الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الفصل الثالث من رواية " صرخات " بقلم محمد نصار

تاريخ النشر : 2010-06-22
للكاتب / محمد نصار

خرجت تسير على غير هدى ...تتعثر في خطاها .. تشير يداها بحركات غريبة ..الحديث تشعب بداخلها تردده شفتاها دون أن تدري ...عيناها تسكبان الدمع ..فيعلو صوتها وينخفض ..تخطت الحافلة التي استقلتها أثناء القدوم دون أن تعي ذلك، صاحت بها امرأة من المتواجدات في المكان : إلى أين تذهبين؟
....فعادت طريقها وهي تمسح دموعها ، مما دفع المرأة لأن تسألها عن السبب ، فصاحت بها بانفعال: اغربي عن وجهي.، ثم ألقت بجسدها على أول مقعد صادفها تتمتم بأشياء غريبة كأنها طلاسم، أشياء لم تشف شغف العيون التي تحدق بها دون أن تجرؤ على السؤال.
...دفعت الباب بقوة، فاعتدلت العجوز في فراشها مذعورة فزعة، صاحت بها: ما دهاك ؟
وبدون أي جواب ألقت بنفسها على الفراش إلى جوارها وانخرطت في البكاء، مما أثار ذهول العجوز، فسألتها مستفسرة: أحدث شيء لزوجك؟ .
- لا
- إذن ما الداعي لهذا البكاء؟ .
- نار بداخلي يا أمي ..نار تلتهم أحشائي.
- أرجوك يا بنيتي ..لا قدرة لي على تحمل ذلك ..حدثيني بالأمر.
- لا أدري .. شعرت بتغير في لهجته ..في تفكيره ..شعرت بأنه يفكر في الانفصال عني.
اهتزت العجوز كأنها أبرت ، صاحت بهلع : هل صرح بذلك ؟ .
- لا بل لمح .. الموت أهون علي يا أمي ... وأجهشت بالبكاء .
فاحتضنتها العجوز وربتت على ظهرها تردد مطمئنة : اهدئي يا بنيتي فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
كانت من أصعب الليالي التي مرت بها، لم يغمض لها جفن، أخذت تحدق في السقف متتبعة قطع القرميد المرصوصة هناك بشكل منتظم وكأنها تبحث عن خرم بين شقوقها لكي تنفذ منه، تهرب من الكوابيس التي تلاحقها كلما حاولت النوم، أو أغمضت عينيها للحظة ،يغالبها النعاس حينا ، فتهب مرعوبة.. فزعة بين ذراعي أمها، تتلو على رأسها ببعض التلاوات فتغفو في حضنها.
لم توقظها كالعادة، نظرت إلى الفرش والأغراض التي يحتويها وهمست قائلة : مسكينة .. ليكن الله في عونك.
...كانت غارقة في سباتها بعد ليلة عصيبة، يدغدغها شعاع الشمس المتسلل عبر ثقب في النافذة يلسع وجنتيها، يصبغهما بحمرة داكنة .. لم تتململ ولم تكثرت وقد أعياها الإنهاك،عادت تنظر إليها وهي تعتصر ألماً وبصوت مكتوم همست قائلة : عشت حياتي أتجرع الألم والأسى وكبرت فكبرت الآلام معي، كانت فرحتي حين أقبلت إلى الدنيا تصرخين وتدورين بفمك في كل اتجاه، لم أدر يومها أن لبني ممزوج بالمرارة.. بالآم ..كنا نحسب أنها فترة وتنتهي، لكن ما حدث كان عكس ذلك ..العذاب يطاردنا ..الآلام تلاحقنا وكأنها القدر.
لم يكن حالي أفضل من حالها، حين انتهت الزيارة وتركتني مغادرة، عدت منهكاً أجر خطاي، هالة سوداء كستني ولفني ٍ شحوب مصحوب بنظرات تائهة، تجول في الوجوه التي تنظر إلي بأسى بلا غاية، حتى همس البعض قائلاً: مسكين ...إن استمر على هذا الحال سيجن حتما.ً
أقبل الشيخ نحوي وبرقة أخذ بيدي وسرنا قاصدين ركننا المعتاد، يشجعني على الثبات تارة ويستحثني على الصبر أخرى , حتى انفجرت كالبركان دون سابق إنذار: أنا مجرم ...خائن ولن يرحمني الله، لن أنجو من عذاب الضمير ...ماذا فعلت كي أجازيها هذا الجزاء ؟ .
