
الأرض أرضي والتاريخ تاريخي والتراث تراثي
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
هذه الأرض عربية اسلامية وليس أي شيء آخر ، فهذه هي هويتها وبما هي وأصحابها عبر تاريخ الزمن ، ناطقة بكل دليل على عروبتها وعلى اسلامها ، و دالة بأفصح دليل وعبارة على أن العرب والمسلمين عبر التاريخ ، قد بينوا بالدليل التاريخي ، على أنهم القادرون دوما ، على اعادة كتابة التاريخ ، ورسم مجرى الزمان وفق ارادتهم .
فاذا تهالك بهم الزمان وهانوا وساءت أحوالهم في فترة من الفترات ، فسرعان ما يتجددون بأبنائهم وينهضون ليعيدوا للتاريخ سيرته الأولى ، وعلى حال يرتضونه و يريدونه ، وكأنما دورة الأيام استحالت في قبضة يمينهم . فلقد كان زمان دار الهوان دورته في المنطقة العربية ، فكانت فرصة الوجوه التي هي أشبه ما تكون بالبطاطا المسلوقة كما قال كنفاني ، وليس بها سمرة الجبال والوديان في هذا المشرق العربي ، فجاءت بكل أحقاد التاريخ ، وأقامت كنيسة مكان مسجد قبة الصخرة ، واسطبلات للخيل في جانب من مساحة المسجد الأقصى في القدس ، ومثل هذا وغيره كثير مما يتم به طعن هوية المسلمين ، وفي ناحية أخرى من الأرض الطيبة ، مسحت المسجد الابراهيمي عن الأرض وأقامت ابراشية ، ومرة أخرى أعاد الهوان دورته وجاءوا أخرى من وراء البحار ، وأقاموا في محل هذا المسجد أماكن عبادة لهم ، ورتعوا في ظلمهم ، ، ثم بادوا بارادة عربية اسلامية ، وعاد التاريخ الى نقاوته وارتفع الآذان مرة أخرى من على المنابر ، وعاد المصلون وقرآنهم في صدورهم وبين أيديهم الى مسجدهم ، وفي أعماقهم نداء العقيدة والتاريخ ، بأنهم هم أصحاب الأرض ، وهم حملة الرسالة السماوية الى البشرية جمعاء ، وهم صناع التاريخ ، وهم حراسه ، وهم الموكلون أبدا باعادة رسم التاريخ وفق ارادتهم ، واذا ثمة عثرة أو أكثر في سير التاريخ ، فسرعان ما يليها نهوض وتوهج بالوعي والقوة واعادة الكتابة لسيره من جديد ، فالتجديد حتم سير وقانون تاريخ هذه الأرض التي هي مواطىء أقدام الأنبياء ، فهي وقف على الاسلام ، وهي أمانة يحملها العرب والمسلمون ، وليس لهم أبدا أن يفرطوا في عقيدة تجري مجرى الدم في عروقهم ، وتصدع بكلمة الله أكبر في أرجاء نفوسهم ، فهذه هي هويتهم ، ويتم التعرف اليهم بها ، وهي دالة عليهم . وليس لهم ثمة تعريف بلاها ، فاذا ثمة من يريدهم بلاها ، ويكد بكل تشويه يهجم به على الوعي ، وما يدري بأن مهمته تبغي المستحيل الذي هو بعينه المحال أن يكون عينيا ، فالذي لا يمكنه أن يكون واقعا ، لا يكون هناك واقعا يضمه يوما ، فلا يكون ممكنا من لا امكان له ، وامكان اللاممكن يفضي الى ما لا يمكنه أن يكون ، فعلى أي اتجاه فكري ، أو فلسفي ، أو لنقل عقلاني ، فلا نتاج يستوي عليه كل ما دار في دورة من غزو ثقافي أو فكري ، أو تشويه حقائق بحثا عن اعادة تركيب للوهم ، في قوالب من حقائق لا وجود لها ، لقسرها على واقع لم تعرفه يوما ، فانما هو الوهم ، فكل تركيب لجملة الوهم ، تظل وهما ، فالتراث دالة تاريخ وهوية وانتماء ، فهو جذر وجود يتغذى من روح الروح ، فهو الذي يوقدها ، ويدفع بها الى عناق وجودها في سير زمان لم تنقطع حلقاته ، فالأرض ناطقة والروح صادحة وعبارات الوعي صائحة : هذه أرضي أنا ، وهذا هو تراثي أنا ، وهذا أنا وتاريخي وديني ، كنت ولم أزل أفيض بالنماء في كل اتجاه هنا ، أنا المعنى الذي استقى مني الوجود معناه ، أنا الخلود الذي لا يلغيه عابر سبيل طافح بكل حقد ، فهو كما الصيب يصيب الشجر ، ويمر ، يعبر الى حيث يعبر كل عابر ، فلا بقاء الا للبقاء ، فاذا عابر تأخذه أوهامه الى غرور الامكان الذي لا يمكنه أن يكون ، فالذين يتخيلهم ينخلعون من دينهم ومن تراثهم ومن تاريخهم ، فانهم الذين لا وجود لهم ، وهم لا بد ويكونوا من بنات وهم من يتوهم بأنه يمكنه أن يتعرف اليهم في وجود ، فلا بد وأنه منسرح في تيه ، ويرتع في وهم ، فاذا ما التقى الواقع يفيق على ما يجعله يدرك بأن نبات الظن مرشح ليتهاوى ويتبدد كسرب دخان يذروه الريح ، فالواله بالوهم هو الدائر دوما في دورة الواهم الذي تسبيه الظنون فهكذا هو وهذا حاله وخياله ، وتلك هي أوهامه ، ولن يفهم لغة غير لغة كل عابر من الذين ناداهم شاعر فلسطين ، أيها العابرون في كلام عابر ، ...، ليفصح لهم عن سيرة الذي مروا في الوهم ، وجاءوا ومروا ، وعبروا الى سيرورة وهم ، في ذاكرة لم تزل تسدي فهما ، لمن يفهم ولمن لا يريد أن يفهم ، بأن المكان ليس لديه ما يقدمه للعابرين سوى أن يفروا .
