
انتهت جلسة تحقيق أخرى فنادى الكابتن "تصادق" الواقف بالباب الجندي وطلب منه بلغته العبرية إعادة محمد إلى مكان ما في المعتقل:
- شتير، تحزورتو لفريجدرير،، مهير. قال ذلك الكابتن صادق بنبرة غاضبة.
قبض الجندي ياقة قميص محمد البني الداكن وراح يجره جرا فيما يداه مكبلتان إلى ظهره، وعبْرَ الممر الطويل للمعتقل كانت ثمة حركة نشطة لهذا اليوم، جنود يضربون معتقلا مكبلا بينما لم يكن أمامه غير توجيه الشتائم لهم، جنود آخرون يجرون معتقلا على البلاط بعد أن أغمي عليه حينما ركله الكابتن " نوح " على مناطق حساسة بين فخذيه، رغب محمد أن يتوقف ويتفحص المعتقل المصاب محاولا التعرف عليه، حينها سارع الجندي وركله بقدمه اليسرى على مؤخرته، لذلك استشاط محمد غضبا وصاح في الجندي بأعلى صوته.
- أنتم نازيين بل أكثر من النازيين،،،،
أودع محمد هذه المرة في الثلاجة عقابا له على ما اعتبر مقاومة وتمرداً وعدم انضباط وعدم تعاون في التحيق، نعم هي ثلاجة تبريد تتدنى فيها الحرارة إلى درجة الصفر مئوي تقريبا ، الآن فقط استطاع تفسير معنى الأمر الذي صاح به الكابتن "تصادق" للجندي، إنها زنزانة لا تزيد أبعادها عن متر واحد عرضا ومتر ونصف طولا، كان الهواء البارد ينفث من فتحة في سقف الزنزانة ، حينما غاب وجه السجان وهو يغلق الباب خلفه، شعر محمد في البداية ببعض الراحة بعد أن كان يتصبب عرقا ، ولكنه سرعان ما أفاق من ومضة الراحة تلك حينما بدأت أسنانه تصطك اصطكاكا فيسمعها كما لو كانت ماكنة صغيرة لطحن القهوة، بدأ يفرك كفيه بعضهما بعضا ، ثم راح يمارس الوقوف والجلوس تباعا كي ينشط دورته الدموية لكن دون فائدة كبيرة، استمر على هذا الحال منذ ساعات المساء إلى أن جاءه الجندي في الصباح وفتح باب الزنزانة الثلاجة وسحبه سحبا للخارج لأنه بالكاد استطاع تحريك رجليه المجمدتين ، بدأ محمد يستنشق هواء كوردور المعتقل الساخن وبدا له وجه السجان كمخلوق غريب لا ينتمي إلى جنس البشر حينما كان يقهقه بضحكة صفراء لا تشبه أصوات الناس ولا ضحكاتهم.
انتهت الأيام الثمانية عشر للتوقيف القانوني الصوري الذي يتعاملون به في المعتقلات، واقتيد محمد إلى المحكمة بصحبة معتقلين آخرين، وكان القاضي الأشقر الذي هو عبارة عن ضابط بلباسه العسكري لا يوجه للمعتقل غير سؤال واحد:
- هل أنت مذنب؟
- لا لست مذنب.
- يمدد اعتقالك لعشرين يوما أخرى. انتهت الجلسة.
- انتهت انتهت،،، محاكم مهزلة وقوانين مسخرة. قال محمد ذلك وهو يرسم ابتسامة ساخرة على فمه فيما السجان يحاول جره من كتف قميصه باتجاه العربة التي ستعيده إلى المعتقل.
ومن هناك أعيد مرة أخرى إلى الحجرة الكبيرة حيث عشرات المعتقلين المشبوحين وقوفا أو جلوسا على كراسٍ قصيرة الأرجل أو على صناديق بلاستيكية تستخدم لنقل زجاجات المشروبات الغازية التي يستهلكها الجنود في المعتقل.
كان نصيب محمد الجلوس فوق صندوق من تلك الصناديق بينما كان مكبل اليدين ثم زيد على ذلك بأن أعيد القمع الكتاني القذر إلى رأسه فغطى وجهه وكتم أنفاسه برائحة الرطوبة والقذارة، وصار ذقنهُ يلامس ركبتاه في تلك الجلسة التي تزرع الألم في الظَهر، لكنه أملً نفسه باختلاس غفوة صغيرة علً ذلك يخفف من آلامه ويعوضهُ عن ليالٍ طويلة من قلة النوم، خصوصاً في الثلاجة التي قضى فيها ست ساعات متواصلة.
* * *
كانت ثلاثة شهور قد مرت منذ اعتقاله حينما داهمته غفوة صغيرة كأنها برق وامض، رأى نفسه يزرع شجرة صبار صغيرة بحجم كف يده، ورأى نفسه يعلوها ويقطف من ثمارها زيتونا أخضرا يانعا وكان في غاية السعادة وهو يتنسم هواء عليلا يأتي من ناحية البحر الذي يشاهد من الأماكن العالية في قريتهم،،،وحينما استفاق من حلمه الوامض هذا، كان قد تخفف من كل آلامه، وشعر بطاقة جديدة تنفجر في نفسه، وأسرَ لنفسه أنه على استعداد الآن لمزيد من التحمل والصبر ،،،
في صباح ذلك الحلم، جرى تحويل محمد إلى زنزانة صغيرة تبلغ أبعادها مترا واحد عرضا في مترين طولا ومترين ارتفاعا، ولحسن حظه فقد جيء له بشريك في الزنزانة التي لا يدخلها الهواء إلا من بضعة ثقوب صغيرة في السقف، مع ذلك تعتبر هذه الزنزانة فرجا كبيرا في معتقل طولكرم لولا المصباح المضاء على مدى الأربع والعشرين ساعة بحيث يمنع المعتقل من النوم ويحيل حرارة الزنزانة إلى فرن حار، أما الماء وقضاء الحاجة فثمة فتحة صغيرة في أرضية الزنزانة يقوم المعتقل من خلالها بقضاء حاجته، وفي الوقت نفسه فمن سنبور الماء المتدلي فيها ينهل حاجته للشرب بكف يده أو بكأس قذرة يوفرهُ السجانون في الزنزانة لهذا الغرض.
كان مجيء الشاب مصطفى محمود بركات فرجا جديدا لمحمد، بدءا يتبادلان التعارف والحكايات في الزنزانة، مصطفى شاب وسيم الطلعة قوي البنية من قرية عنبتا المجاورة لقرية محمد، لقد اعتقل قبل بضعة أشهر على معبر الجسر أثناء عودته من إحدى البلاد العربية ووجهت له اتهامات بالانضمام لمنظمات فلسطينية والتدرب على السلاح والتخطيط لعمليات عسكرية، رفض مصطفى التهم الموجهة إليه ولم يبدِ أي تعاون مع المحققين وظل يتشبث بكلمة "لا" فقط. وعرف محمد منه أنه الشقيق الوحيد لخمس شقيقات ما زلن في ربيع العمر.
في ساعات صباح أحد الأيام كان السجانون قد قرروا شيئا مهما. سحبوا مصطفى من الزنزانة واقتادوه لجهة غير معلومة ، في مساء اليوم التالي، كان محمد من خلال زنزانته يسمع أصوات جلبة لم يعهدها من قبل قرب زنزانته، قدر أن الأمر ما هو إلا مناورة لترويع المعتقلين وإرهابهم نفسيا وإغراقهم بالضجيج،،،بعد دقائق كانت أصوات المعتقلين من خلال الحجرات المغلقة والزنازين الموصدة تصيح غضبا وتدق الأبواب بقبضات الغضب والتمرد والثورة، لقد سرت إشاعات في المعتقل عن استشهاد احد المعتقلين تحت التعذيب اختناقا نتيجة الضرب ونتيجة إحكام الكيس القذر على وجهه.
وفي ذلك المساء قرر السجانون إطلاق سراح العشرات من المعتقلين قبل وصول لجان الصليب الأحمر للمعتقل. وكان محمد واحدا من المفرج عنهم بعض قضاء شهور ثلاثة قاسية.
في ظهيرة يوم 5/8/1992 الذي وصل فيه محمد منزله ، كانت زوجته تضع مولودها الثالث (فراسة) في المستشفى القريب. وكانت أبواب مسلخ طولكرم تستقبل جموعا جديدة من شباب فلسطين مكبلي الأيدي تحت أنظار الصليب الأحمر والهلال الأخضر.
في تلك الظهيرة كان محمد يشارك أهل قرية عنبتا تشييع جنازة الشهيد مصطفى بركات الذي لم ينبس ببنت شفة إلا أن نطق بالشهادة في الثواني الأخيرة لحياته قاهرا السجانين بصموده وصمته .
- شتير، تحزورتو لفريجدرير،، مهير. قال ذلك الكابتن صادق بنبرة غاضبة.
قبض الجندي ياقة قميص محمد البني الداكن وراح يجره جرا فيما يداه مكبلتان إلى ظهره، وعبْرَ الممر الطويل للمعتقل كانت ثمة حركة نشطة لهذا اليوم، جنود يضربون معتقلا مكبلا بينما لم يكن أمامه غير توجيه الشتائم لهم، جنود آخرون يجرون معتقلا على البلاط بعد أن أغمي عليه حينما ركله الكابتن " نوح " على مناطق حساسة بين فخذيه، رغب محمد أن يتوقف ويتفحص المعتقل المصاب محاولا التعرف عليه، حينها سارع الجندي وركله بقدمه اليسرى على مؤخرته، لذلك استشاط محمد غضبا وصاح في الجندي بأعلى صوته.
- أنتم نازيين بل أكثر من النازيين،،،،
أودع محمد هذه المرة في الثلاجة عقابا له على ما اعتبر مقاومة وتمرداً وعدم انضباط وعدم تعاون في التحيق، نعم هي ثلاجة تبريد تتدنى فيها الحرارة إلى درجة الصفر مئوي تقريبا ، الآن فقط استطاع تفسير معنى الأمر الذي صاح به الكابتن "تصادق" للجندي، إنها زنزانة لا تزيد أبعادها عن متر واحد عرضا ومتر ونصف طولا، كان الهواء البارد ينفث من فتحة في سقف الزنزانة ، حينما غاب وجه السجان وهو يغلق الباب خلفه، شعر محمد في البداية ببعض الراحة بعد أن كان يتصبب عرقا ، ولكنه سرعان ما أفاق من ومضة الراحة تلك حينما بدأت أسنانه تصطك اصطكاكا فيسمعها كما لو كانت ماكنة صغيرة لطحن القهوة، بدأ يفرك كفيه بعضهما بعضا ، ثم راح يمارس الوقوف والجلوس تباعا كي ينشط دورته الدموية لكن دون فائدة كبيرة، استمر على هذا الحال منذ ساعات المساء إلى أن جاءه الجندي في الصباح وفتح باب الزنزانة الثلاجة وسحبه سحبا للخارج لأنه بالكاد استطاع تحريك رجليه المجمدتين ، بدأ محمد يستنشق هواء كوردور المعتقل الساخن وبدا له وجه السجان كمخلوق غريب لا ينتمي إلى جنس البشر حينما كان يقهقه بضحكة صفراء لا تشبه أصوات الناس ولا ضحكاتهم.
انتهت الأيام الثمانية عشر للتوقيف القانوني الصوري الذي يتعاملون به في المعتقلات، واقتيد محمد إلى المحكمة بصحبة معتقلين آخرين، وكان القاضي الأشقر الذي هو عبارة عن ضابط بلباسه العسكري لا يوجه للمعتقل غير سؤال واحد:
- هل أنت مذنب؟
- لا لست مذنب.
- يمدد اعتقالك لعشرين يوما أخرى. انتهت الجلسة.
- انتهت انتهت،،، محاكم مهزلة وقوانين مسخرة. قال محمد ذلك وهو يرسم ابتسامة ساخرة على فمه فيما السجان يحاول جره من كتف قميصه باتجاه العربة التي ستعيده إلى المعتقل.
ومن هناك أعيد مرة أخرى إلى الحجرة الكبيرة حيث عشرات المعتقلين المشبوحين وقوفا أو جلوسا على كراسٍ قصيرة الأرجل أو على صناديق بلاستيكية تستخدم لنقل زجاجات المشروبات الغازية التي يستهلكها الجنود في المعتقل.
كان نصيب محمد الجلوس فوق صندوق من تلك الصناديق بينما كان مكبل اليدين ثم زيد على ذلك بأن أعيد القمع الكتاني القذر إلى رأسه فغطى وجهه وكتم أنفاسه برائحة الرطوبة والقذارة، وصار ذقنهُ يلامس ركبتاه في تلك الجلسة التي تزرع الألم في الظَهر، لكنه أملً نفسه باختلاس غفوة صغيرة علً ذلك يخفف من آلامه ويعوضهُ عن ليالٍ طويلة من قلة النوم، خصوصاً في الثلاجة التي قضى فيها ست ساعات متواصلة.
