
رحلة إلى الأعماق
رواية من الخيال العلمي
نزار ب. الزين*
الفصل الثاني
لم يطل قلقهم طويلا
" أنه مدخل كهف عملاق آخر !" صاح الدكتور مجدي فرحا!
" شيء لا يصدق يا إخوان ، المجسات تؤكد أن حرارة الكهف لا تزيد عن 40 درجة مئوية ، و الهواء فيه مليء بالأكسيجين " أضاف الدكتور عبد الله ...
فرد الدكتور مجدي : " أمر غريب نحن على عمق خمسين كيلومترا تحت سطح المحيط الأطلسي ، و الأكسيجين متوفر ؟؟!! ذلك سيقلب جميع معارفنا الإنسانية رأسا على عقب ، هذا يعني أن الكهف صالح للحياة ، دعونا نتجول قليلا فيه و نريح أقدامنا المتعبة ، و ما يدرينا فقد نعثر على مخلوقات من نوع ما ! "
فأجابه الدكتور حمود : " قد تكون تلك المخلوقات من فئة الداينصورات ، فعلينا أن نكون متيقظين و ألا نبتعد عن المركبة !"
و ما أن هبطوا من المركبة حتى لجمت ألسنتهم مفاجأة لم تخطر على بالهم ، كان الكهف مضاءاً بإنارة لم يتمكنوا من معرفة مصدرها و مزدانا بعشرات اللوحات الفسيفسائية تفصل بينها أعمدة رخامية تتصل في أعلاها بأقواس تشبه أقواس قصر الحمراء في غرناطة الأندلس ، أما أرض الكهف فقد رصفت بالحجارة المنحوتة ..
تساءل الدكتور هشام مشدوها : " هل من المعقول أن نكون أمام مدينة ما أو جزيرة ، غاصت نتيجة زلزال ، و بقيت مبانيها على حالها على هذا النحو ؟ ما رايك يا دكتور مجدي ، هل يمكن علميا أن يقع مثل هذا الأمر البعيد عن كل معارفنا ؟ أفدني يا دكتور مجدي ، هل سمعت أو قرأت عن مثل هذه المعجزة التي نراها ؟ "
أجابه الدكتور مجدي و هو لا يقل شعورا بالذهول عن زملائه : " قد يحدث أن تغوص مدن أو جزر و لكنها تبقى في قاع البحر و لكن ليس تحت خمسين كيلومترا من قاعه ؛ لقد تم اكتشاف بقايا الإسكندرية القديمة قرب سواحلها و لكنها كانت خرائب ، و ادعى روبرت سارماست و هو عالم أمريكي مؤخرا أنه اكتشف خرائب جزيرة أطلنتس التي تحدث عنها أفلاطون ، و لكنه قال أنها مجرد آثار مدينة و ليست مدينة سليمة ..."
ما أن أكمل الدكتور مجدي جملته ، حتى سمعوا جميعا صوتا أرعبهم : " أنتم الآن في أتلنتيا " ثم اضاف : " أتلننتيا و ليس أتلنتس ، و شعبها يرحب بكم ، تقدموا بمركبتكم خمسمائة متر و ستروننا في استقبالكم ! " .
نظروا إلى بعضهم بعضا و قد عقدت الدهشة ألسنتهم ، ثم قال الدكتور حمود لزملائه : " هيا مِمَّ نخاف ؟ الصوت بدا آدميا و ودودا ، و بالتأكيد نحن لا نحلم ! "
أجابه الدكتور هشام و قد ارتعش صوته لرهبة الموقف : " يا إخوان نحن نعيش الآن معجزة حقيقية ! "
هبطوا من المركبة ثانية ، عندما وجدوا أنفسهم أمام بوابة ضخمة ، ما لبثوا أن سمعوا صوتها و هي تفتح ببطء ، ثم بدؤوا يلمحون بشرا حقيقيين ، نساء و رجالا ، في غاية الجمال ؛ طول فارع يعادل 150% من الطول المتوسط للبشر ، شعر يميل إلى الحمرة ، عيون واسعة عسلية اللون ، ، الرجال منهم يرتدون ثيابا بيضاء مكونة من قطعتين ، سروال قصير و قميص ( نصف كم ) مزين بزخارف هندسية يتوسط ، بينهما حزام جلدي مزخرف ، و في أقدامهم نعالا خفيفة ترتفع إلى ما فوق الكاحل ، مزينة بزخارف شبيهة بزخارف الحزام ، أما النساء فقد ارتدين ملابس زاهية الألوان بلا أكمام ، و طويلة تكاد تلامس الأرض ، و قد زينوا صدورهن بعقود اللؤلؤ و المرجان.
تقدم منهم ما بدا أنه كبير القوم ثم ما لبث أن قال لهم من خلال جهاز بدا و كأنه جهاز للترجمة الفورية : " مرحبا بكم ، هذه هي المرة الأولى التي يشرفنا فيها بالزيارة سكان من سطح الأرض ، و لا بد أنكم تملكون تقنية عالية الكفاءة مكنتكم من الوصول إلى أطلنتيا ."
تقدم الدكتور حمود - و قد استطاع التغلب على دهشته الشديدة – تقدم منه ، ثم مد يده راغبا في مصافحته ، و بعد تردد منه مد الآخر يده ثم تشابك مع حمود بمصافحة حارة و هو يضحك ، ثم ما لبث أن شده نحوه معانقا ، و تنكرر ذلك مع بقية رفاقه ؛ ثم بدأ الدكتور حمود يعرفه بأصدقائه العلماء و بتخصصاتهم ؛ في حين كانت الحشود من حولهم تردد ما يشبه الأهازيج الترحيبية ، و قد تزينت وجوههم جميعا بابتسامات عريضة ملوحين بايديهم مرحبين.
سار بهم كبير القوم مسافة بسيطة ثم تقدمهم صاعدا درجات مايشبه أهرامات ( المايا ) و لكنها مبنية من الرخام ، ثم ولجوا جميعا إلى قاعة كبرى التف حولها مدرج جلس عليه عشرات من النساء و الرجال ممن بدوا أنهم وجهاء القوم ، عرَّف بهم مضيفهم على أنهم نواب شعب أتلنتيا ، فقوبل الدكتور حمود و صحبه بتلويح الأيادي و صيحات الترحيب .
بعد أن رحب بهم رئيس المجلس ، توجه بهم مضيفهم إلى قاعة مجاورة التف حول مائدة بيضاوية الشكل مصنوعة من من الرخام النفيس ، عشر نساء و أربعة رجال ، عرفهم مضيفهم على أنهم وزراء أتلنتيا و أنه شخصيا رئيسهم .
ما أن جلس الضيوف حتى انهالت عليهم الأسئلة ؛ كيف وصلوا و كيف تمكنوا من اختراق المحيط ، و من أي منطقة في العالم جاؤوا و ماهو هدفهم ، كان كل منهم يجيب على أحد الجوانب ، فقد أوضح لهم الدكتور مجدي أن مجموعتهم علمية بحتة ، و أنها لم تكن تفكر إطلاقا بالبحث عن حضارة أتلنتنيا أو آثارها ، و أنهم إنما بلغوها بمحض المصادفة ؛ ثم شرح لهم هدف المجموعة و هو إثبات إمكانية اختراق باطن الكرة الأرضية بسرعة قياسية إذا توفرت المركبة المناسبة ، و أنهم قدموا من البلاد العربية و تحديدا من الإمارات العربية المتحدة و من أمارة دبي تحديدا ، و يهدفون إلى بلوغ أمريكا الوسطى ، و على الأرجح بلوغ إحدى جزر الكاريبي ، و بسرعة قياسية تتجاوز سرعة أية وسيلة ابتكرها البشر حتى الآن ، فنحن قضينا حتى الآن ثلاث ساعات و عشرين دقيقة و هدفنا أن نبلغ إحدى جزر الكاريبي ، في زمن يتراوح بين أربع إلى خمس ساعات .
ثم تناول الدكتور عبد الله الحديث مبينا لهم أنهم لهذا السبب لن يتمكنوا من المكوث أكثر من بضعة دقائق أخرى و إلا فشلوا في تحقيق هدفهم .
ابتسم أحد الوزراء قبل أن يجيبه من خلال جهاز ترجمته ، الذي يستعمل كل منهم مثيله : " أنتم ضيوفنا و لن نتخلى عنكم بالسهولة التي تظنون .!.."
ثم أضافت وزيرة أخرى : " في الحقيقة ، بلدنا ينقصه الذكور ، و عدد سكاننا في تناقص ، فنحن نرحب بكل ذكر يحضر لزيارتنا ، لقد بلغت نسبة الإناث 76% من مجموع السكان ، و هذا يهدد شعبنا العظيم بالانقراض ."
ثم تصدت وزيرة أخرى للحديث ، فقالت : " علامَ عودتكم إلى السطح ؟ و شعوبه لم يتمكنوا حتى الآن من التغلب على حيوانيتهم ، شعوب لا زالت متناحرة متنافسة متحاربة ، شعوب تملك من وسائل التدمير أكثر مما تملكه من وسائل التعمير ! "
أجابهم الدكتور هشام : " لهذا السبب اتحدنا نحن الخمسة ، و هدفنا الإسهام في تطوير العلوم و المعارف البشرية ، لكي يصبح للناس جميعا مصادر رخيصة للطاقة ، مصادر جديدة للمياه العذبة ، مصادر جديدة للمعادن ، لنحقق في النهاية ما يكفي كل البشر من الغذاء و الكساء و البيوت المريحة و المواصلات السهلة ، و نعتقد أنه إذا تحقق كل ذلك فإن الصراعات سوف تنتهي و أن العدالة سوف تسود ؛ أما إن بقينا في ضيافتكم - كما تطلبون – فإن كل جهودنا ستذهب أدراج الرياح "
ثم أضاف الدكتور حمود قائلا : " لا تنسوا يا أيها المحترمون أن لدينا أهلا و أصدقاء في انتظارنا على أحر من الجمر ، فإذا بقينا في ضيافتكم – كما تقترحون - فسيظنون أننا قُتلنا ، و أن رحلتنا فشلت ؛ و سنسبب لهم خيبة أمل رهيبة و حزنا كبيرا ! "
صمت الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، ثم ما لبث رئيس الوزراء أن قال لهم : " لقد اقتنعت بما تقولون و بأنكم بشر طيبون و أن أهدافكم نبيلة ، و لكنني أطلب منكم أمرين ، أولهما أن تدخلوا غرفة التاريخ لتتعرفوا على حضارتنا و علومنا و مقومات وجودنا لكي تتخلصوا من كل ما لُفِّق عنا من أقاويل ملأت كتب تاريخكم ، و ثانيهما أن تتعهدوا بعدم ذكر أي شيء عن وجودنا و مكاننا لأي إنسان على سطح البسيطة ، و إلا عرضتمونا لخطر فادح ، فهناك دول قوية و عدوانية فوق السطح ، قد تتمكن من الوصول إلينا و إيذائنا و تدمير حضارتنا المعمرة ، و التي بلغت خمسة آلاف سنة ، نعم خمسة آلاف سنة بدون حروب أو أي نوع من الصراعات ، نحن لا نحتاج للشرطة أو الجيش ، و لم يسبق أن تشاجر منا اثنان ، و حكومتنا التي ترون هي حكومة علماء و حكماء ، فإذا بحتم بسرنا فربما تكونون السبب في القضاء علينا ."
أجابه الدكتور حمود : " أعاهدك باسمي و بإسم إخواني بأن نَكْتم سركم ، و بأنكم بالتأكيد لن تسمعوا عن لساننا كلمة واحدة ، و لكن ليس لدينا وقت أكثر للاطلاع على ما تحويه غرفة التاريخ ؛ رجائي – و قد اقتربنا من النجاح – أن يحدثنا أحدكم بموجز عن تاريخ أتلنتيا و نحن في طريقنا إلى مركبتنا ."
في الطريق إلى المركبة و في وسط حشود شدها الفضول لمشاهدتهم ، كانت إحدى الوزيرات التي كلفت بمرافقة الضيوف العلماء ، كانت تحدثهم عن تاريخ أتلنتيا ، فقالت : " كنا نعيش في وسط المحيط الأطلسي و أقرب إلى الأمريكتين ، و كانت لنا علاقات تجارية مع مصر الفراعنة و بلاد الإغريق في الشرق ، و مع سكان المايا بعد ذلك في الغرب ، و كنا نحن وسطاء تجاريين بين هؤلاء و اؤلئك ، و قد حاولنا إقامة علاقات ودية مع الجميع و لكنهم أخذوا يقابلوننا بالعدوان ، ففي أواخر علاقاتنا بهم ، كانوا قراصنتهم يعتدون على سفننا التجارية و ينهبون ما فيها من بضائع ، ثم قَدِم إلينا الإغريقيون فوق سفنهم الحربية هادفين غزونا ، فأحرقناها عن آخرها باستخدام الليزر الذي لم يكونوا يعرفونه ، و الذي عرفتموه أنتم حديثا.
أما سكان المايا فكانوا أكثر توحشا ، رغم كل مظاهر التقدم التي كانوا عليها ، كانت لهم أبجديتهم الهيروغليفية و كانت لهم أهراماتهم التي اقتبسوها من أهرامات المصريين مع بعض التغيير ، كان سكان المايا بعرفون الأرقام و الحساب ، و كان لديهم إلمام بعلم الفلك ، و لكنهم كانوا دمويين ، فبينما كانت أهرامات المصريين القدماء مقابرا لملوكهم ، فإن أهرامات المايا كانت تستخدم لنحر الضحايا الأدميين ، أما أهرامتنا التي اقتبسها الطرفان منا فكانت مخصصة للبحوث العلمية ، أعود إلى المايا فقد كان كهنتهم يقيمون كل فترة احتفالات ينتقون خلالها أجمل الشبان أو الفتيات ، فيذبحونهم ذبح النعاج ، ثم ينتزعون قلوبهم و يقدمونها قرابين لإرضاء آلهتهم كما كانوا يزعمون ، و كانوا يخوضون على الدوام حروبا شرسة فيما بينهم أو مع جيرانهم ، و الحقيقة كنا نتوقع انهيار حضارتهم السريع كما حدث بالفعل .
و عندما اكتشف علماؤنا ، أن هناك بوادر حدوث زلزال كبير قد يغير خارطة الكرة الأرضية ، صنعوا فوق جزيرتنا قبة هائلة الحجم من لدينة قوية ، و قد شارك جميع السكان متعاونين في تدعيم البيوت و تقوية أساسات المباني العامة و أهرامات البحث العلمي ؛ ثم جهز علماؤنا الجزيرة أيضا ، بمولدات الطاقة التي ستستفيد من حرارة الأعماق ، لغرض الإنارة و استخلاص الأكسيجين و الماء العذب و الغذاء من مياه المحيط ، إضافة إلى تعديل حرارة الجو ؛ و انتظروا - من ثم - اللحظة الحاسمة ."
ثم أضافت بعد أن التقطت أنفاسها : " و حدث الزلزال الكبير و ابتدأت جزيرتنا تغوص في ماء المحيط بهدوء و كأنها فوق مصعد أحد الأبنية ، حتى بلغت القاع ، و بدون إلحاق الأذى إلا بالقليل القليل من الأبنية التي لا زالت في قاع المحيط حتى اليوم ، أما بالنسبة للأفراد فكان هناك عدد من الجرحى فقط ؛ و حدثت هذه الضرار البسيطة عندما استقرت جزيرتنا في قاع المحيط .
ثم ما أن استقر الوضع حتى ابتدأ الحفر نحو هذا الكهف الذي كان علماؤنا قد اكتشفوه قبلا ، و الذي أصبح مدينتنا المزدهرة كما ترون ، أما القبة فقد تآكلت بالتدريج بتاثير ماء المحيط المالح ، ثم أخذت الرمال تغطي ما تركناه من مبان . "
كانوا قد وصلوا إلى مركبتهم عندما قالت لهم مرشدتهم : " لا حاجة لكم للرجوع إلى أول الكهف ، فلدينا منفذ يؤدي بكم إلى قاع المحيط مباشرة ، تستخدمه مركباتنا الفضائية التي تطلقون عليها اسم الأطباق الطائرة أو ظاهرة الأجسام المجهولة ، نعم أيها السادة إن حضارتنا كانت متقدمة منذ خمسة آلاف سنة على الأقل و لم تقف عجلة تقدمنا لحظة واحدة ، فقد تمكنا مثلا و منذ البداية ، من اكتشاف وسيلة تلغي حاذبية الكرة الأرضية أو أي الكواكب الأخرى ، مما يَسَّر تنقلنا بين النجوم و الكواكب! "
تساءل الدكتور هشام متعجبا : " إذاً أنتم الذين دوختم العالم بأطباقكم مجهولة الهوية ؟! قال بعض البحارة أنهم شاهدوها تخرج من المحيط و لكن أحدا لم يصدقهم .. ! "
ضحكت المرشدة و هي تجيبه : " نحن من كنا نجوب بلادكم مستكشفين مدى تقدمها ، و مدى اقترابها من السلام الشامل الذي سبقناكم إليه منذ قرون، و أحيانا نختطف منكم بعض ذكوركم فيقيمون بيننا ضيوفا معززين مكرمين ، فكما أفادكم رئيس وزرائنا ، نحن نعاني من نقص حاد بالذكور ، و لهذا السبب قمنا باختطاف بعض طياريكم ، أو ركاب سفنكم ، أو مزارعيكم ، دون أن نسبب لهم أي أذى ، و قد عاشوا بيننا سعداء في غاية الرضا ، و منهم من لا يزال بيننا حتى اليوم ، لأننا تمكنا أيضا من إطالة أعمار البشر !" .
سألهها الدكتور حمود : " لديكم كل هذه التقنية و لا زلتم عاجزين عن حل مشكلة النقص الحاد في عدد ذكوركم ؟ " ابتسمت مرافقتهم و هي تجيبه :" بعد بحوث علمية و تجارب كثيرة تبين استحالة التلقيح الصناعي بسبب لا زلنا نجهله ، و إن كنا نعتقد أن للجاذبية الكبيرة التي نعايشها في هذا العمق دورا في هذه المشكلة ، و هو السبب نفسه الذي جعلنا أطول من البشر فوق السطح ، أي بالإختصار فإن بعض التغييرات البيوفسيولوجية طرأت على كينونتنا منذ هبطنا هذا الكهف الذي جددنا فيه حضارتنا ."