واذا كان هناك من يقول بحق ديني وتاريخي له في هذه الأرض ، فلتتكلم الأرض بمخزونها ، من الآثار الدالة على حقيقة انتمائها ، فلتنطق الأرض ، فليس مثلها فصاحة ، بما بين أيديها من تاريخ ، فهذا القائل بما يقوله ادعاء مليء بالزيف ، وانه يطرح أيضا السؤال : لمن هذه الأرض ؟! ، ويستدعي السؤال عن مدى صلة ما يدعيه بصدق يؤيده من تاريخ ومن دين ؟ ! ، فاذن هو قد حسم أمره بافصاحه عن قناعة استقاها من معتقدات يعتقدها ، فهي التي توحي له ، وتدله على ما يفعله من التقدم الى أخذ ما يعتقده بأنه له وحده من دون غيره ، ليبسط سيطرته عليه ، ناكرا كل صلة لغيره به ، مستعدا بما بين يديه من قوة أن يوظفها في خدمة سعيه ، وقد فعل من قبل ، وليس ثمة فكرة كامنة في وعيه تردعه ، أو تحيله مترددا فيما هو مقبل عليه ، فهل هو يريد حوارا ، وهو يقرر في وعيه وفي ممارساته ملكيتة للأرض ، وأحقيته في تراث تاريخي وديني ، تستدعيه كل ظنونه بأنه تراثه ، فعلى ذلك هو ينفي كون هذا التراث لغيره ، وينفي عن هذا التراث أي صلة له بدين آخر وأمة أخرى ، فهو بالذي يفعل انما يستدعي ردا من هذا الغير الذي يعرفه ، ولا يعنيه على أي وجه جاء هذا الرد ، فهو في سردياته لسياقات مثيلة ، لم يجد ما يستوجب اهتماما بردع آت من هذا الغير أو هذا الآخر ، فذلك درس السياقات المتشابهة التي زحزحت الأرض من تحت أقدام هذا الآخر ، فلقد كان في خلالها اقتراب شديد من تراث تلو تراث ، فليس ما يوجب قلقا من كلام مرسل ، لا يجد دعامة من ردع يكون به ارتداعا ، فكذلك هو درس السياقات ، فليس ما يدعو الى التردد ، فالأولى هو الاندياح بالادعاء ، وبالترسيخ لحيثيات الادعاء ، بامتلاك الأرض وما عليها من تراث ، وبتقنين وبسرديات ، فسرعان ما تتبند في سطور الوعي العام على أنها هي حقائق التاريخ ، فليس كل تاريخ ، هو في حقيقته تاريخ ، فالبراعة ليست دوما في صناعة التاريخ وانما في كتابة تاريخ ، فكم من تفاصيل في رواية ، أو أسطورة أو ما شابه استحالت الى تاريخ ، بل الى ما لا يختلف عليه أحد حين يقال به في سرد مسطور أو منطوق ، فاذن الحال كما حال اعلان حرب دينية وتاريخية على الدين الاسلامي وعلى التاريخ العربي والاسلامي ، وذلك لأن في ذلك يكمن العزم كله على نفي كل صدق في غير جانب مدع مجرد من كل حقيقة تسنده ، فاذن هو بذلك لا يدع محلا لحوار ، ولكنا بحال من هو أحوج من يكون الى الحوار ، فالحقائق كلها بين أيدينا ، وفي جانبنا ، فلنترك مساحة للحوار ، أو للاعلان عن ماذا لدينا قوله في شأن مدع شب في الباطل ، وارتوى منه وليس له الا دلق باطله في وجوهنا ، فجوابنا جاهز ، فهو في القرآن الكريم ؛ في سورة البقرة ( انظر جامع البيان في تفسير القرآن ..محمد بن جرير الطبري ) ، وليكن أيضا تفسير الشعراوي شارحا ، فهو في جملته مستند الى الطبري ، وأيضا الجواب عند العلم ..علم الآثار ، وعلم اللغات القديمة ، وهنا نظريتان ، نظرية تقوم على علم الآثار ، ويقول بها الدكتور فراس السواح ، ويشرحها في أكثر من مقال علمي وكتاب ، ونكتقي هنا بذكر كتابه : ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي ) ، لنأتي الى غيره لاحقا ، وأما النظرية الثانية فهي قائمة على علم باللغات القديمة ، فهذه اللغات تشكل اساسا في قراءة تفسح المجال أمام قيام هذه النظرية ، ويقول بها الدكتور الصليبي ، والدكتور أحمد داوود وله كتب عديدة قام بتأسيس سردياتها على علم منه باللغات القديمة ، ويكفي هنا أن نذكر له كتابه : ( العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود ) ، وأيضا كتاب :( تاريخ سوريا القديم ) ، ولمن شاء وعيا متجددا وعميقا بالتاريخ ، فعليه بما أفاض به العلماء العرب من علم في هذا السياق ، فهو ليس مجرد علم بما لم نكن نعرفه ، وانما هو على حد تعبير كل منهما ، انما هو الاعادة لكتابة التاريخ ، فكلاهما يجمع على أن تحريفا مقصودا قد لحق بكتابة تاريخ هذا المنطقة ، وبأن هذا التحريف انما كان يستهدف خدمة أغراض استعمارية ، فهكذا كان قديما وهو لم يزل ممتدا الى هذه الساعة ، فالتحريف في التاريخ ، وفي الثقافة ضرورة استعمارية ، أدركها الاستعمار وعمل بوازع منها ، وكانت الكتب التي صيغت في خدمة أطماع استعمارية ، واستحالت مع مرور الأيام الى مراجع ، استندت اليها الكتب التي تلتها ، وزاد في عمومية الزيف أن أجيالا من الشرق ، حين راحت تفتش عن تاريخ هذه المنطقة ، بعلم تستقيه في دول أجنبية ، أو حتى في بلادها ، فلم تجد سوى هذه الكتب أو غيرها من كتب مليئة بكل زيف ، ما دعا ويدعو الى اعادة كتابة التاريخ .. تاريخ هذه المنطقة التي تعرضت الى زيف لم يحصل في التاريخ ، فتاريخ لم يحصل استحال الى تاريخ مأخوذ على أنه التاريخ ، وتاريخ حصل ، لم يجد في الذاكرة ولا على اللسان موضعا ، فهذا الجيل من أبناء العرب والمسلمين مطالب باعادة الكتابة لتاريخه ، بالاستناد الى العلوم .. اللغات القديمة والآثار ، والقرآن ، وليس أي سند آخر ، فكثيرا ..كثيرا ممن تصدروا الى كتابة التاريخ قد اتخدوا أو كادوا يتخذوا من التوراة كتابا للتاريخ يعودون اليه ، بل ويسردون ما ورد فيها وكأنها مرجع للتاريخ ، وهم قد فعلوا ذلك تماما ، أو بما يشبه ما قام به كتاب الغرب ، وعلى هؤلاء جميعا يعترض أحمد داوود ، وفراس السواح ، بل ومؤرخون جدد يستندون في كتاباتهم الى علم الآثار كما يقول بذلك فراس السواح ، الذي يتوصل بالاعتماد على ما تحدثت به الأرض ، وقد انكشفت كنوزها ، من آثار تنطق بكل ما يحسم جدلا في مسألة تاريخ ، فالآثار بما بها من دلالات ناطقة كافية العقل علما لاعادة سرده للتاريخ ، يقول فراس السواح ، بأن التوراة في ضوء ما تنطق به الآثار ، وعلم الآثار لم يعد يمكن النظر اليها ككتاب تاريخ ، فثمة فارق كبير بين سردياتها وبين حقائق التاريخ ، بل ان التناقض بين ما يقول به علم الآثار وبين التوراة يحيل التوراة الى كتاب على الرف ، فبدءا بالربع الأخير من القرن الماضي ، كما يقول فراس السواح ، فان علماء الآثار الجدد لم يعودوا ينظرون بتة الى كتاب التوراة على أنه كتاب تاريخ ، لقد وضعوه على الرف ، فالتاريخ بدأ ينحو في سرده وجهة أخرى ، وفق ما تنطق به الآثار التي نطقت في أفهام الباحثيين عن حقائق التاريخ في سوريا وفلسطين ، ويتوصل فراس السواح الى تلك الفجوة الهائلة بين الأسماء وبين انتماءتها ، وبين السرديات وبين حقيقتها ، ومدى ملائمتها الى الزمان والمكان ، ويقرر بأن الأرض عربية وبأن آثارها هي آثار عرب ، والتاريخ انما هو تاريخ عرب ، ويبين بالاضافة الى ذلك تناقضات كثيرة في التوراة ، يفصلها تفصيلا ، فلا يدع لشك يتسرب الى منطقه وبياناته عن وعي حقيقي بما يتناوله ، مستند الى منهج علمي واضح المرتكزات وفصيح التناول ، وبين الدلالة ، وقوي الحجة ، وهو هكذا بمنهجه هذا من السطر الأول وحتى الأخير في دراساته ، ولقد حاولت امتحان نهجه ، في محاولة كشف عن تناقضات في كتاباته ، فلم أفلح ، فأيقنت بأني بصدد مرجعية تؤسس لمرجعية في تناول لتاريخ هذه المنطقة من جديد ، وهو( فراس السواح ) ، يبدأ مقدمة كتابه ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي ) ، بقوله : " لعل أهم ما تكشفه أمامنا المعلومات الجديدة المتوفرة خلال ربع القرن الماضي ، هو استقلال الصورة التاريخية لاسرائيل عن صورتها التوراتية استقلالا دفع بعض المؤرخين الجدد ، الى الدعوة لوضع الرواية التوراتية بكاملها على الرف ، وكتابة تاريخ فلسطين خلال الحقبة التي تغطيها أحداث التوراة ، بمعزل عن النص والخبر التوراتي الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية . وبذلك يتحول كتاب التوراة من مصدر أول ورئيس لكتابة تاريخ فلسطين وتاريخ اسرائيل ، الى ناتج ثانوي من نواتج ذلك التاريخ ، والى تركة أدبية تتطلب نفسها التفسير والتعليل ، ... " ، ثم يستعرض آراء باحثين انشعلوا في نفس المجال ، ويورد للباحث غربيني ( G.Garbin.History and Ideology in Ancient Israel . London . 1988 ) ، آراء من بينها رأية بأن " تاريخ اسرائيل التوراتية في السياق العام لتاريخ فلسطين ، هو أخيولة أدبية تجد دوافعها في المناخ الاجتماعي والنفسي للفترة المتأخرة التي أنتجتها " ، ويضيف قوله : " لقد تمكن بعض الباحثين منذ العقد الآخير للقرن التاسع عشر ، من أمثال E.Meyerو H.Gunkel ، بأن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكاية الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداولة شفاهة عند تحرير أسفار التوراة ، ابان وبعد السبي البابلي ، وجادل بشكل خاص في أن كامل سفر التكوين ، برواياته عن الآباء أسلاف بني اسرائيل ، لا علاقة له بالتاريخ ، ويجب تصنيفه في زمرة الأخيولة الأدبية " .
ويمضي فراس سواح في كتابه معتمدا منهجا علميا ، يؤسس استدلاله في الكشف عن حقائق التاريخ ، على علم الآثار ، من غير تأويل ومن غير استدعاء احتمالات لتحميلها على نص يقول به ، هو في حقيقته منطوق علم آثار ، فليس بغير الدليل العلمي يتكلم ، وليس هو بتارك القارىء حيث وهن الدليل ، من غير الاشارة الى هذا الوهن ، فكأنه بكتابه أراد أن يصل بعلم الآثار الى حقائق فقط ، ليؤسس لكتابة التاريخ الصحيح الذي هو بذاته المراد ، وهكذا حاله في كل صفحات كتابه ، واننا حيث لا يمكنا أن نستبدل المقال بكتابه ، وانما نجعله اطلالة على الكتاب ، ودربا اليه ، فلا أصح من قراءة الكتاب كله بتأن وروية ، ويكفي هنا أن نلتقي بفقرات تشكل بينة على الوجه الذي ذهب فيه فراس السواح ، فمثلا وهو يحاول أن يفتش عن تلك الممالك التي ورد ذكرها في التوراة ، ولها صلة بموسى نجد صفحة 269 من كتابه ( آرام ...) قوله : " فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج ، لم تكن موجودة في ذلك الوقت ، على ما يبين المسح الأركيولوجي للمنطقة ، ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي ، التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين ( الفلستنيين ) ، لم تكون قد استقبلت زمن الخروج أية موجة من موجات شعوب البحر من الفلستنيين وغيرهم "
فهذا حال تاريخ مسرود بقلم في صفحات في التوراة ، فلا صلة له بواقع ولا صلة لسردية حوادث بزمانها ، فليس لها ثمة زمان جرت فيه .
وفي صفحة 270-271 من نفس الكتاب ( آرام ...) يقول فراس السواح : " وتقدم نتائج علم الآثار صورة أكثر تخيبا للآمال في العثور على اسرائيل التوراتية ، فجميع المواقع الفلسطينية في منطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا ، وخارجهما ، تظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية ، فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني ، ولا يوجد أي دليل أثري على حلول أقوام جديدة في هذه المنطقة جلبت اليها ثقافة مغايرة ، وقد سقطت اليوم الى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قبل القبائل الاسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون ، وتدمير مدنها الرئيسية ، لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية نفيا تاما " .
وعن وجود مملكة داود وسليمان في الزمان والمكان يقول فراس السواح صفحة 271 من نفس الكتاب : " بل انها مستحيلة الوجود ، ناهيك عن التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها ، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن الا بلدة صغيرة جدا ، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها ، وبناء قصور ملكية لسليمان وزوجاته وصروحا مدنية وادارية ضخمة ، وذلك اضافة الى عدم العثور على أي شاهد أثري على أن هذه الأبنية قامت في يوم من الأيام "
ويعود فراس السواح ليؤكد مرة أخرى في كتاب آخر له ، هو ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ) ، على ما يفيض به البحث العلمي من حقائق ، ويبدأ من أول السطر في مقدمة كتابه ليقول : " لقد غدا من نافلة القول اليوم التحدث عن صحة المرويات التوراتية من الناحية التاريخية ، أو المجادلة في امكانية اعتمادها مرجعا على هذه الدرجة من المصداقية أم تلك . ذلك أن المعلومات التاريخية وألأركيولوجية التي توفرت لدى الباحثين خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، قد أظهرت بجلاء الطابع التاريخي لهذه المرويات ، وعدم اتساقها مع تاريخ فلسطين وبقية الشرق الأدنى القديم خلال معظم الفترة التي تغطيها الأسفار التوراتية . ولذد بدأت ملامح هذا المأزق التاريخي لكتاب التوراة تتوضح منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر ، عندما حاول بعض الباحثين المرموقين من أمثال E.Meyer و Gunkel ، ومنذ ذلك الوقت المبكر ، بأن الأسفار التوراتية ليست تاريخا موثقا يمكن الركون اليه ، .... " .
ويحرص فراس السواح الا أن يلفت انتباه القارىء : " الى أن التوكيد على منظقة فلسطين كمسرح للحدث التوراتي لا يتضمن الاقرار بتاريخية هذا الحدث . ذلك أن محرري التوراة الذين عكفوا على تدوين أسفاره منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد ، كانوا يهدفون الى التأصيل للديانة اليهودية التي أخذت ملامحها بالتوضح عقب عودة بقية سبي يهوذا من بابل ، وابتكار جذور للمعتقد التوراتي تضرب في تاريخ فلسطين القديم . وقد عمدوا في سبيل ذلك الى الاستفادة من كل ما وقع تحت أيديهم من أخبار مملكتي اسرائيل ويهوذا ، ( وهما مملكتان فلسطينيتان محليتان لم تعرفا قط الديانة اليهودية ) وفسروا هذه الأخبار بما يتلاءم والايديولوجية التوراتية .اضافة الى استخدامهم لمادة قصصية شعبية شائعة في المنطقة تروي أحداثا مغرقة في القدم ويختلط فيها التاريخ بالخرافة ، وصاغوا من كل ذلك رواية مضطربة مليئة بالفجوات والثغرات . " .
وفي ضوء هذا المشهد التاريخي الجديد الذي يطل به العلماء العرب بعلم الآثار ، وبعلم الأديان وبعلم اللغات ، على كتب التاريخ الزائفة السابقة التي ضللت الوعي العربي والعالمي بتاريخ هذه المنطقة العربية ، يأتي كثيرون من عمق الادراك للزيف الذي أبدعته القوى الاستعمارية ، ومن بين هؤلاء الدكتور أحمد داوود ، فيكتب عدة كتب في تاريخ سوريا وفلسطين ، كمساهمة منه في صناعة وعي جديد وصحيح بالتاريخ ، ويفعل ذلك هو يعي بأن هذه الكتابة الأخرى والهامة جدا ، تجري للتاريخ ، ويتصدرها أفذاذ من العرب ، ولا بد من الاندياح بها الى مداها ، وبأنها يجب أن تكون شاملة لاعادة انتاج أمة وعالما بوعي صحيح للتاريخ ، فهي مسألة الحقيقة والانسان وسير أمة عبر تاريخ الزمن ، وهي أيضا مسألة تاريخ بشرية على هذه الأرض تطل على المنطقة العربية بوعي شائه صاغه الزيف بكل زيف ، فلقد لحق بالوعي بالتاريخ زيف كبير ، وشاه هذا الوعي ، وكان التشوية في خدمة أغراض استعمارية ، التي سعت الى الوهم والزيف ليكون بدلا عن حقيقة تاريخ كان ، ونجد أحمد داوود ، في خلال اعلانه الصريح عن وعيه بكل ذلك ، يؤكد بأن سوء الفهم للغات القديمة ، قد كان له أبلغ الأثر في اتاحة الفرصة أمام الزيف والتزييف ليأخذ مجراه ، لكنه وهو يستند الى ما كشف عنه علم الآثار من حقائق تاريخ ، فانه يلجأ الى علم اللغات ويتخذ من المنهج اللغوي المقارن منهجا ، مسنودا بحقائق من خارج هذا المنهج ، من مثل حقائق أكد عليها علم الآثار ، وبذلك يستدعى التفاتة الى الدكتور الصليبي الذي اتخذ هو أيضا ، من المنهج اللغوي المقارن اساسا يتوصل به الى أن ما جاءت به التوراة من تاريخ ، انما هو الذي لا صلة له بتاريخ فلسطين ، وانما هو تاريخ مهلهل الحلقات واهي الصلات بالزمن وبالجغرافية ، وبرغم ذلك فبالنظر في السرد التوراتي وما به من ذكر لأسماء وحركات بشر ، وهمزت وصل بجغرافية وبزمن ، يمكن أن يتاح للنظر أن يصل أسماء وحوادث وردت فيه ، من مثل "مصرايم " ، و"فلسينا " و " كنعان " ، و ... ، القائمة في جغرافية في عسير والجزء الجنوبي من الحجاز ( الجزيرة العربية ) ، فلربما هي التي يمكنها أن تتفق ولو بوجه شبه معقول معه ، و هو ما ذهب اليه الصليبي ، ولم يستسغه فراس السواح ، فأفرد للرد عليه كتابا له حمل عنوان ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ) ، وهو من أوله الى آخر ، بمثابة مناقشة الطرح الذي ذهب اليه الدكتور الصليبي ، ومع ذلك فان طرح الصليبي قد وجد من يتبناه ويصر عليه من أمثال أحمد داوود وغيره ، ذلك بأنه على كل ما ذهب اليه فراس السواح في مناقشته هذه لا ينكر ، بل يؤكد ، بأنه ليس ثمة دليلا واحدا من علم آثار ، أو تراث دال يستدل به ، على أن عشيرة أو تجمعا يهوديا (في نفس السياقات الزمنية التي يدور حولها الحوار) ، قد كان يوما ما في مكان ما في فلسطين ، ويأبى أحمد داوود بمنهجه الا اعادة ما ذهب اليه الدكتور الصليبي ، وبصورة معمقة ومفصلة مسنودة بخريطة تفصل الجغرافية ، ليؤكد في خلال بحثه ، بأن منطقة عسير بالفعل والجزء الجنوبي من الحجاز انما هي الجغرافية ، وبما بها من دلالات وشواهد ، فانها المؤهلة لتكون هي المسرح الذي كان لملامح تاريخ ورد في التوراة ، ويصر أحمد داوود على أن هذا التاريخ لا يتعدى كونه تاريخ عشيرة ، وبأنها وأفرادها لم يعرفوا مصر ولا فلسطين ، ولا صلة لهم بهما ، وانما هي مسألة اللغة التي كان الجهل بها هو فرصة التضليل ، فتشابه الأسماء ، بين هنا وهناك فسح للضلال أن يتخذ دوره بأن يكون المضلل في السرديات لمطابقة تاريخ على جغرافية لا صلة له بها . ويتجلى أحمد داوود بمنهجه كمن يعيد اكتشاف نصوص التوراة في سياقاتها الجغرافية والتاريخية ، فيكشف عن ما يلامس منها تاريخا وجغرافية ، ويبين أيان يمكنه أن يكون ذلك ، وهو في تفصيل كلامه ، لا يكاد يبدو يقسر ما يتفق له على ما لا يتفق ، وانما سلاسة التوفيق تيدو لديه موفقة ، وهو لا يكتفي بذلك ، بل يعود دوما الى السرد التوراتي ويجلي تناقضاته وعدم اتفاقه مع أية امكانية لتوفيق بين نصه وبين جغرافية اسمها فلسطين و مصر ، ولا يأل جهدا في كل بيان له في أمر ، الا أن يستجلي المعنى من داخل اللغة ويفصله ، ويمييز معاني الكلمات ويشرح صواب معناها ، ويبين ما لا يمكنه أن يكون معنى للكلمة التي يعالجها ، مبينا كيف أن مثل هكذا تلبيس لكلمة على ما لا يتفق لها من معنى ، قد تم اتخاذه دربا الى تشوية تاريخ منطقة بحالها ، ويصل في صفحة 257 من كتابه (العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود) الى النجمة السداسية ، فنراها في الكتاب على صورة " صحن من الفخار تم اكتشافه في سامراء ويعود للألف الثالث قبل الميلاد كما يقول ، وفي الصورة " الزوبعة رمز الخصب أو الرغبة الكونية الأولى في عقيدة الخصب السورية " و يكمل قوله :
" وان ما يدعى ب ( نجمة داوود ) السداسية ، ليست الا بدعة صهيونية حديثة . والنجمة السداسية لم تكن الا أحد رموز الخصب المقدسة في ديانة الخصب ، العربية السورية اقترنت بالأنهار الستة التي تخرج من نبع السيدة في حورانينا ( كهف السيدة ) في جبل غامد ، كما مثلتها أطواق العقد الستة التي تزين جيد السيدة العذراء ( عشتار ) وخصلات شعرها الستة التي تزين عارضة وجهها من كل جانب . ثم استمرت النجمة السداسية واحدة من أركان الزخرفة في التنزيل بالخشب والتطعيم بالصدف أو بالعاج أو بالمعدن الذي امتاز به العرب السوريون منذ الزمن الموغل في القدم وحتى اليوم ... " .
ويتفق لفراس السواح القول بأن اليهود ، في ذلك الزمن ، لم يكونوا سوى عشيرة ، ويسمي المكان الذي كانوا فيه بالمقاطعة اليهودية ، وهو يفترض بأن تلك العشيرة وجدت معيشتها في فلسطين ، على خلاف ما ذهب اليه الصليبي ، ويقول هذا وهو يلفت الانتباه الى غيبة كل دليل من آثار على تراث يهودي يدل على ذلك ، فكل ما أمكنها عشيرة أن تفعله من أجل أن تستبقي ديموميتها هو العيش بمثل عيش المحيط ، فالأكل والمشرب واللباس والعادات والتقاليد واللغة ، وحتى التقويم الذي يسمونه بالتقويم العبري ، فانما هو مأخوذ من التقويم البابلي (تقويم قمري شمسي ، تتم فيه كل مدة من زمن ملائمة القمري للشمسي باضافة الفارق الزمني بينهما ) ، فكلها من هذا المحيط ، وذلك على الرغم من الانكفاء على معتقد تدين به هذه العشيرة ويشكل خصيصة لها ، ولا آثار يهودية في فلسطين ، فليس بمكنها عشيرة أن تنتج حضارة ، فتستبقي تراثا خالدا عبر الزمان ، فلا تراث ولا ما يدل على حضارة ، فهذا خارج حدود عشيرة كانت ما تكون ، وليس سواها سيرة هذا وذاك من أبناء العشيرة يتناقلها أبناء العشيرة في خلال مرويات ، فهذا يروي لهذا وتجري الرواية عبر الزمان ، من جيل الى الذي يليه ، بكل ما اتفق للراوي ، فليس ثمة زمن يمكن للرواية أن تجد فيه ما تدلل به على صحة ما تحمله سوى ما هي محملة به ، فليس من خارج النص ما يدل على صحة النص ، ولا بين أكف الواقع ما يقدمه تصديقا لصحة يزعمها متعصب لنص او رواية ، وهذه وجهة تأسست علميا وبكل دليل علمي يمكنهم علماء العرب ومن بينهم فراس السواح أن يشيروا اليه ، وهو الاتجاه الذي نحا نحوه وقال به مؤخرا الرئيس الحالي لاتحاد علماء الآثار العرب . وعند كمال الصليبي وأحمد داوود وغيرهم ، أن هذه العشيرة سكنت غامد ولم تعرف فلسطين بتاتا ، وانما هي عشيرة بدوية ، عاشت عيشة البداوة ولم تعرف حضرا ولا تحضرا ، وبالطبع يمكن التوسع ، في معرفة ما يذهب اليه كل واحد ، من هؤلاء الباحثين الذين بذلوا جهدا كبيرا في التوصل الى ما دونوه في مقالات علمية ، وفي كتب لهم ، وهي جهود بحثية استغرقتهم وقتا طويلا ، ومن المهم أنه عند قراءة ما توصل اليه الباحث منهم التعرف الى المنهج الذي اتبعه في بحثه ، فهذا وثيق الصلة بالنتائج التي توصل اليها ، والأخذ بها من عدمه قرين المنهج واستعماله في البحث ، فمنهج فراس السواح هو الذي يمكن به تحصيل اجماع علمي عالمي عليه ، ذلك بأنه لصيق علم الآثار ، فهو يتكلم بالدليل القاطع ، ويدلل في نفس الوقت بكل اشارة على شبه الدليل وما ينقصه لكي يكون دليلا قاطعا ، وهو اذ يجانب المنهج اللغوي المقارن الذي اتخذه الصليبي ، فليس لأنه ينكره أو يدحضه ، وانما لعدم كفايته في غيبة دليل من علم آثار ، فثمة ضرورة عينية من آثار يحتاجها ، لدعم قول يتم التوصل اليه ، وذلك اسناد ضروري ليعلو بما يستدل عليه بعلم لغات الى مرتبة حقيقة تاريخية تدلل على صدقها بأثر في واقع ، لكن أحمد داوود من جانبه يأخذ ما قال به الصليبي ويضيف الى منهجه اللغوي المقارن ، ما أفضى اليه علم الآثار من أدلة قاطعة لا لبس يعتورها ولا غموض .
..................................................................
