الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الفصل الرابع من رواية "صرخات " بقلم: محمد نصار

تاريخ النشر : 2010-06-25
للكاتب / محمد نصار
صدح صوت المؤذن معلنا بدء يوم جديد، فنظر إليها مستغربا مرور الوقت بهذه السرعة، ثم نظر إلى ساعته وقال بذهول : الرابعة فجرا .. متى سنذهب للعمل !.
- أنا في إجازة ، أما أنت فعملك خاص ولا أحد يحاسبك ، كما أن يوم غد إضراب شامل .
- هذا لا يغير من الأمر شيئا ، خصوصا مع من يمتهن الصحافة مثلي ، فالإضراب بالنسبة لي يوم عمل رسمي .
- على ذكر الانتفاضة ، أود أن أسألك بصفتك صحفي .
- تفضلي . ، رد مبتسما .
- بعد عام ونيف من مرور الانتفاضة، هل من ضوء في نهاية النفق ؟ .
- لابد من ثمن وأظن أننا ندفعه بسخاء يستحق الجزاء .,
- آمل ألا تضيع كل هذه التضحيات هباء .
- الأمل في وجه الله .. دعينا ننام الآن .


تململت في فراشها أخذت تفرك عينيها بكسل واضح فتحتهما، فدارتا في أرجاء الغرفة تسمرتا في السقف للحظة، قفزت تنظر حولها حائرة، اصطدمت بصورتها تطل من المرآة المثبتة على الدولاب المقابل، راحت تبتسم لها، فتحت الدولاب فوقعت يدها على علبة المكياج، أخذت تلطخ وجهها بلا قيود ولا ضوابط، تتمايل أمام المرآة وهى تردد مقطوعات مختلفة من أغنيات متنوعة، اندفعت خارجه تدفع كل باب يصادفها، حتى استقر بها الحال أمامهما، كانا يغطان في نوم عميق، فغرت فاها وأخذت تحملق مصعوقة ,.اندفعت بجنون تمسك بسميحة من شعرها، تهزها وهي تصيح بأنبذ العبارات ، فهبت الأخيرة مذعورة فزعة، صرخت وقد هالها الهجوم الذي وقع عليها من دون مقدمات وهب محمود فزعا على الصراخ المنبعث من حوله ,ليري معركة حامية الوطيس ..صاح فيهما بقوة : كفى ...كفى. ، انصاعت للأمر وأخذت تنظر كل منهما إلي الأخرى وإن اختلفت النظرات ،بين حقد وكراهية وفزع ممزوج بالشفقة والرثاء.
أقبلت عليه حائرة .. تائهة ،سألته مستغربة : لماذا تركتني أنام وحيدة ؟ومن هذه المرأة ؟...ماذا تفعل في فراشي ؟ألست زوجتك؟.
انهارت سميحة علي السرير وانخرطت في موجة بكاء، فتبعها محمود وقد خارت قواه أيضا، أطرق حائرا لا يدري ما الذي سيفعله،أخذت تنظر إليهما بذهول، اقتربت من سميحة ربتت علي كتفها وبرقة غريبة طالبتها بالكف عن البكاء :لا تبكي ..أنا أكره البكاء ولا أحب أن أري شخصا يبكي.
لكن المرأة فقدت السيطرة علي نفسها وانخرطت في البكاء بشكل غريب ,مما حدا بمحمود إلى التدخل ، ضمها إلى صدره ..أخذ يربت على كتفها حتى هدأت أنفاسها ، ثم همس بهدوء: تجلدي يا سميحة، نحن في أول الطريق ولا يحق أن ننهار من أول عقبة تصادفنا، ثم اتجه إلي ليلي التي أذهلها ما ترى، يعنفها على فعلها :ليلى هذه المرأة زوجني ،عليك أن تحترميها إن كنت تحترمينني وتحببنني كما تدعين. ،فخرجت عن صمتها وصاحت فيه بصوت يخنقه البكاء : أنا أيضا زوجتك ،انتظرتك سنين طويلة حتى تكون لي والآن تطالبني باحترام هذه التي تدعى أنها زوجتك .
- لقد وقع بيننا طلاق، ألا تدركين ذلك .صاح منفعلا.
- لا...لا أعترف بذلك ..أنت من أوقع الطلاق بيننا ...أما أنا فلا ...لا.، وأجهشت في البكاء
- اهدئي ...اهدئي
- أنا زوجتك ... أليس كذلك ؟.، قالت وهي تبتسم مداعبة.
- نعم زوجتي ..وهو يغمز بعينيه لسميحة.
-وهي ؟..أشارت إلى سميحة.
- لا..لا أنا زوجتك.
- أنتما زوجتاي ...وكفى ..وكفى.
- غرقت في الضحك مستهجنة ما يقول وكأن الأمر شاذ عن العادة ,فراحت تردد وهي تتمايل راقصة :
- نحن زوجتاه.
ساقتها قدماها خارج الغرفة ...تسمرت في مكانها مذهولة وقد تغيرت معالم وجهها، ثم انحنت علي لعبة ملقاة علي الأرض وضمتها إلي صدرها وهي تتمتم بهدوء :عادل ...عادل أين كنت كل هذه السنين ؟,لقد بحثت عنك في كل مكان ..
ثم هرعت تزف البشرى إلي محمود وهي تصيح مسرورة ..فرحة : محمود .. محمود لقد وجدنه .. انظر ما أجمله .. ألا تعرفه ، ثم عادت إلى الطفل " اللعبة" تهدهده من جديد ، ثم مدت يدها وأخرجت ثديها محاولة إرضاعه وحين أبى راحت ترجوه لكي يقبل ، فلما بقي على عناده راحت تصرخ فيه وتبكي : لماذا تعذبني معك وكأنك تعاقبني على ذنب لم أقترفه ، لقد فقدتك رغما عني .. رغما عني ألا تفهم ، ثم صمتت فجأة وتبدلت نظراتها، أشاحت عنه قليلا ونظرت إلى سميحة ومحمود وقد وقفا مشدوهين أمام فداحة المشهد الذي يجري أمامهما .
كيف عدت بعد هذا الغياب الطويل ؟ .، سألت الطفل وكأنها تتوقع الرد منه وحين لم تبدر عنه استجابة نظرت إليهما بأعين تشع غضبا وقالت : لابد أنهم خطفوك مني ، ثم التفت إلى سميحة وتابعت من بين أسنانها : أيتها العاهرة الملعونة ألم يكفك زوجي حتى تخطفي ولدي ؟ .
- لا .. أنا لا أحتمل ذلك . ألقت سميحة الكلمات بتذمر واضح وخرجت مسرعة .

صوت صفارات عربات الجند التي تمر في الشارع وضع حدا للنقاش الدائر في الغرفة ، لكنه أيقظ مخاطر لم تكن في وارد أحد منهم ، فلقد ألقت اللعبة جانبا واندفعت باتجاه النافذة، حيث انهالت بالصراخ والشتائم دون خوف أو وجل ، مما حدا بمحمود لأن يقفز نحوها مسرعا ، جذبها بقوة وهي تصرخ بملء فيها : لن أدعهم يأخذوك مرة أخرى .. لن أدعهم يحرموني منك .. لا ,, لن أدعهم .
انهارت على السرير مرتعشة ، فأقبلت سميحة وأخذت تهدأ من روعها ، لكن خوفا تملكها حين هم محمود بمغادرة الغرفة ، نظرت إليه وقالت بنبرة يشوبها القلق :أخاف أن أبقى إلى جوارها .
لا تخافي فهي ليست عنيفة إلى الحد الذي تتخوفين منه ، ما حصل الآن أمر له جذور عميقة في نفسها ، ثم أنت طبيبة وبإمكانك التعامل مع هكذا حالة.
شيعته إلى الباب بابتسامة متوترة ونظرات ترجوه بألا يطيل الغياب عليها ، فبادرها بلمسة سريعة على خدها واندفع خارجا .
كان لشارة الصحافة الملصقة على زجاج العربة الفضل الكبير في انتشاله من مآزق كثيرة ، فما خلا شارع من دواليب مشتعلة أو حجارة مبعثرة ، بعضها كبير وبعضها صغير لتشكل معا متاريس متفرقة ، يتحصن خلفها الفتية والشبان في نزالهم الدائم مع الجند.
ظل يتنقل من حاجز إلى آخر بمساعدة وإرشاد الصبية الذين شبوا في زمن ندر فيه الرجال، يحاورهم تارة ويمازحهم أخرى ، إلى أن وصل مشارف مخيم جباليا ، مكان سكناه الأول وبؤرة الحدث الآن ،فهيجت أنفه رائحة الغاز المنبعث من قنابل الجند ووصل إلى سمعه صوت زخات قوية من الرصاص .
أبطأ من سرعة العربة ، ثم التقط الكاميرا وراح يتابع مشهد انزواء صبية يندفعون داخل أحد الأزقة ، ثم حرف العربة باتجاه زقاق عند رؤية أول جندي يطل مهرولا ، أمن لنفسه مكانا لا يراه فيه الجنود وراح يسجل تفاصيل المشهد من دون أن يلاحظه أي منهم .
شد انتباهه اندفاع جموع غفيرة من أزقة قريبة ، كانت تحاول محاصرة الجنود الذين دخلوا الزقاق السابق، وما هي سوى لحظات حتى أتت تعزيزات جديدة من الجند ، حاولت هي الأخرى اختراق الجموع ، لكنها عجزت عن فعل ذلك ،الأمر الذي زاد من هياج الجموع ودفعها للإصرار على دحر الجنود ، فواجهت رد فعل عنيف من قبل الجنود ، قابلها الناس بمزيد من الهتاف والحجارة ،فامتزج صوت الرصاص بصوت الهتاف والتكبير وعلت صفارات عربات الإسعاف، التي تقاطرت على المكان الذي أصبح في لحظة خارجة عن الزمن، ساحة حرب حقيقية وبات الأمر سجالا بين الجانبين.. كر وفر ، إلى أن علا ضجيج في السماء، مروحية راحت تلقي حممها على الجموع بحقد ينم عن حجم المأزق الذي وقعت فيه قواتهم ، لكن الجموع وجهتها بمزيد من العناد ومزيد من الضحايا ، كان أحدهم صبي في العاشرة من عمره ، جاء به فتية لا يدرون إلى أين يتجهوا في خضم المعركة الدائرة ، فأشار إلى أحدهم وحين لم ينتبه نادى عليهم أن يقبلوا نحوه، وضعه في العربة واندفع مسرعا .
توقف أمام قسم الاستقبال في مستشفى الشفاء ، فأقبل عدد من الشبان والمسعفين ، أخذوا الصبي على عجل واندفعوا به داخلا .
راح ينظر إلى ما يدور من حوله بنشوة وذهول ، يتابع جموع الشبان المنتشرين في المكان على هيئة طواقم منظمة ، كل واحد منها يعرف مهامه بدقة متناهية ، ألفة غريبة تجمعهم وتآخي حميم يلفهم ، فابتسم وقد شعر أن السنين التي أمضاها خلف القضبان لم تذهب سدى .
لمح الطبيب الذي وصله الطفل ، فأقبل عليه وسأله عن حاله ، فرد الأخير مطمئنا ، ثم التفت إلى جريح أخر وصل للتو ، جاء بعده عجوز نزل من عربة توقفت غير بعيد منه وبرفقته امرأة في الثلاثين من عمرها ، بمجرد نزولها من العربة تركته واندفعت تجري دون أن تعبأ بندائه لها، كانت تسأل كل من صادفها في المكان : محمود إدريس في العاشرة من عمره .، ثم لمحت الطبيب فأقبلت عليه مكررة ذات السؤال ، فرد مطمئننا ,
- أين هو ؟ .
- في غرفة العمليات .
- العمليات ! . ، شهقت المرأة وصكت خدها ,
- لا تخافي .. يخرجون بعض الشظايا من ساقه . ، قال الطبيب مطمئنا .
- لا تقلقي يا أختي .. أنا من أحضره إلى هنا .، قال محمود محاولة تخفيف جزعها .
- صحيح يا أخي ؟ .
- جراح خفيفة في ساقه كما قال الطبيب .
- ربنا يسمع منك .
- لا تلجي يا امرأة ودعي الأمر لصاحب الأمر . ، قال العجوز الذي جاء معها.
- لقد فعلت السنون فعلها يا شيخ حسين .، قال مخاطبا العجوز وقد تأكدت له ملامحه .
تأمله العجوز قليلا ، ثم أقبل عليه يضمه إلى صدره وهو يلهج من بين دموعه : محمود .!
- نعم محمود يا حاج حسين .
- أهذه فعلة تفعلها .. تخرج من السجن ولا تسأل عنا وحين نعلم بالأمر نأتي فيبلغونا في الحي أنك رحلت.
- ظروف قاهرة يا حاج .
- كيف أنت الآن ؟ .
- الحمد لله .. لكن أخبرني من المرأة التي بصحبتك؟ .
- إنها زوجة ابني إدريس .. ولدها هو المصاب الذي نقلته إلى هنا .
- إنه بحالة جيدة ولعلك سمعت الطبيب بنفسك ,
- أنا أوكلها إلى الله ، فما عدت بعد كل هذه السنين ألج من شيء أخسره ولا أفرح بربح آت .
- سبحان الله .. أتدري يا شيخ بأني كنت أنوي زيارتك في أقرب فرصة سانحة.
- تشرف في أي وقت يا ولدي .
- كنت أريدك في موضوع .
- خيرا ..يا ولدي .
- أردت أن أخبرك بأن ليلى لدي .
- ماذا .. ! .. كيف وصلت إليك ؟ .
- وجدتها في الشارع .. ، ثم راح يسرد على مسامعه قصة لقائه معها، إلى اللحظة التي تركها فيها صباح هذا اليوم، فتنفس الرجل الصعداء ، ثم قال بأسى :لقد أتعبني حالها يا ولدي لم أعد قادرا على رعايتها في هذا الوقت الحرج ، فابني الوحيد لا أجرؤ على تركه في هذه الظروف يجوب الشوارع بحثا عنها.
ثم شد انتباههم خروج الطفل من غرفة العمليات، ممدا على العجلة بلا حراك ، فاندفعت أمه باتجاهه وقد هالها وضعه، انحت فوقه.. راحت تتحسس وجهه وهي تهمس من بين دموعها : حبيبي يا ولدي.
أبعدها أحد الممرضين بحدة واضحة : ماذا تفعلين يا امرأة .. فالطفل مازال تحت تأثير المخدر.
جفلت المرأة وتراجعت إلى الوراء قليلا محاولة ضبط دموعها وبلهفة الأم راحت تراقبهم وهم يضعونه على السرير بهدوء وحذر، عندها التفت محمود إلى الشيخ وقال: الحمد لله على سلامته يا شيخ .. اسمح لي أن أذهب الآن .
- بالتوفيق يا ولدي ولا أظنني بحاجة لأن أوصيك خيرا بليلى.
كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهرا حين أوقف عربته بباحة البيت ، نزل منها منهكا ..تعبا ، صداع يضغط ما بين عينيه، صعد الدرجات الخارجية دون أن يلتفت للزهرات التي اعتاد التوقف عندها ، إعياء ثقيل يهاجمه ورغبة جارفة للاسترخاء على أي شيء يصادفه، فباغته اندفاع زوجته التي كادت أن ترتطم به وهي خارجة من البيت مسرعة ، وزاد من غرابة الموقف طلبها المتوتر لمفاتيح العربة .
- عساك بخير!، سأل مستهجنا .