سألها الدكتور عبد الله : " كما فهمت منك ، فإنكم جُلْتم في الفضاء الخارجي أيضا ، فهل اكتشفتم حياة في أي كوكب غير كوكبنا الأرض؟! "
أجابته واثقة مما تقول : " لقد جبنا كل مجرتنا ( درب اللبانة أو التبانة ) من أقصاها إلى أقصاها ، و هي التي تضم ما يزيد عن 200 مليار نجم , و التي يزيد قطرها على 100 ألف سنة ضوئية ؛ ذلك أن علماءنا اكتشفوا خطوطا للجاذبية تمر بين النجوم ، و تسمح بالإنطلاق بسرعات تفوق أضعاف سرعة الضوء ، و النتيجة أننا لم نعثر فيها على كوكب واحد صالح للحياة كما كنا نأمل .
سالها الدكتور رياض مستغربا : " طالما أنكم تعيشون هذه الحضارة المتقدمة و تنعمون بالسلام الشامل ، و بالاستقرار الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي ، فما هو دافعكم لاكتشاف الفضاء؟"
أجابته بعد فترة صمت : " سؤالك في محله ، السبب أنتم ، أنتم من دفعنا لبذل هذه الجهود الجبارة و التكاليف الباهظة ؛ فبعد إلقاء قنبلتي هيروشيما و ناغازاكي النوويتين ، و ما تبعهما من تجارب نووية ، شعرنا أن الكرة الأرضية باتت تحت خطر الفناء ، فقد تنحرف عن مسارها بسبب ردات الفعل العكسية ، و قد يتلوث جوها كله بالإشعاعات النووية ؛ و لهذا السبب كثفنا بحوثنا في الفضاء على أمل العثور على كوكب ملائم نهاجر إليه ، هناك كواكب كثيرة صالحة للحياة ، و فيها مخلوقات بعضها أرقى من البشر و بعضها أقرب إلى الحيوانات ، و لكن لم نجد شبيها لكوكب الرض .
إن البشر منذ تواجدوا فوق هذا الكوكب ، و هم يتخيلون الفردوس ؛ الفردوس يا سادة بين أيديكم ، الفردوس هنا في كوكب الأرض لو أحسنتم رعايته و تعلمتم أخلاق التعايش فيه ، كوكبنا لا مثيل له في كل مجرتنا المحتوية على ملايين النجوم و الكواكب ، لا مثيل لمناخه ، لتنوع مخلوقاته من حيوان أو نبات ، لألوان أزهاره و أطياره و فراشاته و أسماكه ، لمناظر جباله و بحاره و أنهاره و بحيراته الخلابة ، لخيراته الوفيرة ؛ و لكن ناسَكم للأسف لا يدركون ذلك و لا يقدرونه ، بل يسعون لتدميره بالتلوث البيئي و الأخلاقي معا ، من تعصب عنصري إلى استعباد قويِّكم لضعيفكم ، إلى حروبكم المدمرة التي تشعلونها لأتفه الأسباب ، و التي لا تخلف إلا الخراب و اليباب و القتلى و المشوهين و المقعدين ! "
سألها الدكتور حمود : " و ماذا عن المجرات الأخرى ؟"
فأجابته:" المجرات الأخرى تبعد ألاف و بعضها ملايين السنين الضوئية و أقرب مجرة إلينا هي مجرة المرأة المتسلسلة التي تبعد عن مجرتنا مليونين و نصف المليون من السنين الضوئية ، و ليس في وسع تقنيتنا بلوغ أيا منها حتى الآن . " ثم أضافت : " سأصعد معكم لأدلكم على المنفذ ."
عندما بلغوا النهاية لاحظوا وجود عدد كبير من الأطباق الطائرة بأحجام مختلفة بعضها بقياس سيارة صغيرة و بعضها الآخر أكبر من باخرة ، عدد منها على شكل أقراص و مجموعة أخرى في أشكال كروية و مجموعة ثالثة في أشكال أسطوانية .
قالت لهم مرافقتهم : "عندما نفتح البوابة التي تقابلكم ادخلوا فيها بمركبتكم ، ثم سنغلقها من خلفكم ؛ ستمتلئ الغرفة بالماء قبل أن نفتح البوابة العلوية ، عندئذ سوف يكون بوسعكم الإندفاع إلى أعلى لمسافة تزيد قليلا عن خمسين كيلومترا و بعدها ستبلغون قاع المحيط في منطقة مثلث برمودا . "
ثم ودعتهم بحرارة و هي تذكرهم بوعدهم – بلهجة مفعمة بالرجاء - ألا يتحدثوا عن وجود أتلنتيا مع أي كان حتى مع أقرب المقربين .
شَغَّل الدكتور عبد الله جهاز الاتصال و لفرحته تجاوّبَ في الحال ، نادي الدكتور حمود قائلا : " هيا اتصل بالوالد و طمئنه أننا اقتربنا من الهدف و أننا سنكون في سواحل جزيرة كوبا خلال عشر دقائق "
- ألو .. آلو ... مرحبا ( يوبا ) أنا حمود ... أنا حمود هل تسمعني ؟
يجيبه صوت مختلط ببعض التشويش :
= هَلا ( بِولْدي الحبيب ) لقد تأخرتم أكثر من ساعتين عن موعدكم المقدر ، و بدأنا نقلق عليكم ! ..و لكن أين أنتم الآن ؟
- نحن قريبون جدا من جزيرة كوبا ( يوبا ) ، بلغ سفير الأمارات هناك ، بقرب وصولنا
( طال عمرك ) .
يصيح والد حمود :
= إحذروا من الإقتراب من (غوانتنامو) يا حمود يا ( وِلْدي )...أكرر ، إحذروا ..إحذروا...لا تقتربوا من ( غوانتنامو ) !
- عبد الله .. عبد الله .. إصحَ من نومك يا ( خوي ) ، كف عن الصراخ ، فأنت تحلم !
يلتفت نحو مجدي الجالس بجواره ، قائلا :
- يبدو أن عبد الله تعرض لكابوس اسمه ( غوانتنامو ) !!!
يفتح عبد الله عينيه بصعوبة ، يتلفت حوله ، ثم يغرق بالضحك و هو يجيبهما بكلمات قطعتها قهقهته :
= بل كنت أحلم بأتلنتيا و بمدينة أفلاطون الفاضلة !
----------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
الموقع : www.FreeArabi.com
رواية من الخيال العلمي
نزار ب. الزين*
الفصل الثاني
لم يطل قلقهم طويلا
" أنه مدخل كهف عملاق آخر !" صاح الدكتور مجدي فرحا!
" شيء لا يصدق يا إخوان ، المجسات تؤكد أن حرارة الكهف لا تزيد عن 40 درجة مئوية ، و الهواء فيه مليء بالأكسيجين " أضاف الدكتور عبد الله ...
فرد الدكتور مجدي : " أمر غريب نحن على عمق خمسين كيلومترا تحت سطح المحيط الأطلسي ، و الأكسيجين متوفر ؟؟!! ذلك سيقلب جميع معارفنا الإنسانية رأسا على عقب ، هذا يعني أن الكهف صالح للحياة ، دعونا نتجول قليلا فيه و نريح أقدامنا المتعبة ، و ما يدرينا فقد نعثر على مخلوقات من نوع ما ! "
فأجابه الدكتور حمود : " قد تكون تلك المخلوقات من فئة الداينصورات ، فعلينا أن نكون متيقظين و ألا نبتعد عن المركبة !"
و ما أن هبطوا من المركبة حتى لجمت ألسنتهم مفاجأة لم تخطر على بالهم ، كان الكهف مضاءاً بإنارة لم يتمكنوا من معرفة مصدرها و مزدانا بعشرات اللوحات الفسيفسائية تفصل بينها أعمدة رخامية تتصل في أعلاها بأقواس تشبه أقواس قصر الحمراء في غرناطة الأندلس ، أما أرض الكهف فقد رصفت بالحجارة المنحوتة ..
تساءل الدكتور هشام مشدوها : " هل من المعقول أن نكون أمام مدينة ما أو جزيرة ، غاصت نتيجة زلزال ، و بقيت مبانيها على حالها على هذا النحو ؟ ما رايك يا دكتور مجدي ، هل يمكن علميا أن يقع مثل هذا الأمر البعيد عن كل معارفنا ؟ أفدني يا دكتور مجدي ، هل سمعت أو قرأت عن مثل هذه المعجزة التي نراها ؟ "
أجابه الدكتور مجدي و هو لا يقل شعورا بالذهول عن زملائه : " قد يحدث أن تغوص مدن أو جزر و لكنها تبقى في قاع البحر و لكن ليس تحت خمسين كيلومترا من قاعه ؛ لقد تم اكتشاف بقايا الإسكندرية القديمة قرب سواحلها و لكنها كانت خرائب ، و ادعى روبرت سارماست و هو عالم أمريكي مؤخرا أنه اكتشف خرائب جزيرة أطلنتس التي تحدث عنها أفلاطون ، و لكنه قال أنها مجرد آثار مدينة و ليست مدينة سليمة ..."
ما أن أكمل الدكتور مجدي جملته ، حتى سمعوا جميعا صوتا أرعبهم : " أنتم الآن في أتلنتيا " ثم اضاف : " أتلننتيا و ليس أتلنتس ، و شعبها يرحب بكم ، تقدموا بمركبتكم خمسمائة متر و ستروننا في استقبالكم ! " .
نظروا إلى بعضهم بعضا و قد عقدت الدهشة ألسنتهم ، ثم قال الدكتور حمود لزملائه : " هيا مِمَّ نخاف ؟ الصوت بدا آدميا و ودودا ، و بالتأكيد نحن لا نحلم ! "
أجابه الدكتور هشام و قد ارتعش صوته لرهبة الموقف : " يا إخوان نحن نعيش الآن معجزة حقيقية ! "
هبطوا من المركبة ثانية ، عندما وجدوا أنفسهم أمام بوابة ضخمة ، ما لبثوا أن سمعوا صوتها و هي تفتح ببطء ، ثم بدؤوا يلمحون بشرا حقيقيين ، نساء و رجالا ، في غاية الجمال ؛ طول فارع يعادل 150% من الطول المتوسط للبشر ، شعر يميل إلى الحمرة ، عيون واسعة عسلية اللون ، ، الرجال منهم يرتدون ثيابا بيضاء مكونة من قطعتين ، سروال قصير و قميص ( نصف كم ) مزين بزخارف هندسية يتوسط ، بينهما حزام جلدي مزخرف ، و في أقدامهم نعالا خفيفة ترتفع إلى ما فوق الكاحل ، مزينة بزخارف شبيهة بزخارف الحزام ، أما النساء فقد ارتدين ملابس زاهية الألوان بلا أكمام ، و طويلة تكاد تلامس الأرض ، و قد زينوا صدورهن بعقود اللؤلؤ و المرجان.
تقدم منهم ما بدا أنه كبير القوم ثم ما لبث أن قال لهم من خلال جهاز بدا و كأنه جهاز للترجمة الفورية : " مرحبا بكم ، هذه هي المرة الأولى التي يشرفنا فيها بالزيارة سكان من سطح الأرض ، و لا بد أنكم تملكون تقنية عالية الكفاءة مكنتكم من الوصول إلى أطلنتيا ."
تقدم الدكتور حمود - و قد استطاع التغلب على دهشته الشديدة – تقدم منه ، ثم مد يده راغبا في مصافحته ، و بعد تردد منه مد الآخر يده ثم تشابك مع حمود بمصافحة حارة و هو يضحك ، ثم ما لبث أن شده نحوه معانقا ، و تنكرر ذلك مع بقية رفاقه ؛ ثم بدأ الدكتور حمود يعرفه بأصدقائه العلماء و بتخصصاتهم ؛ في حين كانت الحشود من حولهم تردد ما يشبه الأهازيج الترحيبية ، و قد تزينت وجوههم جميعا بابتسامات عريضة ملوحين بايديهم مرحبين.
سار بهم كبير القوم مسافة بسيطة ثم تقدمهم صاعدا درجات مايشبه أهرامات ( المايا ) و لكنها مبنية من الرخام ، ثم ولجوا جميعا إلى قاعة كبرى التف حولها مدرج جلس عليه عشرات من النساء و الرجال ممن بدوا أنهم وجهاء القوم ، عرَّف بهم مضيفهم على أنهم نواب شعب أتلنتيا ، فقوبل الدكتور حمود و صحبه بتلويح الأيادي و صيحات الترحيب .
بعد أن رحب بهم رئيس المجلس ، توجه بهم مضيفهم إلى قاعة مجاورة التف حول مائدة بيضاوية الشكل مصنوعة من من الرخام النفيس ، عشر نساء و أربعة رجال ، عرفهم مضيفهم على أنهم وزراء أتلنتيا و أنه شخصيا رئيسهم .
ما أن جلس الضيوف حتى انهالت عليهم الأسئلة ؛ كيف وصلوا و كيف تمكنوا من اختراق المحيط ، و من أي منطقة في العالم جاؤوا و ماهو هدفهم ، كان كل منهم يجيب على أحد الجوانب ، فقد أوضح لهم الدكتور مجدي أن مجموعتهم علمية بحتة ، و أنها لم تكن تفكر إطلاقا بالبحث عن حضارة أتلنتنيا أو آثارها ، و أنهم إنما بلغوها بمحض المصادفة ؛ ثم شرح لهم هدف المجموعة و هو إثبات إمكانية اختراق باطن الكرة الأرضية بسرعة قياسية إذا توفرت المركبة المناسبة ، و أنهم قدموا من البلاد العربية و تحديدا من الإمارات العربية المتحدة و من أمارة دبي تحديدا ، و يهدفون إلى بلوغ أمريكا الوسطى ، و على الأرجح بلوغ إحدى جزر الكاريبي ، و بسرعة قياسية تتجاوز سرعة أية وسيلة ابتكرها البشر حتى الآن ، فنحن قضينا حتى الآن ثلاث ساعات و عشرين دقيقة و هدفنا أن نبلغ إحدى جزر الكاريبي ، في زمن يتراوح بين أربع إلى خمس ساعات .
ثم تناول الدكتور عبد الله الحديث مبينا لهم أنهم لهذا السبب لن يتمكنوا من المكوث أكثر من بضعة دقائق أخرى و إلا فشلوا في تحقيق هدفهم .
ابتسم أحد الوزراء قبل أن يجيبه من خلال جهاز ترجمته ، الذي يستعمل كل منهم مثيله : " أنتم ضيوفنا و لن نتخلى عنكم بالسهولة التي تظنون .!.."
ثم أضافت وزيرة أخرى : " في الحقيقة ، بلدنا ينقصه الذكور ، و عدد سكاننا في تناقص ، فنحن نرحب بكل ذكر يحضر لزيارتنا ، لقد بلغت نسبة الإناث 76% من مجموع السكان ، و هذا يهدد شعبنا العظيم بالانقراض ."
ثم تصدت وزيرة أخرى للحديث ، فقالت : " علامَ عودتكم إلى السطح ؟ و شعوبه لم يتمكنوا حتى الآن من التغلب على حيوانيتهم ، شعوب لا زالت متناحرة متنافسة متحاربة ، شعوب تملك من وسائل التدمير أكثر مما تملكه من وسائل التعمير ! "
أجابهم الدكتور هشام : " لهذا السبب اتحدنا نحن الخمسة ، و هدفنا الإسهام في تطوير العلوم و المعارف البشرية ، لكي يصبح للناس جميعا مصادر رخيصة للطاقة ، مصادر جديدة للمياه العذبة ، مصادر جديدة للمعادن ، لنحقق في النهاية ما يكفي كل البشر من الغذاء و الكساء و البيوت المريحة و المواصلات السهلة ، و نعتقد أنه إذا تحقق كل ذلك فإن الصراعات سوف تنتهي و أن العدالة سوف تسود ؛ أما إن بقينا في ضيافتكم - كما تطلبون – فإن كل جهودنا ستذهب أدراج الرياح "
ثم أضاف الدكتور حمود قائلا : " لا تنسوا يا أيها المحترمون أن لدينا أهلا و أصدقاء في انتظارنا على أحر من الجمر ، فإذا بقينا في ضيافتكم – كما تقترحون - فسيظنون أننا قُتلنا ، و أن رحلتنا فشلت ؛ و سنسبب لهم خيبة أمل رهيبة و حزنا كبيرا ! "
صمت الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، ثم ما لبث رئيس الوزراء أن قال لهم : " لقد اقتنعت بما تقولون و بأنكم بشر طيبون و أن أهدافكم نبيلة ، و لكنني أطلب منكم أمرين ، أولهما أن تدخلوا غرفة التاريخ لتتعرفوا على حضارتنا و علومنا و مقومات وجودنا لكي تتخلصوا من كل ما لُفِّق عنا من أقاويل ملأت كتب تاريخكم ، و ثانيهما أن تتعهدوا بعدم ذكر أي شيء عن وجودنا و مكاننا لأي إنسان على سطح البسيطة ، و إلا عرضتمونا لخطر فادح ، فهناك دول قوية و عدوانية فوق السطح ، قد تتمكن من الوصول إلينا و إيذائنا و تدمير حضارتنا المعمرة ، و التي بلغت خمسة آلاف سنة ، نعم خمسة آلاف سنة بدون حروب أو أي نوع من الصراعات ، نحن لا نحتاج للشرطة أو الجيش ، و لم يسبق أن تشاجر منا اثنان ، و حكومتنا التي ترون هي حكومة علماء و حكماء ، فإذا بحتم بسرنا فربما تكونون السبب في القضاء علينا ."
أجابه الدكتور حمود : " أعاهدك باسمي و بإسم إخواني بأن نَكْتم سركم ، و بأنكم بالتأكيد لن تسمعوا عن لساننا كلمة واحدة ، و لكن ليس لدينا وقت أكثر للاطلاع على ما تحويه غرفة التاريخ ؛ رجائي – و قد اقتربنا من النجاح – أن يحدثنا أحدكم بموجز عن تاريخ أتلنتيا و نحن في طريقنا إلى مركبتنا ."
في الطريق إلى المركبة و في وسط حشود شدها الفضول لمشاهدتهم ، كانت إحدى الوزيرات التي كلفت بمرافقة الضيوف العلماء ، كانت تحدثهم عن تاريخ أتلنتيا ، فقالت : " كنا نعيش في وسط المحيط الأطلسي و أقرب إلى الأمريكتين ، و كانت لنا علاقات تجارية مع مصر الفراعنة و بلاد الإغريق في الشرق ، و مع سكان المايا بعد ذلك في الغرب ، و كنا نحن وسطاء تجاريين بين هؤلاء و اؤلئك ، و قد حاولنا إقامة علاقات ودية مع الجميع و لكنهم أخذوا يقابلوننا بالعدوان ، ففي أواخر علاقاتنا بهم ، كانوا قراصنتهم يعتدون على سفننا التجارية و ينهبون ما فيها من بضائع ، ثم قَدِم إلينا الإغريقيون فوق سفنهم الحربية هادفين غزونا ، فأحرقناها عن آخرها باستخدام الليزر الذي لم يكونوا يعرفونه ، و الذي عرفتموه أنتم حديثا.
أما سكان المايا فكانوا أكثر توحشا ، رغم كل مظاهر التقدم التي كانوا عليها ، كانت لهم أبجديتهم الهيروغليفية و كانت لهم أهراماتهم التي اقتبسوها من أهرامات المصريين مع بعض التغيير ، كان سكان المايا بعرفون الأرقام و الحساب ، و كان لديهم إلمام بعلم الفلك ، و لكنهم كانوا دمويين ، فبينما كانت أهرامات المصريين القدماء مقابرا لملوكهم ، فإن أهرامات المايا كانت تستخدم لنحر الضحايا الأدميين ، أما أهرامتنا التي اقتبسها الطرفان منا فكانت مخصصة للبحوث العلمية ، أعود إلى المايا فقد كان كهنتهم يقيمون كل فترة احتفالات ينتقون خلالها أجمل الشبان أو الفتيات ، فيذبحونهم ذبح النعاج ، ثم ينتزعون قلوبهم و يقدمونها قرابين لإرضاء آلهتهم كما كانوا يزعمون ، و كانوا يخوضون على الدوام حروبا شرسة فيما بينهم أو مع جيرانهم ، و الحقيقة كنا نتوقع انهيار حضارتهم السريع كما حدث بالفعل .
و عندما اكتشف علماؤنا ، أن هناك بوادر حدوث زلزال كبير قد يغير خارطة الكرة الأرضية ، صنعوا فوق جزيرتنا قبة هائلة الحجم من لدينة قوية ، و قد شارك جميع السكان متعاونين في تدعيم البيوت و تقوية أساسات المباني العامة و أهرامات البحث العلمي ؛ ثم جهز علماؤنا الجزيرة أيضا ، بمولدات الطاقة التي ستستفيد من حرارة الأعماق ، لغرض الإنارة و استخلاص الأكسيجين و الماء العذب و الغذاء من مياه المحيط ، إضافة إلى تعديل حرارة الجو ؛ و انتظروا - من ثم - اللحظة الحاسمة ."
ثم أضافت بعد أن التقطت أنفاسها : " و حدث الزلزال الكبير و ابتدأت جزيرتنا تغوص في ماء المحيط بهدوء و كأنها فوق مصعد أحد الأبنية ، حتى بلغت القاع ، و بدون إلحاق الأذى إلا بالقليل القليل من الأبنية التي لا زالت في قاع المحيط حتى اليوم ، أما بالنسبة للأفراد فكان هناك عدد من الجرحى فقط ؛ و حدثت هذه الضرار البسيطة عندما استقرت جزيرتنا في قاع المحيط .
ثم ما أن استقر الوضع حتى ابتدأ الحفر نحو هذا الكهف الذي كان علماؤنا قد اكتشفوه قبلا ، و الذي أصبح مدينتنا المزدهرة كما ترون ، أما القبة فقد تآكلت بالتدريج بتاثير ماء المحيط المالح ، ثم أخذت الرمال تغطي ما تركناه من مبان . "
كانوا قد وصلوا إلى مركبتهم عندما قالت لهم مرشدتهم : " لا حاجة لكم للرجوع إلى أول الكهف ، فلدينا منفذ يؤدي بكم إلى قاع المحيط مباشرة ، تستخدمه مركباتنا الفضائية التي تطلقون عليها اسم الأطباق الطائرة أو ظاهرة الأجسام المجهولة ، نعم أيها السادة إن حضارتنا كانت متقدمة منذ خمسة آلاف سنة على الأقل و لم تقف عجلة تقدمنا لحظة واحدة ، فقد تمكنا مثلا و منذ البداية ، من اكتشاف وسيلة تلغي حاذبية الكرة الأرضية أو أي الكواكب الأخرى ، مما يَسَّر تنقلنا بين النجوم و الكواكب! "
تساءل الدكتور هشام متعجبا : " إذاً أنتم الذين دوختم العالم بأطباقكم مجهولة الهوية ؟! قال بعض البحارة أنهم شاهدوها تخرج من المحيط و لكن أحدا لم يصدقهم .. ! "
ضحكت المرشدة و هي تجيبه : " نحن من كنا نجوب بلادكم مستكشفين مدى تقدمها ، و مدى اقترابها من السلام الشامل الذي سبقناكم إليه منذ قرون، و أحيانا نختطف منكم بعض ذكوركم فيقيمون بيننا ضيوفا معززين مكرمين ، فكما أفادكم رئيس وزرائنا ، نحن نعاني من نقص حاد بالذكور ، و لهذا السبب قمنا باختطاف بعض طياريكم ، أو ركاب سفنكم ، أو مزارعيكم ، دون أن نسبب لهم أي أذى ، و قد عاشوا بيننا سعداء في غاية الرضا ، و منهم من لا يزال بيننا حتى اليوم ، لأننا تمكنا أيضا من إطالة أعمار البشر !" .
سألهها الدكتور حمود : " لديكم كل هذه التقنية و لا زلتم عاجزين عن حل مشكلة النقص الحاد في عدد ذكوركم ؟ " ابتسمت مرافقتهم و هي تجيبه :" بعد بحوث علمية و تجارب كثيرة تبين استحالة التلقيح الصناعي بسبب لا زلنا نجهله ، و إن كنا نعتقد أن للجاذبية الكبيرة التي نعايشها في هذا العمق دورا في هذه المشكلة ، و هو السبب نفسه الذي جعلنا أطول من البشر فوق السطح ، أي بالإختصار فإن بعض التغييرات البيوفسيولوجية طرأت على كينونتنا منذ هبطنا هذا الكهف الذي جددنا فيه حضارتنا ."
سألها الدكتور عبد الله : " كما فهمت منك ، فإنكم جُلْتم في الفضاء الخارجي أيضا ، فهل اكتشفتم حياة في أي كوكب غير كوكبنا الأرض؟! "
أجابته واثقة مما تقول : " لقد جبنا كل مجرتنا ( درب اللبانة أو التبانة ) من أقصاها إلى أقصاها ، و هي التي تضم ما يزيد عن 200 مليار نجم , و التي يزيد قطرها على 100 ألف سنة ضوئية ؛ ذلك أن علماءنا اكتشفوا خطوطا للجاذبية تمر بين النجوم ، و تسمح بالإنطلاق بسرعات تفوق أضعاف سرعة الضوء ، و النتيجة أننا لم نعثر فيها على كوكب واحد صالح للحياة كما كنا نأمل .
سالها الدكتور رياض مستغربا : " طالما أنكم تعيشون هذه الحضارة المتقدمة و تنعمون بالسلام الشامل ، و بالاستقرار الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي ، فما هو دافعكم لاكتشاف الفضاء؟"
أجابته بعد فترة صمت : " سؤالك في محله ، السبب أنتم ، أنتم من دفعنا لبذل هذه الجهود الجبارة و التكاليف الباهظة ؛ فبعد إلقاء قنبلتي هيروشيما و ناغازاكي النوويتين ، و ما تبعهما من تجارب نووية ، شعرنا أن الكرة الأرضية باتت تحت خطر الفناء ، فقد تنحرف عن مسارها بسبب ردات الفعل العكسية ، و قد يتلوث جوها كله بالإشعاعات النووية ؛ و لهذا السبب كثفنا بحوثنا في الفضاء على أمل العثور على كوكب ملائم نهاجر إليه ، هناك كواكب كثيرة صالحة للحياة ، و فيها مخلوقات بعضها أرقى من البشر و بعضها أقرب إلى الحيوانات ، و لكن لم نجد شبيها لكوكب الرض .
إن البشر منذ تواجدوا فوق هذا الكوكب ، و هم يتخيلون الفردوس ؛ الفردوس يا سادة بين أيديكم ، الفردوس هنا في كوكب الأرض لو أحسنتم رعايته و تعلمتم أخلاق التعايش فيه ، كوكبنا لا مثيل له في كل مجرتنا المحتوية على ملايين النجوم و الكواكب ، لا مثيل لمناخه ، لتنوع مخلوقاته من حيوان أو نبات ، لألوان أزهاره و أطياره و فراشاته و أسماكه ، لمناظر جباله و بحاره و أنهاره و بحيراته الخلابة ، لخيراته الوفيرة ؛ و لكن ناسَكم للأسف لا يدركون ذلك و لا يقدرونه ، بل يسعون لتدميره بالتلوث البيئي و الأخلاقي معا ، من تعصب عنصري إلى استعباد قويِّكم لضعيفكم ، إلى حروبكم المدمرة التي تشعلونها لأتفه الأسباب ، و التي لا تخلف إلا الخراب و اليباب و القتلى و المشوهين و المقعدين ! "
سألها الدكتور حمود : " و ماذا عن المجرات الأخرى ؟"
فأجابته:" المجرات الأخرى تبعد ألاف و بعضها ملايين السنين الضوئية و أقرب مجرة إلينا هي مجرة المرأة المتسلسلة التي تبعد عن مجرتنا مليونين و نصف المليون من السنين الضوئية ، و ليس في وسع تقنيتنا بلوغ أيا منها حتى الآن . " ثم أضافت : " سأصعد معكم لأدلكم على المنفذ ."
عندما بلغوا النهاية لاحظوا وجود عدد كبير من الأطباق الطائرة بأحجام مختلفة بعضها بقياس سيارة صغيرة و بعضها الآخر أكبر من باخرة ، عدد منها على شكل أقراص و مجموعة أخرى في أشكال كروية و مجموعة ثالثة في أشكال أسطوانية .
قالت لهم مرافقتهم : "عندما نفتح البوابة التي تقابلكم ادخلوا فيها بمركبتكم ، ثم سنغلقها من خلفكم ؛ ستمتلئ الغرفة بالماء قبل أن نفتح البوابة العلوية ، عندئذ سوف يكون بوسعكم الإندفاع إلى أعلى لمسافة تزيد قليلا عن خمسين كيلومترا و بعدها ستبلغون قاع المحيط في منطقة مثلث برمودا . "
ثم ودعتهم بحرارة و هي تذكرهم بوعدهم – بلهجة مفعمة بالرجاء - ألا يتحدثوا عن وجود أتلنتيا مع أي كان حتى مع أقرب المقربين .
شَغَّل الدكتور عبد الله جهاز الاتصال و لفرحته تجاوّبَ في الحال ، نادي الدكتور حمود قائلا : " هيا اتصل بالوالد و طمئنه أننا اقتربنا من الهدف و أننا سنكون في سواحل جزيرة كوبا خلال عشر دقائق "
- ألو .. آلو ... مرحبا ( يوبا ) أنا حمود ... أنا حمود هل تسمعني ؟
يجيبه صوت مختلط ببعض التشويش :
= هَلا ( بِولْدي الحبيب ) لقد تأخرتم أكثر من ساعتين عن موعدكم المقدر ، و بدأنا نقلق عليكم ! ..و لكن أين أنتم الآن ؟
- نحن قريبون جدا من جزيرة كوبا ( يوبا ) ، بلغ سفير الأمارات هناك ، بقرب وصولنا
( طال عمرك ) .
يصيح والد حمود :
= إحذروا من الإقتراب من (غوانتنامو) يا حمود يا ( وِلْدي )...أكرر ، إحذروا ..إحذروا...لا تقتربوا من ( غوانتنامو ) !
- عبد الله .. عبد الله .. إصحَ من نومك يا ( خوي ) ، كف عن الصراخ ، فأنت تحلم !
يلتفت نحو مجدي الجالس بجواره ، قائلا :
- يبدو أن عبد الله تعرض لكابوس اسمه ( غوانتنامو ) !!!
يفتح عبد الله عينيه بصعوبة ، يتلفت حوله ، ثم يغرق بالضحك و هو يجيبهما بكلمات قطعتها قهقهته :
= بل كنت أحلم بأتلنتيا و بمدينة أفلاطون الفاضلة !
----------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
الموقع : www.FreeArabi.com