* * *
كانت ثلاثة شهور قد مرت منذ اعتقاله حينما داهمته غفوة صغيرة كأنها برق وامض، رأى نفسه يزرع شجرة صبار صغيرة بحجم كف يده، ورأى نفسه يعلوها ويقطف من ثمارها زيتونا أخضرا يانعا وكان في غاية السعادة وهو يتنسم هواء عليلا يأتي من ناحية البحر الذي يشاهد من الأماكن العالية في قريتهم،،،وحينما استفاق من حلمه الوامض هذا، كان قد تخفف من كل آلامه، وشعر بطاقة جديدة تنفجر في نفسه، وأسرَ لنفسه أنه على استعداد الآن لمزيد من التحمل والصبر ،،،
في صباح ذلك الحلم، جرى تحويل محمد إلى زنزانة صغيرة تبلغ أبعادها مترا واحد عرضا في مترين طولا ومترين ارتفاعا، ولحسن حظه فقد جيء له بشريك في الزنزانة التي لا يدخلها الهواء إلا من بضعة ثقوب صغيرة في السقف، مع ذلك تعتبر هذه الزنزانة فرجا كبيرا في معتقل طولكرم لولا المصباح المضاء على مدى الأربع والعشرين ساعة بحيث يمنع المعتقل من النوم ويحيل حرارة الزنزانة إلى فرن حار، أما الماء وقضاء الحاجة فثمة فتحة صغيرة في أرضية الزنزانة يقوم المعتقل من خلالها بقضاء حاجته، وفي الوقت نفسه فمن سنبور الماء المتدلي فيها ينهل حاجته للشرب بكف يده أو بكأس قذرة يوفرهُ السجانون في الزنزانة لهذا الغرض.
كان مجيء الشاب مصطفى محمود بركات فرجا جديدا لمحمد، بدءا يتبادلان التعارف والحكايات في الزنزانة، مصطفى شاب وسيم الطلعة قوي البنية من قرية عنبتا المجاورة لقرية محمد، لقد اعتقل قبل بضعة أشهر على معبر الجسر أثناء عودته من إحدى البلاد العربية ووجهت له اتهامات بالانضمام لمنظمات فلسطينية والتدرب على السلاح والتخطيط لعمليات عسكرية، رفض مصطفى التهم الموجهة إليه ولم يبدِ أي تعاون مع المحققين وظل يتشبث بكلمة "لا" فقط. وعرف محمد منه أنه الشقيق الوحيد لخمس شقيقات ما زلن في ربيع العمر.
في ساعات صباح أحد الأيام كان السجانون قد قرروا شيئا مهما. سحبوا مصطفى من الزنزانة واقتادوه لجهة غير معلومة ، في مساء اليوم التالي، كان محمد من خلال زنزانته يسمع أصوات جلبة لم يعهدها من قبل قرب زنزانته، قدر أن الأمر ما هو إلا مناورة لترويع المعتقلين وإرهابهم نفسيا وإغراقهم بالضجيج،،،بعد دقائق كانت أصوات المعتقلين من خلال الحجرات المغلقة والزنازين الموصدة تصيح غضبا وتدق الأبواب بقبضات الغضب والتمرد والثورة، لقد سرت إشاعات في المعتقل عن استشهاد احد المعتقلين تحت التعذيب اختناقا نتيجة الضرب ونتيجة إحكام الكيس القذر على وجهه.
وفي ذلك المساء قرر السجانون إطلاق سراح العشرات من المعتقلين قبل وصول لجان الصليب الأحمر للمعتقل. وكان محمد واحدا من المفرج عنهم بعض قضاء شهور ثلاثة قاسية.
في ظهيرة يوم 5/8/1992 الذي وصل فيه محمد منزله ، كانت زوجته تضع مولودها الثالث (فراسة) في المستشفى القريب. وكانت أبواب مسلخ طولكرم تستقبل جموعا جديدة من شباب فلسطين مكبلي الأيدي تحت أنظار الصليب الأحمر والهلال الأخضر.
في تلك الظهيرة كان محمد يشارك أهل قرية عنبتا تشييع جنازة الشهيد مصطفى بركات الذي لم ينبس ببنت شفة إلا أن نطق بالشهادة في الثواني الأخيرة لحياته قاهرا السجانين بصموده وصمته .