- لا حول و لا قوة إلا بالله ...هون عليك يا ولدي.
- كم أنا نذل.
- اهدأ فأنت تقتل نفسك , ارحم نفسك ...ثم لا يليق بك أن تنهار بهذا الشكل ...أنسيت أين أنت ...ألا تشعر بالسجناء من حولك ؟ هم كذلك في أمس الحاجة لمن ينسيهم همومهم .., إن ما تقوم به الآن ضرب لمعنوياتهم في الصميم .
بعد مضي أسبوع من ذلك اليوم العصيب، كان الإشعار يقصد بيتها ، وصلها في لحظة لم تعر فيها اهتماما لدقات الباب وإن بدت دقات قلبها مرتبكة.. قلقة، دون أن تعرف سبب ذلك ، مدت يدها من خلف الباب بحذر وحياء وتناولت المظروف من الرجل ، فتحته بتوجس وهي تحاول تخمين الجهة التي جاء من قبلها ، لكن نظرة خاطفة على السطور التي تعرف صاحبها، جعلتها تصرخ ثم تنهار على الأرض وسط حيرة وارتباك أمها التي وقف مذهولة من أثر الصدمة .
انكفأت العجوز فوقها وراحت تصرخ طلبا للنجدة والعون، الأمر الذي استدعى حضور عدد من الجيران، الذين أقبلوا يستطلعون ما حدث ، فانزاح الرجال خارجا وانكبت النسوة على المرأة محاولات إيقاظها ، لكن امرأة شدها شكل الرسالة التي مازالت بين أصابعها ، فراحت تتأملها بتلصص وقالت بعدها : ربنا يكون في عونها ، فاتسعت حدقتا العجوز وسألتها مستفسرة: ماذا حدث ؟ .
ترددت المرأة قليلا ، ثم قالت : لقد طلقها محمود .
صكت العجوز خدها وانهارت كومة على الأرض ، فانكفأت النسوة فوقها من جديد ، لكن واحدة منهن حسمت الموضوع قائلة : البقية في حياتكم .
- لا .. لا تتركيني وحيدة يا أمي.. ردي علي يا أمي .. أرجوك فأنا بحاجة إليك ، ثم راحت تهزها بعنف محاولة إيقاظها ، الأمر الذي دفع النسوة لسحبها من المكان رغما عنها .
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. قد تجن المسكينة من هول الصدمة . ، قالت إحدى النسوة معقبة على ما ترى .
- فليستدعي أحدكم عربة إسعاف ، خذوا هذه الفتاة من هنا قبل أن يضيع عقلها . ، قال أحد الرجال مدعما حديث المرأة .، لكن ما تحرك أحد وبقوا يتابعون المشهد بتبلد وجمود ، الفتاة تصرخ بهستريا واضحة ، تتملص من النساء لترتمي فوق أمها ، فيعاودن جرها من جديد، إلى أن بدت عنها ضحكات مجنونة ألجمت الجميع ودفعتهم لمتابعة مشهدا بدا متوقعا من قبل : افرحي يا أمي .. ها هم الأحباب من حولي .. جاءوا ليحضروا زفافي على محمود .. محمود يا أمي .. ألم تقرئي الرسالة ؟ . .. لقد أبلغني بمقدمه لإتمام الفرح .. انهضي يا أمي لتشاركيني الفرحة .

- لم أعلم بهذه التفاصيل في حينه ، لكني اطلعت عليها حين أتى أحد الرفاق لزيارتي ، أو على الأصح للاستفسار عن سبب تطليقي لها .
صمت للحظة راح يتأمل خلالها دمعا يتراقص في عينيها ، ثم مد يده يمسد شعرها ويهمس قائلا : لم أشأ إزعاجك ، أو إثارة عواطفك ، مسكينة .. لقد مرت بأيام لا يعلم بها إلا الله . ، قالت بصوت يخنقه البكاء .
تنهد بأسى ،فلسعت أنفاسه وجهها ، شدت على يده بحنو وقالت : لا تعذب نفسك ولا تحملها أكثر مما تحتمل .
حين أخبرني الرفيق بما ألم بها ، صرخت بقوة ورحت في نوبة تشبه الجنون إلى حد كبير ، لم اعر اهتماما للجنود الذين يحيطون بنا من كل صوب ولا للزوار الذين وقفوا مندهشين مما أصابني ، لم أعر اهتماما لكل ذلك أو بالأحرى لم أشعر به ، كل ما يهمني أن أصرخ بملء صوتي ، في محاولة يائسة لتفريغ الغضب الذي اشتعل في داخلي كالبركان.
حملوني مغشيا إلى المردوان وألغيت الزيارة قبل ميعادها ، كنت أهذي كالمحموم ، أتفلت من أيديهم كالمجنون ، ثم جاءتني صفعة من الشيخ أعادت إلي شيئا من صوابي الذي غاب مؤقتا .
- ألا تخجل من نفسك وأنت تندب كالنساء . ، قال الشيخ وردني بثانية ، تابع بعدها : راع الرفاق من حولك .. احترم قضاء الله يا أخي .
- ونعم بالله . ، قلتها وكأن كابوسا انزاح عن صدري .
لقد شكلت صفعاته نقطة انطلاق جديدة وكانت كلماته التي لم تنقطع عن مسامعي أبدا، ضوءا في عتمة الليل الذي يلفني ، إلا أن الأسى لم يفارقني وزاد من كبتي انقطاع الرفاق عن زيارتي ، وكلما جاء أحدهم ، غادر ولم يعد ، فكان لهذا بالغ الأثر في تعثر حالتي وعدم قدرتي على اجتيازها بالشكل الذي أصبو إليه ، إلى أن جاء أحدهم بعد فترة طويلة وحين سألته عن حالها ، قال إنها انتقلت إلى بيت خالها ، حينها فقط شعرت بالارتياح ، ثم تعدل الأمر بعدها ، لدرجة كنت فيها أشعر بالحرج لدى مفاتحة أحدهم لي بما مر بي في تلك الأيام وكنت أعيب على نفسي كثيرا، حالة الضعف التي كانت تعمها وأنا بين مساجين أحوج ما يكونون إلى من يشد أزرهم ويزيد من صلابتهم أمام الواقع اللعين الذي يعيشون ، لكني مع كل ذلك لم أجد منهم سوى كل حب .. كل مودة وسعيا لإخراجي من تلك المأساة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، الأمر الذي جعلني أنحى منحى آخر ، بدأت أشكل عالمي من جديد .. أحاول التأقلم معه ، حتى الزيارات لم تعد تهمني كثيرا وإنما كنت أعلم بها لحظة استعداد الرفاق لذلك ، حتى الأمل بالخروج لم يعد يراودني ، بل سلخته من تفكيري بالمطلق ، فما من أحد في الخارج ينتظر ذلك وأنا لم يعد لي من أحن إليه ، إلا أن الأقدار كانت لها إرادة أخرى .
صمت للحظة لفه فيها شحوب غريب وكست وجهه زرقة زاد من قوتها ضوء المصباح الخافت ، فنظرت إليه خلسة وهي تتابع التغيرات التي طرأت عليه دون أن تقدر على مد يد العون له .
كان ما لم يكن في الحسبان ، قال بنبرة تحمل الكثير من الحسرة والألم ، ثم تابع، أخبار عن صفقة جديدة ، انتشرت هذه الجملة في السجن كما تنتشر النار في الهشيم وعم الفرح جميع من كانوا في السجن ، كل واحد منهم يحدوه الأمل بأن يكون من بين المفرج عنهم وإن كنت أنا صاحب الحظ الأوفر في نظرهم جميعا .
كنت أشعر بالانقباض لحظة التفكير في ذلك ، لمن أخرج ومن أجل من ، كيف سأبدأ طريقي من جديد بلا رفيق ولا أسرة ، في دروب فقدت فيها أعز الناس ، كيف أنسى الشيخ وعدنان .. هل أقدر على تركهم ؟..من سيقف بجانبي خارج السجن ,لقد تعودت عليهم...أصبحت أشعر بالخوف بدونهم ..هاجس أصبح عملاقا قاتلا .. ينقض على .. يمزقني إربا ,ثم يقذف بي في بحر هائج.
كانت أصعب لحظة في حياتي ،ترقب يطبق على أنفاسي ,جنود يمرون على الغرف ،بيد أحدهم لائحة تحمل أسماء المفرج عنهم يخيرونهم بين البقاء في فلسطين أو مغادرتها ..انتظرت وصوله وكأني على موعد مع ملك الموت ..أوصالي ترتجف .. دقات قلبي تجاوزت حدها بكثير ...العرق يجهدني وظلمة تغشاني ...اتكأت على الحائط ... سمعت أسمي يخرج من فمه...شعرت أني أخر من السماء ...حاولت المقاومة ...تشبثت بذرات الهواء تفاديا للارتطام ...صرخت صرخة مدوية وأنا أصعق من جديد، فظل دويها يطن في أذني، فترة طويلة من الوقت كنت فاقد الوعي ،مما دفع الرفاق لأن يستدعوا طبيب السجن ,صور مرعبة حرمتني الهناء بهذه الإجازة القصيرة ... قفزت أمامي من حيث لا أدري ...كانت تصرخ بهستيريا :دمرتني ...قتلتني ...ماذا لو انتظرت قليلا ..ماذا لو صبرت ..حرمتنا فرحة اللقاء ...فرحة الانتصار ....قتلتني وقتلت نفسك سامحك الله,سامحك الله.
ثم تعود وتختفي ...تكررت الصورة مرات ومرات , حتى اندفعت صارخا: كفى ...كفى لا تعذبيني ,كم تمنيت لو مت قبل هذا ، ارحميني كفاني ما بي.
صحوت وأنا أردد هذه الكلمات وقد التف الرفاق من حولي على شكل حلقة ،أنا ملقى في وسطها ، وضع الشيخ رأسي على فخده ، يمرر يده عليه .. يتلو بعض الآيات ، اهتز كمن أصابه مس ...أنفاسي متلاحقة .. متسارعة ..متوترة ..لم أتمالك نفسي ...انخرطت في البكاء حتى علا نحيبي وبدا يسمع دون تدخل أي من الحاضرين ...
...صحت بلا وعي : كفاني يا رب.؟، فاهتز الشيخ وصاح بي : أستغفر الله يا ولدي ولا تلج ...اصبر إن الله مع الصابرين.
- ماذا فعلت حتى أعااقب علي هذا النحو ؟.
- هذه إرادة الله، فاصبر علي ما أصابك.
- ونعم بالله....ونعم بالله ,ثم انخفض صوت البكاء حتى ذوى.
...صعدت العربة بخطي ثقيلة، ترزح تحت وطأة الحسرة والألم، أخذت نشق طريقها إلي المكان الذي سننطلق منه صوب بيوتنا التي طالما حلمنا بها ،أو حلم بها الرفاق ، أما أنا فقد فارقني الحلم وفارقته بعدما مر بي من أمور.
...كنت أري الفرحة علي وجوههم ,فتعلو البسمة شفتي رغم إحساسي بالمرارة والوهن ,كم تمنيت لو شعرت كما يشعرون، لكن لا سبيل إلى ذلك وقد قتلت فرحتي بيدي، حقيقة مرة كخنجر يغمد في صدري، فأهرب بعد طعنات عدة محتميا بإرادة الله وقدرته .
تسمرت أمام الباب دون أن أجرؤ علي الاقتراب منه وكأن قوة ما تمنعني من الدخول وهاتف يصيح من داخلي محذرا: ..لا...لا..لا تقدر علي ذلك، ستجدها في كل ركن من البيت ,ستلاحقك حتى تدفعك ثمن غلطتك الفادحة .. القاتلة، فلا تدخل ...لا تدخل .
عاصفة تضرب أعماقي تجرفني و توشك أن تطيح بي أرضا ,لولا أن صادف مرور أحد الجيران فلاحظني، أقبل نحوي مهرولا وهو يصيح :محمود ...ألف حمد لله علي سلامتك ,ثم التفت نحو الشباب المتواجدين في المقهى المجاور يناديهم : محمود ...محمود خرج من السجن يا شباب .
فاقبل الجمع فرحين بالبشرى ، اندفع أحدهم نحو الباب وكسر القفل ، ثم أقبلوا على المكان يعيدون ترتيب الأشياء فيه ، جاء المهنئون من أهل الحي، أدوا الواجب ومضوا، خلا البيت منهم، ما عدا عدنان ويوسف فقد أصرا على المبيت عندي، تجاذبنا أطراف الحديث الذي تشعب حتى وصل بنا إلى ليلى، عندها جفلوا عن الخوض فيه تحسباً لما قد ينتج عنه من إثارة لمشاعري، إلا أنني ألححت في معرفة ما خفي عني من أمرها وعندها كانت الصدمة التي لم أتوقعها، فلقد أجبروها بالضرب والتعذيب على الزواج من وليد ابن عمها، مما سبب شرخاََ كبيراً في قواها العقلية والنفسية، ففرت من البيت ولا أحد يدري إلى أين، فقام زوجها بتطليقها ملقياً عن كاهله عبئا لم يطقه.
