للكاتب / محمد نصار
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لي ولا بالصعوبة التي توقعت ، فكل ما أرادوا السؤال عنه ألصقته بالرفاق الذين استشهدوا في المعركة، ثم نقلت بعد ذلك إلى غرفة من غرف السجن إلى حين المحاكمة ، حيث قوبلت هناك بحرارة بالغة ، خصوصا أن أخبار العملية الني أوقعت العديد في صفوف العدو بين قتيل وجريح كانت قد سبقتني إلى هناك.
شعرت بالألفة في عالم بدا قريبا مني إلى أبعد حد وشدني شيخ مهيب أشرف على الستين من عمره، يمضي عقوبة تصل إلى عشر سنوات ، جراء حيازته أسلحة والتستر على فدائيين، كان منبع خبرة وحياة ، علمته السنون والتجارب، فكان كالماس في قوته ولمعانه، إذا تحدث أنصت الجميع لقوله وإذا صمت أطرقوا مهابة وجلالا ، فبت لا أرى أنيسا غيره ولا جليسا يروق لي سواه، كان لي الأذن الصاغية والصدر الحنون الذي أفاتحه بما يجيش في النفس من هموم ولواعج.
لم أنم الليلة التي سبقت الزيارة الأولى ، كنت انتظر الفجر على أحر من الجمر .. تطالعني صورة أمي وابتسامة ليلى .. نظراتها المشجعة والعاتبة أحيانا، فلم يغمض لي جفن وبقيت أتقلب من جنب إلى آخر ، لأراه صدفة ينظر إلى مستغربا حالي
- أراك يقظا؟.
- لم أنم طوال الليل.
- لكونها الزيارة الأولى .. هي كذلك في كل مرة.
- اشعر باشتياق إلى أمي .. أريد أن أطمئن عليها بعد الذي أصابني.
- وكلها لله.
ثم اعتدل في مجلسه ونظر إلى الساعة التي في يده وقال : هيا بنا لكي نصلي الفجر.
وقفت أنظر من خلف القضبان صوب الجموع المقبلة، لعلي المح أمي أو ليلى بينها ، فأخذتني لحظات من التيه بين وجوه تنظر في شتي الاتجاهات وأصوات تنادي على هذا أو ذاك وأيدي تلوح من بعيد وأخرى تشير بجواري ، إلى أن ومض في عيني طيف ليلى تسير كالتائهة بين الجموع ، ناديت بملء في، فوقفت في مكانها تبحث عن صاحب الصوت ، ناديت مرة أخرى، فنظرت إلي وأقبلت متهللة .
كانت لحظة لا توصف وأنا أرى الدموع تنساب من عينيها بلا رادع وصوت نحيبها المكتوم يخنقني ولا أملك سوى أن أمسك بيديها من خلف القضبان محاولا تهدئتها، نظرت إلى الجهة التي أقبلت منها عسى أن تكون أمي في أثرها ، لكني لم أجد لها أثرا ، الأمر الذي جعلني أسألها عن سر ذلك ، فأطرقت مترددة ، مما أثار الخوف بداخلي ، لكنها حين لمست ما يعتريني من قلق ، قالت بصوت مبحوح : لا تنزعج ، مجرد وعكة أصابتها إثر نبأ اعتقالك.
- وكيف هي الآن ؟.
- طريحة الفراش .
- منذ ذلك اليوم !.
- لم يكن الأمر بالهين عليها .. خصوصا أن الأنباء الأولى تحدثت عن مقتلكم جميعا.
ذبحني الأسى وصرعني الألم وأنا أقف عاجزا عن مد يد العون لأعز مخلوقة في الوجود، ضحت بحياتها من أجلي وضيعت شبابها كي تفرح بي ، حتى هذا لم تنله وأنا السبب في ذلك كله .
انزلقت دمعة من عيني وأنا أحول جاهدا فهم ما يدور ويجري معي ، فأقبلت علي بابتسامة دافئة وقالت بصوت أجش : أرجوك .. كن قويا ولا تنسى أني إلى جانبك دوما.
- ليلى .. أنت النور الذي يضيء لي الطريق..أمي يا ليلى .
- هل أنا بحاجة لأن توصيني عليها!.
- أثق بأنك لا تحتاجين توصية مني .. ولكن هي من تبقى لي في هذه الدنيا.
- لن أدعها تحتاج شيئا.
- هذا أملي بك .. أخبريني .. كيف حال الجنين ؟ .
- سيرى النور بعد خمسة أشهر . ابتسمت واحمر وجهها.
بعد انتهاء الزيارة عدت أتجرع مرارة الأسى من جديد، هواجس تلاحقني في كل لحظة وحين ، طيف أمي لا ينفك عن عينيي وكأنه قدر يلازمني وفي واحدة من المرات جاءني مع ليلي وعلى يدها طفل صغير، بدا من حركات يديه وبكاؤه الذي بدا مسموعا في المكان وكأنه يرفض الدخول إليه وقد أحوجته الظروف إلى النزول فيه دون جرم أو جريرة .
- مالي أراك شاردا ؟ .
- ليت في مقدورنا الشرود .. حتى أفكارنا حبيسة مثلنا يا شيخ .
- هون عليك يا ولدي .
لقد كان النور الذي استنير به في ظلمتي ولا أدري كيف كانت ستمضي بي الأيام والسنون من دون هذا الرجل. ، قالها بشيء من الاعتزاز ، ثم صمت للحظة تغيرت على إثرها ملامح وجهه بشكل باد ، ثم قال : جاء اليوم الذي دفعت بسببه أغلى ثمن قد يدفعه إنسان ، كان من الأهون علي أن أدفع عمري لو خيرت ، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن.
كانت كلمات التشجيع تحفني أثناء مغادرتي الغرفة قاصدا المحكمة وصيحات التشجيع ترن في أذني طاردة هواجس ومخاوف تطاردني من لحظة لأخرى ،وقع نظري عليها لحظة دخولي قاعة المحكمة ، لوحت لها بيدي ، فردت بابتسامة باهتة ووجه يئن تحت وطأة الألم وإلى جوارها ليلى ، أشارت بيد ترتجف وأعين يغالبها خوف دفين .