- استدعوني إلى المستشفى على عجل ، لديهم العديد من الإصابات الحرجة .
- لا أعتقد أن الأمر بهذه الخطورة فأنا قادم للتو من هناك .
- دعني الآن وفي المساء نلتقي.

ولج إلى الداخل ، فباغته صمت مطبق ، جعله يتساءل مستغربا : لعلها نائمة .، ثم زم شفتيه وراح يجوب المكان بهدوء كي لا يحدث جلبة توقظها ، اتجه إلى غرفته بنفس الخطى فتح الباب بهدوء، فوجدها غارقة في النوم وقد تبعثرت خصلات شعرها وانحسر الثوب عن ساقيها كاشفا عن بعض مفاتنها، أشاح بوجهه عنها، فباغتته صورا ومضت من بعيد وأقبلت كالشهب مسرعة ، ضحكات فاتنة .. أذرع مفتوحة وفستان شفاف يفضح الكثير من المستور تحته ، أغمض عينيه محاولا الهروب من أمامها ، لكنها ظلت تلاحقه ، مد يده وأمسك الغطاء لكي يستر جسدها ،فوقعت نظرة ألهبت المشاعر بداخله ، هاتف يصرخ في أعماقه ، كانت يوما ما ملك يديك وتركتها بتهورك وجنونك ، ود لمسها ، لكن الفكرة أفزعته ، فألقى بالغطاء واندفع خارجا .
طرح جسده على السرير ثم راح يتلوى كالمبطون ، داهمته الصور من جديد ، فاختبأ منها تحت اللحاف ، ثم ضغط على الوسادة كي تشكل سدا بينها وبينه ، لكنها استطاعت الوصول إليه ،قذف بالوسادة بعيدا ، ثم دس يده في جارور قريب ، التقط أحد الأقراص وراح يحدق في السقف بهدوء أغمض على إثره ثم غاب في سبات عميق .
هب من نومه فزعا ، نظر إلى ساعته فأشارت إلى الخامسة مساء ، أصاخ السمع قليلا ، فأدرك حينها أن الصراخ الذي يسمعه حقيقي وليس وهما أو حلما كما كان يعتقد ، اتجه إلى غرفتها على عجل ، فوجدها هلعة فزعة تهذي بأشياء غريبة وبمجرد أن رأته مقبلا ، اندفعت نحوه وقالت بعتب وخوف : محمود .. لماذا تركته يفعل بي ذلك ؟ .
- من هو ؟ . ، صاح مستهجنا .
- وليد يا محمود .. لقد أوسعني ضربا .
ضمها إلى صدره وراح يمسد بيده على شعرها محاولا التخفيف من حالة الهياج التي ألمت بها، ثم أجلسها على السرير وقال مبتسما : لا عليك .. مجرد كابوس وزال عنك .
- لا يا محمود لقد ضربني .. ضربني كثيرا .
- لن يصل إليك بعد اليوم .
- أقول لك ضربني ألا تصدق .. أنظر . ، ثم كشفت عن كتفها فهاله ما رأي ، كانت آثار الضرب بادية للعيان وآثار سياط محفورة بخطوط زرق في جسدها البض ، هاله المنظر وأجج بداخله غضبا لا حدود له وبدون أن يفكر ضمها إلى صدره بقوة وأجهش في البكاء.
هدأت أنفاسها وشعر بالدفء يسري في جسدها من جديد ، ظلت للحظات دافنة رأسها في صدره ،ثم رفعت رأسه حتى كادت شفتاها أن تلامس شفتيه وقالت بأعين ذابلة متوسلة : محمود لا تتركني فأني خائفة .
- لا تخافي فأنا إلى جوارك ولا تفكري في هذا الكابوس حتى لا يعود إليك.
- لا .. ليس كابوسا ، لقد ضربني وخالي ينظر إلي دون أن يحرك ساكنا، بل عنفني وأمرني بطاعته.
ثم تراجعت إلى الوراء قليلا وقد جحظت عيناها ولمع فيهما بريق من التحدي ، ثم قالت بنبرة قوية :لا ..لن أطيعه أبدا ولو قتلوني من أجل ذلك .. لن أطيع أحد سواك يا محمود، قلت لهم ذلك ، صرخت في وجوههم جميعا بأني متزوجة ولن أخون زوجي أبدا ، لكنهم لم يصغوا إلى بل زادوني ضربا وتعنيفا، ثم ألقت برأسها على صدره مرة أخري وهي تغمغم قائلة : لن تتركني لهم يا محمود مرة أخرى ، أليس كذلك؟ .
لم يعد قادرا على ضبط نفسه، حاول كبت دموعه فعجز عن فعل ذلك، راح ينحب بصمت ، لكنها شعرت به ، دنت منه حتى لفحته أنفاسها ،ثم مدت يدها وراحت تمسح دموعه برفق ولطف ، فأثارها استسلامه البادي وهيج عواطفها من جديد ، دنت حتى لامست شفتاها شفتيه ، ثم انقضت عليهما بشره غريب، صدمته المفاجأة للحظة ، قفز بعدها كالملدوغ، فاندفعت نحوه بهياج أكبر مما حدا به للطمها ، الأمر الذي قلبها إلى نمرة هائجة ، تهاجم وتصرخ على نحو غريب : لماذا تصفعني ؟ .. لماذا تهرب مني .. ألست زوجتك؟.
- ارحميني من فضلك .. أرجوك أن تفهمي بأنك طليقتي وأنك هنا مجرد ضيفة .
- لا.. أنا زوجتك ولن أقبل بغير ذلك .
- لقد كنت زوجتي وحبيبتي .. لكن الأقدار فرقت بيننا .
- لا .. لا تخدعني بهذه الكلمات ، أم أنك لا تحبني؟ .
- لن أحب سواك .
- إذا ما المشكل .
- حبي لك لن يغير من الأمر شيئا ..
- إذا دعني أذهب حيث كنت. ، واندفعت قاصدة الباب ، فاندفع خلفها، أمسكها وجذبها إلى الداخل من جديد ، فعادت تصرخ بهياج أشد من ذي قبل : اتركني .. أريد أن أنتظره هناك ، لا أريد أن يأتي فلا يجدني في انتظاره.
- اجلسي يا ليلي ولا تعذبيني ، فما عدت أحتمل عذابات جديدة .
- سأجلس إذا اعترفت بأني زوجتك .
- زوجتي ... نعم زوجتي.
قفزت مهللة كطفل وجد ضالته.. راحت تجوب الغرفة راقصة فرحة ، دون تلاحظ الدموع التي تنساب من عينيه بصمت وألم ، ثم عادت تحوم من حوله ،طوقت رأسه بين ذراعيها من جديد ، ثم فاجأته قائلة : إذن فلتنم في سريري الليلة .
فغر فاه مصعوقا ، لم يتوقع منها مثل هذا الطلب ، وشيطان راح يؤزه مستغلا مفاتن المرأة وحالة النشوة التي ألمت بها وهي تهامسه بغنج حرك كل الغرائز بداخله.
- ماذا دهاك ، لم لا تجيبني ؟.
كررت السؤال مرة أخرى ، فأحس بالهواء ينحسر من حوله وأنفاسه تضيق إلى حد الاختناق ، فوقف محاولا الوصول إلى النافذة ، لكنها واجهته بنفس السؤال مرة أخرى ، فأزاحها بلطف وهاجس يردد في داخله بإشفاق : كان الله في عونها.
- هي بنا إلى السرير الآن .. لا أحد سوانا في البيت . همست في أذنه فلفحته أنفاسها المستعرة ، حركت غريزته من جديد ، لكنه أصر على مقاومة الإغراء بكل وسيلة، فرد عليها متحايلا : قد تأتي سميحة في أي لحظة .
- دعك من هذه العاهرة التي سرقتك مني .
- أحفظي لسانك وإلا أوصيتها بأن تحقنك.
جفلت وانسحبت إلى الوراء قليلا وقد شحب لونها، مرت لحظات وهي على الحال نفسه ، ظلت عيناه تراقبانها بصمت محاولة فهم ما يدور في لبها ونظراتها الشاردة في أرجاء الغرفة .
- هل ترغبين في تناول الطعام ؟ . سأل محاولا كسر الصمت الذي كساهما .
- نعم .
اتجه إلى المطبخ يبحث عن شيء فيه ، فوصلت إلى أنفه رائحة مألوفة ، أطل من النافذة فرأى دواليب تشتعل في عدة أماكن من الشارع ومتاريس تقام على عجل ،شبان يأمرون أصحاب المحال بإقفال أبوابها ، بينما أصوات هتاف تأتي من مكان قريب مرددة الهتاف المألوف : بالروح بالدم نفديك يا شهيد .
علا الهتاف مدويا مع نزول جموع من الناس إلى الشارع، فشده الحماس لاستطلاع ما يجري في الحي ، نزل على عجل بعدما تأكد من إغلاق البيت عليها ووقف يستوضح الأمر، سأل أحد الشبان ، فرد قائلا :أحد الشبان الثلاثة الذين استشهدوا في جباليا اليوم هو ابن أبو محمود الحلاق . ، وأشار بيده إلى دكان أبيه المغلق .
في هذه اللحظة وصلت عربة تقل جثمان الشهيد ، التفت حولها الجموع وعلا الهتاف مدويا إكراما للشهيد ،فزحفت جموع جديدة من الأزقة والحارات المجاورة، اهتز الشارع بالهتاف والجموع ، إعصار يزمجر وبراكين تتلظى في الصدور وأمل طال انتظاره في ذروة الليل الحالك.
تحركت الجموع في موكب يتقدمه الشهيد ، فنعقت الغربان مهددة متوعدة،تململت الجموع وانكفأت الرؤوس لتلتقط ما يصل إلى يديها، لكي تدفع الأذى عن نفسها ، صاح أحدهم بملء فيه :لا تدعوهم يصلوا إلى الشهيد .
فعلا الهتاف معلنا قبول التحدي ، دوى الرصاص وفاحت رائحة الغاز من جديد ، سقط أحدهم على مقربة منه ، فصاح آخر طالبا عربة إسعاف، دوت زخات جديدة وفاح السم في الهواء على نحو خانق ، أسرع عائدا إلى البيت ، جلب آلة التصوير وراح يسجل تفاصيل الموت الذي يجري ، حتى تكون حاضرة في ضمائر من بقي لديهم بقية منها .
طال الحال به وهو يتابع ما يجري بين الجانبين ، حقد تأججه ترسانة من الأسلحة وكبرياء يصر على الدفاع عن كرامته مهما كان الثمن ، كر وفر لم يوقفه سيل الدماء النازف ولا أزيز الرصاص الذي يطال كل شيء ، جموع تزحف رافضة الخنوع لصوت الغراب الناعق بمنع التجوال ووحش من فولاذ ورصاص يجهد لسحق العناد المتأجج في الصدور ، إلى أن طال الإعياء طرفي الصراع وألقى الليل بعباءته القاتمة فتوارى الجميع خلفها .
انسحب قاصدا البيت وقد أصابه الذهول من هول ما رأى ، جاب البيت بحثا عنها فلم يجد لها أثرا ، صاح مناديا عليها ، فلم يسمع لندائه صدى ، انتابه خوف وتساءل مستهجنا :أين اختفت ! ، ثم زاد خوفه عليها حين راودته فكرة نزولها إلى الشارع لحظة انشغاله بالمواجهة، أطل من نافذة البيت ، فلم يجد سوى عربات الجند تجوب الشارع في الاتجاهين، حاول الجلوس في مكانه ، لكنه لم يستطع ، أشعل سيجارة وراح يجوب الصالة من جديد وبين برهة وأخرى يطل من النافذة أملا في أن يرى ما يشير إلى وجودها
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف