الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

- دراسة - الإعلام ولغة الحضارة بقلم: د . محمد ناصر

تاريخ النشر : 2010-06-09
الإعلام ولغة الحضارة

على الرغم من ارتباط عنصري التفكير والتعبير معا بقوة في عملية التحرير الإعلامي ،فإن هذا لا يعني _ على ما يقول(هوايتهد) _ أن اللغة هي جوهر الفكر وما هيتة . فكيثرا ما تقتصر اللغة عن التعبير عن الأفكار من ناحية وعن العواطف والانفعالات من الناحية الأخرى . ومن هنا لم تكن اللغة اللسانية هي وحدها التي يعرفها الإنسان وإنما هناك لغات أخرى غير كلامية تستخدم أيضا في التحرير الاعلامى . وها نحن أولاء نتحول عن التعرف على الطبيعة الأساسية الإعلام ، من حيث ارتباطه بالتعبير والاتصال ، ونواجه مفهوم الإعلام وما هيته ، قبل أن نتعرف على لغة الحضارة ،.التي تحقق في مجلها إنسانية الإنسان ، في إطار مجتمع كبير ، يصبح فيه الإعلام حامل العملية الاجتماعية ،ويمكن الناس من أن يصبحوا كائنات اجتماعية. والإعلام_ كمصطلح_ يعني : تزويد الناس بالإخبار الصحيحة ، والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة ، التي تساعدهم على تكوين رأى صائب في واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشكلات، بحيث يعتبر هذا الرأي تعبيرا موضوعيا عن عقلية الجماهيروا اتجاهاتها وميولها.
ومعنى ذلك _ كما يقول أستاذنا الدكتور إمام _ إن الغاية الوحيدة من الإعلام هي الإقناع عن طريق المعلومات والحقائق والأرقام والإحصاءات ونحو ذلك . ويقدم ( أوتوجروت) تعريفا للإعلام يقول فيه : ( الإعلام هو التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت) فالإعلام تعبير موضوعي وليس ذاتيا من جانب الإعلامي سواء كان صحفيا أو إذاعيا أو مشتغلا بالسينما والتلفزيون .
كما أن الإعلام لا يعنى الاتصال بكل الناس ، وإنما كما يقول ريفرز وزميلاه _ يمظوى على اختيار الفئات _ الجماعات أو الجماهير الخاصى التي يمكن أن تكون كبيرة تماما من حيث العدد _ داخل الجماهير . وتتلاقى وسائل الإعلام مع الجماهير ، عن طريق عملية اختيار متبادل . وتميل وسائل الإعلام لاختيار جماهير، أساسا، عن طريق المضمون. وتميل الجماهير أيضا إلى الاختيار من بين وساءل الإعلام على أساس المضمون أيضا ، ويمكن أن يختلف الجمهور الذي تجتذبه وسلية إعلام ما ، اختلافا تاما عن الجمهور الذي تجتذبه وسيلة أخرى ، ومع ذلك ، فمن الواضح، أنه قد يوجد الكثير من التداخل بينهما . ويضم التلفزيون من بين عشاقه، كثيرين ممن لم يقلبوا صفحات كتاب أبدا، ناهيك بامتلاكه. وللصحف قراء ، نادرا ما شاهدوا فيلما سينمائيا . والمجلة العادية مثلا ، تستهدف مجموعة من القراء تتصنف ببعض التجانس من بين السكان كافة ، وهم القراء الذين يشتركون في المهنة أو الاهتمام أو الذوق . وإذا كان لفظ ( الإعلام) قد شاع في حضارة العصر ، فإن ذلك لا يعني أن الإعلام فن مستحدث ، وإنما هو كظاهرة اجتماعيه يضرب بجذوره في جميع مراحل تطور معها ، مجددا في وسائله، محققا لأهدافه النابعة من احتياجات الجماعات البشرية ، فلا يزال الرجال والنساء _ كما يقول (شرام) _ يحيون أصدقاءهم في الشارع ، ولكن أصبح من المألوف أيضا أن يوجه زعيم وطني تحياته للسكان جميعا عن طريق الإذاعة . ولا يزال الناس يعتقدون الصفقات ولكن نشأ حول نظام المقايضة القديم إعلام ضخم معقد للشراء والبيع وللإعلان . وإذا كانت الوظيفة هي التي تخلق العضو .. فإن الوظائف الإعلامية هي التي خلقت ما نسميه ( بالأجناس الإعلامية) ، حيث لم تتغير هذه الوظايف على مر القرون فما بين الثقافة القلبية وحضارة العصر ، وإنما _ كما يقول ( شرام )- : برزت مستحدثات وهياكل لتكبير هذه الوظائف ومد نطاقها . نمت ( الكتابة ) حتى يحتفظ المجتمع برصيده من المعرفة فلا يضيع في اعتماده على الاتصالات الشخصية أو على ذاكرة الشيوخ. ونمى فن ( الطباعة ) حتى تضاعف الآلة ما يكتب الإنسان أرخص وأسرع مما يستطيع الإنسان أن يفعل . والدور الذي قامت به ( الكتابة ) و ( الطباعة ) في سبيل البحث عن الحقيقة _ كما يذهب إلى ذلك (فندريس ) _ وهما كما هي الحال في اللغة ، خليط من اختراعات عديدة قد حوكيت وتنوقلت وطبعت بالطابع الاجتماعي _ فالكاتبة قد خلقت أشياء متكلمة ، والطباعة أكثرت من عددها إلى غير ما حد وخلدتها . وهكذا أمكن للفكر أن ينتصر على المكان و الزمان والموت، ولكن كثيرا ما ينتهي التفكير المجرد إلى سراب والى الابتعاد عن الجادة. فالفكر في هذه الحالة يجول في ( عالم غير مخلوق يرجع إلى عهد الإنسان البدائي) عالم الأفكار الذي هو أيضا عالم الألفاظ.
وطورت الآلات فما بعد حتى لا يتقيد ما يمكن أن يراه الإنسان بالمكان أو الزمان ، وبتعبير ( شرام ) : اكتشف المجتمع فما بين أيام القبيلة وعهد الحضارة العصرية ، كيف يشارك في الإعلام وكيف يخزنه متخطيا بذلك المكان والزمان ليصون التاريخ الضياع وليزيدكم المجتمع الفعال من العشرات إلى الملايين .
ليس في الإمكان إذن _ كما يقول ( شرام ) _ أن نتخيل مجتمعا متحضرا عصريا يستخدم نمط التبادل الاعلامى الذي كان يستخدم النوع الذي يستخدمه مجتمع عصري . فلكل مرحلة من مراحل المجتمع مراحله الاتصال المناسبة لها ، وهنا نتلمس العلاقة الوثقى بين الإعلام ولغة الحضارة من خلال استقراء التاريخ الإنساني .
فالإعلام فن حضاري بالضرورة ، يتصل بأسباب الحضارة ، وينتشر أكثر ما ينتشر في المناطق الحضرية ؛فالبيئة القروية أو القبلية المحدودة _ كما يقول الدكتور إمام _ تكتسب فيها المعرفة بالتجربة المباشرة والشخصية ، ولا يحتاج الأمر لاى وسيلة من وسائل الإعلام الحديثة، على النحو الذي تقتضيه طبيعة نمو المجتمع ، وتنوع تخصصاته ، وتعقيد مشكلاته ، حيث يغدو فن الإعلام ضرورة حتمية ، تبعد كل البعد عن الخبرة الفردية المباشرة . ثم لا يلبث هذا المجتمع المتحضر أن تظهر فيه فنون وعلوم وتخصصات بالغة التجريد والتعقيد، فيصبح الإعلام حلا لصياغة المعرفة بطرية عملية واقعية. وهنا يقول الكاتب الأمريكي المشهور ( والترلمان ) : (إن المجتمع الحديث لا يقع في مجال الرؤية المباشرة لأحد ، كما أنه غير مفهوم على الدوام ، وإذا فهمه فريق من الناس فإن فريقا آخر لا يفهمه ) . وهكذا تغدو لغة الإعلام لغة حضارية تسعى للشرح والتفسير والتكامل.