لمزيد من القراءة :
كتاب : أحمد داوود ، ( العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود ) .
http://www.4shared.com/file/67558683/5af62450/________.html?s=1
كتاب : فراس السواح ، ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي )
http://www.4shared.com/file/40174478/653da244/_______.html?s=1
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
هذه الأرض عربية اسلامية وليس أي شيء آخر ، فهذه هي هويتها وبما هي وأصحابها عبر تاريخ الزمن ، ناطقة بكل دليل على عروبتها وعلى اسلامها ، و دالة بأفصح دليل وعبارة على أن العرب والمسلمين عبر التاريخ ، قد بينوا بالدليل التاريخي ، على أنهم القادرون دوما ، على اعادة كتابة التاريخ ، ورسم مجرى الزمان وفق ارادتهم .
فاذا تهالك بهم الزمان وهانوا وساءت أحوالهم في فترة من الفترات ، فسرعان ما يتجددون بأبنائهم وينهضون ليعيدوا للتاريخ سيرته الأولى ، وعلى حال يرتضونه و يريدونه ، وكأنما دورة الأيام استحالت في قبضة يمينهم . فلقد كان زمان دار الهوان دورته في المنطقة العربية ، فكانت فرصة الوجوه التي هي أشبه ما تكون بالبطاطا المسلوقة كما قال كنفاني ، وليس بها سمرة الجبال والوديان في هذا المشرق العربي ، فجاءت بكل أحقاد التاريخ ، وأقامت كنيسة مكان مسجد قبة الصخرة ، واسطبلات للخيل في جانب من مساحة المسجد الأقصى في القدس ، ومثل هذا وغيره كثير مما يتم به طعن هوية المسلمين ، وفي ناحية أخرى من الأرض الطيبة ، مسحت المسجد الابراهيمي عن الأرض وأقامت ابراشية ، ومرة أخرى أعاد الهوان دورته وجاءوا أخرى من وراء البحار ، وأقاموا في محل هذا المسجد أماكن عبادة لهم ، ورتعوا في ظلمهم ، ، ثم بادوا بارادة عربية اسلامية ، وعاد التاريخ الى نقاوته وارتفع الآذان مرة أخرى من على المنابر ، وعاد المصلون وقرآنهم في صدورهم وبين أيديهم الى مسجدهم ، وفي أعماقهم نداء العقيدة والتاريخ ، بأنهم هم أصحاب الأرض ، وهم حملة الرسالة السماوية الى البشرية جمعاء ، وهم صناع التاريخ ، وهم حراسه ، وهم الموكلون أبدا باعادة رسم التاريخ وفق ارادتهم ، واذا ثمة عثرة أو أكثر في سير التاريخ ، فسرعان ما يليها نهوض وتوهج بالوعي والقوة واعادة الكتابة لسيره من جديد ، فالتجديد حتم سير وقانون تاريخ هذه الأرض التي هي مواطىء أقدام الأنبياء ، فهي وقف على الاسلام ، وهي أمانة يحملها العرب والمسلمون ، وليس لهم أبدا أن يفرطوا في عقيدة تجري مجرى الدم في عروقهم ، وتصدع بكلمة الله أكبر في أرجاء نفوسهم ، فهذه هي هويتهم ، ويتم التعرف اليهم بها ، وهي دالة عليهم . وليس لهم ثمة تعريف بلاها ، فاذا ثمة من يريدهم بلاها ، ويكد بكل تشويه يهجم به على الوعي ، وما يدري بأن مهمته تبغي المستحيل الذي هو بعينه المحال أن يكون عينيا ، فالذي لا يمكنه أن يكون واقعا ، لا يكون هناك واقعا يضمه يوما ، فلا يكون ممكنا من لا امكان له ، وامكان اللاممكن يفضي الى ما لا يمكنه أن يكون ، فعلى أي اتجاه فكري ، أو فلسفي ، أو لنقل عقلاني ، فلا نتاج يستوي عليه كل ما دار في دورة من غزو ثقافي أو فكري ، أو تشويه حقائق بحثا عن اعادة تركيب للوهم ، في قوالب من حقائق لا وجود لها ، لقسرها على واقع لم تعرفه يوما ، فانما هو الوهم ، فكل تركيب لجملة الوهم ، تظل وهما ، فالتراث دالة تاريخ وهوية وانتماء ، فهو جذر وجود يتغذى من روح الروح ، فهو الذي يوقدها ، ويدفع بها الى عناق وجودها في سير زمان لم تنقطع حلقاته ، فالأرض ناطقة والروح صادحة وعبارات الوعي صائحة : هذه أرضي أنا ، وهذا هو تراثي أنا ، وهذا أنا وتاريخي وديني ، كنت ولم أزل أفيض بالنماء في كل اتجاه هنا ، أنا المعنى الذي استقى مني الوجود معناه ، أنا الخلود الذي لا يلغيه عابر سبيل طافح بكل حقد ، فهو كما الصيب يصيب الشجر ، ويمر ، يعبر الى حيث يعبر كل عابر ، فلا بقاء الا للبقاء ، فاذا عابر تأخذه أوهامه الى غرور الامكان الذي لا يمكنه أن يكون ، فالذين يتخيلهم ينخلعون من دينهم ومن تراثهم ومن تاريخهم ، فانهم الذين لا وجود لهم ، وهم لا بد ويكونوا من بنات وهم من يتوهم بأنه يمكنه أن يتعرف اليهم في وجود ، فلا بد وأنه منسرح في تيه ، ويرتع في وهم ، فاذا ما التقى الواقع يفيق على ما يجعله يدرك بأن نبات الظن مرشح ليتهاوى ويتبدد كسرب دخان يذروه الريح ، فالواله بالوهم هو الدائر دوما في دورة الواهم الذي تسبيه الظنون فهكذا هو وهذا حاله وخياله ، وتلك هي أوهامه ، ولن يفهم لغة غير لغة كل عابر من الذين ناداهم شاعر فلسطين ، أيها العابرون في كلام عابر ، ...، ليفصح لهم عن سيرة الذي مروا في الوهم ، وجاءوا ومروا ، وعبروا الى سيرورة وهم ، في ذاكرة لم تزل تسدي فهما ، لمن يفهم ولمن لا يريد أن يفهم ، بأن المكان ليس لديه ما يقدمه للعابرين سوى أن يفروا .
واذا كان هناك من يقول بحق ديني وتاريخي له في هذه الأرض ، فلتتكلم الأرض بمخزونها ، من الآثار الدالة على حقيقة انتمائها ، فلتنطق الأرض ، فليس مثلها فصاحة ، بما بين أيديها من تاريخ ، فهذا القائل بما يقوله ادعاء مليء بالزيف ، وانه يطرح أيضا السؤال : لمن هذه الأرض ؟! ، ويستدعي السؤال عن مدى صلة ما يدعيه بصدق يؤيده من تاريخ ومن دين ؟ ! ، فاذن هو قد حسم أمره بافصاحه عن قناعة استقاها من معتقدات يعتقدها ، فهي التي توحي له ، وتدله على ما يفعله من التقدم الى أخذ ما يعتقده بأنه له وحده من دون غيره ، ليبسط سيطرته عليه ، ناكرا كل صلة لغيره به ، مستعدا بما بين يديه من قوة أن يوظفها في خدمة سعيه ، وقد فعل من قبل ، وليس ثمة فكرة كامنة في وعيه تردعه ، أو تحيله مترددا فيما هو مقبل عليه ، فهل هو يريد حوارا ، وهو يقرر في وعيه وفي ممارساته ملكيتة للأرض ، وأحقيته في تراث تاريخي وديني ، تستدعيه كل ظنونه بأنه تراثه ، فعلى ذلك هو ينفي كون هذا التراث لغيره ، وينفي عن هذا التراث أي صلة له بدين آخر وأمة أخرى ، فهو بالذي يفعل انما يستدعي ردا من هذا الغير الذي يعرفه ، ولا يعنيه على أي وجه جاء هذا الرد ، فهو في سردياته لسياقات مثيلة ، لم يجد ما يستوجب اهتماما بردع آت من هذا الغير أو هذا الآخر ، فذلك درس السياقات المتشابهة التي زحزحت الأرض من تحت أقدام هذا الآخر ، فلقد كان في خلالها اقتراب شديد من تراث تلو تراث ، فليس ما يوجب قلقا من كلام مرسل ، لا يجد دعامة من ردع يكون به ارتداعا ، فكذلك هو درس السياقات ، فليس ما يدعو الى التردد ، فالأولى هو الاندياح بالادعاء ، وبالترسيخ لحيثيات الادعاء ، بامتلاك الأرض وما عليها من تراث ، وبتقنين وبسرديات ، فسرعان ما تتبند في سطور الوعي العام على أنها هي حقائق التاريخ ، فليس كل تاريخ ، هو في حقيقته تاريخ ، فالبراعة ليست دوما في صناعة التاريخ وانما في كتابة تاريخ ، فكم من تفاصيل في رواية ، أو أسطورة أو ما شابه استحالت الى تاريخ ، بل الى ما لا يختلف عليه أحد حين يقال به في سرد مسطور أو منطوق ، فاذن الحال كما حال اعلان حرب دينية وتاريخية على الدين الاسلامي وعلى التاريخ العربي والاسلامي ، وذلك لأن في ذلك يكمن العزم كله على نفي كل صدق في غير جانب مدع مجرد من كل حقيقة تسنده ، فاذن هو بذلك لا يدع محلا لحوار ، ولكنا بحال من هو أحوج من يكون الى الحوار ، فالحقائق كلها بين أيدينا ، وفي جانبنا ، فلنترك مساحة للحوار ، أو للاعلان عن ماذا لدينا قوله في شأن مدع شب في الباطل ، وارتوى منه وليس له الا دلق باطله في وجوهنا ، فجوابنا جاهز ، فهو في القرآن الكريم ؛ في سورة البقرة ( انظر جامع البيان في تفسير القرآن ..محمد بن جرير الطبري ) ، وليكن أيضا تفسير الشعراوي شارحا ، فهو في جملته مستند الى الطبري ، وأيضا الجواب عند العلم ..علم الآثار ، وعلم اللغات القديمة ، وهنا نظريتان ، نظرية تقوم على علم الآثار ، ويقول بها الدكتور فراس السواح ، ويشرحها في أكثر من مقال علمي وكتاب ، ونكتقي هنا بذكر كتابه : ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي ) ، لنأتي الى غيره لاحقا ، وأما النظرية الثانية فهي قائمة على علم باللغات القديمة ، فهذه اللغات تشكل اساسا في قراءة تفسح المجال أمام قيام هذه النظرية ، ويقول بها الدكتور الصليبي ، والدكتور أحمد داوود وله كتب عديدة قام بتأسيس سردياتها على علم منه باللغات القديمة ، ويكفي هنا أن نذكر له كتابه : ( العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود ) ، وأيضا كتاب :( تاريخ سوريا القديم ) ، ولمن شاء وعيا متجددا وعميقا بالتاريخ ، فعليه بما أفاض به العلماء العرب من علم في هذا السياق ، فهو ليس مجرد علم بما لم نكن نعرفه ، وانما هو على حد تعبير كل منهما ، انما هو الاعادة لكتابة التاريخ ، فكلاهما يجمع على أن تحريفا مقصودا قد لحق بكتابة تاريخ هذا المنطقة ، وبأن هذا التحريف انما كان يستهدف خدمة أغراض استعمارية ، فهكذا كان قديما وهو لم يزل ممتدا الى هذه الساعة ، فالتحريف في التاريخ ، وفي الثقافة ضرورة استعمارية ، أدركها الاستعمار وعمل بوازع منها ، وكانت الكتب التي صيغت في خدمة أطماع استعمارية ، واستحالت مع مرور الأيام الى مراجع ، استندت اليها الكتب التي تلتها ، وزاد في عمومية الزيف أن أجيالا من الشرق ، حين راحت تفتش عن تاريخ هذه المنطقة ، بعلم تستقيه في دول أجنبية ، أو حتى في بلادها ، فلم تجد سوى هذه الكتب أو غيرها من كتب مليئة بكل زيف ، ما دعا ويدعو الى اعادة كتابة التاريخ .. تاريخ هذه المنطقة التي تعرضت الى زيف لم يحصل في التاريخ ، فتاريخ لم يحصل استحال الى تاريخ مأخوذ على أنه التاريخ ، وتاريخ حصل ، لم يجد في الذاكرة ولا على اللسان موضعا ، فهذا الجيل من أبناء العرب والمسلمين مطالب باعادة الكتابة لتاريخه ، بالاستناد الى العلوم .. اللغات القديمة والآثار ، والقرآن ، وليس أي سند آخر ، فكثيرا ..كثيرا ممن تصدروا الى كتابة التاريخ قد اتخدوا أو كادوا يتخذوا من التوراة كتابا للتاريخ يعودون اليه ، بل ويسردون ما ورد فيها وكأنها مرجع للتاريخ ، وهم قد فعلوا ذلك تماما ، أو بما يشبه ما قام به كتاب الغرب ، وعلى هؤلاء جميعا يعترض أحمد داوود ، وفراس السواح ، بل ومؤرخون جدد يستندون في كتاباتهم الى علم الآثار كما يقول بذلك فراس السواح ، الذي يتوصل بالاعتماد على ما تحدثت به الأرض ، وقد انكشفت كنوزها ، من آثار تنطق بكل ما يحسم جدلا في مسألة تاريخ ، فالآثار بما بها من دلالات ناطقة كافية العقل علما لاعادة سرده للتاريخ ، يقول فراس السواح ، بأن التوراة في ضوء ما تنطق به الآثار ، وعلم الآثار لم يعد يمكن النظر اليها ككتاب تاريخ ، فثمة فارق كبير بين سردياتها وبين حقائق التاريخ ، بل ان التناقض بين ما يقول به علم الآثار وبين التوراة يحيل التوراة الى كتاب على الرف ، فبدءا بالربع الأخير من القرن الماضي ، كما يقول فراس السواح ، فان علماء الآثار الجدد لم يعودوا ينظرون بتة الى كتاب التوراة على أنه كتاب تاريخ ، لقد وضعوه على الرف ، فالتاريخ بدأ ينحو في سرده وجهة أخرى ، وفق ما تنطق به الآثار التي نطقت في أفهام الباحثيين عن حقائق التاريخ في سوريا وفلسطين ، ويتوصل فراس السواح الى تلك الفجوة الهائلة بين الأسماء وبين انتماءتها ، وبين السرديات وبين حقيقتها ، ومدى ملائمتها الى الزمان والمكان ، ويقرر بأن الأرض عربية وبأن آثارها هي آثار عرب ، والتاريخ انما هو تاريخ عرب ، ويبين بالاضافة الى ذلك تناقضات كثيرة في التوراة ، يفصلها تفصيلا ، فلا يدع لشك يتسرب الى منطقه وبياناته عن وعي حقيقي بما يتناوله ، مستند الى منهج علمي واضح المرتكزات وفصيح التناول ، وبين الدلالة ، وقوي الحجة ، وهو هكذا بمنهجه هذا من السطر الأول وحتى الأخير في دراساته ، ولقد حاولت امتحان نهجه ، في محاولة كشف عن تناقضات في كتاباته ، فلم أفلح ، فأيقنت بأني بصدد مرجعية تؤسس لمرجعية في تناول لتاريخ هذه المنطقة من جديد ، وهو( فراس السواح ) ، يبدأ مقدمة كتابه ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي ) ، بقوله : " لعل أهم ما تكشفه أمامنا المعلومات الجديدة المتوفرة خلال ربع القرن الماضي ، هو استقلال الصورة التاريخية لاسرائيل عن صورتها التوراتية استقلالا دفع بعض المؤرخين الجدد ، الى الدعوة لوضع الرواية التوراتية بكاملها على الرف ، وكتابة تاريخ فلسطين خلال الحقبة التي تغطيها أحداث التوراة ، بمعزل عن النص والخبر التوراتي الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية . وبذلك يتحول كتاب التوراة من مصدر أول ورئيس لكتابة تاريخ فلسطين وتاريخ اسرائيل ، الى ناتج ثانوي من نواتج ذلك التاريخ ، والى تركة أدبية تتطلب نفسها التفسير والتعليل ، ... " ، ثم يستعرض آراء باحثين انشعلوا في نفس المجال ، ويورد للباحث غربيني ( G.Garbin.History and Ideology in Ancient Israel . London . 1988 ) ، آراء من بينها رأية بأن " تاريخ اسرائيل التوراتية في السياق العام لتاريخ فلسطين ، هو أخيولة أدبية تجد دوافعها في المناخ الاجتماعي والنفسي للفترة المتأخرة التي أنتجتها " ، ويضيف قوله : " لقد تمكن بعض الباحثين منذ العقد الآخير للقرن التاسع عشر ، من أمثال E.Meyerو H.Gunkel ، بأن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكاية الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداولة شفاهة عند تحرير أسفار التوراة ، ابان وبعد السبي البابلي ، وجادل بشكل خاص في أن كامل سفر التكوين ، برواياته عن الآباء أسلاف بني اسرائيل ، لا علاقة له بالتاريخ ، ويجب تصنيفه في زمرة الأخيولة الأدبية " .
