هاته الواحات الغناءة أشبه ما يكون بجزر للنجاة والخصب...وسط ظلمات الموج والاعاصير......الرملية......فالصحراء مطبقة من كل النواحي......ومن أين تأتي الزهور.....الفلاحون هنا....همهم الوحيد محاصيل التمور....فشظف العيش وعطاء الصحراء الموسمي من الحبوب بالغ الشح والندرة بسبب قلة الغيث....فمن ترى يفكر بزراعة الورود في البساتين والجنان....ماء الينابيع ينساب متدفقا يناغي السواقي وتويجات الاعشاب الطفيلية تبرق تحت اندفاع المياه وبريق خيوط الشمس المتسللة من خلال أشجار النخيل الباسقات....والصبية الذين يمزقون صمت المكان بأصواتهم الشبيهة بشهب تخترق حلكة الليل.....فهؤلاء هم رساموا وفنانوا وأدباء الازمان الجنوبية الموعودة.....وقد عرف الجنوب القاسي ويا للغرابة , برقة ماء الشعر والقصائد ؟.....آه من أين تأتي الاشعار....والصبية لا يعرفون الورد ولا الازاهير......قد يكون الذين زينوا..غاباتهم بأشجار الرمان واللوز والمشمش....غير آبهين بالجلنار الحزين وزهور اللوز المتعرشة والمتدفقة ككتل الثلج....وأن عيون الشعراء الصغار...وجدت أخيرا ظالتها المنشودة وحطت نوارسها المتعبه على قوارب السلام...وسط الخظم المتلاطم والظلمات......صراحة والحق يقال لم تكن الامور بكل تلك القسوة الجمالية...فلماذا ننكر.....الافترار العذب لابتسامة الربيع القصيره.....والتي يحملها اؤلائك الباعة الصغار من التلاميذ الذين غادروا ترف الحياة المدرسية وبهجتها ليعمروا ظلال الواحات وسواقيها التي لا تنضب ,بأذرعهم الصغيرة المنذورة للشقاء والتعب الذي يفوق بشدته أجسادهم الهشة....فعندما يهل الربيع يتحلقون بأسوار المدينة الفاضلة التي غادروها حديثا....بسلالهم المنسوجة من الحلفاء وسعف النخيل.....محملة بتلك الانواع الفاتنة من الورد البلدي الهفهاف والذي لا تكاد تلمسه حتى تنفجر معظم وريقاته ,كدموع عطرة تخترق الوجدان بأريجها الساحر لتعلم الجميع كيف يجب أن تكون رقة الامساك بالورود..وفن النعومة الشاعرية في التعامل مع الكائنات الملائكية.....هل يكفي هذا كله......؟ ربما كان من الممكن الاكتفاء به......لولا أن المرء....الذي يتسامى بصره الى تلك الجنان المسيجة ومن تحتها ذالك الصور المرتفع عن أعين الصبية والذين لم تكن تخفى عنهم خافية ولو جندت دونها العسس ورفعت الاسوار والحصون.....فهذا الملكوت الوحيد هنا الذي يظم سطورا من أشجار الورد الملونة والزهور القصيرة الموسمية وانواعا من القرنفل وأشجار الدفلة......الجنة الارضية المخفية عن العيون المتطفلة.....العالم المغلق المتاح امام الخطر ...القاتل....حيث يقف الامبراطور ذاته بكل تلك الهيبة والوقار....يخشاه الجميع لصمته المطبق ومظنة تواجده في اللازمان وفي كل الامكنة....فبمقدوره أن يفاجئك.....في دلج الليل وآناء النهار.....يختفي ولا يطول اختفاؤه ليعود.....فمقر عمله محاذ لمكان سكناه ....وبينهما رواق ظيق لا تعرف متى وكيف يلج منه الى الجنة الساحرة وبين خمائلها الى عالمه الأشد غموض.....لكن لكل القصور وكل الكنوز ....منافذها ومخترقيها.....من شياطين الانس.....اذا امكن للمرء ان يطأ تلك الجنة ليسترق النظر الى قصائدها التي تميس مع الانسام, فيكون قد جلب لقلبه الخير العميم.......ولأحلامه..الهم والوصبا.....فما من رقيق الحس سعيد.....وكبادرة للشقاء الموعود.....امكانية ظفر الامبراطور....بتلابيب قميصك أو شعرك....أو خلع قلبك الصغير المتفتح تحت أكمام الورود الناعسه.....لكن الله أرحم من هاؤلاء الاباطرة الشداد.....فحبل النجاة يأتي من داخل ملكه , ابنه الوحيد ..طه....المتواطئ أمام اصرار الصبي الذي كان يصغره ببضع السنين.....فما كان لهذا الشوق المقيم على السقم أن يحرم الوصال.....وقد حانت النهزة التي طال انتظارها من أمد, هو كل البعد وان كان قريب......رافقت الحاشية الوافدة من بعيد تحركات الامبراطور الى مكان مجهول.....ودلت كل العلامات والتجهز العميق على طول البقاء.....ولم تكن القلوب تهفو الى أكثر من ساعة للوصال الخشوع...فقد يهون العمر الا ساعة.....وتهون الارض الا...موضعا.....وسار الركب .....كان يقول في قلبه ما كنت سأدخل جنته.....الا وقد علمت ان القوم قد واروه الثرى.....فألمسه بيدي واحثوه.....على هامته الجبارة بيداي الصغيرتان واللتان تتوقان الى أن أرش بهما الماء في وجه الزهور....وهل يحلو العيش للملائكة على أطلال ارتجاء الموت ولو للعدو ؟.....لم تكن هاته التناقضات تصيب قلبه البكر ولكنه بفطرة الشاعر في وجدانه كان وفي لاشعوره, لا يتمنى الموت ولو لشجيرات العوسج الحزينه......ترتعش يداه.....على قطرات الندى ...وطه الذي لم يكن يعبأ بسحر المكان الذي طالما اعتاده , ....وهل تعتاد الزهور...؟ يتركه لوحدته الساحره........يسترق السمع لهمس قرنفلة مغمضة العينين....ويمرر يده الصغيرة على خدود الورد الناعمة....بكل رفق....وقد أسكرته صغار الورود وهي تتفتح من أكمامها........تنتظر خيوط الشمس.....وعناقها المحموم.........ها وقد حمل سر الجنة المخفية في قلبه والى الابد.......وجرد الامبراطور.....المختال الرهيب......من وقاره التي دعمت ملكه الاطيار وورود الخميله........فلو وفد الان.....ببعض جلاله الغابر فلن يراه....أهل كان حقا مخيفا ....وهل......كان يوما ما ذالك الامبراطور الحاكم بأمر الطبيعة والورد.// شوقي الصحراوي