باقون ما بقي الزعتر والزيتون
في احدى ايام الصيف الحارة عندما كانت الشمس تشع فروعها الحارة على بيوتنا الجميله وعصافير السماء تغرد اجمل اغانيها وغيوم السماء البيضاء تمشي في سمائها كأنها تسبح في بحر صافي، ذهبت مع امي الحنونه الي بيت جدي القديم الذي يطل على احد اكبر شوارع البلده الشارع الذي اتقد بالمراكب والناس على الدوام، ريثما يقودني الشوق للذهاب الى جدي اشعر بان الحياة تبعث في روحي فاحيا من جديد لاني سازور الجد الحكيم في البصيرة الجميل في البصر،فشخصه النبيل يستحوذ على مكانة مرموقة بين ثكنات قلبي وفي سرحات تقديري.
في كل يوم سبتٍ كالمعتادِ كنا نزور بيت جدي القديم بيته الدافء بما ينضح فيه فهو متهلل بجدي وجدتي بسماحهم ولطفهم ونورهم، وصلنا الى هناك وقد سبقنا الاهل والاحبة من الاقارب، كنا نحب اللعب بين اكنافِ البيت في حوضه وزواياه تارةَ نهمهم بالفرحة على الوجوه وتارة نبكي من مضايقات بعضنا لبعض فقد كنا اولادا وبناتا في نفس الجيل، كنا نملئ البيت على كثرتنا فنحن مثل العصافير في رقصها ولعبها وتصفيرها في حضرة الورد.
وفجأه!... ودون سابق انذار صاح جدي متهللاً ينادي علينا، صمتنا نسمع ندائه الصارخ علينا، هل ازعجناه باصواتنا المغردة ماذا يريد جدي منا؟
عمَّ الصمت لبرهة على الجميع ولكن سرعان ما هرعنا نلبي نداء جدي،وصلنا اليه لنرى ماذا يريد فقال لنا اجلسو بجانبي يا احفادي الصغار، لا انسى ذلك اليوم وانا في عمر الورد طفلة في التاسعة من عمرها.
جلس الجميع مترقبا بنظراته الجد الحكيم متبصراً شفاهه الداكنة على ما يصبو للنطق والبوح في حضرتنا، فردد الجد قائلاً: هل اقص عليكم قصة يا صغاري؟ .. رددنا متلهفين نعم، نعم! فرحنا وطربنا لهذه اللحظة الجميلة وهي اول مرةٍ يقص علينا جدي قصة من حكاياه التي لا زالت تطرق في اذاني حتى يومنا هذا فجدي كان اشبه بالحكواتي القديم له اسلوب قصصي رقيق يجعلك تسمع اليه بشبقٍ حتى نهاية القصة، فجدي في سالف العهد كان يحدث ابنائه وبناته بمثل هذه القصص واليوم جاء دورنا نحن الاحفاد لنسمع من حكمه طربين منتشين به وبجمال صفاته واخلاقه ورواياته، فكل احدوثة وحدوتة كانت تمد لنا عبرة لا زلنا نعيش في غمارها الى يومنا هذا..جلسنا نعد الثوان بسرعة ليبدأ جدي في سرد الحكاية،فما كان من جدي الا وان نهض وذهب فصحنا : الي اين يا جدي نريد سماع القصه فقال لنا وهو مبتسم اصبرو تنولوا سوف اعود لن اتأخر .. انتظرنا جدي ونحن غاضبون بسبب تركه لنا فمنا من قال " اوف" تأخر جدي واخر يقول " يلا ازهقنا" نريد سماع القصه، فجدي كان بتصرفه هذا يريد استعلاء الشوق في ارواحنا لسماع القصة، رددت اختي الكبرى: ها هو جدي قد عاد!
واذ به يدخل من بوابة البيت حاملا بين اصابع يديه غصن زيتون .. نظرنا اليه وقلنا ما هذا يا جدي؟ ...هل غيرت رأيك في سرد القصة أوَ تريد غرس هذه الفسيلة عوضا عن مجالستنا ام ماذا؟ هيا يا جدي نريد سماع قصة!! ورددنا جميعاُ: قصة، قصة، قصة، فقال جدي مبتسما: قلت لكم اصبرو هذا الغصن هو الحكاية حكايتي انا وحكايتكم انتم , فجلس كعادته يتلاعب بشعر اختي الصغرى التي جلست في حضنه فغبطتها على ذلك، ونحن جميعا ناظرين اليه منتظرين خروج الدرر في هذه القصة. فبدأ جدي بالحديث: يا اولاد، ان غصن الزيتون هو الحكاية فبه كبر الاجداد حتى هرموا وبه تعلم الاولاد معنى حب الزيت الصافي اتدرون كيف يكون الزيت صافياً؟ اذا اعتنينا بامه الشجرة فرعيناها وسمدّناها وصببنا عليها من الماء العذب صبةَ صبة ..كلنا نظرنا باستغراب الى جدي ولم نفهم ماذا يقصد بحديثه عن الشجرة.
فقال لنا يا احفادي على تلال هذا البلد الجميل الاخضر، نمت اشجار الزيتون الخضراء اشجار السلام والمحبه وبجانبها ُملئت الارض بالزهور الملونه فمنها الاحمر والاخضر والاصفر ألوناً جميله تحمل معاني ساميه وبين هذه المناظر تمشي قطعان الاغنام البيضاء وهي ترعى حقول الافق البعيد فتُكَوّنُ مشاهدا تكون اروع ما تقع عليه العين.
وقال مضيفاً على تلك التلال في يوم الربيع الجميل، بينما كنت ذاهب للاستمتاع بالمناظر الخلابة الموجودة في بلادنا النبيلة، سرت مع نفسي ، واذ بي ارى رجلا غريب عن بلدنا في تلك الحقول لم استغرب وقلت مخاطبا نفسي لعله اراد ان يرى هذا الجمال ومشيت في طريقي ... وفجاة!!! حلت الكارثه!!! لقد رايت ذلك الرجل الغريب يحاول قلع شجرة زيتون خضراء فقلت له صارخا ويحك؟ ماذا تفعل ايها مجنون ؟؟ لم يعد بمستطاعي التحمل ذهبت راكضا اليه وصحت به مرة اخرى: ماذا تفعل ايها الرجل فقال: اريد خلعها !! قلت له لماذا؟ قال: وما شأنك انت اريد خلعها! انها تزعجني فصحت به مرة ثالثة: اتركها ان هذه الشجرة ان كانت لا تستطيع حمي نفسها فانا من سيحميها، وعلت اصواتنا في الجبال رغم ذلك لم يكف عن خلعه لشجرة الزيتون.. فقال جدي يا احفادي لاول مرة اشعر بان النبات يشعر ويتألم فقد احسست بأن الشجرة تطلب النجده مني وتصرخ انقذوني فعندما احستت بذلك صرخت به مرةً رابعة: كفى يكفى ماذا تفعل ؟ الا يوجد لديك مشاعر؟ هذه الشجرة وطننا ورمز فخرنا، ماذا تفعل اياك؟ فصاح بي وقال: أي وطنٍ هذا ان وطنكم ليس هنا!! هذه ارضنا سوف اقتلع كل اشجار الزيتون لكي لا يكون لديكم وطن هنا واصر على خلعها فما كان مني الا ان تهجمت عليه لابعده عنها ،واذا بأهل بلدنا الشرفاء يطلو علينا بعد ان سمعو اصواتنا تعلو في السماء وسالوا ماذا حدث ماذا جرى؟؟ قصصت لهم قصه ذلك الرجل مع الشجرة واذا بهم يصرخون باعلى اصواتهم هذا وطننا وهنا ارضنا ارحل ايها الغريب عنا ارحل نحن باقون هنا رضيت ام ابيت ان هذه الشجرة امنا ورمزنا منها نعيش ونحيا ومنها ناخد الامل فعندما راى الرجل هذا التجمع والاصرار في اعين الرجال، رحل عنا ولم يعد، فرجع كل الناس الى بيتوهم غاضبين قد عرفوا بان ارضهم سوف تسلب منهم .عدت الى بيتنا مع المرحوم والدي الذي كان بين الجموع وقتها، وقال لي بوركت يا ولدي ان وطنك هو امك صنه وحافظ عليه فان ذهب الوطن فانت بلا قدر ولا زمن.
نظر الينا جدي وقال انتهت القصه!!!.
فما كان منا الا ان دموعنا سالت بخفات على خدودنا من شدة الموقف ووقع القصة في نفوسنا، فقال جدي: اعرفتم ماذا قصدت بهذه القصه؟ رفع جدي غصن الزيتون. وقال: هنا نحن باقون يا اولادي، فكما رباني ابي ان احافظ على وطني جاء دوركم لكي تحافظوا على وطنكم فان ذهب وطنكم فقد اصبحتم بلا مأوى ولا مسكن، فان شجرة الزيتون هذه تقهر الاعداء قهرا بزيتها الصافي.
فقالنا له بصوت الواحد : لن نرحل نحن نحب وطننا ونريد ان نبقى فيه وسوف نحافظ عليه فما كان من احد اخوالي الذي استمع الى حكايه جدي الا ان صاح باقون باقون ما بقى الزعتر والزيتون...
اليومَ، اليومَ فهمت معنى هذه القصة التي حدثنا اياها جدي فهمت ان الشعب بلا وطن كالميت بدون كفن...
بقلم: براءة عامر
في احدى ايام الصيف الحارة عندما كانت الشمس تشع فروعها الحارة على بيوتنا الجميله وعصافير السماء تغرد اجمل اغانيها وغيوم السماء البيضاء تمشي في سمائها كأنها تسبح في بحر صافي، ذهبت مع امي الحنونه الي بيت جدي القديم الذي يطل على احد اكبر شوارع البلده الشارع الذي اتقد بالمراكب والناس على الدوام، ريثما يقودني الشوق للذهاب الى جدي اشعر بان الحياة تبعث في روحي فاحيا من جديد لاني سازور الجد الحكيم في البصيرة الجميل في البصر،فشخصه النبيل يستحوذ على مكانة مرموقة بين ثكنات قلبي وفي سرحات تقديري.
في كل يوم سبتٍ كالمعتادِ كنا نزور بيت جدي القديم بيته الدافء بما ينضح فيه فهو متهلل بجدي وجدتي بسماحهم ولطفهم ونورهم، وصلنا الى هناك وقد سبقنا الاهل والاحبة من الاقارب، كنا نحب اللعب بين اكنافِ البيت في حوضه وزواياه تارةَ نهمهم بالفرحة على الوجوه وتارة نبكي من مضايقات بعضنا لبعض فقد كنا اولادا وبناتا في نفس الجيل، كنا نملئ البيت على كثرتنا فنحن مثل العصافير في رقصها ولعبها وتصفيرها في حضرة الورد.
وفجأه!... ودون سابق انذار صاح جدي متهللاً ينادي علينا، صمتنا نسمع ندائه الصارخ علينا، هل ازعجناه باصواتنا المغردة ماذا يريد جدي منا؟
عمَّ الصمت لبرهة على الجميع ولكن سرعان ما هرعنا نلبي نداء جدي،وصلنا اليه لنرى ماذا يريد فقال لنا اجلسو بجانبي يا احفادي الصغار، لا انسى ذلك اليوم وانا في عمر الورد طفلة في التاسعة من عمرها.
جلس الجميع مترقبا بنظراته الجد الحكيم متبصراً شفاهه الداكنة على ما يصبو للنطق والبوح في حضرتنا، فردد الجد قائلاً: هل اقص عليكم قصة يا صغاري؟ .. رددنا متلهفين نعم، نعم! فرحنا وطربنا لهذه اللحظة الجميلة وهي اول مرةٍ يقص علينا جدي قصة من حكاياه التي لا زالت تطرق في اذاني حتى يومنا هذا فجدي كان اشبه بالحكواتي القديم له اسلوب قصصي رقيق يجعلك تسمع اليه بشبقٍ حتى نهاية القصة، فجدي في سالف العهد كان يحدث ابنائه وبناته بمثل هذه القصص واليوم جاء دورنا نحن الاحفاد لنسمع من حكمه طربين منتشين به وبجمال صفاته واخلاقه ورواياته، فكل احدوثة وحدوتة كانت تمد لنا عبرة لا زلنا نعيش في غمارها الى يومنا هذا..جلسنا نعد الثوان بسرعة ليبدأ جدي في سرد الحكاية،فما كان من جدي الا وان نهض وذهب فصحنا : الي اين يا جدي نريد سماع القصه فقال لنا وهو مبتسم اصبرو تنولوا سوف اعود لن اتأخر .. انتظرنا جدي ونحن غاضبون بسبب تركه لنا فمنا من قال " اوف" تأخر جدي واخر يقول " يلا ازهقنا" نريد سماع القصه، فجدي كان بتصرفه هذا يريد استعلاء الشوق في ارواحنا لسماع القصة، رددت اختي الكبرى: ها هو جدي قد عاد!
واذ به يدخل من بوابة البيت حاملا بين اصابع يديه غصن زيتون .. نظرنا اليه وقلنا ما هذا يا جدي؟ ...هل غيرت رأيك في سرد القصة أوَ تريد غرس هذه الفسيلة عوضا عن مجالستنا ام ماذا؟ هيا يا جدي نريد سماع قصة!! ورددنا جميعاُ: قصة، قصة، قصة، فقال جدي مبتسما: قلت لكم اصبرو هذا الغصن هو الحكاية حكايتي انا وحكايتكم انتم , فجلس كعادته يتلاعب بشعر اختي الصغرى التي جلست في حضنه فغبطتها على ذلك، ونحن جميعا ناظرين اليه منتظرين خروج الدرر في هذه القصة. فبدأ جدي بالحديث: يا اولاد، ان غصن الزيتون هو الحكاية فبه كبر الاجداد حتى هرموا وبه تعلم الاولاد معنى حب الزيت الصافي اتدرون كيف يكون الزيت صافياً؟ اذا اعتنينا بامه الشجرة فرعيناها وسمدّناها وصببنا عليها من الماء العذب صبةَ صبة ..كلنا نظرنا باستغراب الى جدي ولم نفهم ماذا يقصد بحديثه عن الشجرة.
فقال لنا يا احفادي على تلال هذا البلد الجميل الاخضر، نمت اشجار الزيتون الخضراء اشجار السلام والمحبه وبجانبها ُملئت الارض بالزهور الملونه فمنها الاحمر والاخضر والاصفر ألوناً جميله تحمل معاني ساميه وبين هذه المناظر تمشي قطعان الاغنام البيضاء وهي ترعى حقول الافق البعيد فتُكَوّنُ مشاهدا تكون اروع ما تقع عليه العين.
وقال مضيفاً على تلك التلال في يوم الربيع الجميل، بينما كنت ذاهب للاستمتاع بالمناظر الخلابة الموجودة في بلادنا النبيلة، سرت مع نفسي ، واذ بي ارى رجلا غريب عن بلدنا في تلك الحقول لم استغرب وقلت مخاطبا نفسي لعله اراد ان يرى هذا الجمال ومشيت في طريقي ... وفجاة!!! حلت الكارثه!!! لقد رايت ذلك الرجل الغريب يحاول قلع شجرة زيتون خضراء فقلت له صارخا ويحك؟ ماذا تفعل ايها مجنون ؟؟ لم يعد بمستطاعي التحمل ذهبت راكضا اليه وصحت به مرة اخرى: ماذا تفعل ايها الرجل فقال: اريد خلعها !! قلت له لماذا؟ قال: وما شأنك انت اريد خلعها! انها تزعجني فصحت به مرة ثالثة: اتركها ان هذه الشجرة ان كانت لا تستطيع حمي نفسها فانا من سيحميها، وعلت اصواتنا في الجبال رغم ذلك لم يكف عن خلعه لشجرة الزيتون.. فقال جدي يا احفادي لاول مرة اشعر بان النبات يشعر ويتألم فقد احسست بأن الشجرة تطلب النجده مني وتصرخ انقذوني فعندما احستت بذلك صرخت به مرةً رابعة: كفى يكفى ماذا تفعل ؟ الا يوجد لديك مشاعر؟ هذه الشجرة وطننا ورمز فخرنا، ماذا تفعل اياك؟ فصاح بي وقال: أي وطنٍ هذا ان وطنكم ليس هنا!! هذه ارضنا سوف اقتلع كل اشجار الزيتون لكي لا يكون لديكم وطن هنا واصر على خلعها فما كان مني الا ان تهجمت عليه لابعده عنها ،واذا بأهل بلدنا الشرفاء يطلو علينا بعد ان سمعو اصواتنا تعلو في السماء وسالوا ماذا حدث ماذا جرى؟؟ قصصت لهم قصه ذلك الرجل مع الشجرة واذا بهم يصرخون باعلى اصواتهم هذا وطننا وهنا ارضنا ارحل ايها الغريب عنا ارحل نحن باقون هنا رضيت ام ابيت ان هذه الشجرة امنا ورمزنا منها نعيش ونحيا ومنها ناخد الامل فعندما راى الرجل هذا التجمع والاصرار في اعين الرجال، رحل عنا ولم يعد، فرجع كل الناس الى بيتوهم غاضبين قد عرفوا بان ارضهم سوف تسلب منهم .عدت الى بيتنا مع المرحوم والدي الذي كان بين الجموع وقتها، وقال لي بوركت يا ولدي ان وطنك هو امك صنه وحافظ عليه فان ذهب الوطن فانت بلا قدر ولا زمن.
نظر الينا جدي وقال انتهت القصه!!!.
فما كان منا الا ان دموعنا سالت بخفات على خدودنا من شدة الموقف ووقع القصة في نفوسنا، فقال جدي: اعرفتم ماذا قصدت بهذه القصه؟ رفع جدي غصن الزيتون. وقال: هنا نحن باقون يا اولادي، فكما رباني ابي ان احافظ على وطني جاء دوركم لكي تحافظوا على وطنكم فان ذهب وطنكم فقد اصبحتم بلا مأوى ولا مسكن، فان شجرة الزيتون هذه تقهر الاعداء قهرا بزيتها الصافي.
فقالنا له بصوت الواحد : لن نرحل نحن نحب وطننا ونريد ان نبقى فيه وسوف نحافظ عليه فما كان من احد اخوالي الذي استمع الى حكايه جدي الا ان صاح باقون باقون ما بقى الزعتر والزيتون...
اليومَ، اليومَ فهمت معنى هذه القصة التي حدثنا اياها جدي فهمت ان الشعب بلا وطن كالميت بدون كفن...
بقلم: براءة عامر