ويمضي فراس سواح في كتابه معتمدا منهجا علميا ، يؤسس استدلاله في الكشف عن حقائق التاريخ ، على علم الآثار ، من غير تأويل ومن غير استدعاء احتمالات لتحميلها على نص يقول به ، هو في حقيقته منطوق علم آثار ، فليس بغير الدليل العلمي يتكلم ، وليس هو بتارك القارىء حيث وهن الدليل ، من غير الاشارة الى هذا الوهن ، فكأنه بكتابه أراد أن يصل بعلم الآثار الى حقائق فقط ، ليؤسس لكتابة التاريخ الصحيح الذي هو بذاته المراد ، وهكذا حاله في كل صفحات كتابه ، واننا حيث لا يمكنا أن نستبدل المقال بكتابه ، وانما نجعله اطلالة على الكتاب ، ودربا اليه ، فلا أصح من قراءة الكتاب كله بتأن وروية ، ويكفي هنا أن نلتقي بفقرات تشكل بينة على الوجه الذي ذهب فيه فراس السواح ، فمثلا وهو يحاول أن يفتش عن تلك الممالك التي ورد ذكرها في التوراة ، ولها صلة بموسى نجد صفحة 269 من كتابه ( آرام ...) قوله : " فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج ، لم تكن موجودة في ذلك الوقت ، على ما يبين المسح الأركيولوجي للمنطقة ، ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي ، التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين ( الفلستنيين ) ، لم تكون قد استقبلت زمن الخروج أية موجة من موجات شعوب البحر من الفلستنيين وغيرهم "
فهذا حال تاريخ مسرود بقلم في صفحات في التوراة ، فلا صلة له بواقع ولا صلة لسردية حوادث بزمانها ، فليس لها ثمة زمان جرت فيه .
وفي صفحة 270-271 من نفس الكتاب ( آرام ...) يقول فراس السواح : " وتقدم نتائج علم الآثار صورة أكثر تخيبا للآمال في العثور على اسرائيل التوراتية ، فجميع المواقع الفلسطينية في منطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا ، وخارجهما ، تظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية ، فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني ، ولا يوجد أي دليل أثري على حلول أقوام جديدة في هذه المنطقة جلبت اليها ثقافة مغايرة ، وقد سقطت اليوم الى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قبل القبائل الاسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون ، وتدمير مدنها الرئيسية ، لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية نفيا تاما " .
وعن وجود مملكة داود وسليمان في الزمان والمكان يقول فراس السواح صفحة 271 من نفس الكتاب : " بل انها مستحيلة الوجود ، ناهيك عن التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها ، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن الا بلدة صغيرة جدا ، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها ، وبناء قصور ملكية لسليمان وزوجاته وصروحا مدنية وادارية ضخمة ، وذلك اضافة الى عدم العثور على أي شاهد أثري على أن هذه الأبنية قامت في يوم من الأيام "
ويعود فراس السواح ليؤكد مرة أخرى في كتاب آخر له ، هو ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ) ، على ما يفيض به البحث العلمي من حقائق ، ويبدأ من أول السطر في مقدمة كتابه ليقول : " لقد غدا من نافلة القول اليوم التحدث عن صحة المرويات التوراتية من الناحية التاريخية ، أو المجادلة في امكانية اعتمادها مرجعا على هذه الدرجة من المصداقية أم تلك . ذلك أن المعلومات التاريخية وألأركيولوجية التي توفرت لدى الباحثين خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، قد أظهرت بجلاء الطابع التاريخي لهذه المرويات ، وعدم اتساقها مع تاريخ فلسطين وبقية الشرق الأدنى القديم خلال معظم الفترة التي تغطيها الأسفار التوراتية . ولذد بدأت ملامح هذا المأزق التاريخي لكتاب التوراة تتوضح منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر ، عندما حاول بعض الباحثين المرموقين من أمثال E.Meyer و Gunkel ، ومنذ ذلك الوقت المبكر ، بأن الأسفار التوراتية ليست تاريخا موثقا يمكن الركون اليه ، .... " .
ويحرص فراس السواح الا أن يلفت انتباه القارىء : " الى أن التوكيد على منظقة فلسطين كمسرح للحدث التوراتي لا يتضمن الاقرار بتاريخية هذا الحدث . ذلك أن محرري التوراة الذين عكفوا على تدوين أسفاره منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد ، كانوا يهدفون الى التأصيل للديانة اليهودية التي أخذت ملامحها بالتوضح عقب عودة بقية سبي يهوذا من بابل ، وابتكار جذور للمعتقد التوراتي تضرب في تاريخ فلسطين القديم . وقد عمدوا في سبيل ذلك الى الاستفادة من كل ما وقع تحت أيديهم من أخبار مملكتي اسرائيل ويهوذا ، ( وهما مملكتان فلسطينيتان محليتان لم تعرفا قط الديانة اليهودية ) وفسروا هذه الأخبار بما يتلاءم والايديولوجية التوراتية .اضافة الى استخدامهم لمادة قصصية شعبية شائعة في المنطقة تروي أحداثا مغرقة في القدم ويختلط فيها التاريخ بالخرافة ، وصاغوا من كل ذلك رواية مضطربة مليئة بالفجوات والثغرات . " .
وفي ضوء هذا المشهد التاريخي الجديد الذي يطل به العلماء العرب بعلم الآثار ، وبعلم الأديان وبعلم اللغات ، على كتب التاريخ الزائفة السابقة التي ضللت الوعي العربي والعالمي بتاريخ هذه المنطقة العربية ، يأتي كثيرون من عمق الادراك للزيف الذي أبدعته القوى الاستعمارية ، ومن بين هؤلاء الدكتور أحمد داوود ، فيكتب عدة كتب في تاريخ سوريا وفلسطين ، كمساهمة منه في صناعة وعي جديد وصحيح بالتاريخ ، ويفعل ذلك هو يعي بأن هذه الكتابة الأخرى والهامة جدا ، تجري للتاريخ ، ويتصدرها أفذاذ من العرب ، ولا بد من الاندياح بها الى مداها ، وبأنها يجب أن تكون شاملة لاعادة انتاج أمة وعالما بوعي صحيح للتاريخ ، فهي مسألة الحقيقة والانسان وسير أمة عبر تاريخ الزمن ، وهي أيضا مسألة تاريخ بشرية على هذه الأرض تطل على المنطقة العربية بوعي شائه صاغه الزيف بكل زيف ، فلقد لحق بالوعي بالتاريخ زيف كبير ، وشاه هذا الوعي ، وكان التشوية في خدمة أغراض استعمارية ، التي سعت الى الوهم والزيف ليكون بدلا عن حقيقة تاريخ كان ، ونجد أحمد داوود ، في خلال اعلانه الصريح عن وعيه بكل ذلك ، يؤكد بأن سوء الفهم للغات القديمة ، قد كان له أبلغ الأثر في اتاحة الفرصة أمام الزيف والتزييف ليأخذ مجراه ، لكنه وهو يستند الى ما كشف عنه علم الآثار من حقائق تاريخ ، فانه يلجأ الى علم اللغات ويتخذ من المنهج اللغوي المقارن منهجا ، مسنودا بحقائق من خارج هذا المنهج ، من مثل حقائق أكد عليها علم الآثار ، وبذلك يستدعى التفاتة الى الدكتور الصليبي الذي اتخذ هو أيضا ، من المنهج اللغوي المقارن اساسا يتوصل به الى أن ما جاءت به التوراة من تاريخ ، انما هو الذي لا صلة له بتاريخ فلسطين ، وانما هو تاريخ مهلهل الحلقات واهي الصلات بالزمن وبالجغرافية ، وبرغم ذلك فبالنظر في السرد التوراتي وما به من ذكر لأسماء وحركات بشر ، وهمزت وصل بجغرافية وبزمن ، يمكن أن يتاح للنظر أن يصل أسماء وحوادث وردت فيه ، من مثل "مصرايم " ، و"فلسينا " و " كنعان " ، و ... ، القائمة في جغرافية في عسير والجزء الجنوبي من الحجاز ( الجزيرة العربية ) ، فلربما هي التي يمكنها أن تتفق ولو بوجه شبه معقول معه ، و هو ما ذهب اليه الصليبي ، ولم يستسغه فراس السواح ، فأفرد للرد عليه كتابا له حمل عنوان ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ) ، وهو من أوله الى آخر ، بمثابة مناقشة الطرح الذي ذهب اليه الدكتور الصليبي ، ومع ذلك فان طرح الصليبي قد وجد من يتبناه ويصر عليه من أمثال أحمد داوود وغيره ، ذلك بأنه على كل ما ذهب اليه فراس السواح في مناقشته هذه لا ينكر ، بل يؤكد ، بأنه ليس ثمة دليلا واحدا من علم آثار ، أو تراث دال يستدل به ، على أن عشيرة أو تجمعا يهوديا (في نفس السياقات الزمنية التي يدور حولها الحوار) ، قد كان يوما ما في مكان ما في فلسطين ، ويأبى أحمد داوود بمنهجه الا اعادة ما ذهب اليه الدكتور الصليبي ، وبصورة معمقة ومفصلة مسنودة بخريطة تفصل الجغرافية ، ليؤكد في خلال بحثه ، بأن منطقة عسير بالفعل والجزء الجنوبي من الحجاز انما هي الجغرافية ، وبما بها من دلالات وشواهد ، فانها المؤهلة لتكون هي المسرح الذي كان لملامح تاريخ ورد في التوراة ، ويصر أحمد داوود على أن هذا التاريخ لا يتعدى كونه تاريخ عشيرة ، وبأنها وأفرادها لم يعرفوا مصر ولا فلسطين ، ولا صلة لهم بهما ، وانما هي مسألة اللغة التي كان الجهل بها هو فرصة التضليل ، فتشابه الأسماء ، بين هنا وهناك فسح للضلال أن يتخذ دوره بأن يكون المضلل في السرديات لمطابقة تاريخ على جغرافية لا صلة له بها . ويتجلى أحمد داوود بمنهجه كمن يعيد اكتشاف نصوص التوراة في سياقاتها الجغرافية والتاريخية ، فيكشف عن ما يلامس منها تاريخا وجغرافية ، ويبين أيان يمكنه أن يكون ذلك ، وهو في تفصيل كلامه ، لا يكاد يبدو يقسر ما يتفق له على ما لا يتفق ، وانما سلاسة التوفيق تيدو لديه موفقة ، وهو لا يكتفي بذلك ، بل يعود دوما الى السرد التوراتي ويجلي تناقضاته وعدم اتفاقه مع أية امكانية لتوفيق بين نصه وبين جغرافية اسمها فلسطين و مصر ، ولا يأل جهدا في كل بيان له في أمر ، الا أن يستجلي المعنى من داخل اللغة ويفصله ، ويمييز معاني الكلمات ويشرح صواب معناها ، ويبين ما لا يمكنه أن يكون معنى للكلمة التي يعالجها ، مبينا كيف أن مثل هكذا تلبيس لكلمة على ما لا يتفق لها من معنى ، قد تم اتخاذه دربا الى تشوية تاريخ منطقة بحالها ، ويصل في صفحة 257 من كتابه (العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود) الى النجمة السداسية ، فنراها في الكتاب على صورة " صحن من الفخار تم اكتشافه في سامراء ويعود للألف الثالث قبل الميلاد كما يقول ، وفي الصورة " الزوبعة رمز الخصب أو الرغبة الكونية الأولى في عقيدة الخصب السورية " و يكمل قوله :
" وان ما يدعى ب ( نجمة داوود ) السداسية ، ليست الا بدعة صهيونية حديثة . والنجمة السداسية لم تكن الا أحد رموز الخصب المقدسة في ديانة الخصب ، العربية السورية اقترنت بالأنهار الستة التي تخرج من نبع السيدة في حورانينا ( كهف السيدة ) في جبل غامد ، كما مثلتها أطواق العقد الستة التي تزين جيد السيدة العذراء ( عشتار ) وخصلات شعرها الستة التي تزين عارضة وجهها من كل جانب . ثم استمرت النجمة السداسية واحدة من أركان الزخرفة في التنزيل بالخشب والتطعيم بالصدف أو بالعاج أو بالمعدن الذي امتاز به العرب السوريون منذ الزمن الموغل في القدم وحتى اليوم ... " .
ويتفق لفراس السواح القول بأن اليهود ، في ذلك الزمن ، لم يكونوا سوى عشيرة ، ويسمي المكان الذي كانوا فيه بالمقاطعة اليهودية ، وهو يفترض بأن تلك العشيرة وجدت معيشتها في فلسطين ، على خلاف ما ذهب اليه الصليبي ، ويقول هذا وهو يلفت الانتباه الى غيبة كل دليل من آثار على تراث يهودي يدل على ذلك ، فكل ما أمكنها عشيرة أن تفعله من أجل أن تستبقي ديموميتها هو العيش بمثل عيش المحيط ، فالأكل والمشرب واللباس والعادات والتقاليد واللغة ، وحتى التقويم الذي يسمونه بالتقويم العبري ، فانما هو مأخوذ من التقويم البابلي (تقويم قمري شمسي ، تتم فيه كل مدة من زمن ملائمة القمري للشمسي باضافة الفارق الزمني بينهما ) ، فكلها من هذا المحيط ، وذلك على الرغم من الانكفاء على معتقد تدين به هذه العشيرة ويشكل خصيصة لها ، ولا آثار يهودية في فلسطين ، فليس بمكنها عشيرة أن تنتج حضارة ، فتستبقي تراثا خالدا عبر الزمان ، فلا تراث ولا ما يدل على حضارة ، فهذا خارج حدود عشيرة كانت ما تكون ، وليس سواها سيرة هذا وذاك من أبناء العشيرة يتناقلها أبناء العشيرة في خلال مرويات ، فهذا يروي لهذا وتجري الرواية عبر الزمان ، من جيل الى الذي يليه ، بكل ما اتفق للراوي ، فليس ثمة زمن يمكن للرواية أن تجد فيه ما تدلل به على صحة ما تحمله سوى ما هي محملة به ، فليس من خارج النص ما يدل على صحة النص ، ولا بين أكف الواقع ما يقدمه تصديقا لصحة يزعمها متعصب لنص او رواية ، وهذه وجهة تأسست علميا وبكل دليل علمي يمكنهم علماء العرب ومن بينهم فراس السواح أن يشيروا اليه ، وهو الاتجاه الذي نحا نحوه وقال به مؤخرا الرئيس الحالي لاتحاد علماء الآثار العرب . وعند كمال الصليبي وأحمد داوود وغيرهم ، أن هذه العشيرة سكنت غامد ولم تعرف فلسطين بتاتا ، وانما هي عشيرة بدوية ، عاشت عيشة البداوة ولم تعرف حضرا ولا تحضرا ، وبالطبع يمكن التوسع ، في معرفة ما يذهب اليه كل واحد ، من هؤلاء الباحثين الذين بذلوا جهدا كبيرا في التوصل الى ما دونوه في مقالات علمية ، وفي كتب لهم ، وهي جهود بحثية استغرقتهم وقتا طويلا ، ومن المهم أنه عند قراءة ما توصل اليه الباحث منهم التعرف الى المنهج الذي اتبعه في بحثه ، فهذا وثيق الصلة بالنتائج التي توصل اليها ، والأخذ بها من عدمه قرين المنهج واستعماله في البحث ، فمنهج فراس السواح هو الذي يمكن به تحصيل اجماع علمي عالمي عليه ، ذلك بأنه لصيق علم الآثار ، فهو يتكلم بالدليل القاطع ، ويدلل في نفس الوقت بكل اشارة على شبه الدليل وما ينقصه لكي يكون دليلا قاطعا ، وهو اذ يجانب المنهج اللغوي المقارن الذي اتخذه الصليبي ، فليس لأنه ينكره أو يدحضه ، وانما لعدم كفايته في غيبة دليل من علم آثار ، فثمة ضرورة عينية من آثار يحتاجها ، لدعم قول يتم التوصل اليه ، وذلك اسناد ضروري ليعلو بما يستدل عليه بعلم لغات الى مرتبة حقيقة تاريخية تدلل على صدقها بأثر في واقع ، لكن أحمد داوود من جانبه يأخذ ما قال به الصليبي ويضيف الى منهجه اللغوي المقارن ، ما أفضى اليه علم الآثار من أدلة قاطعة لا لبس يعتورها ولا غموض .
..................................................................
لمزيد من القراءة :
كتاب : أحمد داوود ، ( العرب والساميون والعبرانيون وبنو اسرائيل واليهود ) .
http://www.4shared.com/file/67558683/5af62450/________.html?s=1
كتاب : فراس السواح ، ( آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي )
http://www.4shared.com/file/40174478/653da244/_______.html?s=1