..شعرت وكأن السماء تهوي على رأسي ولوعة تقتلني، لم أنم تلك الليلة، بل لم أجرؤ على إغماض جفني ..كانت تخرج لي من بين الجفون، أراها مقبلة نحوي تداعبني، خصلات شعرها الأسود تلامس وجهي، ثم تصبح ثعابين ضخمة تطبق على عنقي ....تخنقني .. تصيح بي بضحكات هستيرية : خائن قتلتني و ستدفع الثمن الآن ، لن تقدر على الهروب مني مرة أخرى ..تململت ..قاومت بكل قوة ..ضاقت أنفاسي ..صرخت فصحيا من حولي فزعين , سألاني عن السبب وقد احتارا لأمري، ناولني يوسف كأس ماء , جرعته دفعة واحدة، لعلي أطفئ الحريق المستعر بداخلي.
- يبدو أن التحقيق لا زال عائقاً في نفسك، لكن لا تنزعج فهذه ظاهرة يمر بها كل السجناء و تزول مع الأيام
أومأت بالإيجاب كأنما ذلك هو السبب وقد عقدت النية على ترك البيت إلى الأبد .
لم أدع مجالاً للتردد و طابقت القول بالفعل بصورة أدهشت الجميع , بل زادوا استغراباًُ حين أخبرتهم بتركي المخيم قاصداً المدينة ، حاولوا ثنيي عن ذلك و لكني تمسكت بموقفي، استأجرت هذا المكان الذي نقيم فيه الآن ، كان الأمر صعباً في البداية الحالة المادية سيئة والبيت بيع بعد شهرين من مغادرتي , النقود التي خصصت للمحررين وصلت بعد فترة، لكنها أتت في وقتها ، البداية لم أدر على أي نحو أستغلها و كنت حائراً ، أشعر بالعزلة في هذه المدينة الصاخبة ليل نهار، أفتقر إلى المعارف والأصدقاء و كنت أجوب الشارع كل يوم أتفحص الحوانيت والمارة، أبحث بين الوجوه عن ضالة لا أجدها، ثم أقطب عائداً منهياً دورتي بالجلوس في مقهى قريب , حيث مكاني المعهود على مقعد يشرف على الطريق، مشبعاً فضولي بالنظر إلى خلق الله بلا مقابل.
هرع نحوي صبي يبيع الصحف ، اعتاد رؤيتي في المكان، ناولني إحداها، قبض الثمن ثم انصرف، أخذت أقلب صفحاتها بملل، ثم عرجت على الإعلانات، لعلي أجد ما ينتزعني من هذا الواقع النحس ، أشعلت سيجارة.. أخذت أنفث دخانها بتلذذ، فأقبل النادل يحمل الطلب المعتاد دون أن أجهد نفسي بمناداته وقد عرف ما أريد في كل مرة.
كنت أنصت لأحاديث المسنين ولا أشاركهم إلا قليلا، كوني الوحيد بينهم من الشباب ، بعدما استهلك سوق العمالة شبابنا في إسرائيل، علا صوت المؤذن منادياً للصلاة ، فذهب بعضهم ملبياً النداء وظل آخرون يواصلون اللعب، بينما راح أحدهم يغط في نوم عميق ، تاركاً لرأسه حرية التدلي على صدره بالكيفية التي يشاء.
فجأة دوى انفجار قريب ، هاجت الجموع و دبت حالة من الفوضى والفزع، تلا ذلك صوت طلقات كثيفة، فوقف أحدهم يسأل شخصاً مر من أمامه مسرعا عن السبب، فأجابه بنفس مقطوع ومن دون أن يقف: ألقوا قنبلة على عربة جيب عسكرية .
تجسد أمامي هاجس السجن مرة أخرى ...تركت المكان على عجل، وصلت إلى البيت منهكا،ً ألقيت نفسي على السرير وعلت شفتي ابتسامة واسعة، حين تداعى إلى خاطري هاتف يحدثني قائلا : مازال الخير فينا ما دام هناك من يفكر في الكفاح، لقد حسبت أننا نسينا الأمر، جراء المال الذي أغرقونا فيه، حتى راهن علينا القاصي والداني من الناس .
...تناولت الصحيفة مجدداً ،عدت أتفحص الإعلانات، شدني إعلان منها "مطلوب مراسل لصحيفة الشعب باجر مقبول وشروط مريحة" استحسنت الفكرة وقد توفرت لدى كل المقومات، المال والرغبة ، لم أضيع الفرصة وبعد اتصالات ولقاءات عدة ، أصبحت مراسل الصحيفة و لدى المكتب الذي أعمل فيه الآن ، حتى ... وهنا التفت إليها ، فكانت تنظر إليه بتيه ودلال وقد انحرف المسار باتجاهها ،فسألته وقد علت وجهها ابتسامة ماكرة: حتى ماذا ؟ أكمل.
- حتى قابلتك ..أتذكرين ؟.
- أجمل يوم في حياتي وإن كان يذكرني بذلك الحادث المؤلم، الذي بسبه وصلت إلى المستشفى ، تصرخ وتتلوى من الألم ، هرع إلي علاء الذي أحضرك في حينه يستحثني على فعل شيء، أخبرته أن الأمر سيزول بعد لحظات من أخذ العلاج، فعاد يلح لمعرفة السبب وحين أخبرته بأنك تعاني من التهاب في الكلى ، أجاب قائلاً : صحيح ..فهذا نتيجة السنين التي أمضاها في السجن ، لقد خرج منذ فترة وجيزة مع المحررين .
شدتني الكلمة، لكن الذي شدني أكثر ما صدر عنه وهو يجفف دمعة انحدرت على خده: كان الله في عونك ، لقد تحملت من المآسي والآلام و ما تعجز عن حمله الجبال ...لا أم ولا أب ...لا زوجة ولا ابن ،كلهم مضوا وتركوك وحيداً.
عجزت عن سماع البقية،تركت الغرفة على عجل قاصدة مكتبي، مسحت دمعة سالت على خدي هاربة من الكلمات التي تلاحقني وأنت ممد على السرير بكل عجز واستسلام .
عدت إلى البيت فجاءت أمي تسأل عن سبب تأخري وحين أخبرنها قصتك لم تقو على إخفاء دمعها ، بينما بقيت أنا مهمومة بحالك لا يقربني نوم ولا يغادرني أرق ومع ذلك ورغم ما أصابني من إعياء ، إلا أنني أفقت مبكرة ، لبست ملابسي على عجل وكلي رغبة في رؤيتك من جديد ،فكم كانت فرحتي كبيرة لحظة دخولي الغرفة عليك وأنت تطالع إحدى الصحف باستغراق تام ، لدرجة أنك لم تشعر بوجودي إلا حين وقفت إلى جوارك ، فندت عنك ابتسامة أربكتني إلى حد كبير ، وجعلتني أغفل يدك الممدودة للمصافحة، أو الرد على عبارات الشكر و الإطراء التي أسمعتني، حتى أنني قلت بصعوبة بالغة : هذا واجبنا.
شيء فيك جذبني منذ أول لحظة ، لدرجة بت معها لا أرغب بمغادرة الغرفة ، لا أدري ربما كانت نظرات الأسى المعششة في عينيك وربما كان الإشفاق الذي نما من خلال معرفتي بما أصابك وما أسمعه من زائريك ، أو لعله سحر خاص ملكتني به ولا أجد له تفسيرا ، حتى أنني كنت أعرج على غرفتك بعد أن غادرتها ، مرة أو اثنتين في اليوم وكأني أتوقع رؤيتك فيها ، لكن الأقدار خدمتني بسخاء هذه المرة ، فما هي إلا أيام من الحيرة والقلق ، حتى جئتني راكعا .
- جئت أرد بعضا من الجميل الذي صنعت معي .
- دعك من تبريرات لا تسمن ولا تغني من جوع ، فلقد انكشفت وبان المستور.
للحق بهرتني من أول لحظة وشدني فيك الطبع الهادئ ، كنت أرى ضوء الكون يشع مع ابتسامتك ، انتظر قدومك على أحر من الجمر .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف