سيـوف أمينــة
داود البوريني
لو كنت هناك على الجبل المقابل و نظرت شرقاً لرأيتها قرية بني جهاد الوادعة ببيوتها الحجرية أو الطينية البسيطة . في الوسط كانت ساحة القرية الواسعة التي تتوزع منها شوارع عربية ضيقة على أحيائها المختلفة من حي الشيخ حمدان إلى حي الشيخ خلف إلى حي الشيخ جواد .
كانت أحجار البيوت تشي بالعمر الحقيقي لبنائها فبعض هذه البيوت كانت مبنية منذ مئات السنين و قد توارثها الخلف عن السلف و توارثها ساكنيها من جيل إلى جيل و لذلك كانت الجيرة الضاربة في القدم بين هؤلاء الساكنين هي بمثابة قرابة قوية إن لم تكن قرابة و جيرة معاً ، بيوت القرية المتقاربة جداً و المتلاصقة في أحيان كانت تعطي العلاقات فيها دفئاً و مودة و رحمة و حسن جوار . ساحات و فناء البيوت نظيفة و الشبابيك لامعة ، الشوارع الضيقة بينها كانت نظيفة مع عدم وجود بلدية أو مجلس قروي ، فقد كانت سيدة البيت لا تنهي عملها اليومي قبل أن تنظف أمام منزلها و هكذا بشكل يومي متواصل و حتى الماء لغايات الطبخ و الغسل و الاستحمام كانت تجلبه نساء القرية من عين الساحة الكائنة على زاوية ساحة القرية ، ربما أن الأجداد قد خططوا لهذه الساحة و المسجد فيها لتكون ملاصقة لعين الماء و هذه كانت تبعد مئات الأمتار عن عيون البلد الأخرى ( العين الشرقية و العين الجنوبية ) .
كان الزمن أوائل الربيع و بعد أمطار الشتاء الغزيرة كانت السهول تمتد أمامك كأنها بساط أخضر واحد تتخلله الوردة البرية و على رأسها شقائق النعمان لتظهر لك القرية و كأنها لوحة طبيعية متسقة ، هكذا فعلت الطبيعة فيها و هكذا كانت تتراءى عن بعد و لم يكن الناظر عن بعد يعرف حجم الحزن داخل بيوتها أو في صدور رجالها أو كبار السن الجالسين على سور المسجد القصير انتظاراً لصلاة الظهر و لإقامة الصلاة بعدها على جثامين شهداء القرية الخمسة الذين سقطوا بالأمس في معركة وادي العربان .
كان الحديث بين الشيوخ عن أحوال البلاد و القرى المجاورة و المعارك التي تنشب مع اليهود بشكل يومي تقريباً ، هؤلاء اليهود كان يتوفر لهم السلاح حتى الأسنان و الذين تأتيهم المعونات من كل مكان ، كل شيء البندقية و الرشاش و المدفع و الدبابة و حتى الطائرات ، بينما الشيوخ كذلك وصل أمام الجامع الشيخ أبو عثمان و بيده صحيفة مطوية جيداً ، سأله المنتظرين عن آخر الأخبار فأجاب بأن مجلس الأمن سوف يعقد اجتماعاً قريباً لتدارس الأوضاع عند العرب و عندما سأل أحد الجالسين ما هو مجلس الأمن هذا أجابه آخر بأنه اللهاية ... و عندما سأل ما هي اللهاية فسّر له الحاج أبو عثمان بأن اللهاية هي حلمة جلدية توضع في فم الصغير حتى يتلهّى بها و يعتقد أنه يرضع حليباً و يهدأ عندما تكون أمه مشغولة ، و مجلس الأمن هذا هو لهاية العرب لتُخدِع حكوماتهم أو لتساعد هذه الحكومات على خديعة شعوبها...
علّق آخر ... حلو و الله ... بعطونا لهايات و غداً بعطونا خش خيشة نلعب فيها... لم توقف رهبة الموقف و لوعة انتظار جثامين الأبناء من حرارة المناقشة السياسية الدائرة ، و فعلاً لم يوقف المناقشة سوى ظهور بضعة شاحنات على بعد كيلومترات قليلة من مكان المسجد المرتفع .
إذن ... جاء الشهداء ... بعد دقائق وصلت السيارات و بدأت النساء و الأمهات و الأطفال و الآباء في بكاء صامت صادر عن أعماق الروح بينما قام نحو العشرة رجال من المجاهدين في إنزال التوابيت يساعدهم الشيوخ و الصبية حيث أن معظم الرجال كانوا في الاستحكامات على مشارف القرية .
في تلك اللحظات أذّن المؤذن لصلاة الظهر التي تبعتها صلاة الجنازة و طبعاً بعد موكب مهيب بدون اية موسيقى أو مارشات عسكرية وصل الجميع إلى مقبرة القرية ليدفنوا الشهداء و لكنهم دفنوا ستة شهداء و ليس خمسة فقط فقد كان الشهيد السادس متطوعاً مغربياً جاء من بعد آلاف الكيلومترات ليدافع عن أهله على تخوم قرية بني جهاد .
انتهت مراسم الوداع الأخير و قد امتزجت لوعة الفراق مع الشعور بالفخار و الرضى عن النفس ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون هكذا علّمنا إمام الأنبياء و أشرف كتاب و أقدس حديث ...
على بعد كيلومترات قليلة ، قد لا تزيد عن بعضة عشرات أو قل مئات من الكيلومترات كانت الأمور في واحة هجين تسير بشكل مغاير تماماً ، كانت خيمة الشيخ منصور و خيم أقاربه المحيطة بها قد زُينت بالأعلام المختلفة ، أعلام صفراء و حمراء و خضراء و زرقاء و أعلام متعددة الألوان و أخرى بدون أي لون ، كما أن مصابيح الزيت للإنارة الليلية كانت جاهزة و لامعة لإنارتها مساءً هذا بالإضافة إلى المصابيح الكهربائية التي سوف تنير خيمة الشيخ منصور و الساحة المواجهة لها و الصادرة عن الموتور الكهربائي الذي أهداه مستر جونز المعتمد الإنجليزي للمنطقة للشيخ منصور صاحب القول و الشور .
كان كل شيء جاهزاً للاحتفال بزفاف سيف الابن الثاني للشيخ منصور ، الأرز و السكر و الشراب على ألوانه و الأغنام و الجُزر . كان احتفالاً بحق لهذه المناسبة ، فقد صاهر الشيخ شيخ عشيرة فاتك القوية و اختار هذه المصاهرة عامداً ليزداد قوة على قوة .
جاء المساء على بني جهاد ككل مساءٍ آخر فبعد يوم طويل من استقبال جثامين الشهداء و دفنهم و القيام بواجبهم عاد المجاهدون من حيث أتوا و كالعادة بعد صلاة العشاء أوى الجميع إلى مساكنهم ، و بعد أقل من ساعة على صلاة العشاء بدأت مصابيح منازل القرية تخبو الواحد تلو الآخر حتى باتت القرية في ظلام دامس ، باستثناء بضع عشرات من الشبان كانوا يقومون بأعمال المراقبة و الحراسة بين الأحياء المختلفة .
وحدها أمينة زوجة محمد السلمان ظلت مستيقظة بعد أن أبقاها رضيعها كذلك و الذي كان قلقاً يرفض النوم ، لم يكن قد جاوز الشهور السبعة ... لقد نظفته و أرضعته كعادتها و وضعته في سريره الخشبي بجانبها و هزّت السرير كالعادة و لكن الرضيع أحمد ظل يرفض النوم ، لقد نام كل من في البيت ماعداه ، نام شقيقه مهاوش ابن السبع سنوات و شقيقته سارة ابنة الخمس سنوات و شقيقه عُقله ابن السنوات الثلاث ، أما هو فكان يرفض النوم في ذلك الوقت من تلك الليلة ، أخذت تحتال عليه حتى ينام ، أخرجته من سريره و وضعته في حضنها و بصوت خفيض فيه كل دفء و حب و حنان الدنيا بدأت بالغناء له حتى ينام :
نام يا أحمد نام ...
صلي على سيد الأنام ...
محمد ابن الصيد الكرام ...
ولا لا ولا لا يا لالا ...
نهضة ما هي طوّاله ...
بكره نبني فيها دور ...
محصن ضد القتالة ...
بينما كانت أمينه تحاول بكل الوسائل أن تجعل النوم يتسلل إلى رضيعها كانت السهرة مازالت في أولها في واحة الهجين و كان قرع الطبول و المزامير مستمراً و الطعام على أشكاله و ألوانه المختلفة موضوع أمام الضيوف ، كان الشيخ منصور يدور مختالاً بين ضيوفه مزهواً بغناه المفاجيء الذي جاء مع بئر النفط المكتشفة حديثاً في الواحة ، خاصة بعد أن ثبّته المعتمد الإنجليزي رسمياً كشيخ على واحة الهجين ، كل ما كان يبهج كان هناك ... الشباب الراقصين في الساحة و الخيل التي ترقص على المزمار و النساء في أجمل الملابس في خيمة العروس فهذه هي ليلة السهرة الأخيرة من سبع ليالٍ طوال كان الكل فيها مبتهجاً إما بإرادته أو رغماً عنه أو مقابل ثمن . لكن عدوى الفرح كانت هناك ... الكل كان موجودٌ في هذه الاحتفالات و السهرات و الولائم المتصلة باستثناء إثنين ... أولهما معلّم الكتّاب الشيخ صابر القادم من الأزهر و ثانيهما الابن البكر للشيخ منصور و هو زهير ، هذا الولد العاق الذي كان يرفض بشكل مطلق وجود الانجليز في المعسكر القريب من الواحة ، كما كان يرفض أكثر علاقة والده الشيخ منصور معهم ...
هذا الابن كان محبوب من الجميع ، شجاع و كريم و مسالم ، حتى جاء الشيخ صابر و الذي يبدو أنه قد عبث بأفكار الصبي بما كان يقصه له عما جرى في وادي النيل و ثورة عرابي و مذبحة التل الكبير و الخونة الصغار من الخديوي توفيق إلى أصغر مسؤول حوله ، حدّثه عن سبعة آلاف شهيد سقطوا بالخيانة في معركة التل الكبير ، كما حدّثه عما وصل إليه من معلومات عن المجاهدين في بلاد المغرب و الشام و الرافدين . طبعاً حقد الشيخ منصور على الشيخ صابر بسبب اعتقاده بتأثير الأخير على ولده بما حمله معه من كتب صفراء و أفكار غريبة و قوله الدائم بأن من والـى الإنجليز فهو منهم و بأنهم سبب كل مأساة حلّت بالعرب ، لذلك كان لابدّ من حرمان الشيخ صابر و زوجته من هذه الاحتفالات حتى يشعر بذنبه و لكن لا بأس من مشاركة أطفاله في الأفراح و اللعب مع الصبيان و تناول الطعام فلا أحد عند العرب عنده المقدرة على حرمان حتى أطفال عدّوه من هذا الحق ...
بعد وقت طويل من الاحتيال بالارضاع و الغناء و الهدهدة أغمض الرضيع أحمد عينيه و ذهب في سبات عميق ، مددّت أمينة نفسها بجانب أطفالها النائمين بأمان و ذهبت بأفكارها إلى ما جرى اليوم عند دفن الشهداء و كيف تحلقت النساء حول جثامين أبنائهن و أزواجهن و هنّ يبكين لوعة الفراق في لحظة الوداع الأخير ، وحده الشهيد من المغرب كان مسجّى بعيداً قليلاً هناك ، فجأة انتبهت النساء فقمن بحمله و وضعه بجانه إخوانه ... أبنائهن ... من قال أن ابن المغرب ليس شقيقاً موثوقاً لابناء الشام و من هو القريب الأغلى من الشهيد... بعد ذلك ذهب فكرها إلى زوجها شيخ الشباب محمد السلمان ...
محمد السلمان ابن عمها البكر و السبّاق دائما في الحرث و الزرع و الحصاد و قطف الزيتون و في ركوب الخيل و في إكرام الضيف ، لم تسمعه يوماً يعتذر إلى فقير طرق الباب ، كان يقدم من أي شيء عنده إن كان خبزاً أو حليباً أو مالاً أو حبوباً ، كان فعلاً يتّق النار دائماً و لو بشق تمره ، لم تكن تحلو الأعراس بدون الدبكة العربية و على رأس الدبكة كان دائماً ابن عمها هناك يقود الشباب في ليالي الأفراح الجميلة ، كان أسمراً ممشوق القامة قوي العضلات عيناه عربية في سواد الليل . صحيح أنه قد مضى على غيابه أكثر من أسبوعين و هو مع المجاهدين ، فلا يمكن أن يكون جهاد دون أبو مهاوش الذي كان حاضراً دائماً في كل ميدان عز و كرم فكيف بالجهاد ...؟؟
ابن عمها هذا رفيق دربها و حبيب عمرها ، تفتحت عيناها عليه و هو يحملها و يحميها ، فقد كان أكبر منها بنحو السبع سنوات و عندما تزوجا كانت مازالت في الخامسة عشرة من عمرها .
ليلة يوم زفافها ما أجمله كان من يوم و قد تحلقت النساء من حولها ثم جييء بالعريس و أُركِب على حصان أبيض و أُركِبَت هي على حصان مشابه حاملة باقة من الورد في يدها ، أما عريسها فقد كان يحمل شعار العرب الأحرار و هو السيف أبداً ، ترى متى سوف يعود أبو مهاوش فقد اشتقت إليه كما اشتاق الأولاد خاصة ساره إلى أبيهم ...
كانوا يسألون عنه كل يوم و ينتظرونه كل يوم و يتوقعونه في كل لحظة و قد حضر بثوبه المخطط متمنطقاً بخنجره معلقاً بندقيته القديمة إلى كتفه . دائماً كان يحضر لهم معه و حتى مع ضيق وقته بعض الحلويات من أي مدينة يمر منها أو تكون قريبة منه .
لـو أنك نظرت إلى أمينه بثوبها الطويل و غـطاء رأسها الأبيض لاعتقدت أنـك تنظر إلى أميرة عربية أو واحدة من آلهة الإغريق ، بياض صافٍ ، عينان سوداوتان يحميهما حاجبين كأنهما قوسين و لا أدق أو أجمل ، كان أنفها صغيراً مستقيماً يشمخ فـوق شفـاه متسعة ممتلئة تخفي أسناناً غاية في الجمال و البياض . كانت أمْيََل إلى الطول ، أما شعرها المخفي تحت غطاء الرأس فقد كان لمن شاهدته من النسوة أسوداً طويلاً و في أكمل صحة .
آآآه لو أن أيامنا هادئة مثل باقي خلق الله ... من أين جاءنا هؤلاء اليهود قاتلهم الله و قاتل من جاء بهم . كانوا يقولون لنا بأنهم قد هربوا إلى ديار الإسلام من ظلم هتلر ، و لكنني بعد طول تعامل معهم لا أعتقد أن كل هتلرييّ العالم في قسوتهم و لؤمهم و خبثهم و قذارتهم ...
كما يقال فالنوم سلطان ... نامت أمينه بهدوء و هي تحتضن أطفالها بعد أن أعادت الرضيع إلى السرير الخشبي ، أما الصغار فكانوا مرتبين حولها ساره على الجانب الأيمن و الأخوين على الجانب الأيسر ، الصغير تماماً إلى جانبها و بعده أخوه .
و مع أنه كان هناك بالبيت أكثر من غرفة للنوم إلا أن ذلك كان يمكن أن يكون لو أن الأحوال طبيعية ، أما و أن الأحوال قد أصبحت يهودية غادرة فكان لا يمكن لأمينه أن تنام إلا و وفق هذه الطريقة و أطفالها جميعاً في حضنها ...
لم يكن أبناء و أحفاد الشيخ منصور في حضنه في ذلك المساء فقد كان مشغولٌ باستقبال بعض الضباط و الجنود الإنجليز من المعسكر المجاور ، طبعاً لم يكن الكولونيل جونز معهم فهو سيأتي غداً إلى الاحتفال الرئيسي ، أما الليلة فقد حضر هؤلاء الأصدقاء الإنجليز الأدنى رتبة .
كانت الخراف المشوية شهية إلى درجة لا يمكن لأحد أن يقاوم التهامها بنهم كان هو و بعض خاصّته و المدعوين من أصدقائه الإنجليز متحلقين حول الطعام ، ومن حين إلى آخر كان هؤلاء الإنجليز يخرجون من جيوبهم زجاجات صغيرة بحجم كف اليد و يحتسون ما بداخلها حتى تفتح شهيتهم و لا تُسد بعدها أبـداً . طبعاً بعد الطعام شارك الضيوف بما فيهم الإنجليز في السامر لكنهم لم يستطيعوا مجاراة أبناء الواحة في ركوب الخيل و اللعب و الرقص عليها . بكل مقاييس الشيخ منصور فقد كانت ليلة مشهودٌ لها خاصة رقصة السيف التي انضم إليه فيها ضباط الإنجليز و بدأوا يتأرجحون يميناً و شمالاً و قد حملوا السيوف العربية التي كانت تلمع تحت ضوء القمر و على أنوار المصابيح .
انفجارات قريبة و انفجارات بعيدة و دوي قذائف هذا ما أيقظ أمينة من نومها و معها أطفالها مذعورين . لم تعرف إلى أين تذهب فإخوانها و أبوها أيضاً مع زوجها في الخنادق كما أن منزل والدتها و حماتها كان في آخر الحي .
كانت تسمع القذائف و أصوات انفجاراتها و حتى وهج نارها من خلف ستائر الشبابيك . فتحت الباب و دلفت إلى فناء الدار ثم فتحت الباب الخارجي و صغارها متحلقين حولها مرتعبين ، نظرت شمالاً و يميناً و إلى الأمام ، كان الظلام دامساً ، مثلها فعلت الجارات و أيقنّ جميعاً بأن معركة رئيسية و حقيقية لابد أنها تدور على تخوم القرية .
مرّت ساعات و المعارك كانت ما تزال دائرة على أشدها بين بنادق المجاهدين بأصوات طلقاتها المفردة و طبعاً الطلقات السريعة و أصوات المدافع لم تكن من جانب المجاهدين على الإطلاق ، فسلاح الرجال لم يزد في أي يوم عن بندقية اشتراها المجاهد بماله و كذلك اشترى ذخيرتها من السوق السوداء .
كانت البنادق تٌخفى في شتى الأماكن عن عيون الإنجليز فعقوبة وجود السلاح داخل بيتك هي الإعدام و الإعدام فقط ، طبعاً هذه هي العدالة البريطانية ، عدالة حلفاء حكومات العرب ، و كم قضى من الشباب على أعواد المشانق بسبب بندقية أو حتى مسدس أو ربما طلقة واحدة .
كانت أصوات القذائف تقترب و قد قصف اليهود مئذنة المسجد من بعيد و لكن رويداً رويداً كانت أصوات شاحنات ثقيلة تقترب أيضاً .
كانت الحلقة تضيق من كل الجهات و كانت القذائف تتساقط هنا و هناك على محيط القرية و في وسطها ... في وسطها تماماً حتى أن قذيفة قد أصابت مضافة الشيخ جواد و إحالتها ركاماً .
خرجت النساء من البيوت و اتجهن إلى مواقع القتال القريبة ، تركت أمينه أبناءها الصغار في عهدة شقيقهم مهاوش و شقيقتهم ساره أما الرضيع فقد حملته على كتفها ، قالت للصغار أنها سوف تعود بعد أن تطمئن على والدهم و أعمامهم و أخوالهم .
بسرعة أخذت تمشي نحو ساحة القرية ، شاهدت بعض المجاهدين من أقاربها الذين كانوا يستحكمون على أطرافها تحت أشجار الزيتون و خلف الصخور و السلاسل الحجرية و خنادق تم حفرها على عجل .
إذن وصل القتال إلى داخل القرية تقريباً الآن ، ناولت المجاهدين ما كانت قد أحضرته معها من ماء و خبز و تمر و قطين و بعض حبات البندورة المجففة بعد أن اطمأنت من قول المجاهدين بأنهم قد قابلوا زوجها على تلة البركة و أنه كان مع والدها بخير ، لكنهم لم يشاهدوا الباقين ، ربما كانوا في مكان آخر من القتال الذي كان على أشدّه و الحرائق كانت تنتشر على مرمى النظر .
كانت تريد الذهاب إلى تلة البركة للاطمئنان أكثر و لكنها بعد نصيحة المجاهدين عادت إلى أطفالها فواجبها هناك . كانت عائدة إلى البيت تقدِّم رجلاً و تؤخر أخرى قلبها على الصغار و كبدها على زوجها و والدها فمن أغلى منهم إلا هُمْ من في البيت و من في الخنادق . طبعاً لم يذكر لها المجاهدون بأن دبابات العدو قد اخترقت خنادقهم و أن هناك الكثير من الرجال قد سقطوا تحت جنازير الدبابات ، فمن هي البندقية التي تستطيع وقف دبابة أو تدمير مدفعاً .
في الطريق إلى ساحة القرية شاهدت بقايا المئذنة المدمرة و كان الشيخ أبو عثمان و للمرة الأولى في حياته قد بدأ الأذان إلى صلاة الفجر من ساحة الجامع القريبة من البوابة فلم يعد هناك من مئذنة . كان أبو عثمان قد شارك المدافعين على القرية جهادهم منذ منتصف الليل ، وكان قد رأى عشرات المجاهدين و قد تقطعت أوصالهم بفعل القذائف المنهمرة و لكنه لم يشاهد منهم هارباً واحداً . كانوا يتراجعون إلى تخوم القرية بانتظام لعّل الله يرسل لهم من ينجدهم من جيوش العرب القريبة .
بينما كان المجاهدون يطلقون ما معهم من رصاص أغلى من الدم و تقريباً في نفس وقت بداية هجوم اليهود كان احتفال الشيخ منصور في ليلة زفاف نجله على أشدّه ، وكانت تُطلَق آلاف الرصاصات احتفالاً بالمناسبة السعيدة ، هنا كان يُطلق الرصاص فرحاً بل قُلْ سفاهةً و هناك كان الرصاص للدفاع عن الأرض و العرض و الشرف ... فما أقذرك يا برميل الكاز ...
بعد منتصف الليل بقليل انفض سامر الشيخ منصور على أمل اللقاء غداً قبل الظهر لبدء الاحتفال الرسمي بالزفاف بعد استقبال الصديق الكولونيل جونز و حرمه المصون ... هذه المصون الشبقة و التي كانت توزع الحب كلما سنحت لها فرصة ، و لم يكن يهمها اللون أو الجنس اللهم أن يكون شاباً و فحلاً لا يهدأ لعلها تروى .
قطعت أمينة المسافة من ساحة القرية و تحديداً من بوابة المسجد إلى منزلها برفقة بعض من الجارات اللواتي كان يشغلهن ما يشغلها ، و على أصوات الرصاص و تحت القذائف كان كبار السن قد اتخذوا طريقهم إلى نداء الصلاة لعلّ الله يستجيب لدعائهم و يسمع الأخوة أنينهم و آهاتهم و يسعون إلى نجدتهم .
لم يكن في القرية كلها من رجل واحد ، كان الجميع هناك على التخوم و في الخنادق . صلى الشيخ أبو عثمان بالموجودين ممن سمح لهم عمرهم و صحتهم و موقعهم بالوصول إلى المسجد . صلى الحاضرون صلاة الفجر و أقاموا دعاء القنوت و لم ينسوا أن يصلوا صلاة الغائب على من وقع شهيداً في الليل أو مع الفجر .
لم يتحسن الوضع بعد الصلاة بل كان الهجوم مازال على أشدّه و كانت مدافع اليهود و دباباتهم تُشاهَد بالعين المجردة و هم على بعد مئات الأمتار فقط من ساحة القرية ، ربما كانوا ينتظرون أن تنتهي رصاصات المجاهدين ليقوموا بالهجوم الأخير و ربما كانوا يخشون من نجدةٍ عربية تطوقهم .
ما بعد الفجر هنا كان يختلف كثيراً عنه في واحة الهجين . بعد الفجر مباشرة بدأ ذبح الأغنام و الجُزُر و الجمال المعدة لغداء الزفاف و بدأت النساء بالعمل بهمة و نشاط على أعداد القدور و تنظيف اللحم و إعداد الأرز و تحضير الآنية و مزج السكر بالشراب الكثيف و الماء لتحضير شراب العرس للمعازيم . كما كان الفرسان قد بدأوا بغسل خيلهم و تنظيفها و تزييت بنادقهم و مسح أنصال سيوفهم استعداداً للعرس ...
عند ساعات الصباح الأولى كانت واحة الهجين قد أكملت استعدادها لغداء الزفاف و كانت الخيل المطهمة تقف مستعدة لبدأ السباق و الرقص ، وكان الفرسان يتمخترون هناك عند مضرب الشيخ منصور و قد لبسوا أجمل ثيابهم و كانت بنادقهم و سيوفهم اللامعة مستعدة للحفل الكريم .
في بني جهاد استمر القتال بعد الفجر و في الصباح الباكر أيضاً ، عند نحو التاسعة صباحاً بدأت دبابات العدو و آلياته الأخرى في التقدم مطلقة كل ما توَفّر لها من حمم و كانت مرابض المدفعية تشاركها القصف على قرية كانت بالأمس مثالاً للوداعة و الجمال و السحر . كانت المنازل تُدمَّر تحت وابل القصف و الحرائق تنتشر حول الساحة و في داخل المسجد . سَقَطَ الإمام أبو عثمان و معه بعض العجائز و هم يرفعون أياديهم ضارعين إلى السماء ، فلم يكن لديهم أي سلاح ناري يستطيعون القتال به ، حتى أصوات بنادق المجاهدين قد خفتت أو قل اختفت فلم يعد هناك من رصاص .
كانت مدافع دبابات العدو و رشاشاتها قد عملت فيهم حصداً بعد أن نفذت ذخيرة المجاهدين . اقتحمت الدبابات طوق الخنادق الأخير حول القرية و بدأت في تمزيق الشهداء و الجرحى تحت جنازيرها ، و بعد أن اطمأن الجنود في داخلها إلى عدم وجود من لديه رصاص أو حياة ليقاوم ، نزلوا من الدبابات و ركّبوا الحراب على البنادق و استلّ بعضاً منهم سكاكينهم الطويلة اللامعة و بدأوا بالإجهاز على الجرحى ، فلم يكن هناك من أسرى . أخذوا بطعن الجرحى أيـاً كان هذا الطعن في الصدر أو في العنق أو العين أو الأذن .
كان حقدهم و لؤمهم و نذالتهم فقط هو ما يدفعهم ، كانوا يحقدون على هؤلاء الرجال لأنهم ليسوا مثلهم ، فلو كان السلاح متكافئاً و لدى هؤلاء الرجال ما يكفي من الذخيرة لهزموهم شرّ هزيمة و كان هذا في يقينهم ، بدأوا بتجريد بعض الجرحى و الشهداء من ملابسهم و قاموا بقطع ذكورة حتى الأحياء منهم ، هي ذكورة أولاد محمد فلابد من استئصالها .
قبل الظهر لم يكن هناك أي مقاتل ، بعض الجرحى الذين نجوا حتى الآن لبُعْدِ مكانهم ، كان أبو مهاوش هناك و قد هُشّمت ساقه تماماً عند الركبة ، كان يزحف بكل ألم إلى داخل القرية ، لم يكن هناك من أحدٍ معه سوى جرحه النازف و عظامه المهشّمة و بندقيته التي مازالت محشوة برصاصة أو اثنتين لا يدري .
لم يعد هناك من رصاص و لم يكن هناك من نصير ، بعد أكثر من ساعتين من الزحف وصل أبو مهاوش إلى بيته ، و عندما رأته أمينه ارتجفت بشدة لخوفها على ابن عمها و لكنها قطعاً لم تَجبُن .
حملت ابن عمها إلى دكّةٍ عريضة في ديوان الضيوف ، أحضرت الماء و بدأت بغسل الجرح محاولة بكل ما أوتيت من حيلة و قوة وقف نزيف الدم . كان قلبها يدمع على زوجها و أطفالها الذين تحلّقوا حول والدهم الذي كانت تهرب منه الحياة رويداً رويداً .
اقتربت أصوات غريبة من الدار و بسرعة البرق أغلقت أمينه الباب الخارجي للفناء و كذلك باب الديوان حيث زوجها ، طلب منها زوجها إخفاء الطفل الكبير مهاوش خوفاً عليه لأنه اعتقد أنهم لن يؤذوا البنات أو الأطفال الصغار ربما كان يحلم ...!!!
بعد قليل بدأ قرع الباب ثم تم خلعه بأعقاب البنادق . دخل الجنود إلى فناء البيت ، سحب أبو مهاوش بندقيته و أطلقها عليهم ، أصاب أحدهم الذي خرّ صريعاً و هرب الباقون . بعد قليل عادوا بعدد أكبر ، جاؤوا بسيارة مسلحة بدأت تقصف كل متر في المكان و الجدران و الأبواب و الشبابيك و قنّ الدجاج و برج الحمام و مخزن المونة و حتى البقرة صبحة قتلوها .
بعد أن أيقن اليهود بأن لا سلاح يقاومهم من الداخل حطموا باب البيت ، كانت بندقية أبو مهاوش ملقاة هناك و لم يكن قد بقي فيها أي رصاص ، فما قتل صاحبهم كانت الرصاصة الأخيرة .
جرّ اليهود أبو مهاوش الجريح ، أخرج أحدهم حربة طويلة ، ثبّتوا أبو مهاوش على الأرض و قام إثنان منهم بإدخال الحربة في كتفه و ثبّتوه فيها إلى الأرض اندفع أحدهم إلى أمينه التي كانت تصرخ و تصرخ و تصرخ بلا مجيب و كانت تحاول حماية زوجها بكل ما أُوتيت من قوة و لكنهم كانوا عشرة رجال و ربما أكثر ، عشرة وحوش بشرية أرسلتهم لنا بريطانيا العظمى و أوروبا الحنونة .
أخرج أحدهم زجاجة خمر من جيبه و بدأ بشربه ، قام أربعة منهم بإلقاء أمينه على الأرض أمام أطفالها و زوجها ، استلّ أحدهم سكيناً من قرابه و تناول الصغير عقله غير عابيء لا بصراخه و لا بصراخ والدته أو رجاء والده الذي كان يرجوهم بحرارة ... مهاوش ... أمينه ... عقله ... ساره ...
اذبحوني أنا و اتركوا زوجتي و أطفالي ، و لكن لا من يسمع ... فهل سمع غلاظ الرقاب قساة القلوب من رجاهم قبله ...!!!
مسك اليهودي المسخ رأس الطفل عُقله و بعد لحظات كان رأس الطفل قد افترق عن جسده بفعل سكينه بيضاء عريضة النصل . ربما كانت قادمة من مانشُستر مباشرة ... رفع رأس الطفل الذي كانت عيناه شاخصتان إلى السماء ، بدأوا بتجريد أمينه من ملابسها ، قاومت بأظافرها و أسنانها ، ثبّتوها فضمت ساقيها بوضع متشابك ، و عندما لم يستطيعوا فتح الساقين قام أحدهم بطعن فخدها بحربة . جُرِّدت أمينه من كل ملابسها ، كانت الدماء تسيل من فخدها بغزارة بينما كان اليهود يتناوبون على اغتصابها ، ثم جرّدوا الصغيرة من ملابسها و بدأوا بالتناوب عليها أيضاً و هي تصرخ بصراخ يقطع نياط القلوب .
كانت أمينه بين اليقظة و الإغماء ، لا تدري نفسها في علم أو حلم ، كان كل ما فيها يؤلمها و كان الأنذال ما زالوا يتناوبون عليها و قد شَخَصَ نظرها إلى السماء ، كانت تدعو الله بلسانها و عيونها و كل جوارحها و حتى بدمائها أن يريحها مما هي فيه ...
يــا ربي رحمتك ... ارحمني يــا الله ... خذني إليك ... لقد عزّ النصير إلا انت ... ارحم زوجي ارحم عُرِييّ و عاري ... ارحم آلام أطفالي يــا الله يــا الله ...
هناك في واحة الهجين و في نفس الوقت التي كانت تغتصب فيه امينه مراراً و تكراراً و تغتصب طفلتها إلى جانبها و الزوج المهشّم و المثبّت بحربة إلى الأرض بين حياة و موت و رأس عُقله ملقى في جهة و جسده الصغير في جهة أخرى ، و عندما كان يطال صراخها عنان السماء ، كان الرقص و الغناء على أشدّه و كانت السيوف تلمع تحت وهج الشمس و الخيل المطهمة و عليها الفرسان في أجمل هيئة و ثياب يطوفون على جانبي سيارة الكولونيل جونز ضيف شرف الزفاف ، ظلت زوجته في السيارة و خرج هو إلى حيث كان حصاناً أبيضاً مطهماً و مزيناً حتى بالجواهر ينتظره .
امتطى الحصان و سار إلى جانب الشيخ منصور و أخذ يطلق النار فرحاً معهم . هناك في السماء امتزجت الأصوات ، صوت الفرحين بالزفاف و أنين الجرحى من أبناء العم و من المغتصبات من بنات القوم .
كانت الخيل ترقص و البنادق تلعلع و السيوف اللامعة تحيي ضيوف الشيخ منصور و من معه من الإنجليز ... سار الموكب تحفّ به الرجال و تحييه زغاريد النسوة .
وصل الضيوف إلى الديوان نزل الكولونيل عن حصانه ، جيء بمن خلع له نعليه الطويلين ، و على فراش مرتفع وثير مغطى بالحرير جلس مع زوجته الشقراء لاستكمال الحفل و الاستمتاع بالغداء و بضيافة الشيخ منصور الذي له لدى زوجة الكولونيل معزة خاصة جداً بما يقدمه لها من هدايا ثمينة بمناسبة و بدون مناسبة و كل هذا حتى يرضى عنه الكولونيل و يقدم له من السلاح ما يكفي لردع ابن عمه الشيخ علوان في الواحة القريبة و الذي كان فقيراً لا نفط لديه و كان هذا ما يخشاه الشيخ منصور أن يطالب ابن العم هذا بحصته من ثروة النفط له و لأقاربه الكثر ، و لكن صداقة الكولونيل و المعسكر الذي أقامه بالقرب من الواحة قد أقنعت ابن العم بأن يبتعد و أن يقبل الفقر و حتى المبيت على الطوى فلا قِبَلَ له بأسلحة الإنجليز و طائراتهم الكثيرة .
بينما هم جلوس مال الكولونيل على زوجته اليهودية قائلاً : " لقد وصلنا الخبر للتوّ ، فقومك قد اقتحموا قرية الملاعين بنو جهاد و يبدوا أنهم قد عاثوا فيها فساداً ... " ، و عندما سألته زوجته إن كان الشيخ أبو منصور يعلم بهذا الأمر أجابها أنه ليس أكيداً من هذا و لكن حتى لو علم ماذا يستطيع أن يفعل ..؟؟
فسألته ألا تخشى من غضبه فهو صديقك ..؟؟ نظر زوجها إليها بطرف عينه قائلاً ... " يا حبيبتي هؤلاء ليسوا أصدقائي ... إنهم مجرد ملقط نستخدمه لالتقاط ما نريد من النار ، بل قولي ربما خرقة بالية نستخدمها لإزالة قاذوراتنا التي نرميها هنا و هناك ... هل تريدين مني أن أثق و أصادق من يحالف عدوه و عدوّ دينه حتى يمنع عن أخيه حتى الطعام ...؟؟ الشيخ منصور هذا بالنسبة لي هو الملقط و الخرقة معاً فهو لنا حتى نستخدمه لكل ما هو قذر ...
قبل تقديم الغداء بقليل و بفعل حماس ما حوله من الشباب ، امتشق الشيخ منصور سيفه الأبيض اللامع ذو المقبض الذهبي المطعّم بالجواهر ، كان السيف يلمع هناك تحت الشمس و لم يدرك الحضور بأن شدة اهتزاز السيف لم تكن بفعل قوة الشيخ ، و كان هو لا يدرك أيضاً لماذا يهتزّ السيف بهذه الطريقة العنيفة مع محاولته المستميتة لتثبيته ، كانت هناك ذبذبات صراخ أمينه تضرب حدّ السيف ... السيف الذي لم يعد ينفع إلا للرقص مع الأعداء أو لقطع قالب الحلوى ...
هناك في مخبئه كان مهاوش أيضاً يسمع صراخ والدته و أبيه و شقيقته لكن من فرط الرعب و الخوف كان شبه متجمد .
فجأة انتفض مهاوش الصغير ابن السنوات السبع ، فوجد هناك بجانبه خرطوش صيد جدّه المزدوج . أخذ الخرطوش بعد أن تأكد من تلقيمه ، خرج من مخبئه كانت بارودة الصيد أطول منه ، كانت ثقيلة و كان يحملها بصعوبة . وجّه مهاوش البندقية نحو من كانوا يغتصبون والدته ، صرخت والدته " الله يرضى عليك " ، و انطلقت الرصاصات معاً لتقتل من تقتل و تجرح من تجرح من اليهود الأنذال .
نظر الوالد إلى ابنه بعين الرضى و أسلم الروح بينما كانت مئات الرصاصات تخترق الجسد الصغير ...
بعد انتهاء الرقصات الاخيرة في تلك الليلة و رقصة السيوف الشهيرة ، قدّم الكولونيل مذياعاً صغير الحجم و من آخر طراز على سبيل الهدية إلى الشيخ منصور . أدار الشيخ المذياع ليسمع نفس صوت مذيع الـ(بي بي سي ) : تقول الأخبار الواردة من الشرق الأوسط بأن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قد اقتحمت قرية بني جهاد و بأنه ربما تكون قد ارتُكِبَت بعض التجاوزات هناك من قِبَل بعض الجنود ............. و أنه ربما سقط بعض الأطفال قتلى جرّاء القصف العنيف و أنه قد جرت بعض حالات الاغتصاب كما يدّعي صحفي عربي شاهد المعركة .....
امتدت يد الشيخ منصور إلى المذياع ... أداره إلى حيث الأغاني ، نظر بوجه صديقه الكولونيل مبتسماً ، ثم برم شاربيه ناظراً إلى الأفق البعيد .......
داود البوريني
لو كنت هناك على الجبل المقابل و نظرت شرقاً لرأيتها قرية بني جهاد الوادعة ببيوتها الحجرية أو الطينية البسيطة . في الوسط كانت ساحة القرية الواسعة التي تتوزع منها شوارع عربية ضيقة على أحيائها المختلفة من حي الشيخ حمدان إلى حي الشيخ خلف إلى حي الشيخ جواد .
كانت أحجار البيوت تشي بالعمر الحقيقي لبنائها فبعض هذه البيوت كانت مبنية منذ مئات السنين و قد توارثها الخلف عن السلف و توارثها ساكنيها من جيل إلى جيل و لذلك كانت الجيرة الضاربة في القدم بين هؤلاء الساكنين هي بمثابة قرابة قوية إن لم تكن قرابة و جيرة معاً ، بيوت القرية المتقاربة جداً و المتلاصقة في أحيان كانت تعطي العلاقات فيها دفئاً و مودة و رحمة و حسن جوار . ساحات و فناء البيوت نظيفة و الشبابيك لامعة ، الشوارع الضيقة بينها كانت نظيفة مع عدم وجود بلدية أو مجلس قروي ، فقد كانت سيدة البيت لا تنهي عملها اليومي قبل أن تنظف أمام منزلها و هكذا بشكل يومي متواصل و حتى الماء لغايات الطبخ و الغسل و الاستحمام كانت تجلبه نساء القرية من عين الساحة الكائنة على زاوية ساحة القرية ، ربما أن الأجداد قد خططوا لهذه الساحة و المسجد فيها لتكون ملاصقة لعين الماء و هذه كانت تبعد مئات الأمتار عن عيون البلد الأخرى ( العين الشرقية و العين الجنوبية ) .
كان الزمن أوائل الربيع و بعد أمطار الشتاء الغزيرة كانت السهول تمتد أمامك كأنها بساط أخضر واحد تتخلله الوردة البرية و على رأسها شقائق النعمان لتظهر لك القرية و كأنها لوحة طبيعية متسقة ، هكذا فعلت الطبيعة فيها و هكذا كانت تتراءى عن بعد و لم يكن الناظر عن بعد يعرف حجم الحزن داخل بيوتها أو في صدور رجالها أو كبار السن الجالسين على سور المسجد القصير انتظاراً لصلاة الظهر و لإقامة الصلاة بعدها على جثامين شهداء القرية الخمسة الذين سقطوا بالأمس في معركة وادي العربان .
كان الحديث بين الشيوخ عن أحوال البلاد و القرى المجاورة و المعارك التي تنشب مع اليهود بشكل يومي تقريباً ، هؤلاء اليهود كان يتوفر لهم السلاح حتى الأسنان و الذين تأتيهم المعونات من كل مكان ، كل شيء البندقية و الرشاش و المدفع و الدبابة و حتى الطائرات ، بينما الشيوخ كذلك وصل أمام الجامع الشيخ أبو عثمان و بيده صحيفة مطوية جيداً ، سأله المنتظرين عن آخر الأخبار فأجاب بأن مجلس الأمن سوف يعقد اجتماعاً قريباً لتدارس الأوضاع عند العرب و عندما سأل أحد الجالسين ما هو مجلس الأمن هذا أجابه آخر بأنه اللهاية ... و عندما سأل ما هي اللهاية فسّر له الحاج أبو عثمان بأن اللهاية هي حلمة جلدية توضع في فم الصغير حتى يتلهّى بها و يعتقد أنه يرضع حليباً و يهدأ عندما تكون أمه مشغولة ، و مجلس الأمن هذا هو لهاية العرب لتُخدِع حكوماتهم أو لتساعد هذه الحكومات على خديعة شعوبها...
علّق آخر ... حلو و الله ... بعطونا لهايات و غداً بعطونا خش خيشة نلعب فيها... لم توقف رهبة الموقف و لوعة انتظار جثامين الأبناء من حرارة المناقشة السياسية الدائرة ، و فعلاً لم يوقف المناقشة سوى ظهور بضعة شاحنات على بعد كيلومترات قليلة من مكان المسجد المرتفع .
إذن ... جاء الشهداء ... بعد دقائق وصلت السيارات و بدأت النساء و الأمهات و الأطفال و الآباء في بكاء صامت صادر عن أعماق الروح بينما قام نحو العشرة رجال من المجاهدين في إنزال التوابيت يساعدهم الشيوخ و الصبية حيث أن معظم الرجال كانوا في الاستحكامات على مشارف القرية .
في تلك اللحظات أذّن المؤذن لصلاة الظهر التي تبعتها صلاة الجنازة و طبعاً بعد موكب مهيب بدون اية موسيقى أو مارشات عسكرية وصل الجميع إلى مقبرة القرية ليدفنوا الشهداء و لكنهم دفنوا ستة شهداء و ليس خمسة فقط فقد كان الشهيد السادس متطوعاً مغربياً جاء من بعد آلاف الكيلومترات ليدافع عن أهله على تخوم قرية بني جهاد .
انتهت مراسم الوداع الأخير و قد امتزجت لوعة الفراق مع الشعور بالفخار و الرضى عن النفس ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون هكذا علّمنا إمام الأنبياء و أشرف كتاب و أقدس حديث ...
على بعد كيلومترات قليلة ، قد لا تزيد عن بعضة عشرات أو قل مئات من الكيلومترات كانت الأمور في واحة هجين تسير بشكل مغاير تماماً ، كانت خيمة الشيخ منصور و خيم أقاربه المحيطة بها قد زُينت بالأعلام المختلفة ، أعلام صفراء و حمراء و خضراء و زرقاء و أعلام متعددة الألوان و أخرى بدون أي لون ، كما أن مصابيح الزيت للإنارة الليلية كانت جاهزة و لامعة لإنارتها مساءً هذا بالإضافة إلى المصابيح الكهربائية التي سوف تنير خيمة الشيخ منصور و الساحة المواجهة لها و الصادرة عن الموتور الكهربائي الذي أهداه مستر جونز المعتمد الإنجليزي للمنطقة للشيخ منصور صاحب القول و الشور .
كان كل شيء جاهزاً للاحتفال بزفاف سيف الابن الثاني للشيخ منصور ، الأرز و السكر و الشراب على ألوانه و الأغنام و الجُزر . كان احتفالاً بحق لهذه المناسبة ، فقد صاهر الشيخ شيخ عشيرة فاتك القوية و اختار هذه المصاهرة عامداً ليزداد قوة على قوة .
جاء المساء على بني جهاد ككل مساءٍ آخر فبعد يوم طويل من استقبال جثامين الشهداء و دفنهم و القيام بواجبهم عاد المجاهدون من حيث أتوا و كالعادة بعد صلاة العشاء أوى الجميع إلى مساكنهم ، و بعد أقل من ساعة على صلاة العشاء بدأت مصابيح منازل القرية تخبو الواحد تلو الآخر حتى باتت القرية في ظلام دامس ، باستثناء بضع عشرات من الشبان كانوا يقومون بأعمال المراقبة و الحراسة بين الأحياء المختلفة .
وحدها أمينة زوجة محمد السلمان ظلت مستيقظة بعد أن أبقاها رضيعها كذلك و الذي كان قلقاً يرفض النوم ، لم يكن قد جاوز الشهور السبعة ... لقد نظفته و أرضعته كعادتها و وضعته في سريره الخشبي بجانبها و هزّت السرير كالعادة و لكن الرضيع أحمد ظل يرفض النوم ، لقد نام كل من في البيت ماعداه ، نام شقيقه مهاوش ابن السبع سنوات و شقيقته سارة ابنة الخمس سنوات و شقيقه عُقله ابن السنوات الثلاث ، أما هو فكان يرفض النوم في ذلك الوقت من تلك الليلة ، أخذت تحتال عليه حتى ينام ، أخرجته من سريره و وضعته في حضنها و بصوت خفيض فيه كل دفء و حب و حنان الدنيا بدأت بالغناء له حتى ينام :
نام يا أحمد نام ...
صلي على سيد الأنام ...
محمد ابن الصيد الكرام ...
ولا لا ولا لا يا لالا ...
نهضة ما هي طوّاله ...
بكره نبني فيها دور ...
محصن ضد القتالة ...
بينما كانت أمينه تحاول بكل الوسائل أن تجعل النوم يتسلل إلى رضيعها كانت السهرة مازالت في أولها في واحة الهجين و كان قرع الطبول و المزامير مستمراً و الطعام على أشكاله و ألوانه المختلفة موضوع أمام الضيوف ، كان الشيخ منصور يدور مختالاً بين ضيوفه مزهواً بغناه المفاجيء الذي جاء مع بئر النفط المكتشفة حديثاً في الواحة ، خاصة بعد أن ثبّته المعتمد الإنجليزي رسمياً كشيخ على واحة الهجين ، كل ما كان يبهج كان هناك ... الشباب الراقصين في الساحة و الخيل التي ترقص على المزمار و النساء في أجمل الملابس في خيمة العروس فهذه هي ليلة السهرة الأخيرة من سبع ليالٍ طوال كان الكل فيها مبتهجاً إما بإرادته أو رغماً عنه أو مقابل ثمن . لكن عدوى الفرح كانت هناك ... الكل كان موجودٌ في هذه الاحتفالات و السهرات و الولائم المتصلة باستثناء إثنين ... أولهما معلّم الكتّاب الشيخ صابر القادم من الأزهر و ثانيهما الابن البكر للشيخ منصور و هو زهير ، هذا الولد العاق الذي كان يرفض بشكل مطلق وجود الانجليز في المعسكر القريب من الواحة ، كما كان يرفض أكثر علاقة والده الشيخ منصور معهم ...
هذا الابن كان محبوب من الجميع ، شجاع و كريم و مسالم ، حتى جاء الشيخ صابر و الذي يبدو أنه قد عبث بأفكار الصبي بما كان يقصه له عما جرى في وادي النيل و ثورة عرابي و مذبحة التل الكبير و الخونة الصغار من الخديوي توفيق إلى أصغر مسؤول حوله ، حدّثه عن سبعة آلاف شهيد سقطوا بالخيانة في معركة التل الكبير ، كما حدّثه عما وصل إليه من معلومات عن المجاهدين في بلاد المغرب و الشام و الرافدين . طبعاً حقد الشيخ منصور على الشيخ صابر بسبب اعتقاده بتأثير الأخير على ولده بما حمله معه من كتب صفراء و أفكار غريبة و قوله الدائم بأن من والـى الإنجليز فهو منهم و بأنهم سبب كل مأساة حلّت بالعرب ، لذلك كان لابدّ من حرمان الشيخ صابر و زوجته من هذه الاحتفالات حتى يشعر بذنبه و لكن لا بأس من مشاركة أطفاله في الأفراح و اللعب مع الصبيان و تناول الطعام فلا أحد عند العرب عنده المقدرة على حرمان حتى أطفال عدّوه من هذا الحق ...
بعد وقت طويل من الاحتيال بالارضاع و الغناء و الهدهدة أغمض الرضيع أحمد عينيه و ذهب في سبات عميق ، مددّت أمينة نفسها بجانب أطفالها النائمين بأمان و ذهبت بأفكارها إلى ما جرى اليوم عند دفن الشهداء و كيف تحلقت النساء حول جثامين أبنائهن و أزواجهن و هنّ يبكين لوعة الفراق في لحظة الوداع الأخير ، وحده الشهيد من المغرب كان مسجّى بعيداً قليلاً هناك ، فجأة انتبهت النساء فقمن بحمله و وضعه بجانه إخوانه ... أبنائهن ... من قال أن ابن المغرب ليس شقيقاً موثوقاً لابناء الشام و من هو القريب الأغلى من الشهيد... بعد ذلك ذهب فكرها إلى زوجها شيخ الشباب محمد السلمان ...
محمد السلمان ابن عمها البكر و السبّاق دائما في الحرث و الزرع و الحصاد و قطف الزيتون و في ركوب الخيل و في إكرام الضيف ، لم تسمعه يوماً يعتذر إلى فقير طرق الباب ، كان يقدم من أي شيء عنده إن كان خبزاً أو حليباً أو مالاً أو حبوباً ، كان فعلاً يتّق النار دائماً و لو بشق تمره ، لم تكن تحلو الأعراس بدون الدبكة العربية و على رأس الدبكة كان دائماً ابن عمها هناك يقود الشباب في ليالي الأفراح الجميلة ، كان أسمراً ممشوق القامة قوي العضلات عيناه عربية في سواد الليل . صحيح أنه قد مضى على غيابه أكثر من أسبوعين و هو مع المجاهدين ، فلا يمكن أن يكون جهاد دون أبو مهاوش الذي كان حاضراً دائماً في كل ميدان عز و كرم فكيف بالجهاد ...؟؟
ابن عمها هذا رفيق دربها و حبيب عمرها ، تفتحت عيناها عليه و هو يحملها و يحميها ، فقد كان أكبر منها بنحو السبع سنوات و عندما تزوجا كانت مازالت في الخامسة عشرة من عمرها .
ليلة يوم زفافها ما أجمله كان من يوم و قد تحلقت النساء من حولها ثم جييء بالعريس و أُركِب على حصان أبيض و أُركِبَت هي على حصان مشابه حاملة باقة من الورد في يدها ، أما عريسها فقد كان يحمل شعار العرب الأحرار و هو السيف أبداً ، ترى متى سوف يعود أبو مهاوش فقد اشتقت إليه كما اشتاق الأولاد خاصة ساره إلى أبيهم ...
كانوا يسألون عنه كل يوم و ينتظرونه كل يوم و يتوقعونه في كل لحظة و قد حضر بثوبه المخطط متمنطقاً بخنجره معلقاً بندقيته القديمة إلى كتفه . دائماً كان يحضر لهم معه و حتى مع ضيق وقته بعض الحلويات من أي مدينة يمر منها أو تكون قريبة منه .
لـو أنك نظرت إلى أمينه بثوبها الطويل و غـطاء رأسها الأبيض لاعتقدت أنـك تنظر إلى أميرة عربية أو واحدة من آلهة الإغريق ، بياض صافٍ ، عينان سوداوتان يحميهما حاجبين كأنهما قوسين و لا أدق أو أجمل ، كان أنفها صغيراً مستقيماً يشمخ فـوق شفـاه متسعة ممتلئة تخفي أسناناً غاية في الجمال و البياض . كانت أمْيََل إلى الطول ، أما شعرها المخفي تحت غطاء الرأس فقد كان لمن شاهدته من النسوة أسوداً طويلاً و في أكمل صحة .
آآآه لو أن أيامنا هادئة مثل باقي خلق الله ... من أين جاءنا هؤلاء اليهود قاتلهم الله و قاتل من جاء بهم . كانوا يقولون لنا بأنهم قد هربوا إلى ديار الإسلام من ظلم هتلر ، و لكنني بعد طول تعامل معهم لا أعتقد أن كل هتلرييّ العالم في قسوتهم و لؤمهم و خبثهم و قذارتهم ...
كما يقال فالنوم سلطان ... نامت أمينه بهدوء و هي تحتضن أطفالها بعد أن أعادت الرضيع إلى السرير الخشبي ، أما الصغار فكانوا مرتبين حولها ساره على الجانب الأيمن و الأخوين على الجانب الأيسر ، الصغير تماماً إلى جانبها و بعده أخوه .
و مع أنه كان هناك بالبيت أكثر من غرفة للنوم إلا أن ذلك كان يمكن أن يكون لو أن الأحوال طبيعية ، أما و أن الأحوال قد أصبحت يهودية غادرة فكان لا يمكن لأمينه أن تنام إلا و وفق هذه الطريقة و أطفالها جميعاً في حضنها ...
لم يكن أبناء و أحفاد الشيخ منصور في حضنه في ذلك المساء فقد كان مشغولٌ باستقبال بعض الضباط و الجنود الإنجليز من المعسكر المجاور ، طبعاً لم يكن الكولونيل جونز معهم فهو سيأتي غداً إلى الاحتفال الرئيسي ، أما الليلة فقد حضر هؤلاء الأصدقاء الإنجليز الأدنى رتبة .
كانت الخراف المشوية شهية إلى درجة لا يمكن لأحد أن يقاوم التهامها بنهم كان هو و بعض خاصّته و المدعوين من أصدقائه الإنجليز متحلقين حول الطعام ، ومن حين إلى آخر كان هؤلاء الإنجليز يخرجون من جيوبهم زجاجات صغيرة بحجم كف اليد و يحتسون ما بداخلها حتى تفتح شهيتهم و لا تُسد بعدها أبـداً . طبعاً بعد الطعام شارك الضيوف بما فيهم الإنجليز في السامر لكنهم لم يستطيعوا مجاراة أبناء الواحة في ركوب الخيل و اللعب و الرقص عليها . بكل مقاييس الشيخ منصور فقد كانت ليلة مشهودٌ لها خاصة رقصة السيف التي انضم إليه فيها ضباط الإنجليز و بدأوا يتأرجحون يميناً و شمالاً و قد حملوا السيوف العربية التي كانت تلمع تحت ضوء القمر و على أنوار المصابيح .
انفجارات قريبة و انفجارات بعيدة و دوي قذائف هذا ما أيقظ أمينة من نومها و معها أطفالها مذعورين . لم تعرف إلى أين تذهب فإخوانها و أبوها أيضاً مع زوجها في الخنادق كما أن منزل والدتها و حماتها كان في آخر الحي .
كانت تسمع القذائف و أصوات انفجاراتها و حتى وهج نارها من خلف ستائر الشبابيك . فتحت الباب و دلفت إلى فناء الدار ثم فتحت الباب الخارجي و صغارها متحلقين حولها مرتعبين ، نظرت شمالاً و يميناً و إلى الأمام ، كان الظلام دامساً ، مثلها فعلت الجارات و أيقنّ جميعاً بأن معركة رئيسية و حقيقية لابد أنها تدور على تخوم القرية .
مرّت ساعات و المعارك كانت ما تزال دائرة على أشدها بين بنادق المجاهدين بأصوات طلقاتها المفردة و طبعاً الطلقات السريعة و أصوات المدافع لم تكن من جانب المجاهدين على الإطلاق ، فسلاح الرجال لم يزد في أي يوم عن بندقية اشتراها المجاهد بماله و كذلك اشترى ذخيرتها من السوق السوداء .
كانت البنادق تٌخفى في شتى الأماكن عن عيون الإنجليز فعقوبة وجود السلاح داخل بيتك هي الإعدام و الإعدام فقط ، طبعاً هذه هي العدالة البريطانية ، عدالة حلفاء حكومات العرب ، و كم قضى من الشباب على أعواد المشانق بسبب بندقية أو حتى مسدس أو ربما طلقة واحدة .
كانت أصوات القذائف تقترب و قد قصف اليهود مئذنة المسجد من بعيد و لكن رويداً رويداً كانت أصوات شاحنات ثقيلة تقترب أيضاً .
كانت الحلقة تضيق من كل الجهات و كانت القذائف تتساقط هنا و هناك على محيط القرية و في وسطها ... في وسطها تماماً حتى أن قذيفة قد أصابت مضافة الشيخ جواد و إحالتها ركاماً .
خرجت النساء من البيوت و اتجهن إلى مواقع القتال القريبة ، تركت أمينه أبناءها الصغار في عهدة شقيقهم مهاوش و شقيقتهم ساره أما الرضيع فقد حملته على كتفها ، قالت للصغار أنها سوف تعود بعد أن تطمئن على والدهم و أعمامهم و أخوالهم .
بسرعة أخذت تمشي نحو ساحة القرية ، شاهدت بعض المجاهدين من أقاربها الذين كانوا يستحكمون على أطرافها تحت أشجار الزيتون و خلف الصخور و السلاسل الحجرية و خنادق تم حفرها على عجل .
إذن وصل القتال إلى داخل القرية تقريباً الآن ، ناولت المجاهدين ما كانت قد أحضرته معها من ماء و خبز و تمر و قطين و بعض حبات البندورة المجففة بعد أن اطمأنت من قول المجاهدين بأنهم قد قابلوا زوجها على تلة البركة و أنه كان مع والدها بخير ، لكنهم لم يشاهدوا الباقين ، ربما كانوا في مكان آخر من القتال الذي كان على أشدّه و الحرائق كانت تنتشر على مرمى النظر .
كانت تريد الذهاب إلى تلة البركة للاطمئنان أكثر و لكنها بعد نصيحة المجاهدين عادت إلى أطفالها فواجبها هناك . كانت عائدة إلى البيت تقدِّم رجلاً و تؤخر أخرى قلبها على الصغار و كبدها على زوجها و والدها فمن أغلى منهم إلا هُمْ من في البيت و من في الخنادق . طبعاً لم يذكر لها المجاهدون بأن دبابات العدو قد اخترقت خنادقهم و أن هناك الكثير من الرجال قد سقطوا تحت جنازير الدبابات ، فمن هي البندقية التي تستطيع وقف دبابة أو تدمير مدفعاً .
في الطريق إلى ساحة القرية شاهدت بقايا المئذنة المدمرة و كان الشيخ أبو عثمان و للمرة الأولى في حياته قد بدأ الأذان إلى صلاة الفجر من ساحة الجامع القريبة من البوابة فلم يعد هناك من مئذنة . كان أبو عثمان قد شارك المدافعين على القرية جهادهم منذ منتصف الليل ، وكان قد رأى عشرات المجاهدين و قد تقطعت أوصالهم بفعل القذائف المنهمرة و لكنه لم يشاهد منهم هارباً واحداً . كانوا يتراجعون إلى تخوم القرية بانتظام لعّل الله يرسل لهم من ينجدهم من جيوش العرب القريبة .
بينما كان المجاهدون يطلقون ما معهم من رصاص أغلى من الدم و تقريباً في نفس وقت بداية هجوم اليهود كان احتفال الشيخ منصور في ليلة زفاف نجله على أشدّه ، وكانت تُطلَق آلاف الرصاصات احتفالاً بالمناسبة السعيدة ، هنا كان يُطلق الرصاص فرحاً بل قُلْ سفاهةً و هناك كان الرصاص للدفاع عن الأرض و العرض و الشرف ... فما أقذرك يا برميل الكاز ...
بعد منتصف الليل بقليل انفض سامر الشيخ منصور على أمل اللقاء غداً قبل الظهر لبدء الاحتفال الرسمي بالزفاف بعد استقبال الصديق الكولونيل جونز و حرمه المصون ... هذه المصون الشبقة و التي كانت توزع الحب كلما سنحت لها فرصة ، و لم يكن يهمها اللون أو الجنس اللهم أن يكون شاباً و فحلاً لا يهدأ لعلها تروى .
قطعت أمينة المسافة من ساحة القرية و تحديداً من بوابة المسجد إلى منزلها برفقة بعض من الجارات اللواتي كان يشغلهن ما يشغلها ، و على أصوات الرصاص و تحت القذائف كان كبار السن قد اتخذوا طريقهم إلى نداء الصلاة لعلّ الله يستجيب لدعائهم و يسمع الأخوة أنينهم و آهاتهم و يسعون إلى نجدتهم .
لم يكن في القرية كلها من رجل واحد ، كان الجميع هناك على التخوم و في الخنادق . صلى الشيخ أبو عثمان بالموجودين ممن سمح لهم عمرهم و صحتهم و موقعهم بالوصول إلى المسجد . صلى الحاضرون صلاة الفجر و أقاموا دعاء القنوت و لم ينسوا أن يصلوا صلاة الغائب على من وقع شهيداً في الليل أو مع الفجر .
لم يتحسن الوضع بعد الصلاة بل كان الهجوم مازال على أشدّه و كانت مدافع اليهود و دباباتهم تُشاهَد بالعين المجردة و هم على بعد مئات الأمتار فقط من ساحة القرية ، ربما كانوا ينتظرون أن تنتهي رصاصات المجاهدين ليقوموا بالهجوم الأخير و ربما كانوا يخشون من نجدةٍ عربية تطوقهم .
ما بعد الفجر هنا كان يختلف كثيراً عنه في واحة الهجين . بعد الفجر مباشرة بدأ ذبح الأغنام و الجُزُر و الجمال المعدة لغداء الزفاف و بدأت النساء بالعمل بهمة و نشاط على أعداد القدور و تنظيف اللحم و إعداد الأرز و تحضير الآنية و مزج السكر بالشراب الكثيف و الماء لتحضير شراب العرس للمعازيم . كما كان الفرسان قد بدأوا بغسل خيلهم و تنظيفها و تزييت بنادقهم و مسح أنصال سيوفهم استعداداً للعرس ...
عند ساعات الصباح الأولى كانت واحة الهجين قد أكملت استعدادها لغداء الزفاف و كانت الخيل المطهمة تقف مستعدة لبدأ السباق و الرقص ، وكان الفرسان يتمخترون هناك عند مضرب الشيخ منصور و قد لبسوا أجمل ثيابهم و كانت بنادقهم و سيوفهم اللامعة مستعدة للحفل الكريم .
في بني جهاد استمر القتال بعد الفجر و في الصباح الباكر أيضاً ، عند نحو التاسعة صباحاً بدأت دبابات العدو و آلياته الأخرى في التقدم مطلقة كل ما توَفّر لها من حمم و كانت مرابض المدفعية تشاركها القصف على قرية كانت بالأمس مثالاً للوداعة و الجمال و السحر . كانت المنازل تُدمَّر تحت وابل القصف و الحرائق تنتشر حول الساحة و في داخل المسجد . سَقَطَ الإمام أبو عثمان و معه بعض العجائز و هم يرفعون أياديهم ضارعين إلى السماء ، فلم يكن لديهم أي سلاح ناري يستطيعون القتال به ، حتى أصوات بنادق المجاهدين قد خفتت أو قل اختفت فلم يعد هناك من رصاص .
كانت مدافع دبابات العدو و رشاشاتها قد عملت فيهم حصداً بعد أن نفذت ذخيرة المجاهدين . اقتحمت الدبابات طوق الخنادق الأخير حول القرية و بدأت في تمزيق الشهداء و الجرحى تحت جنازيرها ، و بعد أن اطمأن الجنود في داخلها إلى عدم وجود من لديه رصاص أو حياة ليقاوم ، نزلوا من الدبابات و ركّبوا الحراب على البنادق و استلّ بعضاً منهم سكاكينهم الطويلة اللامعة و بدأوا بالإجهاز على الجرحى ، فلم يكن هناك من أسرى . أخذوا بطعن الجرحى أيـاً كان هذا الطعن في الصدر أو في العنق أو العين أو الأذن .
كان حقدهم و لؤمهم و نذالتهم فقط هو ما يدفعهم ، كانوا يحقدون على هؤلاء الرجال لأنهم ليسوا مثلهم ، فلو كان السلاح متكافئاً و لدى هؤلاء الرجال ما يكفي من الذخيرة لهزموهم شرّ هزيمة و كان هذا في يقينهم ، بدأوا بتجريد بعض الجرحى و الشهداء من ملابسهم و قاموا بقطع ذكورة حتى الأحياء منهم ، هي ذكورة أولاد محمد فلابد من استئصالها .
قبل الظهر لم يكن هناك أي مقاتل ، بعض الجرحى الذين نجوا حتى الآن لبُعْدِ مكانهم ، كان أبو مهاوش هناك و قد هُشّمت ساقه تماماً عند الركبة ، كان يزحف بكل ألم إلى داخل القرية ، لم يكن هناك من أحدٍ معه سوى جرحه النازف و عظامه المهشّمة و بندقيته التي مازالت محشوة برصاصة أو اثنتين لا يدري .
لم يعد هناك من رصاص و لم يكن هناك من نصير ، بعد أكثر من ساعتين من الزحف وصل أبو مهاوش إلى بيته ، و عندما رأته أمينه ارتجفت بشدة لخوفها على ابن عمها و لكنها قطعاً لم تَجبُن .
حملت ابن عمها إلى دكّةٍ عريضة في ديوان الضيوف ، أحضرت الماء و بدأت بغسل الجرح محاولة بكل ما أوتيت من حيلة و قوة وقف نزيف الدم . كان قلبها يدمع على زوجها و أطفالها الذين تحلّقوا حول والدهم الذي كانت تهرب منه الحياة رويداً رويداً .
اقتربت أصوات غريبة من الدار و بسرعة البرق أغلقت أمينه الباب الخارجي للفناء و كذلك باب الديوان حيث زوجها ، طلب منها زوجها إخفاء الطفل الكبير مهاوش خوفاً عليه لأنه اعتقد أنهم لن يؤذوا البنات أو الأطفال الصغار ربما كان يحلم ...!!!
بعد قليل بدأ قرع الباب ثم تم خلعه بأعقاب البنادق . دخل الجنود إلى فناء البيت ، سحب أبو مهاوش بندقيته و أطلقها عليهم ، أصاب أحدهم الذي خرّ صريعاً و هرب الباقون . بعد قليل عادوا بعدد أكبر ، جاؤوا بسيارة مسلحة بدأت تقصف كل متر في المكان و الجدران و الأبواب و الشبابيك و قنّ الدجاج و برج الحمام و مخزن المونة و حتى البقرة صبحة قتلوها .
بعد أن أيقن اليهود بأن لا سلاح يقاومهم من الداخل حطموا باب البيت ، كانت بندقية أبو مهاوش ملقاة هناك و لم يكن قد بقي فيها أي رصاص ، فما قتل صاحبهم كانت الرصاصة الأخيرة .
جرّ اليهود أبو مهاوش الجريح ، أخرج أحدهم حربة طويلة ، ثبّتوا أبو مهاوش على الأرض و قام إثنان منهم بإدخال الحربة في كتفه و ثبّتوه فيها إلى الأرض اندفع أحدهم إلى أمينه التي كانت تصرخ و تصرخ و تصرخ بلا مجيب و كانت تحاول حماية زوجها بكل ما أُوتيت من قوة و لكنهم كانوا عشرة رجال و ربما أكثر ، عشرة وحوش بشرية أرسلتهم لنا بريطانيا العظمى و أوروبا الحنونة .
أخرج أحدهم زجاجة خمر من جيبه و بدأ بشربه ، قام أربعة منهم بإلقاء أمينه على الأرض أمام أطفالها و زوجها ، استلّ أحدهم سكيناً من قرابه و تناول الصغير عقله غير عابيء لا بصراخه و لا بصراخ والدته أو رجاء والده الذي كان يرجوهم بحرارة ... مهاوش ... أمينه ... عقله ... ساره ...
اذبحوني أنا و اتركوا زوجتي و أطفالي ، و لكن لا من يسمع ... فهل سمع غلاظ الرقاب قساة القلوب من رجاهم قبله ...!!!
مسك اليهودي المسخ رأس الطفل عُقله و بعد لحظات كان رأس الطفل قد افترق عن جسده بفعل سكينه بيضاء عريضة النصل . ربما كانت قادمة من مانشُستر مباشرة ... رفع رأس الطفل الذي كانت عيناه شاخصتان إلى السماء ، بدأوا بتجريد أمينه من ملابسها ، قاومت بأظافرها و أسنانها ، ثبّتوها فضمت ساقيها بوضع متشابك ، و عندما لم يستطيعوا فتح الساقين قام أحدهم بطعن فخدها بحربة . جُرِّدت أمينه من كل ملابسها ، كانت الدماء تسيل من فخدها بغزارة بينما كان اليهود يتناوبون على اغتصابها ، ثم جرّدوا الصغيرة من ملابسها و بدأوا بالتناوب عليها أيضاً و هي تصرخ بصراخ يقطع نياط القلوب .
كانت أمينه بين اليقظة و الإغماء ، لا تدري نفسها في علم أو حلم ، كان كل ما فيها يؤلمها و كان الأنذال ما زالوا يتناوبون عليها و قد شَخَصَ نظرها إلى السماء ، كانت تدعو الله بلسانها و عيونها و كل جوارحها و حتى بدمائها أن يريحها مما هي فيه ...
يــا ربي رحمتك ... ارحمني يــا الله ... خذني إليك ... لقد عزّ النصير إلا انت ... ارحم زوجي ارحم عُرِييّ و عاري ... ارحم آلام أطفالي يــا الله يــا الله ...
هناك في واحة الهجين و في نفس الوقت التي كانت تغتصب فيه امينه مراراً و تكراراً و تغتصب طفلتها إلى جانبها و الزوج المهشّم و المثبّت بحربة إلى الأرض بين حياة و موت و رأس عُقله ملقى في جهة و جسده الصغير في جهة أخرى ، و عندما كان يطال صراخها عنان السماء ، كان الرقص و الغناء على أشدّه و كانت السيوف تلمع تحت وهج الشمس و الخيل المطهمة و عليها الفرسان في أجمل هيئة و ثياب يطوفون على جانبي سيارة الكولونيل جونز ضيف شرف الزفاف ، ظلت زوجته في السيارة و خرج هو إلى حيث كان حصاناً أبيضاً مطهماً و مزيناً حتى بالجواهر ينتظره .
امتطى الحصان و سار إلى جانب الشيخ منصور و أخذ يطلق النار فرحاً معهم . هناك في السماء امتزجت الأصوات ، صوت الفرحين بالزفاف و أنين الجرحى من أبناء العم و من المغتصبات من بنات القوم .
كانت الخيل ترقص و البنادق تلعلع و السيوف اللامعة تحيي ضيوف الشيخ منصور و من معه من الإنجليز ... سار الموكب تحفّ به الرجال و تحييه زغاريد النسوة .
وصل الضيوف إلى الديوان نزل الكولونيل عن حصانه ، جيء بمن خلع له نعليه الطويلين ، و على فراش مرتفع وثير مغطى بالحرير جلس مع زوجته الشقراء لاستكمال الحفل و الاستمتاع بالغداء و بضيافة الشيخ منصور الذي له لدى زوجة الكولونيل معزة خاصة جداً بما يقدمه لها من هدايا ثمينة بمناسبة و بدون مناسبة و كل هذا حتى يرضى عنه الكولونيل و يقدم له من السلاح ما يكفي لردع ابن عمه الشيخ علوان في الواحة القريبة و الذي كان فقيراً لا نفط لديه و كان هذا ما يخشاه الشيخ منصور أن يطالب ابن العم هذا بحصته من ثروة النفط له و لأقاربه الكثر ، و لكن صداقة الكولونيل و المعسكر الذي أقامه بالقرب من الواحة قد أقنعت ابن العم بأن يبتعد و أن يقبل الفقر و حتى المبيت على الطوى فلا قِبَلَ له بأسلحة الإنجليز و طائراتهم الكثيرة .
بينما هم جلوس مال الكولونيل على زوجته اليهودية قائلاً : " لقد وصلنا الخبر للتوّ ، فقومك قد اقتحموا قرية الملاعين بنو جهاد و يبدوا أنهم قد عاثوا فيها فساداً ... " ، و عندما سألته زوجته إن كان الشيخ أبو منصور يعلم بهذا الأمر أجابها أنه ليس أكيداً من هذا و لكن حتى لو علم ماذا يستطيع أن يفعل ..؟؟
فسألته ألا تخشى من غضبه فهو صديقك ..؟؟ نظر زوجها إليها بطرف عينه قائلاً ... " يا حبيبتي هؤلاء ليسوا أصدقائي ... إنهم مجرد ملقط نستخدمه لالتقاط ما نريد من النار ، بل قولي ربما خرقة بالية نستخدمها لإزالة قاذوراتنا التي نرميها هنا و هناك ... هل تريدين مني أن أثق و أصادق من يحالف عدوه و عدوّ دينه حتى يمنع عن أخيه حتى الطعام ...؟؟ الشيخ منصور هذا بالنسبة لي هو الملقط و الخرقة معاً فهو لنا حتى نستخدمه لكل ما هو قذر ...
قبل تقديم الغداء بقليل و بفعل حماس ما حوله من الشباب ، امتشق الشيخ منصور سيفه الأبيض اللامع ذو المقبض الذهبي المطعّم بالجواهر ، كان السيف يلمع هناك تحت الشمس و لم يدرك الحضور بأن شدة اهتزاز السيف لم تكن بفعل قوة الشيخ ، و كان هو لا يدرك أيضاً لماذا يهتزّ السيف بهذه الطريقة العنيفة مع محاولته المستميتة لتثبيته ، كانت هناك ذبذبات صراخ أمينه تضرب حدّ السيف ... السيف الذي لم يعد ينفع إلا للرقص مع الأعداء أو لقطع قالب الحلوى ...
هناك في مخبئه كان مهاوش أيضاً يسمع صراخ والدته و أبيه و شقيقته لكن من فرط الرعب و الخوف كان شبه متجمد .
فجأة انتفض مهاوش الصغير ابن السنوات السبع ، فوجد هناك بجانبه خرطوش صيد جدّه المزدوج . أخذ الخرطوش بعد أن تأكد من تلقيمه ، خرج من مخبئه كانت بارودة الصيد أطول منه ، كانت ثقيلة و كان يحملها بصعوبة . وجّه مهاوش البندقية نحو من كانوا يغتصبون والدته ، صرخت والدته " الله يرضى عليك " ، و انطلقت الرصاصات معاً لتقتل من تقتل و تجرح من تجرح من اليهود الأنذال .
نظر الوالد إلى ابنه بعين الرضى و أسلم الروح بينما كانت مئات الرصاصات تخترق الجسد الصغير ...
بعد انتهاء الرقصات الاخيرة في تلك الليلة و رقصة السيوف الشهيرة ، قدّم الكولونيل مذياعاً صغير الحجم و من آخر طراز على سبيل الهدية إلى الشيخ منصور . أدار الشيخ المذياع ليسمع نفس صوت مذيع الـ(بي بي سي ) : تقول الأخبار الواردة من الشرق الأوسط بأن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قد اقتحمت قرية بني جهاد و بأنه ربما تكون قد ارتُكِبَت بعض التجاوزات هناك من قِبَل بعض الجنود ............. و أنه ربما سقط بعض الأطفال قتلى جرّاء القصف العنيف و أنه قد جرت بعض حالات الاغتصاب كما يدّعي صحفي عربي شاهد المعركة .....
امتدت يد الشيخ منصور إلى المذياع ... أداره إلى حيث الأغاني ، نظر بوجه صديقه الكولونيل مبتسماً ، ثم برم شاربيه ناظراً إلى الأفق البعيد .......