الواقع
أوت الأمنيات في أبراجها ،بنت أعشاشا في تجاويف الدماغي ، وراودني طيف صياد كمنا خلف الأجمة ليغتال الأحلام ، وأنا أرصد الفضاء ، بدت الجبال تذوب تمد أعناقها كأسنام قافلة من الجمال . دفعني المشهد إلى العودة إلى دفتر مذكراتي علني أكتب شيئا ...لا أدري لم حاولت أن أمزق تلك الأوراق وألقي بها في سلة المهملات ...كانت تسقط كطيور جريحة تهيأ لي أنها ستملأ الفضاء صراخا ،أنبني ضميري :
- ثمة جديد دائما .
حدثت ذاتي : " من عادت الإنسان التوق إلى الجديد ، وربما لم تعجبه الكتابات الأولى ، البدايات لم تطابق الإرهاصات بداخله ، أما الكتابة للمرة الثانية قد يكون التطابق ،والعودة إلى حالة المواجهة مع الواقع فالواقع أقوى من الكلمات " .
وطئت قدماي مكان إقامتي ، وضعت الدلة على النار ،كانت الغيوم تكحل وجه القمر سرقني المشهد ، عدت إلى الدلة فوجدت الماء يغلي ، وبدت الفقاعات كبركان نشط ، عبقت نكهة فريدة ، تهت في الحركة الدائرية ، أعادتني أيام قضيتها في ذلك البلد ، عشت دون حواجز ، قضيت جل أيامي ألعب مع الأطفال ، ولكن عدت إلى القمقم ،مثل مارد خدع نفسه .
شعرت أنني بحاجة لتساؤلات شتى ، نبشت ركام الذاكرة فلم أجد شيئا ، شعرت بجفاف شربت حتى الثمالة ، انفردت مع ذاتي لأكتشف كيف ينكشف الزمن عدت إلى الوراء ...وجدت صدر أمي وحلم طفولتي ، انسدلت رموشي واستسلمت لوقدة الأحلام ، تكورت خجلا ، وصوتها :
- عدت ...
قرعت وصيتها مخيلتي : " إذا ذهبت إلى الأقارب لا تجعلهم يقولون إنك قليل أدب . ثانيا لا تكون شرها في تناول الطعام ، ثلثا لا تطل النظر إلى بناتهم لئلا سيصفونك بالزير ، هذا عار على الرجل .
لاذت بالصمت .
أدركت أنها تحمل إرثا من حقيقة الماضي شردت بعيدا أغتسل بماء الأيّام ، وارتسمت أمام ناظري لوحة لنوارس تبسط أجنحتها لتعزف ألحان طفولة على رمال الشاطئ تجاوبها القبرات مع تلاطم الأمواج .أيقظتني والدتي من الشرود :
- إياك ...إن تصرفت غير ذلك سأغضب عليك حتى وأنا في القبر .
قطعت عهدا على نفسي أن أكون حسب ظنها .
تزوج أخي الأكبر من امرأة لا تعرف بر الوالدين ، فطبعت العائلة بهذا الطابع .
فأخذت اقرأ أرقام المقاعد بحثا عن ضالتي ...قبعت في المقعد يلفني الصمت ...شقت الطائرة عباب الفضاء حتى أخذت السمت ، برفق تسبح في لجة السحاب ، بدت لناظري التضاريس ترسم في مرآة عقلي أطلسا جديدا ، وانحناء اللون الفيروزي ذكرني برسم الدائرة ، وعظمة علماء الهندسة ،أما زاوية الميل الأرجوانية تشكل رسومات غرائبية ،أما المدن غدت كرسومات الأطفال .و أخذت بالشريط الحريري المتلوي بين أشجار الصفصاف ، المتعرج بين الأودية حتى إذ ما وصل دمشق فشطرها شقين وفي داخله شوق كبير لورود الغوطة .
قطعت المضيفة علي هذا الانسياب :
- ما اسمك ؟.
وضعت ورقة أمامي ، وانصرفت ، قرأت في الورقة سأبقى في جدة ثلاثة أيّام :
- سأنتظرك .
كنت أرغب بلقائها ، أليس أنا في بلاد الغربة . تذكرت وصية والدتي ، حشرة الورقة في جيبي ، حركات المضيفة حركت في داخلي جمرات تحت الرماد ، لكن هيهات أن ألبي دعوتها ، لن أحنث في عهدي لأمي .من يخسر رضى والدته بسعر بخس ؟.فقلت لنفسي :" ألم يخسر الأسخريوطي معلمه مقابل خمس من الفضة " ؟!.
غصت في بلاد الغربة اكتشفت شيئا لا أعرفه من عادات وتقاليد تؤسس في النفس أشياء وأشياء . (في بلاد الغربة سبع فوائد ) . وصوت أمي يطن كنحلة في حواف الذاكرة .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
موضوع التعبير
تقطع الصمت بين حين وآخر ،تبكي ، تزرف الدموع ، ترى لماذا البكاء ؟.مسحت على شعره ،ثم خرجت لتوقد جذوة النار .سألها الأب المكنى بنمر :
- أين السجق ؟.
قررا أن لا يذهب إلى صيد الضباع حتى ينال السجق الشهادة .
- يزرع آسي ، يقرأ منذ الصباح .
ردت على سؤال النمر برفق .
طقطقت أصابعها خوفا من عين جارتها زوجة مدرس اللغة العربية ،قرأ ت التعويذة والصمدية .
حين يغضب النمر تغضب لغضبه كل ضباع الأرض ،سار بحذر ،وقف إلى النافذة ،جال بصره وقع على وحيده متكورا على كتاب اللغة ، ثلاث سنوات يرسب بهذه المادة .تذكر قول أستاذ اللغة لزوجه المعلمة: " إذا وجدتي العنقاء والخل الوفي ، ينجح السجق في مادة اللغة العربية ".
فرح النمر وسرّ لنفسه : " لعله ثاب إلى رشده بعد رسوبه ثلاث دورات بمادة اللغة الأمّ ".
عاد إلى مكانه جلس قرب المدفأة ،تخيل زوجه تزغرد من الفرح احتفالا بنجاح فلذة كبدها ،قرر أن يؤنب جاره أستاذ اللغة .
نظر إلى زوجه صامتا ،فمن المعلوم إذا ما صمت النمر يفرض الصمت على كل الأشياء ،حتى جنادب الليل تهجع ويخيم السكون .فلم يعد يسمع سوى شخير السجق .رفرف النعاس في عينيه ،وتتطاول الحلم ،سأله كيف تحصيلك هذا العام ؟. أجاب سأكون حسب ظنك ، سأجعل أستاذ اللغة مضغة على الأفواه ، تعكر مزاجه حين تذكر السنوات المنصرمة ، قال لذاته : " يا إلهي !.من أين له بهذه الثقة "؟.
استرجع خاتمة ابن يقظان ، وعرج إلى مقدمة ابن خلون ولم ينس فلسفة ابن رشد .
أيقظ هبوب العاصفة أمّ السجق ،فتحت النافذة ، تولتها الدهشة حين وجدت وحيدها يطلق شخيرا كشخير حافلة في طلوع التنايا ،أيقظت النمر خوفا من اللوم :
- هيا يا نمر .
- لن أذهب إلى الصيد حتى نتائج الثانوية .
زغردت الحقول بالسنابل إلا حقل النمر ، سأل عن السبب ،فوجئ أن السبب موضوع التعبير .الأقاويل مجهدة انكفأ إلى أدوات الصيد :
- الحزم بمقدار .
لم يدرك نظام الخلية ، حمل البندقية حث خطاه صوب وكر ضبع منع الناس من العبور ، تداخلت المعطيات بنت مدارات من الخوف ، استعد السجق ليثبت وجوده من خلال رجل تعرف عليه .فأثبت وجوده وأصيب الرجل بجلطة دماغية ،قبل عودة النمر من الصيد ...بكت زوجه وهي ترسم بمخيلتها صورة من تبرع أن يقتل الضبع .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
خلف التلال
انشق الليل عن ندف ثلج شكل أرخبيلا خلف التلال ، هبت الريح تكنس الأرض من رماد شتاء يحتضر في الأزقة ، بحثت عن ذاتها بين رماد الحرائق :
- أنت ليس من القدس .
كظمت غيظها حتى وجدت مكمن الجرح ، دعت للوليمة كوكبة من الأطفال ، تذكرت خيوطا من الصوف غزلتها جدتي في ظل شجيرات الليمون ،ثمة أشبال يتهامسون وعيونهم معلقة في وجه الجدة وأياديهم تقبض على لفائف الزعتر ، تصدح حناجرهم في أغان الدلعونة تعزفها مقاليع على أبجدية جديدة ، أبحرت في أعماق ذاتها هتفت في أذنها ، كانت كاظمة غيظها ، أيقظت عصافيرا هاجعة في أروقة المعابد ، حط اليمام على قبب المآذن ينتظر قرع النواقيس يحلم بالهبوط إلى ساحات القدس بعزائم لا تعرف الوهن .لقد ارتحل الأطفال مع دوي الرعد إلى البيارة لتشذيب ما عوج من الأغصان ، تجاوبت العصافير مع غناء السواقي ورسمت من أرياشها هدّية لأطفال مدوا أجسادهم جسورا لرتق ما انقطع من أرحام ،وبجانبهم صبية من الشام أمام ناظرها كتاب في علم التشريح ، تستأصل الشظايا ، وعبارات الجدة تطوف في ثنايا دماغها :
- أنت من مواليد المخيم .
العيون
انسكب نور من النافذة على العيون القابعة بهدوء فوق الرفوف ، كان ينادي ذاته وهو يجمع هذه العيون من عرقه ودمه ،ليبحر في عالم المعرفة ، منذ طفولته يقدم كتابا كهدية للأصدقاء في المنسبات وباقة من الورد ، يحدث زوجه عن هذه الهدايا المتواضعة :
- إن النحلة تجني العسل الخفي من كرم الربيع .
غضت زوجه طرفها في صمت الليل المهيب :
- ما فائدة هذه العيون ؟.
- لن تظل مغلقة .
- يا رجل.أبحث عن عمل يقينا عوز الأيّام ،بدلا من هذه الكتب ،اتركها لأصحابها لا حاجة لنا بها .نفد صبري ،جارنا بائع الخس ،يكسب رزقه ورزق عياله من خلال تجارة بسيطة .
عجن العبارات قلبها بخلايا دماغه ،أعجب بفكرة التجارة ،لكنه امتعض من عبارة ما فائدة هذه العيون .قفزت الفكرة إلى ذهنه :
- سأبيع ورداً وليس خساً.
عبر الشوارع والمنعطفات ، تذكر عبارات العوز ،الحاجة ،الخس ،عيون الكتب قال : "إيه زمان " .
دفع العربة:
- هذه زهرة مريم .
طاف في الشوارع .انهارت أعصابه ،وقف أمام أحد المخابز ،ملأت أنفه رائحة الخبز الطازج ،ازدرد لعابه مرات ومرات ،دون جدوى ، ضغط على بطنه ،بحث عن شجرة يفيء إلى ظلها ، سرّ لنفسه:" تبخر الذوق عند الناس "
.انعطف إلى شارع يفضي إلى مدرسة رعت طفولته ،وقف أمام الباب ،شرد بخياله بعيدا ،تذكر الطلاب يندفعون جماعات مجرد أن ينادى بائع الورد:" الورد للأذكياء ".
حلم بشراء وجبة من الطعام اللذيذ ،وهدية لطفله الذي لم يحظ بدمية من الدمى أهل النعم .
خرج المعلمون من الباب الواسع ،قال معزيا نفسه :" هؤلاء نمط آخر من الناس لا أحد يعرف قيمة الورد أكثر منهم :.
- أنظر ووحد خالق الجمال .
وقف مندهشا تأتى لسمعه خبب أحذية المعلمين ونقرات أحذية المعلمات ،خلفت وراءها هاجسا يحمل أسئلة توارت في فراغات تحدثها الريح في الغيوم الممزقة . هزّ رأسه عجبا استعاد صورة أمّ العيال ، تنتظر أوبته على أحر من الجمر ،ماذا سيقول لولده إذا ما ندفع ليسأله :
- أين البسكويت؟ :
- لم أبع شيئا .
- ألم أقل لك تجارة الخس أجدى .
رفع بصره إلى القبة الفيروزية كان طرفها معلقا بأهداب القلعة الجاثمة كغانية تطلب معجل المهر ممن يريد القران ، إن يغرس ما يربو عن أيّام عمره من شتلات الورد ، التفت يمينا وشمالا رأى أحد الرجال يستظل بظل شجرة وأمامه إبريقا وكأسا يقرقع المتة ،اتجه صوبه،ينادي :
-أزهارمريم". .
وقف على بعد أمتار من شارب المتة :
- عبوة ماء من فضلك .
رش الورد بالماء ، مرت الساعات بطيئة و لم يقترب أحد ليسأل بكم الورد ، ضاق ذرعا ،صرخ شارب المتة :
- ما جدوى الورد الناس بحاجة الخبز يا عم ،فما بالك بالورد .اسمع تجارة الخس أربح .
حمل أدواته وصفق الباب خلفه ،شعر بيد تصفعه على وجهه ،فكر مليا ،ثم نظر إلى ساعة يده ،دفع العربة بقوة ، ،طرقت العبارات حواف الذاكرة ،حدث نفسه :" إيه أيّام زمان كان الراتب يكفي الموظف حتى نهاية الشهر مع شراء أمهات العيون ".
تنهض أمّ العيال باكرا، تنحني أجلالا لعيون الكتب ، تعد له فنجان القهوة ، تمشي على رؤوس أصابعها كي تحافظ على الهدوء تضع الفنجان على الطاولة ،دون أن يرفع رأسه عن أوراقه ،كانت منسجمة مع عيون الكتب قبل الزواج ، تسأله :
- إذا احتجت شيئا اضرب على الجدار.
خرجت من ثيابها ،فكر بالأمر أدرك أنّها على حق ،عمل بنصيحة أحدهم ،لكن دون جدوى ، نقب جيوب السروال ، تلمس ليرة يتيمة،اصطدمت يده بعبوة الكبريت تناولها ،راح يدفع العربة ببطنه ، أشعل أعواد الثقاب واحدا تلو الآخر كمن يريد أن يشعل شيئا في داخله ، تصبب العرق من جبينه. فتح صدره لنسمة جذلى تساءل :" إذا ما اندفع طفله إليه ما ذا سيفعل؟.
رسمت التداعيات لوحة من وعيد وتهديد :
- هل من الضرورة أن يشتري الولد بسكوته ؟. هل من الضرورة أن تفتح زوجه فمها ، لتقذف الكلمات السامة ؟. طفح الكيل ، بالغت في إعطائها الحرية ،غيرها من النساء يعملن ويخدمن أزواجهن لماذا أعيش ثنائية القرار؟.
أمطرته أسئلة من فضاء عناد مغلف بالعجز والتلكؤ , تناهى إلى سمعه صوتا ينادي لم يلتفت ظن هلوسة ،غذ السير وهو في نشوة آلامه ، بحث عن ضالته ومضت عيون الكتب ،التفت وراءه ،رآى زوجه نحث حطاها ، تسحب صغيرها متلمسة الظلال ،و بيدها مغلفا ،ترك العربة أسرع إليها بدت دقات قلبه كطبل يدعو للحرب ، سلمته مغلفا بداخله لوحة لعيون المكتبة وصورة لرجل وطفل وعربة محملة بأصيص الورد بحاجة لمن يدفعها قبل الغروب .
نشر في الموقع بتاريخ : 2009-04-05
الحلم مرة ثانية
إيقظها الحلم ، نظرت إلى المنبه ، مازال الوقت باكرا ، عادت إلى النوم ، الظلمة غول أسطوري ، حملقت بسقف الغرفة حتى غالبها النعاس ، مضت بكل المتاعب والملذات ، تعيش حلما جميلا ، وطئت قدماها شارعا يلفه العطر ، ابتاعت رداء ، تحولت إلى عروس بحر ولا أجمل ، وجدت نفسها على خشبة المسرح بين لفيف من الشبان ،ترقص مع الأضواء تجاريها ، تأبطت ذراع خطيبها بلغت لذة لا توصف ، أيقظها النداء ، وأضفى السكون على العفة وشاحا :
- الحلم مرة ثانية .
قذفت الشرشف ، جلست في الشرفة أيقظ النسيم حواسها ، توقعت شيئا ،وقع بصرها على نجمة تشع من بعيد ، ونيزكا يمضي في لجج الليل .سألت نفسها :
- يا إلهي !..ماذا حل بالباخرة مرمرة ؟.
2
عادت إلى الطاولة وتركت القلم يزحف على الصحاف ، تدرك أن المهمة شاقة ، لكن لم تعد قادرة على ضبط النفس ، بمعجزة انتزعت موافقة العالم على الإبحار ، وقفت أمام رئيس التحرير ، وضعت المقال أمامه . قرأ العنوان ، قال في شيء من الحياء :
- أهلا ..
أيقظت العبارات منظومات هاجعة في ثنايا دماغه ،فأدرك أنها لن تتورع عن سلوك أي مسلك في سبيل الدفاع عن المطران ورفاقه ممن مخروا عباب البحر لفك الحصار عن غزة .
3
رفع النظارة من على أرنبة أنفه وتقلصت عضلات فكيه ، انكمشت في مكانها لم تكن تدري أن هذه النظرات نظرات معجب ،قال :
- جريئة ...
- حسنا ، ألا يستحق ركاب باخرة الحرية ذلك .
تلقت غمغمات رئيس التحرير بريبة وحذر ، ورحلت في بيداء الخيال :
- الدعوة مشروعة .
- هذا رأيك .
- نعم ، تدعو للتماسك الإنساني .
نظرت في وجهه ،أدركت من تعابيره مدى الاهتمام .
استدرك :
- يا أستاذة المظاهرة ...
- لندع المزاح جانبا .
- نحن مع سياسة الدولة ، وصدقني تأيد مشروعنا .
- ما أدراك ؟.
- كل المؤشرات تدل على ذلك .
كان رئيس التحرير معجبا ، لكنه لم يفصح جهارا ، وراح يتودد لها ليكسب المودة .
4
كانت بحاجة أن تضع إصبعها على موضع الداء ، وقفت أمام المرأة قابلتها الصورة بوجه شاحب :
- لا وقت للأقنعة .
خرجت دون مساحيق ، كيف نسيت ذلك وهي على موعد مع خطيبها ، أحست بشيء من الارتياح ...لأنه مدها بهذه القوة . تذكرت الاجتماع فانقبض قلبها بعض الشيء قالت لذاتها :
- لا مناص من الحضور .
عبرت الشارع كطائر سماوي ، كان الحضور بانتظارها ، وقفت أمامهم ، وزعت الابتسامات ، وبدأ الحوار والجدل . مع بسمة الواثق من نفسه :
- يجب أن لا نلقي الأجوبة جزافا .
5
دخل خطيبها غاضبا ، يخامره شعور بالغرابة ، أدركت أنه حضر إلى الموعد المحدد دون تأخر ، يدل على ذلك أناقته فقالت :
- عذرا ...الاجتماع مقدس .
- أما كان من الممكن ؟.
- إذن ستكون معنا .
6
تشابكت الأيدي ، وانبثق الأمل في النفوس توقع خطيبها شيئا غريبا ، كان بوده الانفراد بها لتطيب خاطره ،فأيقظه دوي صوتها يتفجر غضبا يندد بقراصنة الألفية الثالثة ، غدا كل حرف حشد من رجال تدين الهمجية ،والكلمة تؤلف جيشا من الحرية من كل أصقاع الأرض .
أعلن رئيس التحرير انتهاء الاجتماع .
قالت :
- لا ...لا أنت ستكون على رأس مسيرة أسطول الحرية .
7
دبت الحمية في داخل خطيبها ، خبط الطاولة بقبضته ، بصوت جهوري بدا كقرع طبل أغريقي :
- الموت لإسرائيل ...الموت لتجار الحروب ...لا للهيمنة على غزة ...لا للهيمنة على الشعوب ...تحية للمطران ورفاقه .
8
استيقظ مع عصافير الصباح ، بسط النوراس أجنحتها على السفينة ، فجأة حطت غربان مشؤومة على سطحها لتبطش برجال لا يملكون من السلاح سوى خلاياهم الإنسانية
جابت الجماهير الشوارع ، يلقون البيض الفاسد والبندورة المتعفنة على العلمين ...صفق خطيبها حين جاءت خيول الشام من كافة الأرجاء ، تتلو الوعيد والتهديد .
وقفت سنديانة ، ولم لا أليست هي بحاجة إليه أكثر مما مضى ، وتمنت أن تلقي بجسدها بين ذراعية ، وتصرخ :
- ها أنا حقل خصب فازرع ما تشاء .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
كيف ينكشف الزمن
ارتجفت هلعا حين قالت بصوت قوي :
- عدت أيها العاق .
كنت متعبا لاهثا لكن فرحا بالعصافير التي قبضت عليها من الأعشاش .قلت :
- التوبة لن أفعلها ...
انفردت مع ذاتي في موهن من الليل ،أطلقت لروحي العنان ،تذكرت كيف كنت أحبو على صدرها كادت تسبقني الدموع حينما استرجعت حلم الطفولة وفي حلقي ظمأ السنين العجاف ، عركتني الأيَام وأنا في ريعان الشباب فعرفت كيف يكشف الزمن ، كنت مستغرقا في تأملات مبهمة حين غيبني النعاس ، سمعت صدى صوتها المتعب الخفيض :
- إيه ...هل عدت أيها العاق !.
كنت في نشوة آلامي ...صوت أمي كيف أنساه ؟. صوت من لا تتورع عن ولوج أي طريق في سبيل أن تدرأ عني المخاطر ، مازالت عباراتها تجوب خلايا دماغي كنحلة تجني العسل الأشهب ،تعاقبت الأيّام ، وانتحيت طرف الحقل خلسة ،علني أحقق حلمي ، بحثت عن أعشاش العصافير ، تهت في بيداء الحلم حين عثرت على ضالتي ، استقبلتني الكتاكيت بمناقيرها الفاغرة ، تندمج في عالم الطبيعة الصامتة ، تناهى إلى سمعي فحيح بين الهشيم ،التفت شمالا ويمينا ،لاح لناظري أفعوان يدنو من العش ، وثبت إليه قبضت على عنقه بقوة ،لحظتئذ أدركت ما سر حاجة الإنسان للعنف ،بحركة سريعة طوق ساعدي ولطم وجهي بذيله ،هصر ساعدي ، كانت العصافير تنوح فوق رأسي تذكرت أمي :
- عدت أيها ...
هرولت على غير هدى ،استمد من خوفي قوة صرخت :
- أمي ...أمي ...
اقبل والدي بعينين متعبتين :
- أقذف به بعيدا .
جمدت في مكاني ،لا أدري كيف تحرر ساعدي فقذفت الأفعوان على الأرض ، هوى والدي بمجله على رأسه ، رغم شكيمة أمي بلغ الزعر منها مبلغا ،قبضت على أذني وشدة عليها كمن يشد على أذن جدي عنيد :
- أكيد لن تفعلها أيها العاق .
بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
أوت الأمنيات في أبراجها ،بنت أعشاشا في تجاويف الدماغي ، وراودني طيف صياد كمنا خلف الأجمة ليغتال الأحلام ، وأنا أرصد الفضاء ، بدت الجبال تذوب تمد أعناقها كأسنام قافلة من الجمال . دفعني المشهد إلى العودة إلى دفتر مذكراتي علني أكتب شيئا ...لا أدري لم حاولت أن أمزق تلك الأوراق وألقي بها في سلة المهملات ...كانت تسقط كطيور جريحة تهيأ لي أنها ستملأ الفضاء صراخا ،أنبني ضميري :
- ثمة جديد دائما .
حدثت ذاتي : " من عادت الإنسان التوق إلى الجديد ، وربما لم تعجبه الكتابات الأولى ، البدايات لم تطابق الإرهاصات بداخله ، أما الكتابة للمرة الثانية قد يكون التطابق ،والعودة إلى حالة المواجهة مع الواقع فالواقع أقوى من الكلمات " .
وطئت قدماي مكان إقامتي ، وضعت الدلة على النار ،كانت الغيوم تكحل وجه القمر سرقني المشهد ، عدت إلى الدلة فوجدت الماء يغلي ، وبدت الفقاعات كبركان نشط ، عبقت نكهة فريدة ، تهت في الحركة الدائرية ، أعادتني أيام قضيتها في ذلك البلد ، عشت دون حواجز ، قضيت جل أيامي ألعب مع الأطفال ، ولكن عدت إلى القمقم ،مثل مارد خدع نفسه .
شعرت أنني بحاجة لتساؤلات شتى ، نبشت ركام الذاكرة فلم أجد شيئا ، شعرت بجفاف شربت حتى الثمالة ، انفردت مع ذاتي لأكتشف كيف ينكشف الزمن عدت إلى الوراء ...وجدت صدر أمي وحلم طفولتي ، انسدلت رموشي واستسلمت لوقدة الأحلام ، تكورت خجلا ، وصوتها :
- عدت ...
قرعت وصيتها مخيلتي : " إذا ذهبت إلى الأقارب لا تجعلهم يقولون إنك قليل أدب . ثانيا لا تكون شرها في تناول الطعام ، ثلثا لا تطل النظر إلى بناتهم لئلا سيصفونك بالزير ، هذا عار على الرجل .
لاذت بالصمت .
أدركت أنها تحمل إرثا من حقيقة الماضي شردت بعيدا أغتسل بماء الأيّام ، وارتسمت أمام ناظري لوحة لنوارس تبسط أجنحتها لتعزف ألحان طفولة على رمال الشاطئ تجاوبها القبرات مع تلاطم الأمواج .أيقظتني والدتي من الشرود :
- إياك ...إن تصرفت غير ذلك سأغضب عليك حتى وأنا في القبر .
قطعت عهدا على نفسي أن أكون حسب ظنها .
تزوج أخي الأكبر من امرأة لا تعرف بر الوالدين ، فطبعت العائلة بهذا الطابع .
فأخذت اقرأ أرقام المقاعد بحثا عن ضالتي ...قبعت في المقعد يلفني الصمت ...شقت الطائرة عباب الفضاء حتى أخذت السمت ، برفق تسبح في لجة السحاب ، بدت لناظري التضاريس ترسم في مرآة عقلي أطلسا جديدا ، وانحناء اللون الفيروزي ذكرني برسم الدائرة ، وعظمة علماء الهندسة ،أما زاوية الميل الأرجوانية تشكل رسومات غرائبية ،أما المدن غدت كرسومات الأطفال .و أخذت بالشريط الحريري المتلوي بين أشجار الصفصاف ، المتعرج بين الأودية حتى إذ ما وصل دمشق فشطرها شقين وفي داخله شوق كبير لورود الغوطة .
قطعت المضيفة علي هذا الانسياب :
- ما اسمك ؟.
وضعت ورقة أمامي ، وانصرفت ، قرأت في الورقة سأبقى في جدة ثلاثة أيّام :
- سأنتظرك .
كنت أرغب بلقائها ، أليس أنا في بلاد الغربة . تذكرت وصية والدتي ، حشرة الورقة في جيبي ، حركات المضيفة حركت في داخلي جمرات تحت الرماد ، لكن هيهات أن ألبي دعوتها ، لن أحنث في عهدي لأمي .من يخسر رضى والدته بسعر بخس ؟.فقلت لنفسي :" ألم يخسر الأسخريوطي معلمه مقابل خمس من الفضة " ؟!.
غصت في بلاد الغربة اكتشفت شيئا لا أعرفه من عادات وتقاليد تؤسس في النفس أشياء وأشياء . (في بلاد الغربة سبع فوائد ) . وصوت أمي يطن كنحلة في حواف الذاكرة .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
موضوع التعبير
تقطع الصمت بين حين وآخر ،تبكي ، تزرف الدموع ، ترى لماذا البكاء ؟.مسحت على شعره ،ثم خرجت لتوقد جذوة النار .سألها الأب المكنى بنمر :
- أين السجق ؟.
قررا أن لا يذهب إلى صيد الضباع حتى ينال السجق الشهادة .
- يزرع آسي ، يقرأ منذ الصباح .
ردت على سؤال النمر برفق .
طقطقت أصابعها خوفا من عين جارتها زوجة مدرس اللغة العربية ،قرأ ت التعويذة والصمدية .
حين يغضب النمر تغضب لغضبه كل ضباع الأرض ،سار بحذر ،وقف إلى النافذة ،جال بصره وقع على وحيده متكورا على كتاب اللغة ، ثلاث سنوات يرسب بهذه المادة .تذكر قول أستاذ اللغة لزوجه المعلمة: " إذا وجدتي العنقاء والخل الوفي ، ينجح السجق في مادة اللغة العربية ".
فرح النمر وسرّ لنفسه : " لعله ثاب إلى رشده بعد رسوبه ثلاث دورات بمادة اللغة الأمّ ".
عاد إلى مكانه جلس قرب المدفأة ،تخيل زوجه تزغرد من الفرح احتفالا بنجاح فلذة كبدها ،قرر أن يؤنب جاره أستاذ اللغة .
نظر إلى زوجه صامتا ،فمن المعلوم إذا ما صمت النمر يفرض الصمت على كل الأشياء ،حتى جنادب الليل تهجع ويخيم السكون .فلم يعد يسمع سوى شخير السجق .رفرف النعاس في عينيه ،وتتطاول الحلم ،سأله كيف تحصيلك هذا العام ؟. أجاب سأكون حسب ظنك ، سأجعل أستاذ اللغة مضغة على الأفواه ، تعكر مزاجه حين تذكر السنوات المنصرمة ، قال لذاته : " يا إلهي !.من أين له بهذه الثقة "؟.
استرجع خاتمة ابن يقظان ، وعرج إلى مقدمة ابن خلون ولم ينس فلسفة ابن رشد .
أيقظ هبوب العاصفة أمّ السجق ،فتحت النافذة ، تولتها الدهشة حين وجدت وحيدها يطلق شخيرا كشخير حافلة في طلوع التنايا ،أيقظت النمر خوفا من اللوم :
- هيا يا نمر .
- لن أذهب إلى الصيد حتى نتائج الثانوية .
زغردت الحقول بالسنابل إلا حقل النمر ، سأل عن السبب ،فوجئ أن السبب موضوع التعبير .الأقاويل مجهدة انكفأ إلى أدوات الصيد :
- الحزم بمقدار .
لم يدرك نظام الخلية ، حمل البندقية حث خطاه صوب وكر ضبع منع الناس من العبور ، تداخلت المعطيات بنت مدارات من الخوف ، استعد السجق ليثبت وجوده من خلال رجل تعرف عليه .فأثبت وجوده وأصيب الرجل بجلطة دماغية ،قبل عودة النمر من الصيد ...بكت زوجه وهي ترسم بمخيلتها صورة من تبرع أن يقتل الضبع .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
خلف التلال
انشق الليل عن ندف ثلج شكل أرخبيلا خلف التلال ، هبت الريح تكنس الأرض من رماد شتاء يحتضر في الأزقة ، بحثت عن ذاتها بين رماد الحرائق :
- أنت ليس من القدس .
كظمت غيظها حتى وجدت مكمن الجرح ، دعت للوليمة كوكبة من الأطفال ، تذكرت خيوطا من الصوف غزلتها جدتي في ظل شجيرات الليمون ،ثمة أشبال يتهامسون وعيونهم معلقة في وجه الجدة وأياديهم تقبض على لفائف الزعتر ، تصدح حناجرهم في أغان الدلعونة تعزفها مقاليع على أبجدية جديدة ، أبحرت في أعماق ذاتها هتفت في أذنها ، كانت كاظمة غيظها ، أيقظت عصافيرا هاجعة في أروقة المعابد ، حط اليمام على قبب المآذن ينتظر قرع النواقيس يحلم بالهبوط إلى ساحات القدس بعزائم لا تعرف الوهن .لقد ارتحل الأطفال مع دوي الرعد إلى البيارة لتشذيب ما عوج من الأغصان ، تجاوبت العصافير مع غناء السواقي ورسمت من أرياشها هدّية لأطفال مدوا أجسادهم جسورا لرتق ما انقطع من أرحام ،وبجانبهم صبية من الشام أمام ناظرها كتاب في علم التشريح ، تستأصل الشظايا ، وعبارات الجدة تطوف في ثنايا دماغها :
- أنت من مواليد المخيم .
العيون
انسكب نور من النافذة على العيون القابعة بهدوء فوق الرفوف ، كان ينادي ذاته وهو يجمع هذه العيون من عرقه ودمه ،ليبحر في عالم المعرفة ، منذ طفولته يقدم كتابا كهدية للأصدقاء في المنسبات وباقة من الورد ، يحدث زوجه عن هذه الهدايا المتواضعة :
- إن النحلة تجني العسل الخفي من كرم الربيع .
غضت زوجه طرفها في صمت الليل المهيب :
- ما فائدة هذه العيون ؟.
- لن تظل مغلقة .
- يا رجل.أبحث عن عمل يقينا عوز الأيّام ،بدلا من هذه الكتب ،اتركها لأصحابها لا حاجة لنا بها .نفد صبري ،جارنا بائع الخس ،يكسب رزقه ورزق عياله من خلال تجارة بسيطة .
عجن العبارات قلبها بخلايا دماغه ،أعجب بفكرة التجارة ،لكنه امتعض من عبارة ما فائدة هذه العيون .قفزت الفكرة إلى ذهنه :
- سأبيع ورداً وليس خساً.
عبر الشوارع والمنعطفات ، تذكر عبارات العوز ،الحاجة ،الخس ،عيون الكتب قال : "إيه زمان " .
دفع العربة:
- هذه زهرة مريم .
طاف في الشوارع .انهارت أعصابه ،وقف أمام أحد المخابز ،ملأت أنفه رائحة الخبز الطازج ،ازدرد لعابه مرات ومرات ،دون جدوى ، ضغط على بطنه ،بحث عن شجرة يفيء إلى ظلها ، سرّ لنفسه:" تبخر الذوق عند الناس "
.انعطف إلى شارع يفضي إلى مدرسة رعت طفولته ،وقف أمام الباب ،شرد بخياله بعيدا ،تذكر الطلاب يندفعون جماعات مجرد أن ينادى بائع الورد:" الورد للأذكياء ".
حلم بشراء وجبة من الطعام اللذيذ ،وهدية لطفله الذي لم يحظ بدمية من الدمى أهل النعم .
خرج المعلمون من الباب الواسع ،قال معزيا نفسه :" هؤلاء نمط آخر من الناس لا أحد يعرف قيمة الورد أكثر منهم :.
- أنظر ووحد خالق الجمال .
وقف مندهشا تأتى لسمعه خبب أحذية المعلمين ونقرات أحذية المعلمات ،خلفت وراءها هاجسا يحمل أسئلة توارت في فراغات تحدثها الريح في الغيوم الممزقة . هزّ رأسه عجبا استعاد صورة أمّ العيال ، تنتظر أوبته على أحر من الجمر ،ماذا سيقول لولده إذا ما ندفع ليسأله :
- أين البسكويت؟ :
- لم أبع شيئا .
- ألم أقل لك تجارة الخس أجدى .
رفع بصره إلى القبة الفيروزية كان طرفها معلقا بأهداب القلعة الجاثمة كغانية تطلب معجل المهر ممن يريد القران ، إن يغرس ما يربو عن أيّام عمره من شتلات الورد ، التفت يمينا وشمالا رأى أحد الرجال يستظل بظل شجرة وأمامه إبريقا وكأسا يقرقع المتة ،اتجه صوبه،ينادي :
-أزهارمريم". .
وقف على بعد أمتار من شارب المتة :
- عبوة ماء من فضلك .
رش الورد بالماء ، مرت الساعات بطيئة و لم يقترب أحد ليسأل بكم الورد ، ضاق ذرعا ،صرخ شارب المتة :
- ما جدوى الورد الناس بحاجة الخبز يا عم ،فما بالك بالورد .اسمع تجارة الخس أربح .
حمل أدواته وصفق الباب خلفه ،شعر بيد تصفعه على وجهه ،فكر مليا ،ثم نظر إلى ساعة يده ،دفع العربة بقوة ، ،طرقت العبارات حواف الذاكرة ،حدث نفسه :" إيه أيّام زمان كان الراتب يكفي الموظف حتى نهاية الشهر مع شراء أمهات العيون ".
تنهض أمّ العيال باكرا، تنحني أجلالا لعيون الكتب ، تعد له فنجان القهوة ، تمشي على رؤوس أصابعها كي تحافظ على الهدوء تضع الفنجان على الطاولة ،دون أن يرفع رأسه عن أوراقه ،كانت منسجمة مع عيون الكتب قبل الزواج ، تسأله :
- إذا احتجت شيئا اضرب على الجدار.
خرجت من ثيابها ،فكر بالأمر أدرك أنّها على حق ،عمل بنصيحة أحدهم ،لكن دون جدوى ، نقب جيوب السروال ، تلمس ليرة يتيمة،اصطدمت يده بعبوة الكبريت تناولها ،راح يدفع العربة ببطنه ، أشعل أعواد الثقاب واحدا تلو الآخر كمن يريد أن يشعل شيئا في داخله ، تصبب العرق من جبينه. فتح صدره لنسمة جذلى تساءل :" إذا ما اندفع طفله إليه ما ذا سيفعل؟.
رسمت التداعيات لوحة من وعيد وتهديد :
- هل من الضرورة أن يشتري الولد بسكوته ؟. هل من الضرورة أن تفتح زوجه فمها ، لتقذف الكلمات السامة ؟. طفح الكيل ، بالغت في إعطائها الحرية ،غيرها من النساء يعملن ويخدمن أزواجهن لماذا أعيش ثنائية القرار؟.
أمطرته أسئلة من فضاء عناد مغلف بالعجز والتلكؤ , تناهى إلى سمعه صوتا ينادي لم يلتفت ظن هلوسة ،غذ السير وهو في نشوة آلامه ، بحث عن ضالته ومضت عيون الكتب ،التفت وراءه ،رآى زوجه نحث حطاها ، تسحب صغيرها متلمسة الظلال ،و بيدها مغلفا ،ترك العربة أسرع إليها بدت دقات قلبه كطبل يدعو للحرب ، سلمته مغلفا بداخله لوحة لعيون المكتبة وصورة لرجل وطفل وعربة محملة بأصيص الورد بحاجة لمن يدفعها قبل الغروب .
نشر في الموقع بتاريخ : 2009-04-05
الحلم مرة ثانية
إيقظها الحلم ، نظرت إلى المنبه ، مازال الوقت باكرا ، عادت إلى النوم ، الظلمة غول أسطوري ، حملقت بسقف الغرفة حتى غالبها النعاس ، مضت بكل المتاعب والملذات ، تعيش حلما جميلا ، وطئت قدماها شارعا يلفه العطر ، ابتاعت رداء ، تحولت إلى عروس بحر ولا أجمل ، وجدت نفسها على خشبة المسرح بين لفيف من الشبان ،ترقص مع الأضواء تجاريها ، تأبطت ذراع خطيبها بلغت لذة لا توصف ، أيقظها النداء ، وأضفى السكون على العفة وشاحا :
- الحلم مرة ثانية .
قذفت الشرشف ، جلست في الشرفة أيقظ النسيم حواسها ، توقعت شيئا ،وقع بصرها على نجمة تشع من بعيد ، ونيزكا يمضي في لجج الليل .سألت نفسها :
- يا إلهي !..ماذا حل بالباخرة مرمرة ؟.
2
عادت إلى الطاولة وتركت القلم يزحف على الصحاف ، تدرك أن المهمة شاقة ، لكن لم تعد قادرة على ضبط النفس ، بمعجزة انتزعت موافقة العالم على الإبحار ، وقفت أمام رئيس التحرير ، وضعت المقال أمامه . قرأ العنوان ، قال في شيء من الحياء :
- أهلا ..
أيقظت العبارات منظومات هاجعة في ثنايا دماغه ،فأدرك أنها لن تتورع عن سلوك أي مسلك في سبيل الدفاع عن المطران ورفاقه ممن مخروا عباب البحر لفك الحصار عن غزة .
3
رفع النظارة من على أرنبة أنفه وتقلصت عضلات فكيه ، انكمشت في مكانها لم تكن تدري أن هذه النظرات نظرات معجب ،قال :
- جريئة ...
- حسنا ، ألا يستحق ركاب باخرة الحرية ذلك .
تلقت غمغمات رئيس التحرير بريبة وحذر ، ورحلت في بيداء الخيال :
- الدعوة مشروعة .
- هذا رأيك .
- نعم ، تدعو للتماسك الإنساني .
نظرت في وجهه ،أدركت من تعابيره مدى الاهتمام .
استدرك :
- يا أستاذة المظاهرة ...
- لندع المزاح جانبا .
- نحن مع سياسة الدولة ، وصدقني تأيد مشروعنا .
- ما أدراك ؟.
- كل المؤشرات تدل على ذلك .
كان رئيس التحرير معجبا ، لكنه لم يفصح جهارا ، وراح يتودد لها ليكسب المودة .
4
كانت بحاجة أن تضع إصبعها على موضع الداء ، وقفت أمام المرأة قابلتها الصورة بوجه شاحب :
- لا وقت للأقنعة .
خرجت دون مساحيق ، كيف نسيت ذلك وهي على موعد مع خطيبها ، أحست بشيء من الارتياح ...لأنه مدها بهذه القوة . تذكرت الاجتماع فانقبض قلبها بعض الشيء قالت لذاتها :
- لا مناص من الحضور .
عبرت الشارع كطائر سماوي ، كان الحضور بانتظارها ، وقفت أمامهم ، وزعت الابتسامات ، وبدأ الحوار والجدل . مع بسمة الواثق من نفسه :
- يجب أن لا نلقي الأجوبة جزافا .
5
دخل خطيبها غاضبا ، يخامره شعور بالغرابة ، أدركت أنه حضر إلى الموعد المحدد دون تأخر ، يدل على ذلك أناقته فقالت :
- عذرا ...الاجتماع مقدس .
- أما كان من الممكن ؟.
- إذن ستكون معنا .
6
تشابكت الأيدي ، وانبثق الأمل في النفوس توقع خطيبها شيئا غريبا ، كان بوده الانفراد بها لتطيب خاطره ،فأيقظه دوي صوتها يتفجر غضبا يندد بقراصنة الألفية الثالثة ، غدا كل حرف حشد من رجال تدين الهمجية ،والكلمة تؤلف جيشا من الحرية من كل أصقاع الأرض .
أعلن رئيس التحرير انتهاء الاجتماع .
قالت :
- لا ...لا أنت ستكون على رأس مسيرة أسطول الحرية .
7
دبت الحمية في داخل خطيبها ، خبط الطاولة بقبضته ، بصوت جهوري بدا كقرع طبل أغريقي :
- الموت لإسرائيل ...الموت لتجار الحروب ...لا للهيمنة على غزة ...لا للهيمنة على الشعوب ...تحية للمطران ورفاقه .
8
استيقظ مع عصافير الصباح ، بسط النوراس أجنحتها على السفينة ، فجأة حطت غربان مشؤومة على سطحها لتبطش برجال لا يملكون من السلاح سوى خلاياهم الإنسانية
جابت الجماهير الشوارع ، يلقون البيض الفاسد والبندورة المتعفنة على العلمين ...صفق خطيبها حين جاءت خيول الشام من كافة الأرجاء ، تتلو الوعيد والتهديد .
وقفت سنديانة ، ولم لا أليست هي بحاجة إليه أكثر مما مضى ، وتمنت أن تلقي بجسدها بين ذراعية ، وتصرخ :
- ها أنا حقل خصب فازرع ما تشاء .
نبيه اسكندر الحسن .
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]
كيف ينكشف الزمن
ارتجفت هلعا حين قالت بصوت قوي :
- عدت أيها العاق .
كنت متعبا لاهثا لكن فرحا بالعصافير التي قبضت عليها من الأعشاش .قلت :
- التوبة لن أفعلها ...
انفردت مع ذاتي في موهن من الليل ،أطلقت لروحي العنان ،تذكرت كيف كنت أحبو على صدرها كادت تسبقني الدموع حينما استرجعت حلم الطفولة وفي حلقي ظمأ السنين العجاف ، عركتني الأيَام وأنا في ريعان الشباب فعرفت كيف يكشف الزمن ، كنت مستغرقا في تأملات مبهمة حين غيبني النعاس ، سمعت صدى صوتها المتعب الخفيض :
- إيه ...هل عدت أيها العاق !.
كنت في نشوة آلامي ...صوت أمي كيف أنساه ؟. صوت من لا تتورع عن ولوج أي طريق في سبيل أن تدرأ عني المخاطر ، مازالت عباراتها تجوب خلايا دماغي كنحلة تجني العسل الأشهب ،تعاقبت الأيّام ، وانتحيت طرف الحقل خلسة ،علني أحقق حلمي ، بحثت عن أعشاش العصافير ، تهت في بيداء الحلم حين عثرت على ضالتي ، استقبلتني الكتاكيت بمناقيرها الفاغرة ، تندمج في عالم الطبيعة الصامتة ، تناهى إلى سمعي فحيح بين الهشيم ،التفت شمالا ويمينا ،لاح لناظري أفعوان يدنو من العش ، وثبت إليه قبضت على عنقه بقوة ،لحظتئذ أدركت ما سر حاجة الإنسان للعنف ،بحركة سريعة طوق ساعدي ولطم وجهي بذيله ،هصر ساعدي ، كانت العصافير تنوح فوق رأسي تذكرت أمي :
- عدت أيها ...
هرولت على غير هدى ،استمد من خوفي قوة صرخت :
- أمي ...أمي ...
اقبل والدي بعينين متعبتين :
- أقذف به بعيدا .
جمدت في مكاني ،لا أدري كيف تحرر ساعدي فقذفت الأفعوان على الأرض ، هوى والدي بمجله على رأسه ، رغم شكيمة أمي بلغ الزعر منها مبلغا ،قبضت على أذني وشدة عليها كمن يشد على أذن جدي عنيد :
- أكيد لن تفعلها أيها العاق .
بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن
سوريا حمص – ص – ب – 5121
[email protected]