قصة قصيرة
فرحة مؤجلة
بقلم : عبد السلام العابد
كنت جالساً في البيت، وسط الظلام، أستمع بألم وحزن، إلى أصوات الطائرات وهي تهدر في الأجواء، وتلقي حممها، على المخيم المحاصر، وبين الحين والآخر، كنت أسترق النظر بحذر شديد؛ لأتابع ما يجري في شوارع المدينة المقفرة من ساكنيها الذين أُجبِروا على الالتزام في بيوتهم، كانت الدبابات والمجنزرات، تذرع الشوارع، وتستبيح كل شيء يقف أمامها. تهدم الجزر المزروعة بالورود، وتغتال الأشجار، وتطيح بأعمدة الكهرباء وتطلق نيرانها على المنازل والبنايات.
وكنت أتابع بقلق مجريات الأمور، عبر هاتفي الذي بقي يعمل، رغم كل هذا الدمار، وعبر الراديو الصغير الذي لا يفارقني. وفجأةً رن جرس الهاتف، فأسرعت نحوه، ورفعت السماعة وقلت:
- ألو..
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.. أهلاً وسهلاً.
- أنا أبو أحمد، وأريد أنْ أتحدث معك بخصوص خالد.. إنك تعرفه بالتأكيد.
- نعم.. أعرفه، ابنك خالد من خيرة الشباب، ماذا حصل له؟
- خالد محاصر في المخيم، وانقطعت عني أخباره منذ مدة، وأنا لا أستطيع مغادرة القرية والوصول إلى المدينة المحاصرة. فآمل أنْ تتقصى لنا أخباره من معارفك، وأنْ تبلغنا عما حصل له مشكوراً.
- أسأل الله له السلامة والعودة إليكم. وسأبذل قصارى جهدي للتعرف على أخباره.
- بارك الله بك.. وشكراً.
- لا شكر على واجب.
وضعت سمّاعة الهاتف، واستلقيت على الأريكة، واستحضرت في ذهني صورة خالد، الشاب الطموح، ذي القامة المديدة، والابتسامة المشرقة التي لا تفارق شفتيه، وصاحب المواقف الإنسانية النبيلة. تساءلت في نفسي: مَنْ يملك الخبر اليقين في هذه اللحظات؟
قلت: ربما يكون اسمه قد ورد إلى سجلات المشفى. تذكرت صديقي الطبيب عصام الذي كان على رأس عمله، منذ بداية الأحداث. حمدت الله، أنّ التلفون ما زال يعمل. رفعت السماعة، وطلبت الدكتور عصام.
- ألو..
- د. عصام، مساء الخير.
- مساء النور، أهلاً أخي جمال، كيف الحال؟
- الحمد لله على كل حال. أرجو أن تخبرني إذا ما كان اسم "خالد محمود صالح" محفوظاً في سجلات المشفى.
- في الواقع أننا لم نتمكن من التأكد من أسماء الشهداء والجرحى جميعهم، بسبب عدم تمكننا من إحضارهم، رغم وصول عدد قليل منهم، على كل حال، انتظرني لحظة حتى أتأكد من الاسم.
وبعد لحظات، عاد الطبيب، ليقول لي عبر السماعة: هذا الاسم غير وارد في سجلات المستشفى، نتمنى له السلامة.
- سلّمك الله.. أرجو أنْ تبلغني عن أخباره، إذا ما تمكنتم من الحصول على أخبار جديدة.. وشكراً.
* * * * *
طمأنت أبا أحمد، ووعدته بمواصلة البحث عنه، وإبلاغه بأي خبر جديد يتعلق بابنه المحبوب خالد.
ومرّت أيامٌ وليالٍ مثقلة بالرعب والمخاطر والأحداث الجسام، وذات ليلة نهضت من نومي المضطرب على رنين الهاتف. قلت في نفسي: الله يستر. رفعت السماعة وقلت بصوت متحشرج: - ألو..
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، أهلاً دكتور عصام. خير إن شاء الله..!!
