دويٌّ قويٌّ هزّ المكان من حولها فاهتزّ جسدُها النّحيفُ فزعاً، لكنّها لم تتوقف عن الرّكض.
كان يسبقها ببضع خطوات مُندفعاً بقامته العالية والعرقُ يقطُرُ من جبينه، حاملاً بندقيّته بين يديه. و بين الفينة و الأخرى كان ينظُرُ خلفهُ ليَحُثّها على الإسراع. أمّا هي فلم تَكُنْ تنظرُ خلفها، إذ لا شيء خلفها سوى غُبارٌ كثيفٌ مُختلطٌ بأشكال بشعة من الدُّخان و الرُّكام.
كانت ُتسرعُ في صمتٍ دون أن تصرف عينيها عنهُ. لا شيء يدورُ في خلدها. كانت فقط تنظُرُ إلى بزّتهُ العسكريّة و قد بللّها العرقُ و إلى ذيلِ كوفيّته المُلتفّ حول عنقه العريض.
أمّا هو فلابُدّ أنّه كان يُفكّرُ بأمور كثيرة. كانت ترى ذلك في عينيه الواسعتين البراّقتين كلّما استدار نحوها ليُشجّعها على الرّكض أسرعَ.
كانت دائماً تتفطّنُ لانغماسه في التّفكير بمُجرّد النّظر في غابة عينيهِ عندما يعودُ إلى البيتِ مساءً و يبتسمُ و هو يُقبّلُ جبينها أو عندما تَمُدّه بفنجان القهوة، كانت تعلمُ أنّ أشياء عديدة تشغلهُ.
لا زال الدوّي يُزمجر باستمرارٍ، يُكسّر صمت الشّوارع و يقطعُ هدوء الأهالي. كانت خائفة و كانت أصواتُ الانفجارات القريبة أو الآتية من بعيدٍ تزيدُ من هلعها، ولكنّها كانت لا تزالُ تركضُ في صمتٍ بينما دقّاتُ قلبها تتسارعُ و أنفاسُها السّاخنة تتصاعدُ.
كانت المنطقة من حولها تحترقُ.
**
صوتٌ ما كان يقتربُ. هديرٌ هائلٌ يهجمُ عليهما في سُرعةٍ غريبةٍ. لم تَمُرّ سوى بضعُ ثوانٍ إلاّ و قد غرق كلّ شيءٍ في الظّلام.
كيفَ تحوّلَ ضوءُ النّهارِ الرّاقص على مسرح الإنفجارات إلى ليلٍ شديدِ الحلكةِ بهذه السُّرعة؟ لم يقبل عَقلُها هذا التّغيّر اللّامعقول في الزّمانِ.
ماذا جرى يا إلهي؟
كانت الأسئلةُ تطرُقُ فكرها طرقاً عنيفاً مُلحّاً.
ثُمّ إنّها لم تجدْ معنى لشعورها بثقلِ جسمها و الطّنين الهادر في أذنيها و الغُبار الكثيف الذّي يُعبّئ رئتيها.
**
أخذ الطّنين المزعجُ يتلاشى شيئاً فشيئاً كما أخذ الضّوءُ يتسلّل إلى عينيها خطوة خطوةً.
جمعت كلّ ما تبقّى لها من قوّة و نهضت و هي تنفض الغبار عن شعرها و ثيابها. شعرت بالألم ينتشرُ في كامل بدنها. كانت جبهتها تقطرُ دماً و رأت تلكَ الحُبيبات الحمراء الفاقعة تتسابقُ نحو الأرض و تختلطُ بالتراب.
يابااا !أخذت تحومُ في المكان و تــُنادي بصوتها المُرتعش : يابا
لم يُجبها أحدٌ سوى أصوات الإنفجارات المُرعبة.
ظلّت تنادي و تبحث بين الرُّكام و الدّموعُ تملأُ عينيها. و فجأة توقّفت. توقّف مهرجانُ النّيران النّازلة من السّماء. توقّف رقص الحرائق على الأرض. توقّف تدافع أشكال الدّخان المتصاعد. توقّفَ كلُّ شيء. حتّى أنّه خيّل إليها أنّ الكرة الأرضيّة قد توقّفت عن الدّوران.
شعرت بخمول يغزو قدميها و لم تعدْ تقدر على الوقوف، فسقطت. ثمّ أخذت تزحفُ لاهثة و عيناها ثابتتان.
كانت قد عثرت على ضالّتها. كانت قد وجدت ذيل كوفيّته. لكّن ذيل الكوفيّة كان قد تغير لونُه واصطبغ بالأحمر.
رفعت رأسهُ بيديها الصّغيرتين المُرتجفتين و وضعتهُ على رُكبتيها. و عندما رأت انّهُ لا يُحرّكُ ساكناً و أنّ خيطاً سميكاً من الدّم يسيلُ من فمه، و عندما أحسّت أنّ رأسهُ ثقيلةٌ...ثقيلةُ جداًّ، همّت بالصّراخ...
**
صُراخٌ مدوّ هزّ مسمعها. فتحت عينيها في سرعة مريعة لتجد نفسها في غُرفتها. قفزت من سريرها و قفصها الصّدري يكاد ينفجر من شدّة تسارع دقّات قلبها. أسرعت نحو مصدر هذا الصّياح المُخيف الذّي كان يعلو و يزداد حدّة.
و أمام جهاز التّلفاز كانت أمّها تلطم و تنتحبُ. تقدّمت في خطوات ثقيلة و هي لا تكادُ تصدّق ما يجري. و على الشّاشة رأت أكواماً من أشلاء و شظايا. ثمّ رأت وجها تعرفهُ جيّداً. رأت جبهة عريضة تحفظ كلّ تجاعيدها. رأت عينين لطالما قرأت فيهما أسراراً و حكايات عديدة. رأت البزّة العسكريّة والكوفيّة غارقتين في بحر من الدّماء.
**
و قبل أن تفتح عينيها. و قبل أن تتراقص حولها تلك الخيالات البيضاء. و قبل أن ينحسر ذلك الظلام المطبق. و قبل أن تشعر أنها تخرج من تلك البئر حيثُ كان يتسلّلُ إلى مسمعها صوتُ يتكرّر في انتظام دقيق كدقّات قلبها و تتسلّل إلى أنفها تلك الرّائحة الحادّة التّي تُميّز المستشفيات. قبل كلّ ذلك، كان صوتهُ الشجيّ الذّي طالما أحبّت الاستماع إليه يردّدُ في هدوءٍ و عزم أغنيتها المفضلّة منذ صغرها:
يمشي على الجمر شبل
طفل و لكن مقاتل
و حين يتعبُ يعلو
صوتُ الفداء فيواصل
...
كان يسبقها ببضع خطوات مُندفعاً بقامته العالية والعرقُ يقطُرُ من جبينه، حاملاً بندقيّته بين يديه. و بين الفينة و الأخرى كان ينظُرُ خلفهُ ليَحُثّها على الإسراع. أمّا هي فلم تَكُنْ تنظرُ خلفها، إذ لا شيء خلفها سوى غُبارٌ كثيفٌ مُختلطٌ بأشكال بشعة من الدُّخان و الرُّكام.
كانت ُتسرعُ في صمتٍ دون أن تصرف عينيها عنهُ. لا شيء يدورُ في خلدها. كانت فقط تنظُرُ إلى بزّتهُ العسكريّة و قد بللّها العرقُ و إلى ذيلِ كوفيّته المُلتفّ حول عنقه العريض.
أمّا هو فلابُدّ أنّه كان يُفكّرُ بأمور كثيرة. كانت ترى ذلك في عينيه الواسعتين البراّقتين كلّما استدار نحوها ليُشجّعها على الرّكض أسرعَ.
كانت دائماً تتفطّنُ لانغماسه في التّفكير بمُجرّد النّظر في غابة عينيهِ عندما يعودُ إلى البيتِ مساءً و يبتسمُ و هو يُقبّلُ جبينها أو عندما تَمُدّه بفنجان القهوة، كانت تعلمُ أنّ أشياء عديدة تشغلهُ.
لا زال الدوّي يُزمجر باستمرارٍ، يُكسّر صمت الشّوارع و يقطعُ هدوء الأهالي. كانت خائفة و كانت أصواتُ الانفجارات القريبة أو الآتية من بعيدٍ تزيدُ من هلعها، ولكنّها كانت لا تزالُ تركضُ في صمتٍ بينما دقّاتُ قلبها تتسارعُ و أنفاسُها السّاخنة تتصاعدُ.
كانت المنطقة من حولها تحترقُ.
**
صوتٌ ما كان يقتربُ. هديرٌ هائلٌ يهجمُ عليهما في سُرعةٍ غريبةٍ. لم تَمُرّ سوى بضعُ ثوانٍ إلاّ و قد غرق كلّ شيءٍ في الظّلام.
كيفَ تحوّلَ ضوءُ النّهارِ الرّاقص على مسرح الإنفجارات إلى ليلٍ شديدِ الحلكةِ بهذه السُّرعة؟ لم يقبل عَقلُها هذا التّغيّر اللّامعقول في الزّمانِ.
ماذا جرى يا إلهي؟
كانت الأسئلةُ تطرُقُ فكرها طرقاً عنيفاً مُلحّاً.
ثُمّ إنّها لم تجدْ معنى لشعورها بثقلِ جسمها و الطّنين الهادر في أذنيها و الغُبار الكثيف الذّي يُعبّئ رئتيها.
**
أخذ الطّنين المزعجُ يتلاشى شيئاً فشيئاً كما أخذ الضّوءُ يتسلّل إلى عينيها خطوة خطوةً.
جمعت كلّ ما تبقّى لها من قوّة و نهضت و هي تنفض الغبار عن شعرها و ثيابها. شعرت بالألم ينتشرُ في كامل بدنها. كانت جبهتها تقطرُ دماً و رأت تلكَ الحُبيبات الحمراء الفاقعة تتسابقُ نحو الأرض و تختلطُ بالتراب.
يابااا !أخذت تحومُ في المكان و تــُنادي بصوتها المُرتعش : يابا
لم يُجبها أحدٌ سوى أصوات الإنفجارات المُرعبة.
ظلّت تنادي و تبحث بين الرُّكام و الدّموعُ تملأُ عينيها. و فجأة توقّفت. توقّف مهرجانُ النّيران النّازلة من السّماء. توقّف رقص الحرائق على الأرض. توقّف تدافع أشكال الدّخان المتصاعد. توقّفَ كلُّ شيء. حتّى أنّه خيّل إليها أنّ الكرة الأرضيّة قد توقّفت عن الدّوران.
شعرت بخمول يغزو قدميها و لم تعدْ تقدر على الوقوف، فسقطت. ثمّ أخذت تزحفُ لاهثة و عيناها ثابتتان.
كانت قد عثرت على ضالّتها. كانت قد وجدت ذيل كوفيّته. لكّن ذيل الكوفيّة كان قد تغير لونُه واصطبغ بالأحمر.
رفعت رأسهُ بيديها الصّغيرتين المُرتجفتين و وضعتهُ على رُكبتيها. و عندما رأت انّهُ لا يُحرّكُ ساكناً و أنّ خيطاً سميكاً من الدّم يسيلُ من فمه، و عندما أحسّت أنّ رأسهُ ثقيلةٌ...ثقيلةُ جداًّ، همّت بالصّراخ...
**
صُراخٌ مدوّ هزّ مسمعها. فتحت عينيها في سرعة مريعة لتجد نفسها في غُرفتها. قفزت من سريرها و قفصها الصّدري يكاد ينفجر من شدّة تسارع دقّات قلبها. أسرعت نحو مصدر هذا الصّياح المُخيف الذّي كان يعلو و يزداد حدّة.
و أمام جهاز التّلفاز كانت أمّها تلطم و تنتحبُ. تقدّمت في خطوات ثقيلة و هي لا تكادُ تصدّق ما يجري. و على الشّاشة رأت أكواماً من أشلاء و شظايا. ثمّ رأت وجها تعرفهُ جيّداً. رأت جبهة عريضة تحفظ كلّ تجاعيدها. رأت عينين لطالما قرأت فيهما أسراراً و حكايات عديدة. رأت البزّة العسكريّة والكوفيّة غارقتين في بحر من الدّماء.
**
و قبل أن تفتح عينيها. و قبل أن تتراقص حولها تلك الخيالات البيضاء. و قبل أن ينحسر ذلك الظلام المطبق. و قبل أن تشعر أنها تخرج من تلك البئر حيثُ كان يتسلّلُ إلى مسمعها صوتُ يتكرّر في انتظام دقيق كدقّات قلبها و تتسلّل إلى أنفها تلك الرّائحة الحادّة التّي تُميّز المستشفيات. قبل كلّ ذلك، كان صوتهُ الشجيّ الذّي طالما أحبّت الاستماع إليه يردّدُ في هدوءٍ و عزم أغنيتها المفضلّة منذ صغرها:
يمشي على الجمر شبل
طفل و لكن مقاتل
و حين يتعبُ يعلو
صوتُ الفداء فيواصل
...