ذلك أن لغة الإعلام واحدة من أهم مذاهب صوغ العالم. فاللغة _ كما يقول ( كندراتوف ) هي وسيلتنا الأساسية لنقل المعلومات في المجتمع البشرى . وهى تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك إذ يمكنها أن تصوغ العالم ، ولذلك لا نبالغ حين نقول إن لغة الإعلام هي التي تصوغ الحضارة أو بمعنى آخر على سبيل المجاز ، وعلى حد تعبير ( كندراتوف ) أيضا أنها بمثابة منشور تحليل الطيف الذي ننظر إلى العالم وحضارته من خلاله .
على أن اللغات المتباينة تعكس العالم الذي حولنا على نحو مختلف، ولذلك يذهب (ورف ) إلى أن المرء يتعلم لغته منذ طفولته المبكرة، حيث يبدأ في إدراك العالم من خلال إطار لغة الأم. ومهما يكن العالم الذي حوله غنيا ومتنوعا فإنه يرى ويدرك إلا تلك الظواهر التي لها مسميات في اللغة. إن لغة إلام تحلل لنا العالم وحضارته وفق طريقتها الخاصة وتفرض علينا جميعا هذا هذا الطراز من التحليل وإدراك العالم. ويقول الألمان ( صوغ العالم في كلمات ) .
وتتلخص فكرة ( ورف) في أن الناس لا يعيشون فقط في نطاق عالم الأشياء الذي يحيط بهم وفى نطاق الحضارة والحياة الاجتماعية، بل يعيشون أيضا في نطاق عالم لغة إلام. وإننا نبنى حضارة عصرنا وفق ( عالم اللغة ). وكل لغة ، على حد تعبيره هو ، تتضمن بالاضافه إلى مفرداتها وجهات نظر وإحكاما مسبقة ضد وجهات منظر أخرى . وليس هذا كل شيء . وإذا تخضع اللغات لأطوار من التغير منها تغيرات تطرأ على العالم الذي يحيط بمتكلمى تلك اللغة . وكي نكون أكثر دقة وتحديدا، فإن العالم يبقى كما هو من الناحية الفيزيائية، ولكنه يصبح عالماً آخر مغايراَ في الوعي البشرى .
ولكن هل هذا الفرض الذي طرحه ( ورف ) فرض صحيح ؟ هل كان صواب حينما قال إن كل لغة لها ميتافيزيقا خاصة بها ؟ هل تؤثر اللغة على التفكير ؟ واضح _ كما يقول ( كندراتوف) أنها تؤثر فعلا ، بيد أنها تؤثر على تكنيك التفكير (أسلوبه ) دون جوهره فجوهر الفكر أنه انعكاس للواقع الموضوعي ..للوقع الحضاري.. و هدف اللغة هو ( التواصل ) أي نقل المعلومات عن الواقع، أي نقل الرسائل. و يذهب علماء النفس إلى أن الطفل يبدأ في إدراك العالم المحيط به حتى من قبل أن يكون هناك أي (تفكير لغوى) يدور في ذهنه. أخيرا وبعد أن يتعلم الطفل الكلام يبدأ في استخدام لغته ليسمى خبرته الحسية المكتسبة بمسميات لغويه . فالأشياء تسبق الكلمات لا العكس . لقد كان ( روف ) محقا حين قال إن اللغة تؤثر على تفكيرنا في ظروف معينة ، ويضيف( كندراتوف ) إلى ذلك أنها تؤثر على نمط التفكير لا جوهره ، وبالتالي فإنها تؤثر على سلوك الناس . ولكن ( روف ) نسى حقيقة أخرى أكثر أهمية وهى أن الفكر يتأثر بالواقع أي يتأثر بالخبرة العملية للبشر أو بالحياة والحضارة . إن الواقع الموضوعي الحضاري والحياة ، فوسائلة هي المضاعفات الكبرى ، كما استطاعت الآلة في الثورة الصناعية أن تضاعف القوة البشرية مع أنواع الطاقات الأخرى ، كذلك تستطيع أجهزة الإعلام الآلية في ثورة الاتصال أن تضاعف الرسائل الإنسانية إلى درجة لم يسمع عنها من قبل . وبين لنا ( شرام ) كيف أن وجود وسائل الاتصال الجماهيرية يحدث فارقا له دلالته في مستوى الإعلام حتى بين أولئك الذين لا يستطيعون قراءة الكلمة المكتوبة والذين لا يتسر لهم الوسائل الإلكترونية . لقد ظل الإعلام طوال تاريخه كله فعالا في محاربة التميز ، على حد تعبير شرام : (فدلالة تنمية الطباعة في القرن الخامس عشر ليست في أنها حولت الثقل الذي ظل قرونا طويلة على الاتصال المنطوق المباشر ، حولته إلى الاتصال البصرى المنسوخ على نطاق واسع _لم تفعل ذلك فحسب ، بل مدت ، وهو الأهم ، نطاق المعرفة فلم تعد مقصورة على حفنة من المحظوظين . وأصبحت أداة الطباعة ما بين يوم وليلة أداة للتغير السياسي والاجتماعي . الثورات التي اندلعت في أوربا وشمال أمريكا ، لولا الطباعة لربما ظلت في طي العدم . والمدارس العامة كان من غير المحتمل ، إن لم تكن مستحيلا ، أن تقوم لها قائمة ، لولا الطباعة . وظهرت في القرن التاسع عشر تطورات جديدة في الاتصال الجماهيري لتقدم الإعلام والمعرفة لجماهير الناس فوق رءوس المحظوظين والخاصة من المتعلمين. الديمقراطية السياسية والفرص الاقتصادية والتعليم العام المجاني والثورة الصناعية والاتصال الجماهيري تشابكت جميعها في نسيج واحد لتحدث تغييرا عظيما في حياة البشر ومجتمعاتهم في قارات عدة .وألان يتحول الثقل نره اخرى بفعل المستحدثات الالكترونية في الاتصال ، نحو الاتصال الذي يستطيع المرء أن يرى فيه ويسمع الموصل . لقد هيأت هذه المستحدثات للدول النامية قنوات ذات طاقات تستطيع بواسطتها أن تصل غلى جماهير أكبر من أن تحصى أون تخاطب الجماهير غير المحظوظة برغم عائق الأمية وان تعلمها مهارات صعبة بأن (تريها كيف تصنع ) وأن تكلمها بفعالية لا تقل عن فعالية الاتصال المباشر. ولأن لوسائل الإعلام هذه القدره الاتصالية الفائقة ، فان العلاقة بينها وبين الحضارة تجسدها اللغة تجسيدا عمليا ، لأنها تعكس بطبيعة الحال حضارة الإنسان .
فالحضارة_كما يقول الدكتور أحمد أبو زيد _ ( لا تنعكس في شيء مثلما تنعكس في الكلام واللغة ، بحيث _يذهب بعض الكتاب إلى القول بان كل ما يظهر في لغة مجتمع من المجتمعات من نقص او قصور هو دليل قاطع على مدى الزمن تنكس في اللغة وتجد تعبيرا لها ، سواء اتخذ ذلك التعبير شكل الكلام العادي أو الكتابة المعروفة أو الرسوم والنقوش التصويرية التي تركها الإنسان المكبر على جدران الكهوف أو حتى في الانجازات الفنية المختلفة من معايريه أو موسيقية أو حركية كالرقص والتمثيل الصامت ، ما دامت كلها تترجم في آخر الأمر إلى ألفاظ وتصورات ومفهومات وما دامت تعتبر عن مشاعرنا وأفكارنا وتنقلها إلى الآخرين .فاللغة حتى في معناها الضيق الدقيق الذي يقتصر على الكلام والكتابة ؛عنصر أساسي في حياة البشر ،إذ بدونها يصعب قيام الحياة الاجتماعية المتماسكة المتكاملة وبالتالي يستحيل قيام الحضارة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من نظم اجتماعية وأنماط ثقافية وقيم أخلاقية ومبادئ ومثل ،بل وحياة مادية ومخترعات ،لأنها هي أداة التفاهم والإعلام اللذين هما أساس التعاون بين أفراد الجماعة. فكثيرون ممن يعيشون في مجتمع تقليدي يرون صفة سحرية في وسائل الإعلام الحديثة عند لقائهم بها لأول مرة .وهم على حق_فهي سحر _ كما قال إفريقي حكيم ( لشرام ) ؛ لأنها (تستطيع أن تأخذ الإنسان إلي تل أعلى مما يكن أن نرى عند الأفق ثم تجعله ينظر فما وراءه). وحتى عند زوال هذه الفتحة السحرية فأنها تستطيع إن تعاون في تحطيم قيود المسافة والعزلة تنقل الناس من المجتمع التقليدي إلى (المجتمع العظيم) حيث تتركز العيون كلها على المستقبل.
وهذا يعني افتراض وجود علاقة قوية بين الإعلام واللغة والحضارة ، ولقد درج الكتاب على الكلام عن ( لغة الحضارة )، وكيف أن حضارة معينة بالذات تجد لها تعبيرا واضحا وصادقا في ألفاظ ومصطلحات اللغة السائدة في المجتمع الذي توجد فيه . فمفردات اللغة والأساليب والتصورات وبناء الجملة والتراكيب اللغوية والتشبيهات والاستعارات وما إلى ذلك في المجتمع الصناعي الحديث الذي يتميز بتعقد نظمه الاجتماعية والاقتصادية وبشعور أعضائه بفرديتهم الذاتية تختلف اختلافا جذريا عن مفردات اللغة وبنائها وأساليبها في المجتمع البدوي القبلي الذي يعيش على الرعي والترحال والذي يرتبط الفرد فيه ارتباطا وثيقا بالجماعة القبلية التي ينتمي إليها بحيث تكاد شخصيته تفنى وتذوب تماما في تلك الجماعة .
ويذهب الدكتور أبو زيد إلى دراسة فكرة تتصل بموضوعنا من قريب ، وهى فكرة ( حضارة اللغة ) ، التي يشير إلى أنها مستعارة من عبارة عارضة وردت في محاضرة للفيلسوف الرياضي الشهير ( ألفردنورت وايتهد ) ونشرها في كتاب بعنوان (أنماط الفكر ). ويذهب الدكتور أبو زيد إلى أن تمة حضارة معينة هي حضارتنا الإنسانية يرتبط وجودها ارتباطا قويا باللغة بحيث يمكن القول إنه لولا وجود هذه اللغة لما قامت هذه الحضارة ، أو لظهرت حضارة أخرى من نوع مختلف عن حضارتنا المعروفة ، فالجنس البشري يمتاز على بقية الكائنات العضوية الحية _ بما فيها القردة العليا التي تعتبر أقرب هذه الكائنات العضوية إلينا _ بالفكر واللغة، وعلى الرغم من انا القردة العليا بالذات تعيش في تجمعات يتميز بعضها بكبر الحجم ، وعلى الرغم من قدرتها على تعلم بعض الحركات محاكاة بعضها ، فإنها تفتقر إلى اللغة والى الحضارة بالمعنى الذي نفهمه من هاتين الكلمتين . وتأسيسا على هذا الفهم ، فان اللغة في النظرية الإعلامية عامل من عوامل الحضارة ، ذلك أنها من أهم خصائص الإنسان ،فاللغة،على حد تعبير الدكتور أبو زيد ،(أداة هامة من أدوات الحضارة وعامل أساسي في نشأتها واستمرارها وتطورها ، وهناك بعض العلماء ألان يحاولون إثبات أن الشعوب التي تتكلم لغات مختلفة تعيش في ( عوالم من الواقع ) مختلفة ، وان اللغات التي يتكلمونها تؤثر بدرجة كبيرة في مدركاتهم الحسية وفى أنماط تفكيرهم ، وإنها بذلك وحسب تعبير(سابير) تكون هي العامل الاساسى في توجيه الحقيقة الاجتماعية أو الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الناس الذين يتكلمون تلك اللغات ، فالناس لا يعيشون في العالم الموضوعي الخارجي وحده كما أنهم لا يعيشون في عالم النشاط الاجتماعي فقط كما يظن الكثيرون من العلماء وإنما هم خاضعون لرحمة اللغة التي يتخذونها أداة أو واسطة للتعبير .فعالم الواقع أو الحقيقة يرتكز إلى حد كبير بطريقة لا شعورية على العادات اللغوية للجماعة ولا يوجد لغتان متشابهتان تشابها كافيا بحيث تعتبران ممثلتين لنفس الحقيقة أو الواقع الاجتماعي ، فالعوالم التي تعيش فيها المجتمعات المختلفة عوالم متمايزة إذن وليست عالما واحدا ألصقت عليه أسماء وعناوين مختلفة .
على أن الإعلام يقوم بدور كبير في تكوين الصور اللغوية، الحضارية، فكلما تحرك المجتمع التقليدي نحو العصرية فهو أيضا يبدأ في الاعتماد على الوسائل الجماهيرية. ونتيجة ذلك _ كما يقول (شرام ) _ إن حصة كبيرة من الاراء فما يتعلق بالأشخاص ذوى الأهمية أو ذوى الخطورة وكذلك بالأشياء، المهم منها وغير المهم ، تجئ بالضرورة عن طريق وسائل الإعلام .فالصحيفة والراديو والمجلة ، وهى تقوم (بدور الديدبان على تل ، يتعين عليها أن تقرر ما تبلغ عنه . علمية الاختبار هذه _أي اختيار من تكتب عنه أو من تسلط الكاميرا عليه أو من تقتطف من أقواله أو ما تسجيل من حوادث_هذه العملية تتحكم يدرجه كبيرة فما يعرفه الناس ويتحدثون عنه.هذا أمر له دلالته بالنسبة للغة الحضارة فهو يعنى أن انتباه الجمهور يمكن أن يظل مركزا على التحضير ، إذ يمكن أن يوجه الاهتمام من حين لحين إلى لفظ جديد أو سلوك حضاري ، أو مصطلح علمي ،أو إلى أسلوب يؤدى إليه التحول العصري . فوسائل الإعلام _ كما يقول (شرام) أيضا _بتوجيهها الانتباه إلى دلالات أو موضوعات من هذا النوع تستطيع أيضا أن تتحكم في بعض الدلالات التي يتم بشأنها الاتصال المتبادل بين الأشخاص .
ذلك أن عملية الاتصال الاعلامى ليست موفقا ساكنا أو جامدا ، وإنما هي عملية دينامكية، بحيث تحتل اللغة في مركب عناصرها الحضارية، مكانا ذا دلالة خاصة ،وهى تؤدى وظيفة ذات دلالة خاصة أيضا ، فهي في حد ذاتها نظام الاعلامى ،وهى (الأداة الرئيسية التي تنتقل بها سائر تلك النظم الأخرى والعادات المكتسبة، كما تتغلغل الألفاظ في الصور ومضموناتها في آن واحد،وتتميز بتركيب خاص بها له قابلية التجرد باعتبار اللغة (صورة) من _الصور . وذلك هو المعنى الواسع للغة، فاللغة بهذا المعنى، هي الوسيلة التي تتقمصها الثقافة فتبقى، وعن طريقها تنتقل. فعملية الإعلام ليست إلا عملية ترامز، فهناك دائما مصدر يرسل الرموز بوسيلة من الوسائل ليستقبلها آخر فيحل رموزها ويفسرها. وفى كثير من الأحيان تصبح الرسالة الإعلامية حرفيا ميتة على الورق ، أو اصواتا لا معنى لها . عندما ينعدم الفهم وتكون الرموز غير مفهومة للمستقبل يحدث ذلك أحيانا عند استخدام لغة مشتركة دون التزام بإطار دلالي حضاري موحد . فلكل جماعة، بل لكل فرد مجموعة عن التصورات والاتجاهات تتحكم في سلوكه وفى نظرته للأشياء. فالإنسان يعيش في عالمين: عالم خارجي موضوعي، وعالم باطني ذاتي هو مجموعة تصوراته للعالم الخارجي، أو مجموعة المفاهيم والدلالات. ولا يستطيع الاعلامى ان ينجح فى تحقيق غرضه _كما يذهب إلى ذلك الدكتور إمام_إلا إذا عرف هذه العوالم الباطنية أو التصورات الخاصة أو الدلالات الحقيقة للأشياء في ذهن المستقبل . ذلك انه لكل فرد عالمه الخاص ،وتصوراته الذاتية ، المشتقة من بيئته وثقافته ، بما فيها وسائل الاتصال المختلفة .
فعند ما يشاهد البدائي طائرة لأول مرة، لا يستطيع إن يدرك كنها أو دلالتها الحقيقة، ولكنه لابد وان يكون لنفسه مدلولا على ضوء خبرته السابقة. وفى حدود إطاره الدلالي ليفسر هذا الشيء الجديد على ضوئه، فهو يحسبها مثلا _طائرا غريبا. والإنسان يميل بطبعه إلى تنظيم المدرك، وخلع المعاني عليها. وفقا لإطاره الدلالي، أو مجموعة خبراته ومدلولاته السابقة. ولا يمكن للإعلامي أن ينجح في أداء مهمته ما لم يعرف حقيقة الأطر الدلالية للجماعات والإفراد. و إذا نظرنا للإعلام نظرة شاملة، وجدنا انه يتغلغل في كيان الحضارة، وتتم عملية الاتصال على مستويات مختلفة من حيث استخدام اللغة والرموز، فالاتصال يتوسل بثلاثة مستويات للتعبير اللغوي: أولها:المستوى التذوقي الجمالي الذي يستعمل في الأدب. وثانيها:المستوى العلمي النظري ويستخدم في العلوم. وثالثها: المستوى الاجتماعي الوظيفي الهادف الذي يستخدمه الإعلام بأجناسه المختلفة.
وهذه المستويات الثلاثة موجودة في كل مجتمع إنساني. والفرق بين المجتمع المتكامل السليم ، والمجتمع المنحل المريض هو في تقارب المستويات اللغوية في الأول ،وتباعدها في الأخر ، على نحو ما يذهب إلى ذلك الدكتور إمام :(فتقارب مستويات التعبير اللغوية دليل على تجانس المجتمع ،وتوازن طبقاته ،وحيوية ثقافيه .ومن ثم إلى تكامله وسلامته العقلية .فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوع من التآلف بين المستويات الثلاثة ،هي غالبا أزهى العصور وأرقاها.أما إذا كان كل مستوى لغوى بعيدا كل البعد عن الآخر ،فهو دليل على الانفصام العقلي في المجتمع وهذا يؤدى إلى التدهور والانحطاط ،والشيخوخة والانحلال ). و يذهب الدكتور إمام، ونحن نذهب مذهبه، إلى أن لغتنا العربية في ميادين الحضارة الحديثة بعلومها المختلفة.ولكي تساير اللغة العربية الحضارة الحديثة لابد أن تعبر عن الفكر الحديث ، وهى قادرة على ذلك بدليل تلك الكتب العلمية العديدة التي أخرجها الاتحاد السوفيتي السابق ، وعبر فيها باللغة العربية عن العلوم الذرة والفضاء والصواريخ فضلا عن الطب والهندسة والفنون .وتبعة ذلك تقع على وسائل الإعلام بالدرجة الأولى ، لأن لغتها في مستواها العملي الاجتماعي هي لغة الحضارة .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف