجو ألا يزعجك غضبي ، فالحياة أصبحت غير الحياة التي نعيشها سابقا ،.
كتلميذ غبي ، قلتُ باستسلام :
ـــ هذا صحيح ياحاج .
ـــ وعليك من الآن الاستمرار في عملك ، وأن تكون ساعدي وعوني في إدارة المعمل .
ـــ سأكون عند حسن ظنك ، وأرجو أن يرضيك عملي .
أخرج رزمة من النقود ، وضعـها على المنـضدة ، وهو يقول بلطف :
ـــ هذه أجور أتعابك السابقة مع حلاوة المصالحة ، ولن أوصيك بعد الآن بالحرص ومتابعة العمل .
ترددتُ في أخذ المبلغ ، الا أنّ نظراته وإشارته السريعة جعلتني أسرع في خطف رزمة النقود ، وأنا أدعو له بالموفقية والخير ، وأبتهل إلى الله أن يزيد من أمثاله المحسنين .
بقيتُ في عملي أنعمُ باحترام صاحب المصنع وأبذل كلّ ما بوسعي من تحقيق ما يصبو إليه الحاج ، بعدها أصبحتُ مراقبا للعمال ، وقد منحتُ صلاحيات جديدة شملت الإنتاج والتسويق ، ولم يعد هناك توبيخ أو زجر للعمال ، وأصبح وضعي المالي يسيرُ نحو ادخار الفائض من النقود التي أضعها في صندوق معدني صغير وأحكم إغلاقه خوفاً من سطو الفئران عليه .
حاورتُ نفسي ذات ليلة ، ومن يملك بيتا مثل بيتي لا يجد غير نفسه ، يحاورها ويستأنس معها في الليل ، وأمام الكأس الفارغة نصفها ، قلتُ لنفسي : ماذا يحدث لو قمتُ بدعوة جميع الفئران لإحياء حفلة كبيرة نتبادل فيها الأنخاب ونرقص سوية على إيقاعات العناكب التي تحتل سقف الغرفة ، بعدها نتناول طعامنا على مائدة طويلة حافلة بكل أصناف الطعام والشراب وعلب الحلويات الشهية التي ينتجها مصنع ( الإيمان ) لصاحبه الحاج إبراهيم الحلواني ، وبدأتُ مع نفسي نرسم صور الحفل المثير وخيالي يلتقط بعدساته صوراً مبدعة لهذا الحفل الساهر ، إلا أنني انتبهتُ فجأة إلى الخطر الذي ينتظرني لو تركت العنان لخيالي ليذهب إلى أكثر من ذلك ، حاولتُ إطلاق الإشارة إلى نفسي ، بدأتُ أدير دفـّة الحوار إلى جهة أخرى ، بوصلتي اتجهت إلى بهيجة الخبـّازة دون غيرها ، ليس لي ذنب بذلك ، ربما قادني العقل الباطن إليها أو إحساس بالتقصير ، فمنذ رجوعي إلى العمل وأنا لم أطيّر لها كلمة شكر على ما قامت به من جهد كبير ، ولابدّ من زيارتها ، هكذا تساءلتُ مع نفسي ، أقفُ عند بابها ، أقدّم لها امتناني وأقفل راجعا إلى البيت ، بدأت بالتفكير على اختيار الوقت المناسب لهذه الزيارة ، وأخيرا وصلت إلى أنّ يوم عطلتي سيكون موعدا للزيارة المقبلة ، وما دام الله قد خلق الليل للستر فلابدّ من زيارتها بعد العشاء ، سوف أقسم لها أنني تناولت عشائي .
في صباح اليوم التالي ، وأنا في طريقي إلى المقهى ، التقيتُ ببهيجة عند نهاية الزقاق ، اعتذرتُ لها وقدمتُ شكري ، وأضفتُ قائلا :
ــ البارحة كنتُ أفكّر بزيارتك يوم عطلتي .
لم ألحظ ردة فعل بدرت منها ، فواصلت :
ــ قررتُ أن أزورك ليلا لأشكرك على جميل عملك .
اشراقة وجهها جعلتني أهرب بنظراتي إلى الأسفل ، كان صوتها نديـّا عندما فتحت فمها :
ــ لا عليك ، سأنتظرك الساعة الرابعة من يوم عطلتك ، فقد تعودت على النوم مبكرة منذ زمن بعيد .
لم تترك لي غير ابتسامة عذبة ملأت الزقاق وغادرتْ المكان ، وعندما لم أجدْ أحدا غيري ، قلتُ بصوت مسموع :
ـــ العفريتة بهيجة ولست أنا !!!
في المقهى الصغير لم أنتبه لثرثرة العمال ، أعرفهم جيدا ، رؤوسهم تتغذى من بطونهم ، وطموحاتهم لا تتعدى لقمة العيش ، وأنا في تلك اللحظة أمتلكُ شهية ًعلى التهام العالم بأسره ، تناولتُ فطوري متلذذا به ، وتفننتُ في احتساء قدح الشاي ، وانطلقت بعدها إلى العمل .
في عطلتي نهضتُ صباحا ، اشتريتُ ثياباً جديدة ، ذهبتُ بعدها إلى الحمّام الذي يقع قريبا من بيتي ، وعند الساعة الرابعة وصلتُ بيت بهيجة بهيئة توحي للآخرين أنّ العفريت يعني الرجل الذي لا يـُغلب .
استقبلتني بهيجة استقبالا جعلني أطيرُ من الفرح ، وكانت راضية على ما أنا فيه من أناقة ، إنها لم تقل ذلك ، نظراتها هي التي نطقتْ بهذا ، قالت بعد أن وضعتْ أمامي علبة من حلويات ( الإيمان ) :
ـــ لقد عرفت السبب الذي من أجله طردك الحاج إبراهيم .
بهيجة طيّرت الفرح الذي كان يغمرني قبل قليل ، وبدأت حباّت من العرق تتجمع على جبهتي لتكشف أمامها فضيحة جديدة ، صوّبتْ نظراتها إلى مركز الفضيحة الكامن في ارتعاش شفتي ونظراتي التائهة ، فاستدركتْ تقول بصوت ضاحك :
ـــ أنت حر فيما تفعل ، فلا تبتئس لذلك .
لم ينقذني قولها ممّا أنا فيه ، حاولتُ الهرب من أمامها ، وعندما جلستْ بقربي امتلأ أنفي برائحة العطر المنبعث من جسدها ، كان شبيها برائحة العطر الذي ملأ أنفي عندما جلست بقربي تلك المرأة التي بذلت جهدا كبيرا والتي رفضت استلام أجرة أتعابها ، حاولتُ التذرع بأية ذريعة للخروج من المكان ، أدركتْ بهيجة حالتي ، سمعتُ ضحكتها وهي تقول :
ـــ كنْ رجلا أيها العفريت ، فأنتَ في عالم لا يرحم .
أطلقتْ ضحكة أخرى وخرجتْ ، مسحتُ جبهتي بذيل قميصي الجديد ، وعندما عادت كانت تحمل قدحاً كبيرا من البرتقال ، وضعته أمامي وهي تمطرني بالأسئلة وتنبش في البئر العتيق ، اضطررتُ بعدها من إعلان رغبتي بالمغادرة إلا أنّ بهيجة طلبت منّي التريث قليلا وخرجتْ مسرعة ، التفتّ إلى الدمية المركونة على المعرض ، كانت مغمضة العينين ، وفي الطابق الأسفل وقع نظري على علبة من حلويات مصنع ( الإيمان ) لصاحبة إبراهيم الحلواني ، دخلتْ بهيجة حاملة كيسا كبيرا أسود اللون ، أخرجتْ منه قنينة عطر وضعتها أمامي ، بعدها أخرجتْ ربطة عنق حمراء اللون ذات خطوط عريضة سوداء ، التفتت إلى العطر وقالت بصوت راقص :
ـــ هذا العطر باريسي المنشأ ، وهذه ربطة عنق أراها تلائم ما ترتديه ، وهذا ( وأشارت إلى داخل الكيس ) صديقك الذي أخجلك قبل قليل .
أدخلتْ ما أخرجته ، وتابعتْ قائلة :
ـــ لا شيء يعوزك الآن سوى حذاء جديد ، وتأكد أن ما تملكه سيجعلك شخصية مرموقة في هذا المجتمع .
الرغبة في الخروج لم أستطع معها تقديم كلمات الشكر التي اختنقت في فمي ، ورنين الهاتف مهّد لي طريق الخروج بشكل مريح ، وعندما دخلتُ البيت بدأتُ بتأنيب ذاتي ، امتلكني غضب شديد على هذا الضعف الذي يقودني إلى السخرية ، بصقتُ في وجه العفريت ، وصوت بهيجة يهدر في دمي عندما قالت : ( أنت في عالم لا يرحم الضعفاء ) ، قررتُ وفي أوج غضبي أن أكون عفريتا ، ابتهلتُ إلى الله على تحقيق ما أريد ، راجعتُ سجّل فشلي فزادني قناعة على اتخاذ مثل هذا القرار ، هتفتُ بقوّة بحياة العفريت .
امتدت يدي إلى الكيس الأسود الكبير ، أخرجتُ قنينة العطر وربطة العنق ، وسحبتُ قنينة كبيرة ، تأملتها جيدا ، كانت من الويسكي الاسكتلندي ، مربعة الشكل ، طرحتها جانبا وباشرتُ بتحضير الكأس الأولى من الخمر ، وبعد صمت قصير أردت من خلاله ممارسة طقوسي بما يتلاءم مع قراري الخطير ، رفعت صوتي قائلا بحماسة : بصحة كلّ الفئران التي تقاسمني حياتي نشرب نخب انتصار العفريت .
نهضتُ صباحا قبل دقـّات ساعتي ، الدوار الذي يحتلّ رأسي أكلتـْه همتي القوّية ورغبتي العارمة في تحقيق الشخصية المرموقة ، ارتديتُ ملابسي بتمهل وخرجت أتبختر بخيلاء قاصدا المقهى الصغير وبعدها إلى المصنع .
في فترة الظهيرة ومع حلول فترة استراحة العمال ، سمعتهم يتحدثون عن فضيحة ( أبو الخير ) صاحب المطحنة ، وكيف ألقت الشرطة القبض عليه وهو متلبس بجريمة خلط علف الحيوانات بالطحين وبيعه للفقراء ، أحدهم تحدث عن مشاهدته لأكياس الطحين المتعفن التي تمّ إخراجها من المطحنة ، آخر اجتهد في تصويره المذل وهو يقاد إلى مخفر الشرطة وسط شماتة الفقراء والمحرومين الذين لا يملكون غير الشماتة للتعبير عن اضطهادهم والظلم الواقع عليهم من قبل هؤلاء ، الذاكرة اللعينة استلت سيفها ولم يعد بإمكاني مشاركة العمال حديثهم ، كنتُ مهتما بالزندقة التي رماني بها صاحب المطحنة الشيخ المتصابي ( أبو الخير ) ، بقيت وحدي أرسم خارطة الحدث ووحدي أضعُ النقاط الحمراء على مساراته المتعرجة ، فليس من الحكمة أن تفشي الأسرار المضطربة في رأسك ، هذا ما نصحني به أستاذي عندما كنتُ امثل دور الفيلسوف الصغير في الجامعة ، طلبتُ من العمال التوجه إلى أعمالهم بعد انتهاء فترة الاستراحة وبقيتُ أسترجعُ الماضي الذي قضيته مع ( أبو الخير ) في مطحنته ، الرحلة التي أرغب تقليب صفحاتها قطعها نداء الحاج إبراهيم الحلواني ، أسرعتُ إليه مخلفا ورائي مشاهد تكدست بعضها على البعض الآخر ، كانت ملامحه مكفهرة ووجهه عبوس وعيناه تنتقلان في فضاء غاضب ، دفع لي أجور العمال وتأكد من إقفال صندوقه الحديدي وهمّ بالخروج ، إلا أنّ رنين الهاتف جعله يعود مسرعا ، رفع سماعته وبصوت خافت كان يتمتم مع محدثه ، بعدها بدأت ملامحه تلين وصوته يميل إلى الرقّة ، وأطلق ضحكة عالية وهو يـقول بحماس :
ـــ حسنا فعلت ، فالجميع يعرف مكانة وسمو أخلاق ( أبو الخير ) .
أطلق ضحكة أخرى ، ألحقتها كلمات مصبوغة بالغضب الكاذب :
ـــ هذا الوغد يجب معاقبته بشدّة فقد ألحق بالشيخ ضررا كبيرا .
عند وصولي إلى البيت ، كنتُ راضيا عن نفسي رغم الكآبة التي أفرزتها حادثة ( أبو الخير ) ، كنتُ أتمتع بمعنويات عالية على اجتياز أنهار التردد ، استبدلتُ ثيابي وبدأتُ أهيئ مائدتي الليلية وصوت الفئران يصلني كأصوات قادمة من قيثارة معطوبة ، وطرقات على الباب كنتُ أظنها امتداد للأصوات النشاز داخل غرفتي ، بدأت الضربات على بابي تأخذ استقلاليتها ، نهضتُ مسرعا إليها ، كنتُ في وضع نفسي رائع لاستقبال المرأة التي جعلت العفريت يبصق على نفسه ولم تأخذ حقّ أتعابها ، ربما تكون بهيجة أو غيرها ، فتحت الباب بلهفة ، الواقفة أمامي امرأة لم أتبين ملامحها بادئ الأمر ، امرأة من صنف آخر ، صوتها الذليل المنكسر لم يترك لي فرصة التعرف عليها عندما سمعتها :
ـــ الحمد لله الذي وجدتك في البيت .
المفاجأة عقدت لساني لم أستطع ساعتها غير القول بتردد :
ـــ خير إنشاء الله .
ـــ صديقك مسعود أودعوه السجن بتهمة ألصقها به صاحب المطحنة .
لم أتمالك نفسي ، صرخت بحقد :
ـــ مسعود !!! وماذا فعل ؟
صوتها الباكي يطعنني في الصميم :
ـــ لقد ضربوه وتمّ اعتقاله بتهمة بيع الطحين الفاسد للفقراء .
بذهول وإرباك ، سألتها :
ــ وماذا تريدينني أن أفعل في هذا الليل ؟
انخرطت في بكاء مرير :
ــ طلب مني الذهاب إليك وإخبارك بما حدث .
اللعبة بدتْ واضحة ، والأمور لا تحتاج المزيد من التفكير ، ومسعود صديق طفولتي وزميلي في المدرسة يرسل أمه مستغيثا بي ، وهذه الساعة قد حلّت لوضع العفريت أمام الامتحان الصعب ، ومعنوياتي لا زالت عالية وقراري هو الآخر ساخنا متوهجا ، وفي حوزتي هذه الساعة ما تحتاجه الشخصية المرموقة باستثناء الحذاء الجديد وهذا غير مهم في هذا الوقت ، ولابدّ من حسم الموقف سريعا ، انتبهتُ إلى المرأة المدعوك وجهها بالخوف والدموع ، رفعتُ رأسي إليها ، وبلسان الشخصية المرموقة أطلقتُ أوامري بلهجة صارمة :
ــ ارجعي إلى البيت ودعيني أعالج هذا الموضوع الآن .
لم أسمع ما قالت لي ، بقي الباب مفتوحا بوجه الريح ، دخلتُ مسرعا ، استبدلتُ ثيابي بثياب الشخصية المرموقة ، ربطة العنق كانت تزيـّن رقبتي وتنزل على صدري كوسام متألق من أوسمة القادة الكبار والعطر الباريسي المنشأ يطرد من أمامه كل محاولات الشك والريبة في أن القادم خطير ومن طراز الرجال الرجال ، ولم يدم الأمر طويلا ، خرجتُ من البيت مسرعا وأنا مصمم على اجتياز الامتحان بامتياز ، خطواتي تتسع بفعل اتساع إرادتي في تحقيق الفوز ، دخلتُ الزقاق المؤدي إلى بيت بهيجة الخبّازة ، وفي تلك اللحظة التي كنت فيها في عنفوان تألقي حدث ما لم يكن في الحسبان ، صاحب الفندق الذي كنتُ عاملا فيه يخرج من الطرف الآخر للزقاق ، كانت مفاجأة لم تدخل في حساباتي ، وبدلا من الهروب استدرتُ إلى الجهة التي دخلتُ منها وبدأتُ أراقب ما يحدث ؟ رأيت صاحب الفندق الذي اتهمني بالزندقة يدخل إلى بيت بهيجة كما يدخل بيته ، أطبق بعدها صمت على الزقاق ، بدأت الشكوك تقرض عزيمتي التي كنتُ أتمتع فيها قبل قليل ، والرجوع خطوة إلى الوراء يعني رفع راية الهزيمة والخسران ، ولابدّ من التغلب على ما أنا فيه فالشخصية المرموقة تحتاج إلى قليل من الشجاعة ولديّ من السلاح ما يكفي إذا ما أضفت إليه هذا القليل من الشجاعة ، تقدمتُ خطوة إلى الأمام تبعتها بخطوة أخرى وأمام بيت بهيجة الخبازة التي كانت أمها صديقة لأمي نقرتُ على الباب ، لم أسمع جوابا ، نقرتُ مرة أخرى ، أتتني حركة من وراء الباب ، وقبل أن يصلني صوتها نـطقتُ بصوت شعرتُ بشجاعته وأنا أنادي :
ـــ بهيجة ، أنا العفريت ، أرجو أن تفتحي الباب .
أطلَت بهيجة بوجهها فقط وجسدها كان مختبئا وراء ضلفة الباب الأخرى ، لم امنحها فرصة للحديث :
ـــ أنا اعتذر عن مجيئي هذه الساعة ، ولكني مضطر إلى ذلك ، فسامحيني .
عقدت حاجبيها بدهشة ، وانفرجت شفتاها قليلا ، وبغرابة تساءلت :
ـــ ما الذي حدث ؟
ـــ أنتِ تعرفين ( ابوالخير ) صاحب المطحنة فقد تمّ ضبطه متلبسا بجريمة بيع الطحين التالف والمخلوط بعلف الحيوانات .
ببلاهة وعدم اكتراث ، أجابت :
ـــ أعرفُ ذلك .
أرادت أن تكمل إلا أنني قطعت عليها ما تريد قوله :
ـــ وأنتِ تعرفين أنه خرج من التوقيف بريئا بعد أن البسوا فعلته برأس مسعود ابن مجيد .
بدتْ ضجرة من هذا الاسترسال ، أجابتني بصوت يشي بالملل :
ـــ وما علاقتك بكل ما حصل ؟
ــ أم مسعود جاءتني قبل قليل وهي في حالة بائسة ، وأنت تعرفين أمه التي كانت صديقة لأمك العزيزة ، كما تعرفين مسعود صديق طفولتي ورفيقي في صباي وأمام ما حدث لا املك غيرك يابهيجة .
نظرات بهيجة تتنقل بين رأسي وتنزل إلى قدمي ، وابتسامة باهتة رأيتها تخرج من شفتيها عندما وقع نظرها على ربطة العنق ، وهذا ما شجعني على التواصل في القول :
ـــ أستحلفك بروح أمك أن تكوني كما عرفتك ، وأن تقفي إلى جانبي فأنا في امتحان صعب وأريد الخروج منه بنجاح .
أطلقت بهيجة ضحكة عالية جعلتني أدير رأسي إلى جهة الزقاق خوفا من أن يسمعها أحد ، ثمّ قالت بصوت ضاحك :
ــــ غدا سيخرج صاحبك من السجن ، ففي هذا الليل لا يستطيع أحد أن يفعل شيئا .
بدأت المعركة تشتد ضراوة ، وأنا لا أريد الاستسلام ، أجبتها بحماس :
ـــ أرجوك يابهيجة ، أريد خروجه هذه الساعة ، ففي الليل تستطيعين فعل كل شيء
بهيجة غير مصدقة أنّ العفريت هو الذي أمامها ، سمعتـُها تقول بغنج :
ـــ ولماذا أنت عجول ، دعه يقضي ليلته في السجن وفي الصباح اذهبْ إليه لتخرجه بكفالة .
ــ لا يابهيجة ، أريده هذه الليلة ، فقد أعددتُ له سهرة نقضيها أنا وإياه ومجموعة من الأصدقاء فلا تفسدي عليّ هذا الحلم الجميل .
ضحكة بهيجة وصلتْ إلى نهاية الزقاق ، وصرخاتي وصلت إليها ممزوجة بالرجاء والتوسل ، قالت بهيجة بمرح :
ـــ اذهب إلى بيت الحكومة ، سأتصل بهم الآن ، وستجد هناك من يعاملك بلطف ، ولا تنس حفلتك هذه الليلة .
أطلقت ضحكة أخرى لم انتبه لها ، مددتُ يدي مصافحا والكلمات تتقافز على شفتي ، وبلهجة مضحكة لا تليق بالرجال ، قلت لها :
ـــ اعذريني يابهيجة على تصرفي هذا ، وعلى إزعاجك في هذا الليل ، فأنا أعرفك تنامين مبكرا منذ زمن بعيد .
ضحكة أخرى سمعتها دون أن أسمع ما قالت ، تركتها تغلق الباب ، وأسرعتُ إلى بيت الحكومة .
عند الباب الحديدي العريض المكوّن من ضلفتين كبيرتين ، وعلى ارتفاع شاهق انتصب شعار الدولة ، اتجهتُ إلى النافذة المزروعة على الجهة اليمنى من الباب ، خرج منها رأس الحارس عندما شعر بخطواتي تقترب منه ورائحة العطر تسبقني إليه ، طلبتُ منه نقل أسمي إلى الضابط الخفر ، تردد بادئ الأمر إلا أن مظهري وربطة العنق المتدلية من رقبتي جعلته يختفي بسرعة ويعود قائلا بتملق واضح :
ـــ تفضل أستاذ .
باغتتني ضحكة ضغطت ُعليها حتى أصبحت بحجم الابتسامة العريضة ، كان يسير أمامي وعندما اقترب من أحد الغرف أومأ لي بيده ورجع إلى مكانه ، كان الضابط يهيئ نفسه لاستقبالي ، هذا ما لاحظته وهو يقف أمام مرآة وضعت في الزاوية المحاذية للباب ، وقبل أن أخطو إلى الداخل خرج لي وهو يمد يده بطريقة عسكرية مرحبا :
ـــ أهلا أستاذ ، تشرفنا بزيارتك .
أدخلني إلى غرفته ، وسحب لي مقعدا يتسع لشخصين بينما جلس بقربي على مقعد صغير ذي مسندين ، وقبل الحديث عن سبب زيارتي له ، فاجأني بقوله :
ـــ سيخرج المتهم هذه الليلة ، وسأتحمل مسؤولية خروجه في هذا الوقت ، أرجو أن تأتي به صباحا لنعمل له كفالة يخرج بموجبها .
وقبل تقديم الشكر له ، نادى على احد الحراس ، وأمره بإحضار المتهم مسعود مجيد ، وعندما غاب الحارس ، ابتسم قائلا :
ـــ أعلم أن ما أقدمه لا يستحق الشكر ، هذا واجبنا وأنا سعيد بخدمتك أستاذ .
شكرته ، وتنازلت قليلا بحيث ضغطتُ على أصابعه بقوّة أثناء مصافحتي له ، وأخذتُ صاحبي وخرجت .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف