كتب / علاء فاروق
تعد مدينة بُخَارى من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلها، وأعرق بلاد الإسلام في قلب القارة الآسيوية وأم العلوم والفنون وموئل الكثير من علماء الإسلام ومحط رحال طلبة العلم والمحدثين من كل مكان .
نشأتها وسبب التسمية :
نشات مدينة بخاري قبل الاسلام بعدة قرون وكان اسمها باللغة الصينية "نومي " أما عن سبب تسميتها باسم "بخاري" فيرجع الي الكلمة التركية المغولية "بخر" والتي تعني الصومعة أو الدير , وقد كان بالمدينة معبدا بوذيا كبيرا قبل دخولها في الاسلام ويحتمل انه السبب في تسميتها باسم " بخاري " .
وقيل انها مشتقة من كلمة"بخار" وتعني العلم الكثير، وسُميت بهذا الاسم لكثرة علمائها.
المناخ :
اما عن مناخ هذه المدينة فهوائها متقلب جاف بسبب قربها من المناطق الجبلية , وشتاؤها طويل وبارد، وربيعها ممطر، وصيفها حار جاف، أما خريفها فيتميز بالنشاط والحيوية.
أنهار المدينة:
يمرّ بمدينة بخاري عدة أنهار أهمها: نهر جوى موليان، ونهر رودشابور، ونهر فرقان العليا، ونهر فرقان الدود.
وصف المدينة :
امتازت هذه المدينة بجانب حضارتها العربية الاسلامية بجمال بنائي منقطع النظير فهي أشبه بمتحف كبير يجمع بين تاريخ وتراث متعدد ومختلف على مدار عصور مختلفة؛ كانت قاعدة ملك السامانيين، وبينها وبين سمرقند سبعة أيام ، أو سبعة وثلاثون فرسخاً ..وهى نزهة بلاد ما وراء النهر ، متصلة خضرتها بخضرة السماء ، فكأن السماء بها مكبة خضراء مكبوبة على بساط أخضر ، تلوح القصور فيما بينهما ، والضياع منعوتة بالاستواء كالمرآة . وليس بما وراء النهر وخراسان بلدة أهلها أحسن قياماً بالعمران على ضياعهم من أهل بخارى ولا أكثر منهم عدداً.
بخاري في التصانيف :
ولعل الجمال الذي امتازت هذه المدينة جعلها محط أنظار الكثير من المؤرخين والمصنفين الذين لايملكون امام جمالها إلا أن يعلنوا أنها ياقوتة آسيا الوسطي وإليك وصفهم بألسنتهم :
(1) يقول عنها أبو عَون في زيجه "أنها مدينة قديمة، نزهة، كثيرة البساتين واسعة الفواكه جيدتها، عهدِي بفواكهها تحمَل إلى مرو، وبينهما اثنتا عشرة مرحلة، وإلى خوارزم وبينهما نحو من خمسة عشر يوماً، بينها وبين سمرقند سبعة أيام أو سبعة وثلاثون فرسخاً بينهما بلاد الصغد.
(2) وقال صاحب كتاب الصوَر: وأما نزهة بلاد ما وراءَ النهر فإني لم أر ولا بلغني في الإسلام بلداً أحسن خارجاً من بُخَارَى، لأنك إذا عَلوتَ قُهُندزَها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على خضرة متصلة بخضرة السماء وهي مدينة على أرض مستوية وبناؤها خشب مشبك، ويحيط بهذا البناء من القصور والبساتين والمحال والسكك المفترشة والقرى المتصلة سور يكون اثني عشر فرسخاً في مثلها يجمع هذه القصور والأبنية والقرى والقصبة، فلا ترَى في خِلاَلِ ذلك قفاراً ولا خراباً.
وليس بخراسان وما وراء النهر مدينة أشد اشتباكا من بخارى ولا أكثر أهلاً على قدرها، ولهم في الربض نهر الصغد يَشُق الربض، وهو آخرُ نهر الصغد فيفضي إلى طَوَاحين وضياع ومزارع ويسقط الفاضل منه في مجمع ماءٍ بحذاءِ بيكند إلى قرب فِرَبر يعرف بسام خاس ويتخللها أنهار أخرى وداخل هذا السور مُدُن وقرى كثيرة. منها الطواويس وهي مدينة بُومجكَث وزندنة وغير ذلك.
دخول الاسلام :
وقبل الإسلام ، حكمت المدينة أسرة شهيرة باسم "بخار خدات" وتعنى: أمراء بخارى , وظلت المدينة في ايديهم حتي جاءها المسلمون.
وقد مر الاسلام في طريقه لهذه المدينة بمرحلتين :
المرحلة الاولي : مرحلة البدء والتعريف بهذا الدين الجديد وكان ذلك عن طريق جيش عبيد الله بن زياد سنة 54 هجرية والذي اتجه اليها في خطة مدروسة هاجم فيها مدينة بيكند التي تعد قصبة الحكومة ومركزها التجاري وتم له اخضاعها بعد نضال طويل مع أهلها ثم اتجه الي بخاري ومعه أربعة آلاف أسير ويبدو أنه عاد ولم تخضع له بخاري ولكنها عرفت الفاتحين الجدد وما معهم من دين .
والمرحلة الثانية : والتي تعتبر هي مرحلة الفتح الحقيقية كانت علي يد قتيبة بن مسلم سنة 90 هجرية وهي فترة تثبيت الهوية الاسلامية والتعريف الحقيقي بهذا الدين , عندما كلف الحجاج قائده الشجاع بفتح بلاد ما وراء النهرعام 86 هجرية ونشر الاسلام فيه ففتح في طريقه بلخ ومرو وعندما اقترب من بخاري إذا به يفاجأ بقوة عظيمة تحيط به وتحاصره ولكن مع كثرة عدد البخاريون لم يفلحوا في حمل قتيبة علي الرجوع فحاصرها لمدة خمسين يوما ثم خضعت له المدينة .
ازدهرت هذه المدينة بعد دخول الاسلام اليها وظهر ذلك في أعلام العلماء الذين خرجوا بعد ذلك من هذه المدينة التي لقبت بمدينة العلماء .
معالم بخاري :
ومن أهم المميزات التي تتمتاز بها المدينة المعالم المعمارية والفنية الموجودة بها ومن أهمها :
(أ)- منارة كالون، وقد بنيت عام 1127م على يد الخان (الحاكم) "كراكاليند أب أرسلان خان" وهي مبنية على قاعدة مثمنة الزوايا مكونة من 10 حلقات من الطوب المطلي حتى تصل إلى القمة المنارة وبها 16 شباكا، وتعرضت قمة المنارة للتلف بسبب الحرب الأهلية ولكن تم إصلاحها عام 1923م.
(ب)- مسجد ماجوكى أتورى: وكانت منطقة المسجد قبل دخول الإسلام إلى هذه البلاد وكان يستغل كسوق لبيع الأعشاب الطبية والتوابل، وماجوكى تعني تحت الأرض وأتورى تعني الباعة، وذلك لأنه في حقبة من الزمن ارتفع سطح الأرض؛ وهو ما أدى إلى انخفاض الجامع، وتعرض هذا الجامع للتدمير عندما شب حريق بالمدينة عام 937م وتم إعادة تشييده في القرن الثاني عشر، وتم تزويده بقبة عام 1546م.
(ج)- مشهد "ضريح" إسماعيل سمانى: ويعد هذا المشهد من أقدم المباني الموجودة في بخارى، وتم بناؤه في القرن العاشر إبان حكم السمانديين (875-999) ويحتوي على ضريح إسماعيل وبعض من أفراد عائلته، وهو على شكل مكعب بالطوب بأشكال وألوان مختلفة بحيث تعكس أضواء الشمس؛ وهو ما يعطي أشكالا مختلفة، كما يعلوه قبة على شكل نصف دائرة، رمزا للعالم والاستقرار.
(د)- الأرك : وهي قلعة قديمة، وكانت مدينة صغيرة قديما يسكنها عدة آلاف من السكان، وبها حدائق، ومبان، وسجن، وجامع، بالإضافة إلى مقر الأمير وعائلته والعبيد الذين يقومون بخدمته، ومع إنشاء مدينة بخارى تدمرت الأرك بسبب الاعتداءات والغزوات التي تعرضت لها المنطقة وتم إعادة بنائها أكثر من مرة كان آخرها في القرن السادس عشر.
(ه)- قصر سيتورى موخى كوزا : ويوجد في الطريق إلى سمرقند وهو قصر الأمير الصيفي الذي تحول اليوم إلى متحف.
(و)- مدرسة ميرى عرب : وتعد من أشهر المدارس الموجودة في مدينة بخارى، وقد أنشأها الشيخ عبد الله يمني (زعيم ديني من أصل يمني)، وفيها يتم تدريس الدراسات الإسلامية وتعمل على تخريج الأئمة، ويتزين المبنى الكلاسيكي الشكل بقباب زرقاء.
(ز)- مسجد بولاحاووظ : الذي شيد خلال القرن 11هـ/17م، ويمتاز بنقوشه وأعمدته العشرين الرائعة التي تنعكس في الماء أمامه فتبدو وكأنها أربعون عموداً.
(ح)- مئذنة جامع كاليان : والتي يرجع تاريخها إلى ثمانية قرون مضت، وترتفع خمسين متراً بحيث يمكن رؤيتها من أي جزء من المدينة.
(ط) - كما انها تحوي مئتي مدرسة وسبعة مساجد جامعة، وأربعون حماماً عاماً، ومئة وخمسون سوقاً تجارياً كبيراً، بالإضافة إلى المكتبات التي كان أغلبها مكتبات خاصة مثل: خزانة نوح بن منصور الساماني، وكانت عبارة عن دار كبيرة تضم فيها صناديق كتب منضدة بعضها فوق بعض، منها كتب في اللغة العربية والشعر والفقه.
علماء بخاري :
وينتسب إلى بخاري الكثير من العلماء والفقهاء والمحدّثين الذين ملأوا الدنيا علما وتقوى ويأتي في مقدمتهم:
(1)- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح والمعروف بصحيح البخاري.
(2) -ابن سينا الفيلسوف والطبيب.
(3)-أبو حفص عمر بن منصور البخاري المعروف باسم " البزار" الإمام الحافظ محدث البخاري.
(4)- أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر البخاري الحافظ.
(5)- أبو العباس أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الملقب بالبخاري.
(6)- بهاء الدين النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية المعروفة.
المعاملات التجارية :
كانت معامَلةُ أهل بخارى في أيام السامانية بالدراهم ولا يتعاملون بالدنانير فيما بينهم، فكان الذهب كالسلَع والعروض، وكان لهم دراهم يسمونها الغطريفية من حديد وصفر وآنك وغير ذلك من جواهر مختلفة وقد ركبت فلا تجوز هذه الدراهم إلا في بخارى ونواحيها وحدها. وكانت لهم دراهم أخرى تسمى المسيبية والمحمدية جميعها من ضرب الإسلام.
مأساة بخاري :
ومع كل هذه الحضارة إلا أن هذه المدينة مرت بمأساة أثرت في مكانتها وجمالها وتبدأ فصول هذه المأساة المروعة بإعلان جنكيز خان التتاري الحرب على بلاد الإسلام وذلك بسبب خلاف بسيط افتعله مع علاء الدين خوارزم سنة 615هـ، ليكون ذريعة للهجوم على بلاد الإسلام وابتلاعها.
ومما أشعل فتيل الازمة بين القائدين إقدام علاء الدين خوارزم على خطوة طائشة وغير مدروسة بالهجوم على ديار التتار وهم منشغلون بالقتال مع أحد ملوك الصين، ورغم ضخامة جيش علاء الدين إلا إنه فشل في هجومه هذا بعد أن عجز عن هزيمة فرقة صغيرة من جيش جنكيز خان، وكشف هذا الفشل عن كابوس مرعب لعلاء الدين خوارزم، وكيف سيواجه جيوش جنكيز خان مجتمعة، بعد أن عجز عن التغلب على جزء صغير منها.
قام علاء الدين خوارزم بالعودة بسرعة كبيرة إلى بلاده وأمر بتحصين مدينتي بخارى وسمرقند وكانتا أول مدينتين في طريق التتار، فوضع حامية ببخارى تقدر بعشرين ألفًا وأخرى بسمرقند تقدر بخمسين ألفًا ثم عاد إلى عاصمته بخراسان لاستنفار الجنود والمسلمين هناك للمشاركة في الحرب المتوقعة من قبل جنكيز خان .
وحدث ما توقعه القائد المسلم فقد خرج جنكيز خان بجيوشه الجرارة من بلاده إلى بلاد الإسلام وكانت مدينة بخارى أول مدينة ينزل عليها فضرب عليها حصارًا شديدًا ثم أنشب قتالاً عنيفًا مع حاميتها لم يستمر سوى ثلاثة أيام ثم فرت الحامية الخوارزمية من المدينة وتركت أهلها فريسة سهلة للتتار، وأسقط في يد أهل بخارى بعد هذا الفرار المخزي، وطلبوا تسليم المدينة نظير الأمان لأموالهم ودمائهم، فتظاهر جنكيز خان بالموافقة وهو يضمر الشر وينوي الغدر، وفي يوم 4 من ذي الحجة سنة 616هـ دخلت جيوش التتار مدينة بخارى بالأمان، وما إن صاروا وسط المدينة حتى انقضوا على أهلها قتلاً وسفكًا وذبحًا وسبيًا وكان يومًا مهولاً، وملحمة فظيعة لأمة الإسلام، وقتل فيه عشرات الآلاف وأحرقت المساجد والجوامع وهدمت المدارس واغتصبت النساء أمام أزواجهن وذبح الأطفال في حجورهن وكانت هذه المذبحة العامة بداية سلسلة مرعبة من المذابح التي سيرتكبها التتار ببلاد الإسلام.
عودة الحياة والفتن المستمرة :
وبالرغم من كل ما فعله التتار من فظائع في اهل هذه المدينة إلا انها عادت للحياة والأزدهار فى عصر الأمير تيمور وفى عام 905 فتحها الأوزبك بقيادة شيبانى خان ، واستمر الأوزابك فى حكمها حتى تنازعوا فيما بينهم .. وجاء الروس بجيوشهم ، واستطاعوا منذ سنة 1887 أن ينفذوا فى بخارى بخط حديدى ويدخلونها فى نطاق نفوذهم الجمركى .
لكن المدينة ظلت تحت حكم أمراء مسلمين ظلوا يتقربون إلى العائلة الأمبراطورية الروسية ، حتى انهارت تلك العائلة مع الثورة البلشفية ، وأدخل الشيوعيون بخارى ضمن نطاق الاتحاد السوفيتى الذى أنهار هو الآخر .. وعادت بخارى مدينةً مسلمةً فى حدود دولة أوزبكستان : قلب آسيا .
ـــــــــــــ
"*" باحث متخصص في شئون آسيا الوسطى والقوقاز.
تعد مدينة بُخَارى من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلها، وأعرق بلاد الإسلام في قلب القارة الآسيوية وأم العلوم والفنون وموئل الكثير من علماء الإسلام ومحط رحال طلبة العلم والمحدثين من كل مكان .
نشأتها وسبب التسمية :
نشات مدينة بخاري قبل الاسلام بعدة قرون وكان اسمها باللغة الصينية "نومي " أما عن سبب تسميتها باسم "بخاري" فيرجع الي الكلمة التركية المغولية "بخر" والتي تعني الصومعة أو الدير , وقد كان بالمدينة معبدا بوذيا كبيرا قبل دخولها في الاسلام ويحتمل انه السبب في تسميتها باسم " بخاري " .
وقيل انها مشتقة من كلمة"بخار" وتعني العلم الكثير، وسُميت بهذا الاسم لكثرة علمائها.
المناخ :
اما عن مناخ هذه المدينة فهوائها متقلب جاف بسبب قربها من المناطق الجبلية , وشتاؤها طويل وبارد، وربيعها ممطر، وصيفها حار جاف، أما خريفها فيتميز بالنشاط والحيوية.
أنهار المدينة:
يمرّ بمدينة بخاري عدة أنهار أهمها: نهر جوى موليان، ونهر رودشابور، ونهر فرقان العليا، ونهر فرقان الدود.
وصف المدينة :
امتازت هذه المدينة بجانب حضارتها العربية الاسلامية بجمال بنائي منقطع النظير فهي أشبه بمتحف كبير يجمع بين تاريخ وتراث متعدد ومختلف على مدار عصور مختلفة؛ كانت قاعدة ملك السامانيين، وبينها وبين سمرقند سبعة أيام ، أو سبعة وثلاثون فرسخاً ..وهى نزهة بلاد ما وراء النهر ، متصلة خضرتها بخضرة السماء ، فكأن السماء بها مكبة خضراء مكبوبة على بساط أخضر ، تلوح القصور فيما بينهما ، والضياع منعوتة بالاستواء كالمرآة . وليس بما وراء النهر وخراسان بلدة أهلها أحسن قياماً بالعمران على ضياعهم من أهل بخارى ولا أكثر منهم عدداً.
بخاري في التصانيف :
ولعل الجمال الذي امتازت هذه المدينة جعلها محط أنظار الكثير من المؤرخين والمصنفين الذين لايملكون امام جمالها إلا أن يعلنوا أنها ياقوتة آسيا الوسطي وإليك وصفهم بألسنتهم :
(1) يقول عنها أبو عَون في زيجه "أنها مدينة قديمة، نزهة، كثيرة البساتين واسعة الفواكه جيدتها، عهدِي بفواكهها تحمَل إلى مرو، وبينهما اثنتا عشرة مرحلة، وإلى خوارزم وبينهما نحو من خمسة عشر يوماً، بينها وبين سمرقند سبعة أيام أو سبعة وثلاثون فرسخاً بينهما بلاد الصغد.
(2) وقال صاحب كتاب الصوَر: وأما نزهة بلاد ما وراءَ النهر فإني لم أر ولا بلغني في الإسلام بلداً أحسن خارجاً من بُخَارَى، لأنك إذا عَلوتَ قُهُندزَها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على خضرة متصلة بخضرة السماء وهي مدينة على أرض مستوية وبناؤها خشب مشبك، ويحيط بهذا البناء من القصور والبساتين والمحال والسكك المفترشة والقرى المتصلة سور يكون اثني عشر فرسخاً في مثلها يجمع هذه القصور والأبنية والقرى والقصبة، فلا ترَى في خِلاَلِ ذلك قفاراً ولا خراباً.
وليس بخراسان وما وراء النهر مدينة أشد اشتباكا من بخارى ولا أكثر أهلاً على قدرها، ولهم في الربض نهر الصغد يَشُق الربض، وهو آخرُ نهر الصغد فيفضي إلى طَوَاحين وضياع ومزارع ويسقط الفاضل منه في مجمع ماءٍ بحذاءِ بيكند إلى قرب فِرَبر يعرف بسام خاس ويتخللها أنهار أخرى وداخل هذا السور مُدُن وقرى كثيرة. منها الطواويس وهي مدينة بُومجكَث وزندنة وغير ذلك.
دخول الاسلام :
وقبل الإسلام ، حكمت المدينة أسرة شهيرة باسم "بخار خدات" وتعنى: أمراء بخارى , وظلت المدينة في ايديهم حتي جاءها المسلمون.
وقد مر الاسلام في طريقه لهذه المدينة بمرحلتين :
المرحلة الاولي : مرحلة البدء والتعريف بهذا الدين الجديد وكان ذلك عن طريق جيش عبيد الله بن زياد سنة 54 هجرية والذي اتجه اليها في خطة مدروسة هاجم فيها مدينة بيكند التي تعد قصبة الحكومة ومركزها التجاري وتم له اخضاعها بعد نضال طويل مع أهلها ثم اتجه الي بخاري ومعه أربعة آلاف أسير ويبدو أنه عاد ولم تخضع له بخاري ولكنها عرفت الفاتحين الجدد وما معهم من دين .
والمرحلة الثانية : والتي تعتبر هي مرحلة الفتح الحقيقية كانت علي يد قتيبة بن مسلم سنة 90 هجرية وهي فترة تثبيت الهوية الاسلامية والتعريف الحقيقي بهذا الدين , عندما كلف الحجاج قائده الشجاع بفتح بلاد ما وراء النهرعام 86 هجرية ونشر الاسلام فيه ففتح في طريقه بلخ ومرو وعندما اقترب من بخاري إذا به يفاجأ بقوة عظيمة تحيط به وتحاصره ولكن مع كثرة عدد البخاريون لم يفلحوا في حمل قتيبة علي الرجوع فحاصرها لمدة خمسين يوما ثم خضعت له المدينة .
ازدهرت هذه المدينة بعد دخول الاسلام اليها وظهر ذلك في أعلام العلماء الذين خرجوا بعد ذلك من هذه المدينة التي لقبت بمدينة العلماء .
معالم بخاري :
ومن أهم المميزات التي تتمتاز بها المدينة المعالم المعمارية والفنية الموجودة بها ومن أهمها :
(أ)- منارة كالون، وقد بنيت عام 1127م على يد الخان (الحاكم) "كراكاليند أب أرسلان خان" وهي مبنية على قاعدة مثمنة الزوايا مكونة من 10 حلقات من الطوب المطلي حتى تصل إلى القمة المنارة وبها 16 شباكا، وتعرضت قمة المنارة للتلف بسبب الحرب الأهلية ولكن تم إصلاحها عام 1923م.
(ب)- مسجد ماجوكى أتورى: وكانت منطقة المسجد قبل دخول الإسلام إلى هذه البلاد وكان يستغل كسوق لبيع الأعشاب الطبية والتوابل، وماجوكى تعني تحت الأرض وأتورى تعني الباعة، وذلك لأنه في حقبة من الزمن ارتفع سطح الأرض؛ وهو ما أدى إلى انخفاض الجامع، وتعرض هذا الجامع للتدمير عندما شب حريق بالمدينة عام 937م وتم إعادة تشييده في القرن الثاني عشر، وتم تزويده بقبة عام 1546م.
(ج)- مشهد "ضريح" إسماعيل سمانى: ويعد هذا المشهد من أقدم المباني الموجودة في بخارى، وتم بناؤه في القرن العاشر إبان حكم السمانديين (875-999) ويحتوي على ضريح إسماعيل وبعض من أفراد عائلته، وهو على شكل مكعب بالطوب بأشكال وألوان مختلفة بحيث تعكس أضواء الشمس؛ وهو ما يعطي أشكالا مختلفة، كما يعلوه قبة على شكل نصف دائرة، رمزا للعالم والاستقرار.
(د)- الأرك : وهي قلعة قديمة، وكانت مدينة صغيرة قديما يسكنها عدة آلاف من السكان، وبها حدائق، ومبان، وسجن، وجامع، بالإضافة إلى مقر الأمير وعائلته والعبيد الذين يقومون بخدمته، ومع إنشاء مدينة بخارى تدمرت الأرك بسبب الاعتداءات والغزوات التي تعرضت لها المنطقة وتم إعادة بنائها أكثر من مرة كان آخرها في القرن السادس عشر.
(ه)- قصر سيتورى موخى كوزا : ويوجد في الطريق إلى سمرقند وهو قصر الأمير الصيفي الذي تحول اليوم إلى متحف.
(و)- مدرسة ميرى عرب : وتعد من أشهر المدارس الموجودة في مدينة بخارى، وقد أنشأها الشيخ عبد الله يمني (زعيم ديني من أصل يمني)، وفيها يتم تدريس الدراسات الإسلامية وتعمل على تخريج الأئمة، ويتزين المبنى الكلاسيكي الشكل بقباب زرقاء.
(ز)- مسجد بولاحاووظ : الذي شيد خلال القرن 11هـ/17م، ويمتاز بنقوشه وأعمدته العشرين الرائعة التي تنعكس في الماء أمامه فتبدو وكأنها أربعون عموداً.
(ح)- مئذنة جامع كاليان : والتي يرجع تاريخها إلى ثمانية قرون مضت، وترتفع خمسين متراً بحيث يمكن رؤيتها من أي جزء من المدينة.
(ط) - كما انها تحوي مئتي مدرسة وسبعة مساجد جامعة، وأربعون حماماً عاماً، ومئة وخمسون سوقاً تجارياً كبيراً، بالإضافة إلى المكتبات التي كان أغلبها مكتبات خاصة مثل: خزانة نوح بن منصور الساماني، وكانت عبارة عن دار كبيرة تضم فيها صناديق كتب منضدة بعضها فوق بعض، منها كتب في اللغة العربية والشعر والفقه.
علماء بخاري :
وينتسب إلى بخاري الكثير من العلماء والفقهاء والمحدّثين الذين ملأوا الدنيا علما وتقوى ويأتي في مقدمتهم:
(1)- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح والمعروف بصحيح البخاري.
(2) -ابن سينا الفيلسوف والطبيب.
(3)-أبو حفص عمر بن منصور البخاري المعروف باسم " البزار" الإمام الحافظ محدث البخاري.
(4)- أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر البخاري الحافظ.
(5)- أبو العباس أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الملقب بالبخاري.
(6)- بهاء الدين النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية المعروفة.
المعاملات التجارية :
كانت معامَلةُ أهل بخارى في أيام السامانية بالدراهم ولا يتعاملون بالدنانير فيما بينهم، فكان الذهب كالسلَع والعروض، وكان لهم دراهم يسمونها الغطريفية من حديد وصفر وآنك وغير ذلك من جواهر مختلفة وقد ركبت فلا تجوز هذه الدراهم إلا في بخارى ونواحيها وحدها. وكانت لهم دراهم أخرى تسمى المسيبية والمحمدية جميعها من ضرب الإسلام.
مأساة بخاري :
ومع كل هذه الحضارة إلا أن هذه المدينة مرت بمأساة أثرت في مكانتها وجمالها وتبدأ فصول هذه المأساة المروعة بإعلان جنكيز خان التتاري الحرب على بلاد الإسلام وذلك بسبب خلاف بسيط افتعله مع علاء الدين خوارزم سنة 615هـ، ليكون ذريعة للهجوم على بلاد الإسلام وابتلاعها.
ومما أشعل فتيل الازمة بين القائدين إقدام علاء الدين خوارزم على خطوة طائشة وغير مدروسة بالهجوم على ديار التتار وهم منشغلون بالقتال مع أحد ملوك الصين، ورغم ضخامة جيش علاء الدين إلا إنه فشل في هجومه هذا بعد أن عجز عن هزيمة فرقة صغيرة من جيش جنكيز خان، وكشف هذا الفشل عن كابوس مرعب لعلاء الدين خوارزم، وكيف سيواجه جيوش جنكيز خان مجتمعة، بعد أن عجز عن التغلب على جزء صغير منها.
قام علاء الدين خوارزم بالعودة بسرعة كبيرة إلى بلاده وأمر بتحصين مدينتي بخارى وسمرقند وكانتا أول مدينتين في طريق التتار، فوضع حامية ببخارى تقدر بعشرين ألفًا وأخرى بسمرقند تقدر بخمسين ألفًا ثم عاد إلى عاصمته بخراسان لاستنفار الجنود والمسلمين هناك للمشاركة في الحرب المتوقعة من قبل جنكيز خان .
وحدث ما توقعه القائد المسلم فقد خرج جنكيز خان بجيوشه الجرارة من بلاده إلى بلاد الإسلام وكانت مدينة بخارى أول مدينة ينزل عليها فضرب عليها حصارًا شديدًا ثم أنشب قتالاً عنيفًا مع حاميتها لم يستمر سوى ثلاثة أيام ثم فرت الحامية الخوارزمية من المدينة وتركت أهلها فريسة سهلة للتتار، وأسقط في يد أهل بخارى بعد هذا الفرار المخزي، وطلبوا تسليم المدينة نظير الأمان لأموالهم ودمائهم، فتظاهر جنكيز خان بالموافقة وهو يضمر الشر وينوي الغدر، وفي يوم 4 من ذي الحجة سنة 616هـ دخلت جيوش التتار مدينة بخارى بالأمان، وما إن صاروا وسط المدينة حتى انقضوا على أهلها قتلاً وسفكًا وذبحًا وسبيًا وكان يومًا مهولاً، وملحمة فظيعة لأمة الإسلام، وقتل فيه عشرات الآلاف وأحرقت المساجد والجوامع وهدمت المدارس واغتصبت النساء أمام أزواجهن وذبح الأطفال في حجورهن وكانت هذه المذبحة العامة بداية سلسلة مرعبة من المذابح التي سيرتكبها التتار ببلاد الإسلام.
عودة الحياة والفتن المستمرة :
وبالرغم من كل ما فعله التتار من فظائع في اهل هذه المدينة إلا انها عادت للحياة والأزدهار فى عصر الأمير تيمور وفى عام 905 فتحها الأوزبك بقيادة شيبانى خان ، واستمر الأوزابك فى حكمها حتى تنازعوا فيما بينهم .. وجاء الروس بجيوشهم ، واستطاعوا منذ سنة 1887 أن ينفذوا فى بخارى بخط حديدى ويدخلونها فى نطاق نفوذهم الجمركى .
لكن المدينة ظلت تحت حكم أمراء مسلمين ظلوا يتقربون إلى العائلة الأمبراطورية الروسية ، حتى انهارت تلك العائلة مع الثورة البلشفية ، وأدخل الشيوعيون بخارى ضمن نطاق الاتحاد السوفيتى الذى أنهار هو الآخر .. وعادت بخارى مدينةً مسلمةً فى حدود دولة أوزبكستان : قلب آسيا .
ـــــــــــــ
"*" باحث متخصص في شئون آسيا الوسطى والقوقاز.