اعتلا وكيل النيابة المنصة وإلى جواره اثنين من مساعديه، بدأ في عرض ملف القضية بنبرة تزداد حدتها بين حين وآخر، ثم تلاه محامي الدفاع، الذي بدا وكأنه جاء لأداء دورا معدا سلفا، ثم انتهى من أداء مهمته ببرود لا يتناسب وطبيعة المهمة ، تلت ذلك لحظة من الهمس والتداول ثم نطق الحكم : السجن المؤبد.
صرخت ليلي فاهتزت قاعة المحكمة ، نظرت صوبها ، فوجدت أمي ملقاة على حجرها، حاولت الاندفاع نحوها، لكنهم دفعوني بقوة خارج قاعة المحكمة ، أو بمعنى أدق داخل بهو السجن الملاصق لقاعة المحكمة، حاولت الصراخ.. التملص من بين أيديهم ، لكنهم دفعوني .. ركلوني وانهالوا علي باللكمات .
كنت في حالة يرثى لها لحظة دخولي الغرفة وطيف أمي لا يفارقني ، تحوطني الرفاق يحاولون تخفيف المصاب عني ، لكن الأمر لم يجد معي نفعا، فصاح الشيخ محتدا : تجلد يا فتى .
- أمي يا شيخ ..
ثم غبت عن الوعي ولم أصحو إلا على لسع الماء وهو يندلق على وجهي وصوت شرطي ينادي عند الباب باسمي ، نظرت إليه وأنا لا أقوى على الوقوف وقد رأيت في تعابير وجهه ملامح شؤم لا يقوى على إخفاءها ، وقف قبالتي للحظات، ثم قال دفعة واحدة : أمك ماتت .
دارت بي الدنيا من جديد ولم أعد بعدها إلى الشعور بما يدور من حولي، إلى أن استعان الرفاق بالماء مرة أخرى ، فأعادوني إلى الواقع من جديد .
ثلاثة أيام مضت كقطع الليل الأظلم، بعدها أخذت الأمور منحا آخر ، منحا بدأ يغزوني على نحو مرعب ، قفزت أمامي وحيدة بلا أنيس أو راع ، ناهيك عن كون أمها التي تعيلها بحاجة إلى من يعيلها أيضا، عدا عن كونها في مقتبل العمر وجميلة .
مخاوف تطاردني وهواجس تنهشني بلا شفقة ولا رحمة، الأمر الذي جعلني أفكر كثيرا في مفاتحته بالأمر ، لعله يسدي لي بنصيحة أو رأي يخفف عني هذه الآلام التي تفتك بي ، لكني أعدل عن ذلك في كل مرة، رغم أني كنت أشعر أحياننا بأنه يحس بما أعاني وكأني كتاب مفتوح أمامه.
مضت ليال عديدة وأنا خلالها جسد مكدس.. روح ضائعة وعجز يقتلني، حتى جاء موعد الزيارة الأولى، فاجتاحتني رغبة عارمة لرؤيتها ، حنين قاتل للقياها ،أقبلت عابسة .. شاحبة وكأن السنين قفزت بها قفزات بعيدة ، دنت من الحاجز الذي يفصلنا عن بعضنا وقالت بصوت يغلبه البكاء : البقية في حياتك .
- هوني عليك يا ليلي . ، قلت محاولا شد أزرها ، بعد الانهيار الذي بدا واضحا على ملامح وجهها الشاحب .
- أشعر بالوحدة والخوف ,, وأجهشت بالبكاء .
- لم أعهدك كذلك .. كنت دوما قوية جلدة,ثم أن أمك إلى جوارك وبعد أشهر سترزقين بمن يملأ الدنيا عليك فرحا وسرورا.
- يا حسرتي . ، قالتها بألم وأجهشت في البكاء.
- تماسكي يا ليلي . ، قلتها بشيء من الخوف والقلق.
- كيف لي ذلك و ..
- أفصحي .
- لم يعد من أمل لانتظار أي شيء.
- ماذا تعنين ؟ .
- ضاع الجنين.
- ماذا !.. كيف ! .
- يوم أن وقع الحكم عليك وشاهدت ما أصاب أمك حينها ، في نفس الليلة بدأ نزف يصيبني ومن ثم وقع ما أبلغتك به .
أجهشت بالبكاء دون اعتبار لشيء ، حتى النظرات التي كانت تحاصرني من كل صوب لم أشعر بها ولم تشكل لي حرجا أو تحسبا من أي شيء ، اندفعت رغما عني ، حتى لو فكرت في التوقف عن ذلك ، لم أكن لأجد القدرة على الفعل ، حجم السواد الذي لفني والخراب الذي تملك كياني، شكلا حاجزا عن كل ما يدور ويجري من حولي وقد تملكني إحساس بالضياع .. بالخسران .. باليأس وقد ضاعت آمالي كلها ، حتى أحلامي ضاعت ولم أعد ألمس أي منها.
نظرت من حولي وإذ بالرفاق يحوطونني من كل جانب ، كيف وصلت إليهم وكيف غادرت ليلي ، لا أدري ، كان وجهي مبللا بالماء ويد الشيخ تمسح رأسي بحنو ودفئ ، بينما شفتاه تتمتم بآيات وأدعية وابتسامة ارتسمت على شفة أحدهم قال بعدها بفرح غامر :ها هو قد أفاق من غيبوبته.
نظرت إلى الوجوه من حولي فلمحت دموعا في أعين الشيخ .
- أتبكي يا شيخ ؟ . ، قلت مستهجنا ذلك .
- ربنا يعوضك خير يا ولدي .
- تجلد يا شيخ . قال أحد الرفاق.
- اعذروني يا رفاق . ، قالها وراح يكفكف دموعه بصمت .
نيران بداخلي تستعر ، لم تطفئها كلمات الدعم التي سمعتها وريح تعصف بي فتزيدها تأججا واستعارا، لتحملها أنفاسي حمما و شررا يتطاير في كل مكان من حولي، حتى أني في لحظات كثيرة كنت أشم خلالها رائحة دخان تنبعث من ملابسي وأحيانا من الأغطية التي على مقربة مني ، فأبحث في العيون من حولي عسى أن يصدق بعضها ما أراه وأشعر به ، لكني لم أجد أي انطباع يؤكد صدق أحاسيسي على أي منها ، لكني سررت حين امتدت يد نحوي والتقطت شيئا وقع في حجري ، ثم قالت بشيء من اللوم والعتاب : ألم تشعر بالسيجارة وهي تسقط على ملابسك ؟ .
لم أجب وإن ظل الجواب في داخلي نارا تستعر ولسعه أشد وأنكى من لسع السيجارة التي أحرقت ملابسي،وزاد من وقع الألم علي ،غياب الرفاق في سبات عميق، بعد الإعياء الذي سببته لهم والأسى الذي أحطهم به، مضيفا بذلك أعباء على أعباءهم ، فرحت أتتبع خلجاتهم وما ينتابها من تغيرات بين حين وآخر ، ثم رحت أخمن أحلامهم والأشياء التي تدور في رؤوسهم في هذه اللحظة ، لكن شيئا شدني إلى اللحظة التي حاولت الهروب منها ، فحاولت الهروب مرة أخرى ، رحت أحدق في سقف الغرفة ، فشعرت بأن نظراتي تخترقها .. تبحث عن النجوم فيها .. عن القمر ، فلم أجدهما ، ربما غابا خلف سحب أشعر بلسع بردها، فشعرت بالرهبة .. بالوحشة ، كرهت السحاب على فعلته ، حتى في اللحظة التي أغادر فيها زنزانتي اللعينة يحجب النور عني ، فداهمني خاطر عجيب ، قفزت إلى مخيلتي ليلى دون سابق إنذار ، تساءلت بشيء من الاستهجان : لماذا لا أزورها ؟ .
اتجهت بنظراتي صوب البيت، دخلت من دون أن أطرق الباب خشية إيقاظها، كان باب غرفتها موربا بعض الشيء، فدخلت على أطراف أصابعي ، نظرت إلى أمها فرأيتها تغط في الركن الآخر من الغرفة، عدت أتأمل ليلى من جديد ، كانت نائمة بثوبها البيتي .. منكبة على وجهها ومنديلها منساب عن شعرها الذي بدا وكأن المشط لم يعمل فيه منذ وقت طويل ، وقفت اتأملها من بعيد ، فرأيت ما أصابها من وهن وإعياء ، ثم وقع نظري على صندوق صغير شد انتباهي بشكل خاص ،نظرت إلى محتوياته ، فرأيت أصنافا من الحلوى والسكاكر، لأكتشف بأنها تعيش من البيع على أبواب المدارس، غلبني الأسى .. حاولت لمسها .. احتضانها ، لكن شيئا صاح بي مؤنبا :أنت السبب في كل ما أصابها .
انحدرت الدموع من عيني ولم أقو على المكوث بعدها ، انحنيت لالتقاط قبلة ،فانزلقت الدموع من عيني على خدها ، تململت في فراشها ، فانسحبت على عجل وأنا أجهش بالبكاء .
- اذكر الله يا ولدي .
- لا إله إلا الله .
نظر حوله ليتأكد بأني لم أوقظ أحدا من الرفاق ، ثم همس قائلا : ما الذي يشغلك ؟ .
- ماذا أقول يا أبا يوسف .
- أنت تقتل نفسك بهذا الشكل .
- وما الذي يميزنا عن الأموات ؟ .
- هذا التفكير هو الموت بعينه.
- آه يا شيخ .
- تكلم يا ولدي لعلك تخفف عن نفسك قليلا .
- صراع يذبحني يا شيخ .. يمزقني أربا ، عواطفي تشدني في اتجاه وعقلي يشدني في الاتجاه المعاكس ولا قدرة لي على التدخل في الصراع الناشب بينهما.
- الأولى أن تحكم العقل ، فالقرارات الصعبة لا يحسم أمرها بشكل صحيح سوي العقل وإلا لما كان الله أسقط عن المجانين وأوجب العذر لهم .
- كيف قدرت بأني مقبل على قرارات مصيرية !. ، قلت مستهجنا .
- لا تستغرب ، فمن عركته تجارب الحياة مثلي يستطيع أن يقدر أشياء كثيرة .
- إذن ساعدني .
- لا أستطيع في هذه .
- أريد أن أطلقها.
- أعرف ، لكني لن أقترح عليك شيئا .
- أأنا محق في ذلك ؟ .
- ربما .
- أيد جوابا شافيا .
- لا يمكنني فعل ذلك .
- أرجوك لا تزيد من حيرتي .
- لن أتدخل في هكذا قرار لأنه ملكك وحدك ، لكني سأشير عليك بشيء ،
- تفضل .
- عليك أن تخرج من هذه الدائرة اللعينة وتستجمع قواك من جديد حتى تستعيد رباطة جأشك ، ثم تحرر عقلك من كل القوى والمؤثرات التي تحاصره ومن ثم تتخذ القرار.
غاصت الكلمات في أعماقي كالثلج حين يسري في البدن في يوم حار، تتخلل شرايني وأوردتي بشكل محسوس ، فنظرت إليه بعين الرضا وقلت بصوت يشبه الهمس : معك حق .
غير أن هاتفا صرخ من أعماقي منادبا : أتطلق ليلي .. بكل هذه السهولة تطلقها .. هل نسيت ما قدمت لك وأعطت .. نسيت تضحياتها.. نسيت شبابها الذي تفنيه من أجلك ؟.
وكأن العواطف بداخلي أعادت ترتيب صفوفها من جديد وعادت تهاجمني بقوة وقسوة، حتى كدت أترنح تحت ضرباتها،غير أني تمالكت نفسي من جديد وصحت معلننا بأنني لم أكن أنانيا في علاقتي معها ولن أكون أبد كذلك وإن كنت أفكر في طلاقها ، إنما من باب الحرص عليها وإكراما لحبي لها ووفائها لذلك الحب ، أريد أن أحررها من سجن اختارته أو ربما أدخلتها فيه من غير قصد ، لا أريد لها أن تتحطم على صخرة السنين وأن تضيع في انتظار سراب تظنه ماء، أريدها أن تستعيد حياتها من جديد ، فلعلي بذلك أرد لها شيئا يعوضها ما جررت عليها من مآس.
ثم بكى رغم محاولاته إخفاء ذلك عنها ، فضمت رأسه إلى صدرها وهمست بصوت حان : لماذا أخفيت عني كل هذه المعاناة وتركتها بدخلك إلى الآن ؟ .
- دعيني أنام الآن ، فالوقت بات متأخرا .
- لا لن أدعك تنام حتى تفرغ ما في جعبتك من أحزان.
- إذن دعيني أسترخي في السرير.
استرخى في فراشه وأطرق صامتا وكأنه يريد استرجاع تفاصيل الحكاية من جديد ، بينما انشغلت هي بمداعبة خصلات شعره وملاطفة خديه بقبلات توزعها بين الحين والآخر ، في محاولة منها لتخفيف عقدة الذنب المترسبة في أعماق نفسه وحثه على إفراغ ما لديه من شحنات تؤرقه.
شعرت بارتياح لدى توصلي لقرار تطليقها . ، قال بشيء من الهدوء المشوب بالأسى ، لكن صورة وجهها المفجوع بوقع الصدمة ، ظل يطاردني ككابوس قاتل وأنا أسعى جاهدا لتهوين الأمر عليها، أو إقناعها بأن ما قمت به لم يكن إلا من أجلها وهي تجيبني من بين صراخها ودموعها : لا لا تفعل ذلك .. سأنتظرك حتى آخر العمر .. لا أريد أن تقتلني بقرار جائر .
- تتحدثين بعواطفك يا ليلى وهي في حالتنا لا تسمن ولا تغني من جوع ,
- لا يا محمود العواطف هي الحياة .. الأمل ، لولاها مادامت الحياة على الأرض لحظة واحدة، لا تدمر آمالي والسنين التي عشناها معا .. طفولتنا وصبانا .. شبابنا وحبنا .. أرجوك لا تدمر كل ذلك وأجهشت بالبكاء.
فأغمضت عيني هاربا وقلبي ينزف دما ، فعادت كلمات الشيخ تدعمني من جديد وهاتف يصيح بي محذرا : لم تقدر على تصور ردة فعلها ، فكيف ستجرؤ على مفاتحتها بالأمر ؟ .
وحين أقبل ذلك اليوم بدت السعادة مرسومة على وجوه الجميع ، فالكل ينتظر لقاء الأحبة بفارغ الصبر .. الأخوة .. الأبناء والزوجات ، يوم عيد يتلهف الجميع لمقدمه ، نظرت من بين الجموع فرأيتها مقبلة علي ، رقصت أحاسيسي طربا للقياها وارتسمت على وجهي علامات الفرح بقدومها ، العواطف باتت سيدة الموقف والعقل حالفها ولو إلى حين وأحيانا كنت أراه مستسلما للهزيمة أمامها ، بل ويبررها أيضا بدعوى أنها جزء منه لا يقوى على بتره وأمله المنظور في هذه الدنيا ، فأيقنت حينها بأن مراهنتي على العقل كانت خاسرة وزاد يقيني من ذلك، حين طالعتني بابتسامة ملؤها الحب والحنان، رغم ما يشوبها من أسى وألم ، احتضنت يدي من بين القضبان وقالت بصوت أجش : كم أنا مشتاقة إليك .
فشعرت بالخجل أمامها .. بالتقزم ،أي مخلوقة هي ، تسألني عن حالي وتنسى حالها.
- محمود ..أأنت بخير ؟ .
- نعم .
- أراك منهكا وكأنك لم تنم منذ فترة طويلة .
- لا تهتمي لذلك, مجرد أرق أصابني البارحة ,.. أخبريني : هل لديك ما يكفيك من النقود؟ كيف أمك
- أخشى أنك منهك من التفكير في ذلك؟ .
- وكيف أنسى ذلك يا ليلى ... أتطالبينني أن أنساك!,
- لا تزعج نفسك بذلك .
- وأمك كيف حالها؟.
- الأيام تفعل فعلها يا محمود.
صمت للحظة وكـأنه يبحث عن بداية للدخول في الموضوع، فبرز ذلك واضحاً على وجهه الذي تغيرت معالمه، أزعجها الأمر...سألته مستفسرة: محمود ... هل من شيء يزعجك؟ .
- الطريق طويلة يا ليلى ... قالها بصعوبة
- أعرف ذلك ولا أبالي ..قالت بتوتر
- وما يجبرك على ذلك؟ .
صاحت بحدة دون أن تعبأ بالحاضرين : محمود ماذا يدور في خلدك ...لا يا محمود، فأنا لن أتركك أبداً ..لا يا محمود ... لا تجعلني أعيش في رعب، أنا لك ولن يكون غير ذلك مهما تبدلت الظروف ، ثم أجهشت بالبكاء .....انحدرت الدموع من عيني وأنا أضغط على يدها مشجعاً : تشجعي يا ليلى , فلن يكون إلا خيرا إن شاء الله ، فأخذت تجفف دموعها وهي تستحثه قائلة: دعك من الهواجس يا محمود، فأنا في انتظارك ,إلى يوم القيامة ، تجلد ..تسلحً بحبنا.... بطفولتنا .... بالسنين التي قضيناها معاً يا محمود.
- ابشري خيراً واحرصي على نفسك.
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لي ولا بالصعوبة التي توقعت ، فكل ما أرادوا السؤال عنه ألصقته بالرفاق الذين استشهدوا في المعركة، ثم نقلت بعد ذلك إلى غرفة من غرف السجن إلى حين المحاكمة ، حيث قوبلت هناك بحرارة بالغة ، خصوصا أن أخبار العملية الني أوقعت العديد في صفوف العدو بين قتيل وجريح كانت قد سبقتني إلى هناك.
شعرت بالألفة في عالم بدا قريبا مني إلى أبعد حد وشدني شيخ مهيب أشرف على الستين من عمره، يمضي عقوبة تصل إلى عشر سنوات ، جراء حيازته أسلحة والتستر على فدائيين، كان منبع خبرة وحياة ، علمته السنون والتجارب، فكان كالماس في قوته ولمعانه، إذا تحدث أنصت الجميع لقوله وإذا صمت أطرقوا مهابة وجلالا ، فبت لا أرى أنيسا غيره ولا جليسا يروق لي سواه، كان لي الأذن الصاغية والصدر الحنون الذي أفاتحه بما يجيش في النفس من هموم ولواعج.
لم أنم الليلة التي سبقت الزيارة الأولى ، كنت انتظر الفجر على أحر من الجمر .. تطالعني صورة أمي وابتسامة ليلى .. نظراتها المشجعة والعاتبة أحيانا، فلم يغمض لي جفن وبقيت أتقلب من جنب إلى آخر ، لأراه صدفة ينظر إلى مستغربا حالي
- أراك يقظا؟.
- لم أنم طوال الليل.
- لكونها الزيارة الأولى .. هي كذلك في كل مرة.
- اشعر باشتياق إلى أمي .. أريد أن أطمئن عليها بعد الذي أصابني.
- وكلها لله.
ثم اعتدل في مجلسه ونظر إلى الساعة التي في يده وقال : هيا بنا لكي نصلي الفجر.
وقفت أنظر من خلف القضبان صوب الجموع المقبلة، لعلي المح أمي أو ليلى بينها ، فأخذتني لحظات من التيه بين وجوه تنظر في شتي الاتجاهات وأصوات تنادي على هذا أو ذاك وأيدي تلوح من بعيد وأخرى تشير بجواري ، إلى أن ومض في عيني طيف ليلى تسير كالتائهة بين الجموع ، ناديت بملء في، فوقفت في مكانها تبحث عن صاحب الصوت ، ناديت مرة أخرى، فنظرت إلي وأقبلت متهللة .
كانت لحظة لا توصف وأنا أرى الدموع تنساب من عينيها بلا رادع وصوت نحيبها المكتوم يخنقني ولا أملك سوى أن أمسك بيديها من خلف القضبان محاولا تهدئتها، نظرت إلى الجهة التي أقبلت منها عسى أن تكون أمي في أثرها ، لكني لم أجد لها أثرا ، الأمر الذي جعلني أسألها عن سر ذلك ، فأطرقت مترددة ، مما أثار الخوف بداخلي ، لكنها حين لمست ما يعتريني من قلق ، قالت بصوت مبحوح : لا تنزعج ، مجرد وعكة أصابتها إثر نبأ اعتقالك.
- وكيف هي الآن ؟.
- طريحة الفراش .
- منذ ذلك اليوم !.
- لم يكن الأمر بالهين عليها .. خصوصا أن الأنباء الأولى تحدثت عن مقتلكم جميعا.
ذبحني الأسى وصرعني الألم وأنا أقف عاجزا عن مد يد العون لأعز مخلوقة في الوجود، ضحت بحياتها من أجلي وضيعت شبابها كي تفرح بي ، حتى هذا لم تنله وأنا السبب في ذلك كله .
انزلقت دمعة من عيني وأنا أحول جاهدا فهم ما يدور ويجري معي ، فأقبلت علي بابتسامة دافئة وقالت بصوت أجش : أرجوك .. كن قويا ولا تنسى أني إلى جانبك دوما.
- ليلى .. أنت النور الذي يضيء لي الطريق..أمي يا ليلى .
- هل أنا بحاجة لأن توصيني عليها!.
- أثق بأنك لا تحتاجين توصية مني .. ولكن هي من تبقى لي في هذه الدنيا.
- لن أدعها تحتاج شيئا.
- هذا أملي بك .. أخبريني .. كيف حال الجنين ؟ .
- سيرى النور بعد خمسة أشهر . ابتسمت واحمر وجهها.
بعد انتهاء الزيارة عدت أتجرع مرارة الأسى من جديد، هواجس تلاحقني في كل لحظة وحين ، طيف أمي لا ينفك عن عينيي وكأنه قدر يلازمني وفي واحدة من المرات جاءني مع ليلي وعلى يدها طفل صغير، بدا من حركات يديه وبكاؤه الذي بدا مسموعا في المكان وكأنه يرفض الدخول إليه وقد أحوجته الظروف إلى النزول فيه دون جرم أو جريرة .
- مالي أراك شاردا ؟ .
- ليت في مقدورنا الشرود .. حتى أفكارنا حبيسة مثلنا يا شيخ .
- هون عليك يا ولدي .
لقد كان النور الذي استنير به في ظلمتي ولا أدري كيف كانت ستمضي بي الأيام والسنون من دون هذا الرجل. ، قالها بشيء من الاعتزاز ، ثم صمت للحظة تغيرت على إثرها ملامح وجهه بشكل باد ، ثم قال : جاء اليوم الذي دفعت بسببه أغلى ثمن قد يدفعه إنسان ، كان من الأهون علي أن أدفع عمري لو خيرت ، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن.
كانت كلمات التشجيع تحفني أثناء مغادرتي الغرفة قاصدا المحكمة وصيحات التشجيع ترن في أذني طاردة هواجس ومخاوف تطاردني من لحظة لأخرى ،وقع نظري عليها لحظة دخولي قاعة المحكمة ، لوحت لها بيدي ، فردت بابتسامة باهتة ووجه يئن تحت وطأة الألم وإلى جوارها ليلى ، أشارت بيد ترتجف وأعين يغالبها خوف دفين .
اعتلا وكيل النيابة المنصة وإلى جواره اثنين من مساعديه، بدأ في عرض ملف القضية بنبرة تزداد حدتها بين حين وآخر، ثم تلاه محامي الدفاع، الذي بدا وكأنه جاء لأداء دورا معدا سلفا، ثم انتهى من أداء مهمته ببرود لا يتناسب وطبيعة المهمة ، تلت ذلك لحظة من الهمس والتداول ثم نطق الحكم : السجن المؤبد.
صرخت ليلي فاهتزت قاعة المحكمة ، نظرت صوبها ، فوجدت أمي ملقاة على حجرها، حاولت الاندفاع نحوها، لكنهم دفعوني بقوة خارج قاعة المحكمة ، أو بمعنى أدق داخل بهو السجن الملاصق لقاعة المحكمة، حاولت الصراخ.. التملص من بين أيديهم ، لكنهم دفعوني .. ركلوني وانهالوا علي باللكمات .
كنت في حالة يرثى لها لحظة دخولي الغرفة وطيف أمي لا يفارقني ، تحوطني الرفاق يحاولون تخفيف المصاب عني ، لكن الأمر لم يجد معي نفعا، فصاح الشيخ محتدا : تجلد يا فتى .
- أمي يا شيخ ..
ثم غبت عن الوعي ولم أصحو إلا على لسع الماء وهو يندلق على وجهي وصوت شرطي ينادي عند الباب باسمي ، نظرت إليه وأنا لا أقوى على الوقوف وقد رأيت في تعابير وجهه ملامح شؤم لا يقوى على إخفاءها ، وقف قبالتي للحظات، ثم قال دفعة واحدة : أمك ماتت .
دارت بي الدنيا من جديد ولم أعد بعدها إلى الشعور بما يدور من حولي، إلى أن استعان الرفاق بالماء مرة أخرى ، فأعادوني إلى الواقع من جديد .
ثلاثة أيام مضت كقطع الليل الأظلم، بعدها أخذت الأمور منحا آخر ، منحا بدأ يغزوني على نحو مرعب ، قفزت أمامي وحيدة بلا أنيس أو راع ، ناهيك عن كون أمها التي تعيلها بحاجة إلى من يعيلها أيضا، عدا عن كونها في مقتبل العمر وجميلة .
مخاوف تطاردني وهواجس تنهشني بلا شفقة ولا رحمة، الأمر الذي جعلني أفكر كثيرا في مفاتحته بالأمر ، لعله يسدي لي بنصيحة أو رأي يخفف عني هذه الآلام التي تفتك بي ، لكني أعدل عن ذلك في كل مرة، رغم أني كنت أشعر أحياننا بأنه يحس بما أعاني وكأني كتاب مفتوح أمامه.
مضت ليال عديدة وأنا خلالها جسد مكدس.. روح ضائعة وعجز يقتلني، حتى جاء موعد الزيارة الأولى، فاجتاحتني رغبة عارمة لرؤيتها ، حنين قاتل للقياها ،أقبلت عابسة .. شاحبة وكأن السنين قفزت بها قفزات بعيدة ، دنت من الحاجز الذي يفصلنا عن بعضنا وقالت بصوت يغلبه البكاء : البقية في حياتك .
- هوني عليك يا ليلي . ، قلت محاولا شد أزرها ، بعد الانهيار الذي بدا واضحا على ملامح وجهها الشاحب .
- أشعر بالوحدة والخوف ,, وأجهشت بالبكاء .
- لم أعهدك كذلك .. كنت دوما قوية جلدة,ثم أن أمك إلى جوارك وبعد أشهر سترزقين بمن يملأ الدنيا عليك فرحا وسرورا.
- يا حسرتي . ، قالتها بألم وأجهشت في البكاء.
- تماسكي يا ليلي . ، قلتها بشيء من الخوف والقلق.
- كيف لي ذلك و ..
- أفصحي .
- لم يعد من أمل لانتظار أي شيء.
- ماذا تعنين ؟ .
- ضاع الجنين.
- ماذا !.. كيف ! .
- يوم أن وقع الحكم عليك وشاهدت ما أصاب أمك حينها ، في نفس الليلة بدأ نزف يصيبني ومن ثم وقع ما أبلغتك به .
أجهشت بالبكاء دون اعتبار لشيء ، حتى النظرات التي كانت تحاصرني من كل صوب لم أشعر بها ولم تشكل لي حرجا أو تحسبا من أي شيء ، اندفعت رغما عني ، حتى لو فكرت في التوقف عن ذلك ، لم أكن لأجد القدرة على الفعل ، حجم السواد الذي لفني والخراب الذي تملك كياني، شكلا حاجزا عن كل ما يدور ويجري من حولي وقد تملكني إحساس بالضياع .. بالخسران .. باليأس وقد ضاعت آمالي كلها ، حتى أحلامي ضاعت ولم أعد ألمس أي منها.
نظرت من حولي وإذ بالرفاق يحوطونني من كل جانب ، كيف وصلت إليهم وكيف غادرت ليلي ، لا أدري ، كان وجهي مبللا بالماء ويد الشيخ تمسح رأسي بحنو ودفئ ، بينما شفتاه تتمتم بآيات وأدعية وابتسامة ارتسمت على شفة أحدهم قال بعدها بفرح غامر :ها هو قد أفاق من غيبوبته.
نظرت إلى الوجوه من حولي فلمحت دموعا في أعين الشيخ .
- أتبكي يا شيخ ؟ . ، قلت مستهجنا ذلك .
- ربنا يعوضك خير يا ولدي .
- تجلد يا شيخ . قال أحد الرفاق.
- اعذروني يا رفاق . ، قالها وراح يكفكف دموعه بصمت .
نيران بداخلي تستعر ، لم تطفئها كلمات الدعم التي سمعتها وريح تعصف بي فتزيدها تأججا واستعارا، لتحملها أنفاسي حمما و شررا يتطاير في كل مكان من حولي، حتى أني في لحظات كثيرة كنت أشم خلالها رائحة دخان تنبعث من ملابسي وأحيانا من الأغطية التي على مقربة مني ، فأبحث في العيون من حولي عسى أن يصدق بعضها ما أراه وأشعر به ، لكني لم أجد أي انطباع يؤكد صدق أحاسيسي على أي منها ، لكني سررت حين امتدت يد نحوي والتقطت شيئا وقع في حجري ، ثم قالت بشيء من اللوم والعتاب : ألم تشعر بالسيجارة وهي تسقط على ملابسك ؟ .
لم أجب وإن ظل الجواب في داخلي نارا تستعر ولسعه أشد وأنكى من لسع السيجارة التي أحرقت ملابسي،وزاد من وقع الألم علي ،غياب الرفاق في سبات عميق، بعد الإعياء الذي سببته لهم والأسى الذي أحطهم به، مضيفا بذلك أعباء على أعباءهم ، فرحت أتتبع خلجاتهم وما ينتابها من تغيرات بين حين وآخر ، ثم رحت أخمن أحلامهم والأشياء التي تدور في رؤوسهم في هذه اللحظة ، لكن شيئا شدني إلى اللحظة التي حاولت الهروب منها ، فحاولت الهروب مرة أخرى ، رحت أحدق في سقف الغرفة ، فشعرت بأن نظراتي تخترقها .. تبحث عن النجوم فيها .. عن القمر ، فلم أجدهما ، ربما غابا خلف سحب أشعر بلسع بردها، فشعرت بالرهبة .. بالوحشة ، كرهت السحاب على فعلته ، حتى في اللحظة التي أغادر فيها زنزانتي اللعينة يحجب النور عني ، فداهمني خاطر عجيب ، قفزت إلى مخيلتي ليلى دون سابق إنذار ، تساءلت بشيء من الاستهجان : لماذا لا أزورها ؟ .
اتجهت بنظراتي صوب البيت، دخلت من دون أن أطرق الباب خشية إيقاظها، كان باب غرفتها موربا بعض الشيء، فدخلت على أطراف أصابعي ، نظرت إلى أمها فرأيتها تغط في الركن الآخر من الغرفة، عدت أتأمل ليلى من جديد ، كانت نائمة بثوبها البيتي .. منكبة على وجهها ومنديلها منساب عن شعرها الذي بدا وكأن المشط لم يعمل فيه منذ وقت طويل ، وقفت اتأملها من بعيد ، فرأيت ما أصابها من وهن وإعياء ، ثم وقع نظري على صندوق صغير شد انتباهي بشكل خاص ،نظرت إلى محتوياته ، فرأيت أصنافا من الحلوى والسكاكر، لأكتشف بأنها تعيش من البيع على أبواب المدارس، غلبني الأسى .. حاولت لمسها .. احتضانها ، لكن شيئا صاح بي مؤنبا :أنت السبب في كل ما أصابها .
انحدرت الدموع من عيني ولم أقو على المكوث بعدها ، انحنيت لالتقاط قبلة ،فانزلقت الدموع من عيني على خدها ، تململت في فراشها ، فانسحبت على عجل وأنا أجهش بالبكاء .
- اذكر الله يا ولدي .
- لا إله إلا الله .
نظر حوله ليتأكد بأني لم أوقظ أحدا من الرفاق ، ثم همس قائلا : ما الذي يشغلك ؟ .
- ماذا أقول يا أبا يوسف .
- أنت تقتل نفسك بهذا الشكل .
- وما الذي يميزنا عن الأموات ؟ .
- هذا التفكير هو الموت بعينه.
- آه يا شيخ .
- تكلم يا ولدي لعلك تخفف عن نفسك قليلا .
- صراع يذبحني يا شيخ .. يمزقني أربا ، عواطفي تشدني في اتجاه وعقلي يشدني في الاتجاه المعاكس ولا قدرة لي على التدخل في الصراع الناشب بينهما.
- الأولى أن تحكم العقل ، فالقرارات الصعبة لا يحسم أمرها بشكل صحيح سوي العقل وإلا لما كان الله أسقط عن المجانين وأوجب العذر لهم .
- كيف قدرت بأني مقبل على قرارات مصيرية !. ، قلت مستهجنا .
- لا تستغرب ، فمن عركته تجارب الحياة مثلي يستطيع أن يقدر أشياء كثيرة .
- إذن ساعدني .
- لا أستطيع في هذه .
- أريد أن أطلقها.
- أعرف ، لكني لن أقترح عليك شيئا .
- أأنا محق في ذلك ؟ .
- ربما .
- أيد جوابا شافيا .
- لا يمكنني فعل ذلك .
- أرجوك لا تزيد من حيرتي .
- لن أتدخل في هكذا قرار لأنه ملكك وحدك ، لكني سأشير عليك بشيء ،
- تفضل .
- عليك أن تخرج من هذه الدائرة اللعينة وتستجمع قواك من جديد حتى تستعيد رباطة جأشك ، ثم تحرر عقلك من كل القوى والمؤثرات التي تحاصره ومن ثم تتخذ القرار.
غاصت الكلمات في أعماقي كالثلج حين يسري في البدن في يوم حار، تتخلل شرايني وأوردتي بشكل محسوس ، فنظرت إليه بعين الرضا وقلت بصوت يشبه الهمس : معك حق .
غير أن هاتفا صرخ من أعماقي منادبا : أتطلق ليلي .. بكل هذه السهولة تطلقها .. هل نسيت ما قدمت لك وأعطت .. نسيت تضحياتها.. نسيت شبابها الذي تفنيه من أجلك ؟.
وكأن العواطف بداخلي أعادت ترتيب صفوفها من جديد وعادت تهاجمني بقوة وقسوة، حتى كدت أترنح تحت ضرباتها،غير أني تمالكت نفسي من جديد وصحت معلننا بأنني لم أكن أنانيا في علاقتي معها ولن أكون أبد كذلك وإن كنت أفكر في طلاقها ، إنما من باب الحرص عليها وإكراما لحبي لها ووفائها لذلك الحب ، أريد أن أحررها من سجن اختارته أو ربما أدخلتها فيه من غير قصد ، لا أريد لها أن تتحطم على صخرة السنين وأن تضيع في انتظار سراب تظنه ماء، أريدها أن تستعيد حياتها من جديد ، فلعلي بذلك أرد لها شيئا يعوضها ما جررت عليها من مآس.
ثم بكى رغم محاولاته إخفاء ذلك عنها ، فضمت رأسه إلى صدرها وهمست بصوت حان : لماذا أخفيت عني كل هذه المعاناة وتركتها بدخلك إلى الآن ؟ .
- دعيني أنام الآن ، فالوقت بات متأخرا .
- لا لن أدعك تنام حتى تفرغ ما في جعبتك من أحزان.
- إذن دعيني أسترخي في السرير.
استرخى في فراشه وأطرق صامتا وكأنه يريد استرجاع تفاصيل الحكاية من جديد ، بينما انشغلت هي بمداعبة خصلات شعره وملاطفة خديه بقبلات توزعها بين الحين والآخر ، في محاولة منها لتخفيف عقدة الذنب المترسبة في أعماق نفسه وحثه على إفراغ ما لديه من شحنات تؤرقه.
شعرت بارتياح لدى توصلي لقرار تطليقها . ، قال بشيء من الهدوء المشوب بالأسى ، لكن صورة وجهها المفجوع بوقع الصدمة ، ظل يطاردني ككابوس قاتل وأنا أسعى جاهدا لتهوين الأمر عليها، أو إقناعها بأن ما قمت به لم يكن إلا من أجلها وهي تجيبني من بين صراخها ودموعها : لا لا تفعل ذلك .. سأنتظرك حتى آخر العمر .. لا أريد أن تقتلني بقرار جائر .
- تتحدثين بعواطفك يا ليلى وهي في حالتنا لا تسمن ولا تغني من جوع ,
- لا يا محمود العواطف هي الحياة .. الأمل ، لولاها مادامت الحياة على الأرض لحظة واحدة، لا تدمر آمالي والسنين التي عشناها معا .. طفولتنا وصبانا .. شبابنا وحبنا .. أرجوك لا تدمر كل ذلك وأجهشت بالبكاء.
فأغمضت عيني هاربا وقلبي ينزف دما ، فعادت كلمات الشيخ تدعمني من جديد وهاتف يصيح بي محذرا : لم تقدر على تصور ردة فعلها ، فكيف ستجرؤ على مفاتحتها بالأمر ؟ .
وحين أقبل ذلك اليوم بدت السعادة مرسومة على وجوه الجميع ، فالكل ينتظر لقاء الأحبة بفارغ الصبر .. الأخوة .. الأبناء والزوجات ، يوم عيد يتلهف الجميع لمقدمه ، نظرت من بين الجموع فرأيتها مقبلة علي ، رقصت أحاسيسي طربا للقياها وارتسمت على وجهي علامات الفرح بقدومها ، العواطف باتت سيدة الموقف والعقل حالفها ولو إلى حين وأحيانا كنت أراه مستسلما للهزيمة أمامها ، بل ويبررها أيضا بدعوى أنها جزء منه لا يقوى على بتره وأمله المنظور في هذه الدنيا ، فأيقنت حينها بأن مراهنتي على العقل كانت خاسرة وزاد يقيني من ذلك، حين طالعتني بابتسامة ملؤها الحب والحنان، رغم ما يشوبها من أسى وألم ، احتضنت يدي من بين القضبان وقالت بصوت أجش : كم أنا مشتاقة إليك .
فشعرت بالخجل أمامها .. بالتقزم ،أي مخلوقة هي ، تسألني عن حالي وتنسى حالها.
- محمود ..أأنت بخير ؟ .
- نعم .
- أراك منهكا وكأنك لم تنم منذ فترة طويلة .
- لا تهتمي لذلك, مجرد أرق أصابني البارحة ,.. أخبريني : هل لديك ما يكفيك من النقود؟ كيف أمك
- أخشى أنك منهك من التفكير في ذلك؟ .
- وكيف أنسى ذلك يا ليلى ... أتطالبينني أن أنساك!,
- لا تزعج نفسك بذلك .
- وأمك كيف حالها؟.
- الأيام تفعل فعلها يا محمود.
صمت للحظة وكـأنه يبحث عن بداية للدخول في الموضوع، فبرز ذلك واضحاً على وجهه الذي تغيرت معالمه، أزعجها الأمر...سألته مستفسرة: محمود ... هل من شيء يزعجك؟ .
- الطريق طويلة يا ليلى ... قالها بصعوبة
- أعرف ذلك ولا أبالي ..قالت بتوتر
- وما يجبرك على ذلك؟ .
صاحت بحدة دون أن تعبأ بالحاضرين : محمود ماذا يدور في خلدك ...لا يا محمود، فأنا لن أتركك أبداً ..لا يا محمود ... لا تجعلني أعيش في رعب، أنا لك ولن يكون غير ذلك مهما تبدلت الظروف ، ثم أجهشت بالبكاء .....انحدرت الدموع من عيني وأنا أضغط على يدها مشجعاً : تشجعي يا ليلى , فلن يكون إلا خيرا إن شاء الله ، فأخذت تجفف دموعها وهي تستحثه قائلة: دعك من الهواجس يا محمود، فأنا في انتظارك ,إلى يوم القيامة ، تجلد ..تسلحً بحبنا.... بطفولتنا .... بالسنين التي قضيناها معاً يا محمود.
- ابشري خيراً واحرصي على نفسك.