- الحقيقة أنّ الخبر مؤسف، ولكن لابد أنْ تعلم الحقيقة.
قلت ونبضات قلبي تتسارع: - بالتأكيد.. ولكن ماذا حدث؟
- خالد محمود شهيد..!!، وهاهي هويته ومحفظته موجودة لدينا. وعندما تهدأ الأحوال، بإمكانك أنْ تأخذها مني وتوصلها إلى أهله. على كل حال.. رحمه الله، وأمدّ الله في عمرك.
تراخى جسمي، وسقطت سماعة الهاتف من يدي. وتمددت على الأريكة، بلا حول ولا قوة وأنا أردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقفزت صورة خالد أمام عيني، هكذا إذن.. غادرتنا سريعاً يا خالد، آخ.. كم كنت شجاعاً ونشيطاً، ومتفانياً في عملك. وأتذكر آخر لقاء جمعني به ذات صباح. قلت له: بماذا تحلم؟ قال بابتسامته المعهودة: أحلم بأن أعيش مع أبناء شعبي بأمن وسلام واطمئنان، وقد تحرر وطننا ونال حقوقه كاملة. أحلم بأنْ يعيش أطفالنا حياتهم ويبنوا مستقبلهم، بعيداً عن الخوف والحروب.
قلت له: وماذا عن زواجك؟
ضحك يومها وقال: قريباً إن شاء الله. لقد جهّزت الشقة، ودفعت بقية المهر، والأمور باتت جاهزة، ولكنني أرجئ تحديد موعد الزفاف، على أمل أنْ تهدأ الأحوال قليلاً.. فأنت لست غريباً عن واقعنا.. فإننا لا نكاد نجد وقتاً للفرح!!
تساءلت: متى أخبر أباه بالموضوع..؟ هل أتصل به الآن؟ ونظرت إلى ساعتي، كانت تشير إلى الحادية عشرة مساءً.
قلت: الصباح رباح.. ولكن كيف سيتلقى أبوه وأمه وإخوته وشقيقاته الخبر؟ وكيف سيكون وقع هذا الخبر الصاعق على خطيبته التي انتظرت طويلاً والتي أعرف مقدار ما في قلبها من حب وشوق وإخلاص؟
وأمضيت بقية الليلة، وأنا في قلق وتوتر وتَحَسُّب وتقليب للأمور، وترتيب للكلمات التي ستحمل خبر النعي.
* * * * *
في السابعة صباحاً، رفعت سماعة الهاتف، ويداي ترتجفان، وقلت بصوتٍ متلجلج: صباح الخير.
- صباح النور.. أهلاً.. أهلا أستاذ جمال، كيف الحال؟
- مين إللي بحكي؟!
- أنا خالد.. مش عارفني يا أستاذ؟
- يا إلهي كم أنت كريم.. أأنت خالد؟!
- نعم، خالد.. وهو يضحك ولّلا مش معجبك؟
- معجبني يا عمي.. الحمد لله على السلامة.
- الله يسلمك..
- يا خالد.. معرفتش أنام طول الليل، وأنا أفكر فيك، اتصلت بالمستشفى وقالوا إنك شهيد.. ومحفظتك وهويتك أيضاً موجودة هناك، ماذا حدث معك بالضبط؟
- الصحيح.. إني جُرحت في الأيام الأخيرة للحصار، وامتلأت ملابسي بالدماء، وارتديت ملابس جديدة، ونسيت المحفظة في جيب بنطالي، فَعَثرَتْ عليها أطقم الإسعاف، عندما تمكنت من الدخول إلى المخيم.
- وماذا جرى لك بعد ذلك؟
- خرجت مع المواطنين، عندما انتهت الأمور، وتم إبعادنا إلى إحدى القرى، ثم عدت إلى قريتنا وبَيْتنا هذه الليلة بسلام.
- قلت له والفرحة تملأ كياني: حمداً لله على سلامتك.. أما أنا فلن أنتظر طويلاً، سآتيك لأسمع منك التفاصيل.
- أهلاً بك وسهلاً، سينوّر حضورك بيتنا.
إلى اللقاء..
فرحة مؤجلة
بقلم : عبد السلام العابد
كنت جالساً في البيت، وسط الظلام، أستمع بألم وحزن، إلى أصوات الطائرات وهي تهدر في الأجواء، وتلقي حممها، على المخيم المحاصر، وبين الحين والآخر، كنت أسترق النظر بحذر شديد؛ لأتابع ما يجري في شوارع المدينة المقفرة من ساكنيها الذين أُجبِروا على الالتزام في بيوتهم، كانت الدبابات والمجنزرات، تذرع الشوارع، وتستبيح كل شيء يقف أمامها. تهدم الجزر المزروعة بالورود، وتغتال الأشجار، وتطيح بأعمدة الكهرباء وتطلق نيرانها على المنازل والبنايات.
وكنت أتابع بقلق مجريات الأمور، عبر هاتفي الذي بقي يعمل، رغم كل هذا الدمار، وعبر الراديو الصغير الذي لا يفارقني. وفجأةً رن جرس الهاتف، فأسرعت نحوه، ورفعت السماعة وقلت:
- ألو..
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.. أهلاً وسهلاً.
- أنا أبو أحمد، وأريد أنْ أتحدث معك بخصوص خالد.. إنك تعرفه بالتأكيد.
- نعم.. أعرفه، ابنك خالد من خيرة الشباب، ماذا حصل له؟
- خالد محاصر في المخيم، وانقطعت عني أخباره منذ مدة، وأنا لا أستطيع مغادرة القرية والوصول إلى المدينة المحاصرة. فآمل أنْ تتقصى لنا أخباره من معارفك، وأنْ تبلغنا عما حصل له مشكوراً.
- أسأل الله له السلامة والعودة إليكم. وسأبذل قصارى جهدي للتعرف على أخباره.
- بارك الله بك.. وشكراً.
- لا شكر على واجب.
وضعت سمّاعة الهاتف، واستلقيت على الأريكة، واستحضرت في ذهني صورة خالد، الشاب الطموح، ذي القامة المديدة، والابتسامة المشرقة التي لا تفارق شفتيه، وصاحب المواقف الإنسانية النبيلة. تساءلت في نفسي: مَنْ يملك الخبر اليقين في هذه اللحظات؟
قلت: ربما يكون اسمه قد ورد إلى سجلات المشفى. تذكرت صديقي الطبيب عصام الذي كان على رأس عمله، منذ بداية الأحداث. حمدت الله، أنّ التلفون ما زال يعمل. رفعت السماعة، وطلبت الدكتور عصام.
- ألو..
- د. عصام، مساء الخير.
- مساء النور، أهلاً أخي جمال، كيف الحال؟
- الحمد لله على كل حال. أرجو أن تخبرني إذا ما كان اسم "خالد محمود صالح" محفوظاً في سجلات المشفى.
- في الواقع أننا لم نتمكن من التأكد من أسماء الشهداء والجرحى جميعهم، بسبب عدم تمكننا من إحضارهم، رغم وصول عدد قليل منهم، على كل حال، انتظرني لحظة حتى أتأكد من الاسم.
وبعد لحظات، عاد الطبيب، ليقول لي عبر السماعة: هذا الاسم غير وارد في سجلات المستشفى، نتمنى له السلامة.
- سلّمك الله.. أرجو أنْ تبلغني عن أخباره، إذا ما تمكنتم من الحصول على أخبار جديدة.. وشكراً.
* * * * *
طمأنت أبا أحمد، ووعدته بمواصلة البحث عنه، وإبلاغه بأي خبر جديد يتعلق بابنه المحبوب خالد.
ومرّت أيامٌ وليالٍ مثقلة بالرعب والمخاطر والأحداث الجسام، وذات ليلة نهضت من نومي المضطرب على رنين الهاتف. قلت في نفسي: الله يستر. رفعت السماعة وقلت بصوت متحشرج: - ألو..
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، أهلاً دكتور عصام. خير إن شاء الله..!!
- الحقيقة أنّ الخبر مؤسف، ولكن لابد أنْ تعلم الحقيقة.
قلت ونبضات قلبي تتسارع: - بالتأكيد.. ولكن ماذا حدث؟
- خالد محمود شهيد..!!، وهاهي هويته ومحفظته موجودة لدينا. وعندما تهدأ الأحوال، بإمكانك أنْ تأخذها مني وتوصلها إلى أهله. على كل حال.. رحمه الله، وأمدّ الله في عمرك.
تراخى جسمي، وسقطت سماعة الهاتف من يدي. وتمددت على الأريكة، بلا حول ولا قوة وأنا أردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقفزت صورة خالد أمام عيني، هكذا إذن.. غادرتنا سريعاً يا خالد، آخ.. كم كنت شجاعاً ونشيطاً، ومتفانياً في عملك. وأتذكر آخر لقاء جمعني به ذات صباح. قلت له: بماذا تحلم؟ قال بابتسامته المعهودة: أحلم بأن أعيش مع أبناء شعبي بأمن وسلام واطمئنان، وقد تحرر وطننا ونال حقوقه كاملة. أحلم بأنْ يعيش أطفالنا حياتهم ويبنوا مستقبلهم، بعيداً عن الخوف والحروب.
قلت له: وماذا عن زواجك؟
ضحك يومها وقال: قريباً إن شاء الله. لقد جهّزت الشقة، ودفعت بقية المهر، والأمور باتت جاهزة، ولكنني أرجئ تحديد موعد الزفاف، على أمل أنْ تهدأ الأحوال قليلاً.. فأنت لست غريباً عن واقعنا.. فإننا لا نكاد نجد وقتاً للفرح!!
تساءلت: متى أخبر أباه بالموضوع..؟ هل أتصل به الآن؟ ونظرت إلى ساعتي، كانت تشير إلى الحادية عشرة مساءً.
قلت: الصباح رباح.. ولكن كيف سيتلقى أبوه وأمه وإخوته وشقيقاته الخبر؟ وكيف سيكون وقع هذا الخبر الصاعق على خطيبته التي انتظرت طويلاً والتي أعرف مقدار ما في قلبها من حب وشوق وإخلاص؟
وأمضيت بقية الليلة، وأنا في قلق وتوتر وتَحَسُّب وتقليب للأمور، وترتيب للكلمات التي ستحمل خبر النعي.
* * * * *
في السابعة صباحاً، رفعت سماعة الهاتف، ويداي ترتجفان، وقلت بصوتٍ متلجلج: صباح الخير.
- صباح النور.. أهلاً.. أهلا أستاذ جمال، كيف الحال؟
- مين إللي بحكي؟!
- أنا خالد.. مش عارفني يا أستاذ؟
- يا إلهي كم أنت كريم.. أأنت خالد؟!
- نعم، خالد.. وهو يضحك ولّلا مش معجبك؟
- معجبني يا عمي.. الحمد لله على السلامة.
- الله يسلمك..
- يا خالد.. معرفتش أنام طول الليل، وأنا أفكر فيك، اتصلت بالمستشفى وقالوا إنك شهيد.. ومحفظتك وهويتك أيضاً موجودة هناك، ماذا حدث معك بالضبط؟
- الصحيح.. إني جُرحت في الأيام الأخيرة للحصار، وامتلأت ملابسي بالدماء، وارتديت ملابس جديدة، ونسيت المحفظة في جيب بنطالي، فَعَثرَتْ عليها أطقم الإسعاف، عندما تمكنت من الدخول إلى المخيم.
- وماذا جرى لك بعد ذلك؟
- خرجت مع المواطنين، عندما انتهت الأمور، وتم إبعادنا إلى إحدى القرى، ثم عدت إلى قريتنا وبَيْتنا هذه الليلة بسلام.
- قلت له والفرحة تملأ كياني: حمداً لله على سلامتك.. أما أنا فلن أنتظر طويلاً، سآتيك لأسمع منك التفاصيل.
- أهلاً بك وسهلاً، سينوّر حضورك بيتنا.
إلى اللقاء..