الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

اكمالية هوية يهودية لم ولن تكتمل بقلم: محمد يوسف جبارين

تاريخ النشر : 2010-06-07
اكمالية هوية يهودية لم  ولن تكتمل بقلم: محمد يوسف جبارين
اكمالية هوية يهودية لم ولن تكتمل

بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين

مع ظهور الهوية اليهودية بالتاريخ التوراتي ، على مسرح السياسة والجغرافية ، بدت تساؤلات التاريخ التوراتي عن دلالاته في المخزون المعرفي للأرض ، فهي بحكم سيرورته في النص التوراتي لا بد موجودة وتدل عليه ، فأين هي ، فهذا ما استدعى بحثا مستفيضا عن موروثات آباء وأجداد ، تطل بهيئتها من داخل النص وتتساءل ، وتود أن ترى دلالاتها .
كانت تلك عملية تاريخية فارقة في مجرى السيرورة ، وذلك منذ اندمجت الهوية اليهودية في فكرة استعمارية استيطانية ، تقضي بأن يتم تجسيد هذه الهوية في دولة لليهود في أرض فلسطين ، فمن هذا الوقت
شرعت الصهيونية في حربها على العروبة والاسلام ، ولم تكن فكرة الاقتلاع لشعب فلسطين من مكانه ليحل في محله اليهود تكفي الهوية اليهودية تجسيدا في الواقع العملي ، وانما كان لا بد للتاريخ التوراتي الذي أطل من داخل سيرورة الغزو أن يتبين دلالاته في الواقع ، فكان البحث في المخزون المعرفي للأرض ، عن دلالات وشواهد من ماض يتم بها اسناد التاريخ التوراتي بما هو عليه ، فهذه ضرورة اكمالية لهوية يهودية ، وتاريخ توراتي ، فمن دونها يظل هذا التاريخ في رتبة الشك ، ما يزعزع الهوية في ما هي عليه ، وفيما تسعى اليه من تشكل وتجدد ، فتبدى الهيكل بما هو عليه من توصيف في التوراة ، وبما يلح عليه في الوعي الديني اليهودي من اعادة هيكلته في الوقع العملي ، كدرة التاج في هيكل الهوية اليهودية ، فباقامة الهيكل تتكامل للهوية اليهودية مطابقة واقع للنص التوراتي ، فاحتلال القدس ونفي العروبة والاسلام منها ، ضرورة الضرورات ، وسيطرة على الحرم الابراهيمي في الخليل ، وكل ما يقول به التاريخ التوراتي من صلة ليهود به ، هو بعينه ما يوفر للمرويات التوراتية محورها الذي تبدأ بالدوران حوله ، في عملية تهدف الى انتاج دلالات عليها ، فمرويات بلا دلالات وبلا زمان ، يعاد انتاج دلالاتها وزمانها ، ما يعني اعادة التأسيس لتاريخ توراتي ودين يهودي ، فعلى ذلك اقامة الهيكل في مكان المسجد الأقصى ، هي مسألة فارقة تتمحور حولها اكمالية هوية يهودية ناقصة ، ويراد لها أن تتكامل ، فيتصل في ذاتها ماضيها مع حاضرها ، ليؤثثان معا لمستقبلها .
ولم يغب عن اليهود بأن الاسراء والمعراج ، والمسجد الأقصى ، كلمة في القرآن الكريم ، آية كريمة ، هوية لا يقوم ايمان بلاها ، والحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، املاء ايمان ، وأسوار القدس تنطق بعروبتها واسلامها عبر الزمان ، فهي كتابة تاريخ ، من أجادوا صنعة التاريخ من العرب والمسلمين .
فالتفكير في اقامة هيكل عبادة ليهود مكان المسجد الأقصى ، أو على مساحة منه ، انما هو التفكير في نفي هوية اسلامية وعربية ، بل هو التفكير اليهودي في نفي الدين الاسلامي ، من كونه دينا ، فكل ما يعنيه أي نشاط عملي هادف الى بلورة هذا التفكير في فكرة ، وآليات تقوم على تجسيدها ، انما هو التأثيث لهدم مرتكز ايماني مركزي في دين الاسلام ، لا يصح ايمان ولا اسلام من دونه ، فالاعتراف في جواز الفكرة وتجسيدها كفر صريح ، وخروج من ملة الاسلام ، بل كفر وشروع بالعدوان .
فعلى ذلك التناقض الذي أنتجته الصهيونية ، في سيرها نحو تشكيل الهوية اليهودية في الجغرافية السياسية ، قد أفصح عن صراع وجود وأبعد من ذلك ، فالاقتلاع لم يتحدد بنفي شعب وفقط ، وانما المعنى تناهي في متغيراته التي يتشكل بها الى التاريخ والثقافة واللغة والدين ، فالى الهوية ، ذلك بأن آليات التشكل كما تعيها الصهيونية وتدأب على توظيفها ، انما تنشيء صراعا يستهدف الهوية الاسلامية والعربية ، في الجانب الذي لا تتأتى فيه اكمالية لهوية يهودية بغير الهدم في الهوية العربية الاسلامية .
فما حقيقة هذا التناقض ؟ ، وما سيرورة تشكله ؟ ، وهل ثمة صلة لتاريخ توراتي بمخزون معرفي في المنطقة العربية كلها ؟ ، وكيف كانت صلة المثقف العربي والمسلم بالتاريخ التوراتي ؟ ، وما هي مخاطر هذه الصلة ؟، وألم يكن عدل عمر بن الخطاب كافيا دليلا على بطلان كل قول ليهود بصلة لهم بالقدس ؟ ، وكيف هي سيرورة التهافت على اكمالية هوية يهودية ناقصة ، وماذا تشكله من مخاطر على الهوية الاسلامية العربية ، وكيف يتم انتاج تاريخ شائه في مجرى التشكل لاكمالية هوية يهودية ، لا تقر بما يفصح عنه علم الآثار ، من نفي لتاريخ توراتي تقول به ؟ .
فهذه أسئلة سياق المعرفة التي سوف نحاول أن نجليها ، بتناول يبدأ في الاقتراب من سيرورة الفكرة الاستعمارية ، ويتدرج مع تدرجها في سعيها الى اكمالية هوية يهودية ، بتهيئة ظروف التشكل في الجغرافية ، وفي كل ما له صلة بمخزون معرفي في الأرض ، يراد له أن يدل على ما ليس هو عليه .

ولعل نظرة شاملة الى يهود العالم اليوم تلفت الانتباه بكل سؤال عن أصلهم ، وعن تعدادهم في مراحل سابقة من التاريخ ، فمن أين جاءوا ، ما الأعراق التي انحدروا منها ، ومن أي أمم في الأرض هم ، فمن منهم في أصله يحال على احتمال كونه من العرب أو من سكان هذه الأرض العربية ، وهذه مسألة على جدارتها بالبحث ، فانها ليست محتاجة الى كثير من حوار ، او من فصاحة فكر ، لكي ينتبه العقل الى أنه على ثقافة الحصن التي مازت اليهود بصورة عامة عبر التاريخ ، فانه بالامكان الاشارة الى خلاف ذلك ، فيما يتصل ببعض من يهود قاموا بدعوة غيرهم الى دينهم ، متجاوزين بذلك اشتراط كون الأم يهودية لكي يكون الابن يهوديا ، فنهجوا نهجا تماما كما هو الحال مع المسيحية أو الزردشتية ، أو البوذية ، وبالفعل فان دعوة كهذه أدت الى دخول العديد في ديانة يهود ، وقد حصل هذا بعيدا عن الانغلاق على يهودية منبثقة من رحم يهودية ، وفي هذا الجانب يلتفت كثيرون الى ما تدعى بلاد الخزر( وهي اليوم بلاد اسلامية ) ، في زمن من الأزمان الغابرة ، ويرون بأن دعوة كتلك قد أسفرت عن كثيرين أستحالوا يهودا ، وبأن هؤلاء انتشروا في زمن لاحق في بلاد متعددة من دول مثل روسيا وبولونيا وغيرها ، وبأن هؤلاء ومن يماثلهم في العروق المختلفة في تلك الدول ( التي لا صلة لها بفلسطين ولا سوريا ولا حتى الجزيرة العربية ، ولم يكن لها صلة كتلك في زمن من الأزمان ، فلا أب ولا جد ولا أم لأي من هؤلاء يمكن القول بأنه عاش في بلاد العرب لحظة من حياته ) ، فهم وأمثالهم من الأوروبيين ، قد وجد لهم نابليون فكرة لربما قد حلت في وعيه محل الفكرة الصليبية ، وشكلت في تصوره ساترا لها ، فتجد الفكرة الصليبية ما تريد ، ومن دون أن يستغرقها ذلك صداما مباشرا في خلال حملات صليبية ، فهي في حكم التاريخ قد نالت الفشل على أي وجه كانت عليه ، فكل حملة تليها عودة الى نقطة بدايتها ، وبفارق هو أن البداية التالية تقوم على خلفية أكثر مأساوية من التي سبقتها ، والفكرة تحقق استيطانا دائما يتم به استبعاد الحس بأن جغرافية كان فيها المسيح تحت سيطرة اسلامية ، فهي فكرة الغزو مضافا اليها البقاء في الأرض ، واستكمال هوية بسيطرة على جغرافية تتجلى في فكر الغزو ، بأنها بعض ضرورات سيطرة لهوية بابوية مسيحية أوروبية ، فهي فكرة استعمارية استيطانية ، يتم بها أيضا فصل البر السوري عن البر المصري ، أو لنقل فصل الشمال عن الجنوب ، فلا يكون بتجسيد لهكذا فكرة أي امتداد لبر العرب في الجنوب مع بر العرب في الشمال ، وهذا الطعن بالخنجر في الجسد العربي ، انما هو المستقى الاستراتيجيي من الدروس المستفادة من الحروب الصليبية في مستوى صراع القوى ، فوحدة بر العرب لعبت دورا بارزا في اجتماع العرب والمسلمين ، وتحقيق هزيمة منكرة ألحقوها بمن ناهزهم سيادتهم على أرضهم ، وليس هذا وحده وانما تمزيق الجغرافية السياسية ، بكيانات تسهل السيطرة عليها أو التفريق بينها ، فلا تكون هناك وحدة كلمة ، ولا وحدة ، فتبدو الجغرافية وكأنها مسرح في رتبة من ضعف ، ولا بد من انتاج ديموميته بردع ، بعدوان يستبقيه ، فهو ضرورة استبعاد وحدة الكلمة وضرورة استبعاد الوحدة التي فيما لو تحققت لاستحالت الفكرة الاستعمارية الى ما استحالت اليه من قبل ، الى نهاية مأساوية تنتهي اليها الفكرة الاستعمارية كما كانت نهايات من سبقتها الى الوجود ، ولا يغيب عن البال حال دول الطوائف في الأندلس ، وما كانوا عليه من صراعات ، ونزوع الى الاستعانة بالأجنبي على العربي ، وما أبقته في الذاكرة الاستعمارية من درس استراتيجي تم الانتفاع به في الهجمة الاستعمارية على المنطقة العربية .
وهذه هي مكونات الفكرة الاستعمارية لعدوان يستطيل في الزمان على أمة العرب والاسلام ، وليس ثمة وجه غرابة بأن تكون نشأتها في فكر استعماري أوروبي ، لتتم سقايتها ، ليهود أوروبيين ، ارتضوها وأعطوا عمرهم لها ، وذلك لكونها تجلت في وعيهم بأنها وحدها التي سوف تحقق نقلة فريدة من نوعها في تاريخ اليهود ، فهي التي سوف تنقلهم من مجرد فئات أو أقليات في دول شتى الى كيان سياسي في جغرافية ، فيتحولون الى شعب له مهابته بين شعوب العالم ، وبما لاحت به الفكرة في بداياتها ، فانها لم ترق لكثيرين من اليهود ، فلقد اختار هؤلاء اشهار العداء لأمة العرب والمسلمين ، الذين عاش اليهود بينهم حياة كريمة ، وعلاقاتهم بهم انما كانت علاقات طيبة ارتقت في مجملها الى مرتبة علاقة بين جيران ، أشبه ما يكونون باخوة ، ويكفي هنا ذكر حماية العرب لليهود في الاندلس وكيف أن العرب حال دخولهم الأندلس قاموا بتسليم ادارت عدة مدن لليهود ، ولا مفر من لفت الانتباه الى مظاهرات أهل السنة ، في مصر ابان الدولة الفاطمية ، مطالبين بأن تعاملهم الدولة ، ليس بأقل من معاملتها لليهود ، ولم تزل حياة يهود في سوريا والمغرب دالة حقيقة العلاقة بين العرب واليهود ، وبأن الفكرة الاستعمارية لم تقدر أن تطال من انتماء كثيرين من اليهود الى أوطانهم حيث هم ، ولا من متانة رباطهم بجيران عاشوا ومازالوا واياهم بأحسن حال .

ولكنها الفكرة الاستعمارية المليئة بكل عداء للعرب ، راحت تتدحرج وتتنامى في ظروف من مد استعماري ترافق ما تقدم صناعي هائل ، خرجت به أوروبا باحثة عن المواد الخام والثروات في أفريقيا وغيرها ، وهي الظروف التي شكلت العقلية الامبريالية ، فقهر شعوب و,ابادة بشر ، وبيع وشراء بالبشر ، وبحث عن الثروات ونهبها ، واستيطان في خدمة المشروع الاستعماري ، فهكذا الحرب والقتل واحتلال الأرض ونهب ما فيها وعليها ، استحالت الى مكونات عقلية يغذيها الفكر وتشجع عليها الظروف ، وفي هكذا ظروف نشأت الصهيونية ، وسعت كفكرة استعمارية ، تحت ظلال استعمارية نحو تجسيد فكرة استعمارية لها غاياتها التي ارتسمت لها ، من قبل أن تكون هناك الحركة الصهيونية .
وقامت دولة اسرائيل بتضافر القدرة الاستعمارية والضعف العربي والاسلامي ، فكلاهما اجتمعا معا ، البطش الاستعماري والوهن العربي ، في تشكيل سيطرة أجنبية على أرض فلسطين تحمل اسم اسرائيل ، ومنذ قيام هذه الدولة ، وهي تعمل على مضاعفة قدرتها ، على كل صعيد ، مستفيدة من كل مدد أجنبي ، يرى فيها عنصر قوة في استراتيجيه أمنه القومي ، ومنذ بدء المشروع الاستعماري هذا ، والاستشراق في جانب واسع منه ، في خدمة الغزو الاستعماري ، فغزو ثقافي ، وتشويه للوعي بالتاريخ ، وانتقاص من قيمة ما يدعى حضارة عربية أو اسلامية ، فحتى القرآن الكريم والرسول الكريم ، والصحابة ، جميعا قد تم اطلاق الرصاص عليهم ، فالغزو الاستعماري سعى الى تفكيك كل ما له صلة بهذه الأمة ، وذلك من باب البحث عن سيطرة على العقل باحتلاله كما هو احتلال الأرض التي أريد لها أن تتمزق .. لتتمزق بكياناتها الصغيرة أمة بحالها .
ولقد ركن الغزاة الى ضعف الأمة ، في مستوى انتاج قدرات تتصدى بها ، وانتفعوا بالجهل والأمية التي أطبقت على المنطقة العربية بسبب من الناس ، ومن جهل الادارة التي تسمت باسلامية ، وهي لاتهتم بشيء اسمه الفعل الأول في القرآن (اقرأ) ، فقد نهض من داخل الغزو من يطعن بالهوية العربية والاسلامية ، ولا يهمه من ذلك سوى ما يمليه عليه الاندراج في خدمة مشروع استعماري يتم تنفيذه ، فالهجمة الاستعمارية أو الصليبية ، طالت كل ما أمكنها ، من أجل تحطيمه ، ولم يكن هناك حرمة لأي شيء ، فبدءا بسفك الدماء ، الى التشكيك في الهوية والهجوم على كل مرتكز لها وبكل وسيلة ، فكان الذبح في رقاب العرب والفلسطينيين خاصة ، وذلك من أجل تشريدهم من قراهم ومن مدنهم ، تفريغا للمكان ، لاحلال من لم يكن لهم يوما جد في المكان ، في محلهم ، وقامت الصهيونية بمذبحة ثقافية رهيبة ، اذ أبادت الكتب والوثائق والمخطوطات ، وكل ما أمكنها وبدا لها بأنه يدلل على عروبة الأرض ، وعلى شعب فلسطين ، وعلى تاريخ الأرض العربي الاسلامي ، ولم تترك تراثا دالا على بطلان مقولاتها وأمكنها ابادته الا وفعلت ، فهو الغزو الذي استهدف الأرض والدين الاسلامي واللغة العربية والتاريخ والتراث والوجود برمته ، وانه الاقتلاع الذي سعى ولم يزل الى خلع الوجود من جذوره ، وقد ترافق ذلك مع عملية نبش للتراب بكليته بحثا عن ما يؤيد الرواية التوراتية ، التي هي في ذهن الغزاة ، بمثابة المصدر للتاريخ الصواب ، لكن الأرض لم تنطق الا بما بين يديها وفي بطونها ، ولا يمكن استنطاقها بما لم تعرف له صفة أو وجودا ، فالرومان جاءوا غزاة ، وبسطوا سيطرة لهم ، وأقاموا أبنية ومدرجات ، وجاء زمن وأفاق العرب من بؤسهم وهبوا الى بناء صرح حقوقهم وخلعوا الروم من أرضهم ، ولكنهم مع ذلك حافظوا على ما يمكنه الى الآن أن يدل على أن هؤلاء الغزاة مروا وعبروا من هنا ، فهناك المدرج الروماني ، وهنا ، وهناك شواهد على تاريخ ومقدرة على انتاج ما يتسمى تراثا دالا على وجود كان في مكان ما ، بصرف النظر كان هذا الوجود موجودا بحق أم بغير حق ، فلم يحصل أن أزال العرب والمسلمون آثارا دالة على تاريخ ، حتى ولو كانت تلك الآثار دالة وجود على ألد أعدائهم ، وحتى ولو كان أولئك كفارا ، وكانت تلك الآثار دالة كفر ، فلقد حافظ المسلمون عليها كتراث مخلوقات مرت وعبرت من هنا في زمان مضى ، فأين هي الدلالات على التاريخ التوراتي وأين هو التراث اليهودي ، وهل ثمة غيره كتاب التوراة يدل على تاريخ حكايات ، وهل عرف اليهود مثل المسلمين رأفة ورحمة ومعاملة طيبة ، فصليبيوا القدس طلبوا من عمر بن الخطاب أن لا يدخل القدس يهود ، ولكن صلاح الدين أعطاهم أن يدخلوا ويسكنوا ، ومثله فعل المسلمون من بني عثمان ، ولسنا هنا في سيرة المعاملة الانسانية الرفيعة للمسلمين مع اليهود عبر الزمان ، وانما نذكرها للفت الانتباه ، الى أنه لم يكن من مصلحة اليهود زراعة كراهية لهم في صدور العرب والمسلمين بهذا الارتماء في أحضان الاستعمار ، والذي جعل من أمن كيانهم العنصري متناقض بالتمام مع أمن العرب والمسلمين ، وقد يشهد التاريخ على أن اليهود عبر التاريخ وجدوا أمنهم في أحضان رعاية عربية واسلامية ، فهل من سبيل الى خروج هذا الكيان من هذا التناقض الوجودي الأمني بغير فكفكة للكيان العنصري ، بؤرة الحقد على العرب والمسلمين ومناط التآمر الاستعماري على حاضر العرب ومستقبلهم ، فالغريب هو الغريب ، فهذه أرض العرب ، ولم يحصل عبر التاريخ أن دامت فيها سيطرة لغريب ، وهذه صفحات التاريخ ، ليقلبها من يريد .

وهكذا فان أوهام التاريخ التوراتي ، التي هي في الذهنية اليهودية بمثابة حقائق تاريخية ودينية ، ولا يعدو لديها غيبة أدلة من آثار على مقولاتها سوى أنه المندرج في كراهية اليهود ، وفي تجريف التاريخ من كل تلك الأدلة نكاية بيهود ، وهذا هو حال الذهنية التي تتسور بكل رفض للعقلانية والموضوعية ، فليست ذاتها وما تعتقده سوى المسور في حصن من اعتقاد ، لا يطاله كل ما يقول به الآخرون الغرباء عن الاعتقاد باليهودية ، فهو الحصن الذي أغلقت به الذهنية ذاتها على كل اعتقادها ، وهو الاعتقاد الذي انساقت به الذهنية هذه ، فأنبت على ألسنة اليهود قولهم بأنهم انما يعودون الى أرض الآباء والأجداد ، أو بأنهم انما عادوا الى أرض أبائهم وأجدادهم ، فهم بوعيهم ليسوا الغرباء في الأرض وهذه حقهم التاريخي والديني ، وانما العرب في وعي ذهنية كهذه انما هم المستعمرون الذين عمروا أرضا ليست لهم ، ولهذا فان اقتلاعهم وتشريدهم ، انما هو مسألة ممارسة لحق يهودي ، واذا قيل لهم بأن الحق التاريخي هو في جانب السكان الأصليين ، وهم العرب ، وبأن النص التوراتي لا يخلو من ذكر أن هذه الأرض انما كانت معمورة بسكان وهم كنعان ، واذا قيل لهم هذه حقائق التاريخ ناطقة بأن حضارة كنعان انما هي أصل الحضارة على هذه الأرض ، بكل بما أنتجته من حضارة ، لا تزال الأرض ناطقة به ، وتدل عليه ، فالآلهة التي أبدعوها والأصنام التي صنعوها لتلك الآلهة لم تزل موجودة ، وتم العثور على عشتار وغيرها كثير ، ففي كتابه ( مغامرة العقل الأولى ، دراسة في الأسطورة وبلاد الرافدين ) الصادر في دمشق عام 1988 ، يقول فراس السواح ، في صفحة 111 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) :
"ومن الآلهة المؤنثة عبد الكنعانيون ( عشيرة ) ألأم الكبرى وزوجة ايل ، وكانت تدعى ( ايلات ) نسبة الى ايل( كبير الآلهة ورب السماء ) ، من ألقابها سيدة البحر ، وما زال اسمها حتى الآن يطلق على الخليج المعروف باسم خليج ايلات . كما عبدوا عناة حبيبة الاله بعل وروح الخصوبة الكونية ، وكانت تلقب بالعذراء ، وعشتارت ، وهي الهة أخرى للخصب تقاسمت مع عناة وظائف الهة الخصب عشتار ، الى جانب هذه الآلهة نجد آلهة في المرتبة الثانية مثل الاله ( يم ) وهو البحر الأول ، وشبش ، الهة الشمس ، وهي انثى على عكس اله الشمس الباابلي شمش ، وداجون اله القمح وأبو الاله بعل " .
فالبحث عن الخالق قد نحا بالفكر في اتجاهات متعددة ، كلها تصب في اقرار ، بأن العقل كان باحثا ومتأملا في سير الطبيعة ، وناطقا بأسئلة هامة ، تؤثر في مجرى مجتمع قائم ، وبأن الملحمة الشعرية الكنعانية بها الكثير من الدلالة على أن الملحمة اليونانية انما تأثرت بالأدب الكنعاني ، فمبانيها بها دلالات تستدعي أسئلة كثيرة حول تأثير حقيقي للحضارة الكنعانية في دول البحر المتوسط ، ثم ان الفنيقيين انما هم الكنعانيون وهو اسم لحق بهم من تسمية أسماهم أياها الآخرون من سكان أوروبا .
ويقول فراس السواح ، في كتابه ( مغامرة العقل الأولي ) صفحة 109 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) : " سكن الكنعانيون سورية الشرقية والشريط الساحلي السوري منذ مطلع التاريخ المكتوب وأشادوا مراكز حضارية بقيت مشعة حتى الفترات الكلاسيكية المتأخرة . وبالاضافة الى التأثير المتبادل بين الثقافة الكنعانية والثقافات السامية الأخرى المجاورة والثقافة المصرية ، فان الثقافة الكنعانية كانت ذات تأثير مباشر على الثقافة الكريتية والثقافة اليوناينة اللاحقة . يظهر هذا التأثير في الأساطير اليونانية التي تشير صراحة الى التأثير الثقافي . كأسطورة قدموس الاله الذي جاء فينيقيا وعلم اليونانيين الكتابة ، وأسطورة اختطاف الالهة السورية يوروبا التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة . وقد أطلق اليونان على من احتكوا بهم من الشعوب الكنعانية اسم الفنينقيين . " . وفي صفحة 110 من نفس الكتاب يقول : " الا أن اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل السوري ، جعلنا نقف على أرض أكثر صلابة لأن الألوح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل هناك ، قد وصلتنا بالثقافة الكنعانية مباشرة دون وسيط أو ناقل . وبعد حل رموز الكتابة الأوغارتية ، ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نقشت على تلك الألواح ، هي كتابة أبجدية ، وأنها أول أبجدية كتبها الانسان وتنتمي لعائلة اللغات السامية . والأوغارتية شديدة القرب للغة العربية " .
ونجد في بحوث عديدة ، وفي كتب أحمد داوود ، التي خص بها سوريا في الزمان القديم ، تأكيده على عروبة المنطقة عبر الزمان كله ، وهو يتوقف عند هذا في أكثر من كتاب له ، ويقدم كل دليل يبرهن مقدار التصاقه بالحقيقة ، فسوريا لديه تشمل فلسطين ، وهو يدلل على عروبة ممتدة في الدلتا شمال مصر ، فهي منطقة متداخلة ، متفاعلة عبر الزمان ، و يبين بشرح تفصيلي بأن لغات المنطقة في حقيقتها ، انما كانت لهجات مختلفة للغة واحدة وهي العربية ، وانما الجهل باللغات هو ما حدا الى توصيف لتجمعات سكانية لا تجمعها لغة واحدة .
وينحو محمد عبد الحميد الحمد نفس النحو في كتابه ( التأثير الآرامي في الفكر العربي ) الصادر عام 1999 ، عن دار الطليعة الجديدة في دمشق – سوريا ، اذ يقول : بأنه " من خلال البحث والتقصي تبين لي أن العرب والآراميين والكنعانيين من أصل واحد . ولكن من سكن منهم المرتفعات دعي بالآرامي ، ومن سكن المنخفضات دعي بالكنعاني ، ومن سكن البادية دعي بالعربي . أما الآرميون الذين آمنوا بدعوة المسيح فتسموا بالسريان تمييزا لهم عن الآرميين الذين تمسكوا بالوثنية " .
لقد كانت الجغرافية حاضنة تاريخ يتأهل ، بما يؤديه العقل من دور في رسم نمو وتطور الى وعي بمصير واحد ، فالتيارات التي تهب على المنطقة واحدة ، والجغرافية واحدة ، والتفاعل ضرورة حياة وأمن ، ما أنتج عقلا كليا ، ربط بين سكان جغرافية واسعة الأطراف . فاذا فئة من ناس راحت تعتقد عقيدة مختلفة عن كل الناس ، فهي مع ذلك لا تستطيع أن تزعم لنفسها ، بأنها بما تعتقده من معتقد ، يؤهلها الى نكران استعارتها من محيطها لغة تتكلم بها ، ولباسا تلبسه ومأكلا تأكله وبيتا تأوي اليه ، فنكرانها جملة كاذبة ، فأسماء آلهة كنعان نجدها في لغة عبرية تقول هي بأنها من ابداعها ، وأخرى غيرها أصلها آرامية أو أوغارتية ، وغيرها التقويم البابلي ( قمري – شمسي ) ، نجده يتسمى تقويما عبريا ، فأن تكون فئة بعدد أصابع اليدين والقدمين ، في جغرافية مترامية الأطراف وتزعم بأنها بانية ملك وحضارة ، فهذا خارج العقل ، وخارج كل امكانية يمكن أن يدلل عليها عقل ، واذا فئة عاشت في ظل ملك أو في ظل حضارة وأخذت منها كل ما يمكنها ذلك ، بسبب من اندماجها الذي لا يمكنها غيره ، وجازت لنفسها أن تفاخر بذلك الملك ، أو بتلك الحضارة ، فليكن لها ذلك ، فأما أن تزعمها لنفسها ، فالملك ملكها فهو من ذاتها فهي صاحبة الحق بالملك وبالأرض وبنفي كل سكان لا يدينون بما تدين به ، فهذا انحراف عن جادة الصواب ، ولا يصوبه الا بما يعاد به مارق الى صوابه ، فتلك سوريا فيها الآن فئة يهودية ، وتعتبر حافظ الأسد رئيسها وتعتز به ، وتدين له بكل حب ، وتعتبر سوريا بلدها وانتماءها ، ومنطقها هذا متصل في زمن بشار الأسد ، فهل ثمة من ينكر عليها ذلك ، فماذا لو جاء زمان ، وقالت هذه الفئة بأن حافظ الأسد ملكها أو رئيسها ، وبأن سوريا ملكها ، وراحت تعمل بكل تآمر على نفي سكان سوريا من مكانهم ، فهل هذا كلام فيه رائحة من عقل أو صواب فكر ، فيقبله عاقل .

فهذه أرض عربية اسلامية ، ولم تكن يوما غير ذلك ، وقد تحدثت الأرض ، بما بها من مخزون ، بلسان علم الآثار ، ودلت على مجرى تاريخ تعرفه ، وهو بكل دليل متناف مع ما تحكيه مرويات توراتية ، وبازاء ذلك فمسألة الهوية اليهودية التي لم تكف تلح على ما يؤيدها ، لم يكن لها الا أن تلجأ من داخل فراغ الواقع من كل تأييد الى الوهم ، فتتوهم الواقع الذي لا وجود له في واقع ، وهو ما لم يكن ذلك ممكنا ولا متاحا بغير الزعم الفارغ من كل تأييد آت من غير النص التوراتي ، تماما كما حال قصة هيكل سليمان ، وما الى ذلك من قبور أجداد ، وأوهام ، وأوهام ، والتي لا حل لها سواها الأوهام ، فهي وحدها طعام ألأوهام ، وبدأت سيرة الوهم ، فزعم بأن حجارة الأساس لحائط البراق انما هي بقايا هيكل سليمان ، وهو ما لم يقم عليه دليل ، فالذين أقاموا بنيان المسجد الأقصى ، هم أنفسهم الذين أقاموا حائط البراق ليعتدل لهم البنيان في مكانه ، وفقا لشريعة الاسلام التي ملأتهم وعيا وفهما ودراية بما هم فاعلون ، وهنا يجب أن يتوقف الذين يقتربون من سرد للتاريخ ، ويبتعدوا عن المرويات التوراتية ، المتناقضة مع تاريخ الاسلام ومع علم الآثار ، ومع منطق التناول للنص ، فالذي لا يجاز على أساس من العقل ، نظرا لتبيان هذا العقل جملة من متناقضات تجوب النص ، لا يصح تناوله بغير اسقاطه والابتعاد عنه ، لينزوي على رفوف اللامعقولية ، وبين طيات الضلال ، وفن التضليل الذي افترس عقولا ، ووظفها في خدمته في مدى زمن طويل ، بوعي كان ذلك منها أم بغير وعي ، بفهم أو بغير فهم ، وليتم فضح هذا النهج الضلال بكل حقيقة تكتب عليه سيرته ، في سلب الوعي اساسيات تعقل كان أولى له بأن تكون له ، في كل حين يتناول فيه نصا ضلالا ، أو يصيخ سمعا لتضليل بضلال ، ولعل هذا هو حال اللاعقل حين اقترابه من اللامعقول ، فانه يستسيغه لكون جملته متسقة مع اساسيات تكوينه ، فاذا استوى اللاعقل في محل العقل ، بدا وكأن العقل يعقل لا معقولا ويستسيغه ، ويدافع عنه ، فاذا تجلى العقل لذاته وخرج من تغريبه لذاته عن ذاته ، أدرك مدى التوظيف له بجملة من ضلال .
وحري بنا ونحن ندعو دعوة العروبة والاسلام الى فضح الضلال واسقاطه ، أن نلفت الانتباه الى أن عمر بن الخطاب والذين هم من حوله حين دخلوا القدس ، ما كانوا بحاجة الى كعب الأحبار ولا الى أحد من هذا الصنف أو ذاك ، فهم الفاتحون الذين خبروا الأرض وما عليها ، فذلك عمرو بن العاص ما كان على رأس الفتح لمصر الا لكونه يعرف الأرض التي هو ذاهب اليها ، فما تراها هذه السذاجة التي جابت السرد التاريخي لدى كثيرين من المؤرخين ، حين اقتربوا من توصيف دخول عمر بن الخطاب الى القدس ، فهو العادل الذي لم يعرف ممارسة لظلم ، بل هو العادل وبأعلى صوت للحقيقة وبكل المعاني التي تعنيها ويعنيها ، فهو الذي عرف الحق والتزمه ، فأقام العدل غير مقيم لغيره قبولا ، فكيف أجاز لنفسه قبول طلب من نصارى بأن لا يدخل القدس يهود وأن لا يقيموا فيها ، وهم في عرفه ، في دينه ، أهل ذمة ، فكيف ارتضى ذلك ، والجواب واضح وضوح العدل لديه ، وبيان الحق في وعيه ، وهو لأنه بذلك يحقق عدلا ، لا يضار به يهود ، وانما ينصفهم وينصف النصارى ، فكيف يكون ليهود حق في داخل القدس ، ويتغافل عن اسدائه لهم عمر الفاروق ، والجواب هو لأنه يعلم بأن لا صلة لهم تربطهم بقدس ولا بما فيها ، فلا ضير ان باعد بينهم وبين نصارى لا يطيقون أن يرونهم ، فهو بذلك يحفظ سلاما اجتماعيا ، لا يقرب نصارى مما لا يطيقون ، ولا يقرب يهودا بما يضيقون به .
أمن العقل أن يكون هناك من يكتب تاريخا اسلاميا عربيا ، يتوهم أن الفاروق انصاع لطلب من نصارى ، بانزال ظلم بغيرهم ، وهم اليهود ، فكيف والظلم يتناقض مع عدله ، ومع دينه الذي يأمره ، بأن يحفظ حقوق أهل الذمة ، كيف لم يخطر على بال مؤرخ عربي مسلم بأنه وهو يكتب التاريخ ، حري به أن لا يلحق بعمر الفاروق ما يسيء اليه وللاسلام ، فجملة التناقض ، فسرعان ما يتنبه لها عقل يحترم التعقل المبني على عدم التناقض على أقل تقدير ، ثم أليس هو عمر الذي لم يرض لنفسه أن يقيم الصلاة في كنيسة القيامة ، خشية أن يقيم المسلمون ، من بعده ، في مكان صلاته مسجدا ، أليس هو ، الذي يرى ما بين يديه ويستشرف بما يفعل آفاق مستقبل قادم ، فلم يمكنه أن يقبل لمسلمين من بعده أن ينكروا على نصارى حقهم في بيت عبادة لهم ، فينبثق عن ذلك من الصراع ما لم يقل به الاسلام ، لكونه يستبطن انكارا على أهل ذمة حقهم فيما هم عليه من عبادات حتى ولو لم يتفق للاسلام تجويزها ، وانما هي حق لمن آمن بها ، فهي شأنهم ، وهم في داخل الحرية التي يحرسها الاسلام أحرار فيما هم عليه من اعتقاد ، فهم داخل الاسلام آمنين ، فقياسا على هذا ، فكيف يمكن أن يقال بأن حقا ليهود قد أنكره عمر الفاروق ، أو استثناه من رحمة الاسلام وعدله ، وانما عمر الفاروق ومن كانوا معه والنصارى ، بل وكل الناس الذين كانوا في القدس لم يروا حقا ليهود في القدس ، ولا أي شيء من ذلك ، فكانت استساغتة أن يكونوا خارجها ، ثم ماذا كان يمنع يهودا من أن يأتوا عمر الفاروق ويسألوه حقهم في سكن أو في عبادة ، فهم من أهل الذمة ، وهم يعلمون ذلك ، واستبعاد علمهم بحقوقهم هو نوع من التغابي ، ولو سألوه ، فهل كان يمكنه أن يمنعهم عبادة في أي مكان هو خاص بهم ، فلماذا لم يفعلوا ، وهم يعلمون بأن حقهم في دينهم وفي ما يملكون بين أيديهم ، فليس مثل عمر الفاروق صونا للاسلام ، وفي داخل الاسلام هم يملكون كما النصارى أن ينالوا حقهم كاملا ، ويكونوا آمنين على كافة حقوقهم بحراسة الاسلام نفسه ، فمن هنا اذا ثمة أفراد من يهود في ذلك الزمان ، فهم على القياس الذي نقيس عليه ، الشاهدون على خلوهم من أية صلة لهم بكل ما له صلة بالقدس التي كانت أيام دخلها عمر الفاروق عدلا وحرية وأمنا وآمانا .
فماذا أقول بمؤرخين كتبوا مجلدات ضخمة ، وقد استحالت الى مراجع لاستشراف التاريخ ، فلا يصح تجاوزها بغير العقل المتجدد في منطق تناوله الذي يستعيد به صوابه من تيه في تناول بلا أدنى تمحيص ، فلقد تصنم عرب ومسلمون أمامهم ، فكأن ما جاءوا به هو هو الذي يؤخذ كما هو ، فهذا التصنيم لفراغ في وعي ، أو بسبب من عدم تأسيس للعقل على منطق تناول خلو من قبول الشيء وضده في آن واحد ، أو بسبب من عقل عربي قد روضوه ، في مجرى الاستبداد ، على استساغة ما يقول به من قيل له بأنهم أعلم منه وأفصح منه في الخطابة ، فاذا هو لم يستسغ قولهم ، وجد نفسه محاطا بشعبية من عوام يرهبونه فكريا ، فلا أحد من حوله يرتضي بغير أن يركن عقله جانبا ويستسيغ الذي يلقى على عقله ، وهو حال العقل العربي الذي وعينا دورته عبر العصور ، وهو بعينه الحال الذي يدعونا الى اعادة تأسيس العقل العربي ، لكي نستطيع قراءة جديدة لتاريخنا ، ولكي نستطيع أن نؤثث لحاضرنا ما يمكنا أن نقيم مستقبلنا الذي نحلم به .
فكيف جاز لهؤلاء المؤرخين الكبار ، أن ينتقصوا من علياء تربعوا عليها ، كيف لم يفهموا بأن المكان أولى القبلتين ، الى حيث كان الاسراء ، ومنه كان المعراج ، لم يكن هذا مثل أي مكان ، وانما له خصوصية لا يعدلها الا الذي هو مثلها ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف لكل من حوله ، سيرة الاسراء والمعراج ، ووصف بدقة لا يقتدر عليها غيره ، وحدد بالوصف وبدقته كونه الرسول الكريم المكان ، وبأنه من ساعة كون ذلك المكان أولى القبلتين ، ومن ساعة أن كان المعراج منه ، فان المكان قد نال من الاهتمام البالغ الذي يعني بأبسط قول هو القرب من المكان ومعرفته، وبكل السبل المتاحة ، ولم تكن بعد تلك الاحاطة المستقاة من الرسول الكريم ، أية امكانية لقلة معرفة بالمكان ، ولم تكن ثمة حاجة لمخلوقات غير الذين يحيطون بالرسول ويسمعون منه ويأخذون ما يقول به ، لمعرفة المكان ، فكل من هم غيرهم ولم يأخذوا عن الرسول الكريم ، كانوا خارج التعريف الدقيق بالمكان ، فتحديد المكان لم يكن ليكون برأي من خارج المحيط المؤمن بما جاء به الرسول ، فاذا جاء عمر الفاروق الى المكان ، في القدس ، فهو ومن حوله يعرفونه معرفة الواحد منهم ليده اليمنى من يده اليسرى ، فكيف جاز لمؤرخين كبار استساغة وكتابة سرديات لا تتفق مع ايمان ولا تتفق مع شأو المكان ، وشأن خصيصته ، ودلالاته ، والمعرفة به ممن عرج منه الى السماء ، كيف جاز لهم ذلك التوصيف بأن ثمة من سأل كعب الأحبار ، أو سأل هنا وهنا ليتعرف على المكان ، وبأن زبالة كانت في المكان ، كان النصارى يضعونها على المكان نكاية بيهود ، فأي قول متناقض هذا مع فصاحة وعي الفاروق وصحبة بالمكان ، ثم أليس في ذكر هذه السرديات من استفسار عن المكان ومسألة الزبالة ، وغيرها ما يدل على انتقاص من معرفة عمر الفاروق وصحبه بالمكان وهو أولى القبلتين ، وهو اللامعقول الذي لا يرتضي به دين الاسلام ، ولا العقل الرصين ، أفأولى القبلتين ولما يصلوه وهم الذين عرفوا كيف يصلوا كل مكان أرادوا وقبل أن يذهبوا اليه كانوا على دراية به ، فأي سرديات هذه ، أهي من جملة الاضافات التي تتراكم لدى الكاتب من جمع بلا وعي ، فاذا سردية قرت في أذنه وكانت من بنات خيال ، أو من دس رخيص ، لم يتساءل بأكثر من حفظها ، فهي تزيد في عدد الصفحات ، وتزيد في الايهام بالموسوعية ، أفهكذا تكون كتابة التاريخ ، أو ليس تاريخ في أمهات كتب التاريخ أحوج ما يكون منا الى اعادة تنقيته ، بل اعادة كتابة التاريخ كله من جديد ، فثمة سرديات كتلك كمثل القول بأن ثمة حقا ليهود في المكان ، كيف تم استغفال الخلق بسرديات تبدو حائرة تائهة ، فليس ما يؤيدها من سرد متسق ولا من عقل ، ولا من ايمان ، فلا تصمد أمام العقل بحال ، فلا قيمة لسرديات كهذه ، ، فمكانها الزبالة ، كما قولهم بزبالة توضع في المكان ليدللوا بما يشبه الشهادة بالزبالة على حق من لا حق له ، ولم يكن له ولن يكون له في المكان .
وليست أزمة الكتابة للتاريخ مقصورة على كتب قديمة ، وانما هي ممتدة باللاوعي الى كتاب معاصرين ، بهم غيرة على بلادهم وحب كبير لها ، فترى الى الكاتب ، يقترب بالكتابة من فلسطين ، بهدف خدمة القضية الفلسطينية ، وحفظ تاريخ هذه المنطقة من الوطن العربي ، واذا به حين يدنو من تاريخ مضى يعود أخطاء الذين نسخ عنهم أو أخذ عنهم أو تعلم منهم ، فاذا بها مرويات التاريخ التوراتي تنزل له في صفحات كتابه ، واذا بها مرويات كتبها كتاب عرب بلا وعي بما يكتبون ، تنزل هي أيضا في صفحات الكتاب ، فاذا بالكتاب وبه ما لا يخدم تاريخ فلسطين بل يشوهه ، ويضر بالعقل الذي يريد أن يفهمه ، فمرويات كهذه مادة ضلال ، لا فائدة منها لغير من هم أعداء العرب ، والطامعين بأرض فلسطين ، وتلك " الموسوعة الفلسطينية " ، لمؤلفها " الدباغ " ، ولنقرأ معا ما كتب عن القدس وعن الخليل مثلا ، فالجانب الفلسطيني من الكتابة اضافة مهمة ويؤخذ بها عربيا وفلسطينيا ، ولكن سرعان ما ترد المرويات التوراتية ، فكأنها بعض تاريخ وكأن لها صلة بواقع ، فكيف جاز لحريص على فلسطين ، أن لا يحرص على صدق ما يرويه وعلى دقته ، فمثل هكذا موسوعة فهي فلسطينية في جانب ، وهي في جانب مترافق ليست فلسطينية ، بل تؤثث لما يلحق ضررا تاريخيا بالحقوق الفلسطينية في جانب منها ، فلا بد من اعادة تشطيب لكثير مما جاء فيها ، وهذه مسؤولية تاريخية ، ليس فيها محل من اسداء قيمة على ما لا قيمة له ، وليس فيها مجال لكي لا نكون صرحاء بين أنفسنا ، وليس فيها مجال للمساومة ، فهنا نحن نصدى لقضية مصير ، وليست هذه الموسوعة وحدها بهذا الحال ، بل غيرها كثير ، ونحن تحت الحاح الحقيقة ، محتاجون الى جرافات من قدرات علمية تقوم بتجريف كتب التاريخ من كل زيغ ، ومن كل تهافت فالت من عقال الوعي ، وجانح عن صواب التاريخ ، فشأن من تهافتوا من الكتاب العرب على الكلام الكثير ، ومن غير بحث علمي لتبيان حقيقة ما يسطرون أو ينقلون عن غيرهم ، كحال من يرجو بناء وعي ، فاذا هو ومن دون أن يدري يضع في ركن منه ، ما يظل يرهق هذا الوعي بأسئلة تنتج له شكه في وعيه ، فليحاذر كاتب تاريخ وليتبصر خطورة ما يقول به .

فلا تثاب غفلة فكر في تناول ، أو سرد له صلة بمسائل المصير ، ولماذا يعرج عربي عن قراءة عربية صحيحة للتاريخ ليحط في قراءات شائة ، فينهل منها ما يعود ليسقيه لأبناء العرب ، على غير بصيرة منه بخطورة ما يذهب اليه ، فكم من خطأ قاتل ، ثم ان صوابنا فيما أصبنا ، فهنا لمن يشاء اطلالة في كتاب التاريخ لابن الأثير ، فسوف يجد في الجزء الأول منه ، عن ابراهيم الخليل ، ما يفيد ، بأن الوليد هو اسم الفرعون الذي ذهب اليه ابراهيم ، وبأن أخوه الضحاك هو من ولاه على شمال الدلتا في مصر ، فعلى ما يبدو ، فان هذه المنطقة كانت بالحال الذي وصفة أحمد داوود وآخرون ، ممن تنبهوا للزيف الاستعماري الذي حط على كتابة تاريخ هذه المنطقة ، وكذلك كان شأن موسى ، ثم فليذهب المسلم والعربي الى معتقده ، فابراهيم مسلم وكذلك يعقوب وموسى ، وبنص القرآن ، فما شأن غير المسلمين بهم ، وكيف يجاز تاريخ لهؤلاء لا يقول به الاسلام ، فمن يجيز ذلك بغير علم آثار فصيح الدلالة ، فكأنه يرتضي غير الاسلام دينا ، ناهيك الى أن البحث في أصل البشر ، يستدعي السؤال عن العروق ، فمن أي عرق جاء هذا اليهودي ، وكم من اليهود ينحدرون من عروق لها صلة بهذا المشرق العربي ، فسؤال التناسل عبر التاريخ يوجب التفاتة ، ويستدعي السؤال ، فكم كان عدد اليهود في العالم ، وأين كانوا حين نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكم كان عددهم قبل ذلك بمئات من السنيين ، فكم كان العدد على وجه التقريب ، فلينطق علم الاحصاء ، فهل بمثل أعداد كهذه يقام ملك ، أو تقام دولة ، أو تصاغ حضارة ، أو حي في قرية ،

فالصهيونية عدوان على العروبة والاسلام ، قالت وتقول ما يعزز مقولاتها ، وطموحاتها ، وكذلك كان شأن قول الفرنسيين حين استعمروا الجزائر في مدى عشرات من السنين ، فلقد قالوا بأن الجزائر جزء من جغرافية فرنسا ، وقد انفصلت عنها بسبب من تباعد القارات ، وتصرفوا على هذا الأساس واستوطنوا الأرض وحلبوا خيراتها ، وسبلوا الناس جهدهم ، وساموهم سوء العذاب ، فلم يكن لانسان الجزائر قيمة انسانية في وعي استعمار جاء يستوطن ويسلب ، ولم يكن لهذا المستعمر بازاء مشروعه الاستعماري ، الا أن يبرره بكل كذب على التاريخ وعلى العقل وعلى النفس، من قول يلقي به على المسامع ، مستهدفا انتاج عقلية ومفاهيم ومعايير وقيم ، في خلال اعادة هيكلة انتماء وهوية ، فكلها في خدمة الأطماع الاستعمارية ذاتها ، ومثلهم قال الروم حين جاءوا الى هذا الشرق ، وكذلك كان حال الحروب الصليبية ، التي جرت تحت شعار مهد المسيح ، فالهوية مسألة فارقة في خطورتها ، فتلبيسها للغزو يعطى الغزو مسألة جامعة ، تجمع كل الذين يتوجه اليهم الخطاب الرامي الى توظيفهم ، في تأهيل الغزو ليغدو ناجزا منجزا محققا أهدافه ، فقراءة التاريخ تساعد على معرفة مقدار قيمة مقولات استعمارية كهذه ، في سياقاتها الاستعمارية ، فلقد ظلت هذه المقولات كمساهمات من جانب المستعمرين لتعزيز سعيهم الى اطماعهم ، لكنها في ذاكرة الشعوب المقهورة ، لم تكن سوى ما يدلل على المخاطر وعلى ضرورة التصدي لها ، فانصباب وعي الشعوب كان دوما على خلاصها من القهر ، ومن السيطرة الأجنبية ، فهاجسها وحاديها هو استعادة حقوقها في أرضها ، بارغام الغزاة على الرحيل .
وهنا جملة التناقض بين العرب والمسلمين وبين كيان استعماري استيطاني ، يسعى الى تكامل ترسيخه لذاته في المكان وفي ذاكرة البشر ، فتشكيل هويته وانتاج دلالات عليها في الواقع ، لجعل مبررات قيامه واستمرارة في سرد تاريخي توراتي يؤيده ، ويصبح بالدلالات وله فصاحة التعبير عن ذاته ، في خلال عملية انتاج لمصداقية تبرر سيره في التشكل عبر الزمان ، وتبرر حقه في الديمومية ، وتنفي عن العرب والمسلمين حقهم في استعادة حقوقهم في تراب أرضهم ، وهي التي تعني تفكيك الكيان الاستعماري ذاته ، فالمسألة مسألة مصير . فثمة تناقض وجودي يملي تناقضا جوهريا في الأمن ، وتناقضات في مستوى الثقافة والتاريخ والدين ، فليس ثمة ما يجيز مساومة أو تفاهما أو تواصلا ، فليس سواه النفي ، فهكذا حال التناقض الذي تشكل بالغزو لأرض فلسطين .

فمنذ أن كانت الصهيونية ، واشكالية الهوية اليهودية لوطن قومي يهودي شاغلة عقليتها ، فهي الهوية التي لا مصدر لها سوى الدين اليهودي ، وهي التي سوف تستحيل ، في ضوء النزوع والعمل الذي لا يكل ولا يمل ، الى فكرة مجسدة في واقع ، ومتمثلة في وطن قومي لليهود ، فأين ؟ ، فهذا سؤال الفكرة الاستعمارية التي بغير الحضن الاستعماري الصليبي لن تجد لها صلة بأرض ، فأين ؟ فالجملة الاستعمارية يجب أن تكون منطوقة وتصحبها آليات تجسيد ، والصهيونية يجب أن تكون نتاج هذه الجملة ، ولا تحيد عن سير تحدده ، ولا عن أهداف ترسمها ، في فلسطين ! ، فليكن ، فهنا ملتقى الحقد الاستعماري كله عبر الزمان كله ، وهذا ما كان ، فلقد تم انتاج دولة اسرائيل ، من خلال انتاج نكبة لشعب فلسطين ، فالنكبة شرط يهودية اسرائيل ، فلا أغلبية يهودية في الدولة من دون صناعة نكبة لشعب فلسطين ، وهذا حال عقلية يهودية لم تزل تفكر على هذا النحو ، فضمان أغلبية يهودية يعني صناعة نكبة ، ترحيل ، صناعة ظروف لهم لا تطاق ، فيغادرون أرضهم مكرهين ، واذا غادروها ليعودا ، فالقوة كفيلة بأن تحول بينهم وبين أن يعودوا ، تفريغ الأرض من الفلسطيني ، فالهوية اليهودية لا تتجسد بدولة من غير أرض ، فهنا القانون واداة القمع في دولة يهودية هو شيء واحد ، فبهذا المعنى الذي هو منطوق تاريخ جرى ، فتشكيل هوية يهودية لدولة ، متناقض بالتمام مع وجود شعب فلسطين ، ومتفق تماما مع انسانية صهيونية ووجودها ، فهنا انسانية ليست بمعنى انسانية مشروحة مسرودة في كتب عن الانسان ، وانما هي بمعنى مختلف ، فانسانية صهيونية نقيض انسانية فلسطيني بالتمام ، فمن الخطاء حين الاقتراب من هذه الكلمة ، بأن يتم القفز عن كون الكلمة تعني في هذا السياق الشيء وضده في آن واحد ، فانتاج الهوية ، وهيكلتها على ما يتفق ويهودية دولة ، لا يتأتى بغير نفي لما يمكن نفيه من كل ما يعني فلسطيني ، فآلية تشكل الهوية حرب على تاريخ فلسطين وعلى ثقافتها وعلى كل ما يصلها بالعروبة والاسلام ، وهذه جملة دولة يهودية ديمقراطية ، من لحظة أن كانت فكرة الى أن تجسدت بالقوة كدولة في أرض فلسطين .

ولما أن الذي قيل بأنه الوهم ، وبأنه الأسطورة ، قد أسفر عن وطن قومي لليهود ( دولة اسرائيل ) ، فالتاريخ التوراتي أصبح أحوج ما يكون الى دلالات عليه ، وها هي الأرض تحت السيطرة ، ما جعل علم الآثار يتبوأ مقاما رفيعا ، فهو المعول عليه ، بأن يقيم للتاريخ التوراتي أركانه ، بالكشف عن ما يؤهل القول للدنيا : ها هو وهذه هي الأدلة على وجود يهودي ، وحضارة يهودية كانت في زمن مضى ، على أرض فلسطين ، وأبعد من ذلك ، فهذا ما يعطي مبررات العودة الى أرض الآباء والأجداد ، فاليهود عادوا الى حضن آبائهم ، وما العرب سوى مهاجرين جاءوا واحتلوا أرض فلسطين ، وآن لهم أن يتفضلوا بتركها الى أصحابها الذي عادوا اليها ، فان لم يفعلوا ، فالقوة متوفرة ، وزاد على تأهبها الدائم لترحيلهم ، بأن انضاف الى مبرراتها ، ما يسندها من أدلة على تاريخ توراتي تنطق به آثار دالة عليه .
وهكذا تم ايلاء البحث عن الآثار اهتماما بالغا ، ذلك لكون وظيفته استحالت الى ضرورات هوية يهودية ، فالتوظيف لهذا العلم ، لم يعد في هذا الجانب مسألة أبحاث وتفتيش عن حقائق تاريخ ، وانما البحث في خدمة هوية يهودية ، فاذا ثمة آثار هنا أو هنا ، ويصبح بالامكان اسباغ تفسيرات يمكنها أن تنطلي وتجري مجرى الحقيقة ، حتى وان كانت الزيف بذاته ، فالهوية لها ضروراتها ، فخدمتها بما يضيف اليها ، وبالفعل فقد كان هذا هو الاتجاه الذي نحا بالبحث نحوه ، وقد بذلت جهودا كبيرة وصرفت أموال طائلة ، ولم يتركوا مكانا ويظنون في باطنه دالة على ما يتمنون ، الا وحفروا وبحثوا ، وفتشوا ولم يجدوا دليلا واحدا ، على وجود ما تسمى آثارا يهودية ، تدل بدلالة على تاريخ يهودي كان في الزمان والمكان ، وانما كل الآثار التي تم التوصل اليها ، بدورها أفصحت عن تاريخ عربي .. كنعاني .. اسلامي ، وأخرى تدل على آخرين مثل رومان ، مروا ، عبروا ، هربوا ، وهذه حقيقة نتائج الأبحاث الكثيرة ، والتي لم تزل تمضي ، تحاول أن لا تترك مكانا من فلسطين الا وتبحث فيه ، عن ما يؤيد هوية تشكلت وتدل على حقيقة يهود كانوا ، ويبدو بأن البحث العلمي عن التاريخ التوراتي الذي قالت به التوراة ، لا يتصل بما يدل على كيان ليهود ذي بال في أرض اسمها فلسطين ، ومع ذلك فان السياسة لم تزل تلح الحاحها على انتاج الهوية ، ولو من داخل الايهام والتوهم ، فاذا الواقع ينكر تاريخا توراتيا دالا على عمارة يهود ، فذلك لا يعني ، في ضوء سطوة القوة أن لا يتم انتاج دلالات تشير الى ما يدل على مصداقية لهذا التاريخ ، فهكذا هم ، وهكذا هي علاقتهم بتراث لا وجود له ، ويراد له أن يخرج من النص التوراتي ، من داخل الأسطورة ، الى فضاء واقع يفصح بدلالات ، يتم انزالها من الوهم الى واقع لم يعرفها من قبل ، فالفكرة الاستعمارية والأطماع تحدوها ، لا يعنيها من أمر سوى ما تنتفع به ، فحتى من قبل قيام دولة اسرائيل ، كان علماء من دول استعمارية ، جاءوا يبحثون عن كنوز سليمان ، عن المجوهرات ، عن الذهب ، وهم أصحاب فكرة البحث عن هذه الكنوز المتخيلة ، وهم أول من حفروا ، ومنذ ذلك الوقت والتنقيب والوهم كما الأسطورة ، يتدافعان نحو آثار موهومة ، فلعلهم بها يسندون بها الاسطورة .

ومباشرة بعد حرب عام 1967 سيطرت اسرائيل على ساحات بمحاذاة حائط البراق ، وهدمت بالجرافات حي المغاربة ، بعد أن أرغمت سكانه على اخلائه بالقوة ، ولقد شاهدت الهدم بأم عيني ، وكانت نفسي تتصدع ، وهي قصة تحتاج الى روايتها تفصيلا في وقت آخر ، وأما سكان حي المغاربة ، فهم الذين مكن لهم الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي ، مكانهم في محاذاة الأقصى . ولم يكن الهدم الا مترافقا في الوعي الصهيوني ، مع رغبة قوية بهدم هوية عربية اسلامية ، ليتأتى التأثيث لهوية يهودية في المكان ، فالقدس القديمة والمسجد الأقصى ، استحالا الى المجال الذي في نطاقه يراد تشكيل لدلالات على هوية يهودية ، فالحرب على الوجود ، وعلى التاريخ ، وعلى الثقافة وعلى الرموز ، لم تتوقف ساعة من زمن ، ولقد تم تأهيل كل ذلك بجملة من قوانين ، ما استبقى القضاء ، كما كان حاله دوما ، أداة فاعلة في خدمة العنصرية ، وهي اللعبة التي تبيحها ديمقراطية الدولة اليهودية ، فالفلسطيني الحريص على حقه في تراب أرضه ، سرعان ما استحال الى خارج على القانون ، ما يؤهل أجهزة القمع الى انزال العقوبة التي تتناسب مع ما يقضي به القضاء ، ولقد مشى التأثيث لهوية يهودية ، بانتاجها من داخل الوهم ، تحت سطوة قوة ، يحرسها قضاء في فضاء عمومي يهودي ، يقيم قيمة كبرى للقضاء وما يقضي به ، فكان الاستيلاء على ما يمكنها اسرائيل أن تستولي عليه من مساحات أرض ومبان ، وأقامت فيها ما أوحت بأنه تأهيل لهويتها ، وحفرت تحت الأرض حيث شاءت ، وزعمت تاريخا لا صلة ليهود به ، وهكذا راحوا يقيموا زعما تلو زعم ، يؤثثون به لوهم هم يصدقونه ، ويمضي بهم الوهم ، فالقوة مجال تسوير يتيح استنساخ الفكرة في الواقع ، وبظنهم بأن في ذلك ما يهيء لها ، فبمرور الوقت ، وبقوة الاشاعة ، والدعاية أن تستحيل من مجرد فكرة ، أو وهم الى حقيقة واقعية ملموسة ، تمكن الاشارة اليها بأنها موجودة ، فها هي ، فكل ذلك يؤثث لهوية لها دلالات تدل عليها في واقع ، ما يسمح في اعادة انتاج الصورة والمضمون للهوية ضمن الهيبة ، ما يتيح انتاج عملية تضليل مضافة الى تضليل سابق عليها ، وكان تم به التأثيث لفكرة الكيان الاستعماري .

ولقد امتدت اللهفة الجامحة على ما يؤيد الهوية التوراتية ، فكان الالتفات الماكر الى المسجد الأقصى ومحيطه في القدس القديمة ، وقالوا هنا كان الهيكل ويجب أن يعاد بناؤه ، والى هناك في الخليل حيث الحرم الابراهيمي ، اقتربوا منه وقالوا هنا مكان أبينا ابراهام ، والى هناك ، في محاذاة المقبرة الاسلامية في بيت لحم ، على الطريق الموصل بين القدس والخليل ، حيث مسجد بن رباح ، دنوا وتأملوا وقالوا ، هنا قبر راحيل زوجة يعقوب ، أم يوسف ، وفي نابلس قالوا هذا قبر يوسف ، تسندهم القوة في كل اقتراب لهم ، واصرارهم على أن لا يقيموا قيمة لغير ما يسعون اليه ، غير مكترثين بمصداقية من تاريخ ، ولا بتاريخ ينفي جملتهم ويسقطها ، فما يقال بأنه قبر يوسف في نابلس ، انما هو قبر ( يوسف دويكات ) وهو مسلم تقي ناداه الناس بالشيخ ، وهناك أكثر من مكان على الأرض في فلسطين يشار اليها بقبر يوسف ، فثمة ما قيل بأنه قبر يوسف في الخليل ، ومن قائل بقبر له في مصر ، وبأن مومياء لم تزل في رتبة الظن بأنها يوسف . ثم ان مسجد بن رباح بناء يدل على ذاته ، وتمكن معرفة عمر البناء بسهولة ، فكيف قبته النصف كروية ، استحالت الى قبة قبر راحيل ، فهذا مسجد أقيم بفن على الطراز المملوكي ، فعمره ليس ممتدا الى آلاف من سنيين خلت ، وبناؤه يدل على حضارة اسلامية ، فكثيرا ما يقيم المسلمون مساجد على الطريق أو بجانب مقابر ، ولعل صلاح الدين الأيوبي كان من الذين يلحون على اقامة مساجد بجانب المقابر ، وقد كان بذلك التفكير انسانيا ، فالمسجد للصلاة ، ويمكنه المسلم أن يتعلم فيه ، ويرتاح لبعض من الوقت ، فيجد الماء والظل ، وقيلولة من تعب أو سفر ، فالمسجد وجه حضارة انسانية ، فوجوده ضرورة انسانية ، فالمسجد معين انساني ، فكله خير للانسان ، وهذا ما حدا الى اقامة ذلك المسجد في زمن المماليك في نفس المكان ، واذا افترضنا بأنه البناء الذي كان منذ زمن الست راحيل ، وبأنها كانت هي من وراء اقامته ، فليكن ، فهي فرضية تقيل كل صلة ليهود بالبناء وبالست راحيل ، وتستحيل الى حجة عليهم ، فاذا ارادواها لهم فعليهم اتباعها ، فهذا البناء ، بما هو عليه من تكوين ، واتجاه صلاة نحو القبلة ، نحو الكعبة المشرفة ، وفضاؤه الداخلي لدليل على أنه البناء الذي لا صلة له بما يسمونه كنيسا يهوديا ، فبنيويته الداخلية بنيوية مسجد ، فأهلا بمن يعودون الى دين الاسلام ، ويا عجبي من كشف ، بأن أما لهم كانت مسلمة ، وتصلي في مسجد ولا يتبعونها ، وانما يتبعون دينا لا يتفق بحال مع ما كانت هي عليه ، فاذا هو قبة راحيل ، فهو مسجد وهي مسلمة ، واذا هو البناء أقامه يهود من أجلها ، بعد وفاتها ، وهو قائم منذ ذلك الوقت ، فليس في الدلالة على الانتساب للدين ثمة فرق ، فالبناء ناطق بذلك ، فهيا فليتبعوها وليدخلوا دين الاسلام ، ويا مرحبا ، فنصلي معا ونقرأ القاتحة معا على المسلمة راحيل التي ليست هناك ، فليس ثمة ما يدل على أنها كانت هناك ، بل لا يمكن بحال من فحص عظام في تلك المقبرة تبيان من كان هناك ، وانما تبيان الفترة التي مات فيها من كانت تلك هي عظامه ، ولم يدل أي فحص لعظام على فترة قريبة من فترة يفترض أن راحيل كانت لم تزل تتنفس فيها . ولماذا يكون قبر راحيل هنا في هذا المكان بعيدا عن الزوج والابن ، فماذا دعا من الناحية الاجتماعية في مجتمع زراعي ، يسوده القلق على الرزق وتشيع فيه المخاوف ، فالأمن الشخصي والمعيشة لها مقتضياتهما ، ثم ما سر بقاء بنيان بكذا حال الى يومنا هذا ، كيف صمد في مدى آلاف السنين في وجه كل التيارات التي هبت على المنطقة .
وتلك ( كريات أربع ) ، هاجوا اليها وأقاموا فيها ، فهي موروث آبائهم وأجدادهم على حد زعمهم ، وحوطوها بكل نار ، وجعلوا منها بؤرة عدوان على كل المحيط بها ، فلسطينيا كان في هذا المحيط أم شجرة تطعم الانسان ، وخلخلوا الظروف ، وليس بهم غير غيظ دفين ينفجر كل حين ، يتقصد برصاصه كل ما يظنون زواله مضافا في توسعهم في السيطرة ، فهذه ( كريات أربع ) ، كان أقامها ( أربع بن علي ) وهو ملك عربي كنعاني ، ينتسب الى قبائل العناقيين ، وهم الجبابرة ، فهو من أقامها ، وكلمة أربع بمعنى أربعة ، والمنطقة برمتها قد سكنتها قبائل عربية عبر الزمان ، فتاريخ مدينة الخليل ممتد في الزمان الماضي الى ما يقارب 3500سنة قبل الميلاد ، فكذلك تتحدث آثارها ، وبصرف النظر عن آثار غزاة جاءوا وحطوا برحالهم ، ثم فروا تحت ضربات التطهير للأرض من الغزاة ، فان كل الدلالات تدل على أن العرب هم السكان عبر الزمان ، فهم الذي سكنوها وبنوها ، ودافعوا عنها في مواجهة كل الغزاة ، وحين كان زمان حط لهم الضعف بين أيديهم ، فلم يقتدروا على مواجهة الغزاة فانهزموا ، عادوا ونهضوا وانتصروا ، وأعادوها كما يحبوها ، وهم تحت راية الاسلام أقاموا الحرم الابراهيمي ، فلما جاءت الغزوات الصليبية ، أقام الصليبيون مكانه كاتدرائية ، دامت 90 عاما ، ومثلها كنيسة أقاموها مكان مسجد قبة الصخرة ، بل وجعلوا مما ندعوه المصلى المرواني وغيرة حظيرة لخيولهم وأسموا المكان اسطبلات داوود ، وما لبثوا حتى جاء صلاح الدين يطردهم من بلاد العرب والمسلمين ، فعاد المسجد هنا ، وهناك ، على أحلى صورة أحبها المسلمون .
وقد يدلل ذلك على حتمية تلازمت مع صيرورة تاريخ ساكن روح العرب ، تقرر بأن مآل الغزاة الى فرار من الأرض العربية . ناهيك الى أن الغزاة لا يقيمون احتراما لسكان الأرض الأصليين ، فالظلم والقهر ينزلونه بهم ولا يقيمون لتاريخ لهم ، ولا لثقافة ولا لدين أية قيمة ، فهدم مساجد ، وحجب صلاة ، وبالقياس على ذلك ، فان من هو مؤهل ليفعل ذلك كله ، فان الآخر منفي في وعيه كما في ممارساته ، ما يجعل من الصعب التأشير على قيم ، تحول بينه وبين أن يفعل كل ما يدل على تجاوز أعراف وقيم وأخلاق على اطلاقها .
ولقد اقترب الصهاينة من الحرم الابراهيمي ، بتسارع عدوانهم ، متلهفين على عمل كل ما يقربهم منه وكل ما يأخذه من حوزة المسلمين ، فلم ينقطع يوما عدوانهم على المصلين وعلى ما له صلة بالمسلمين ، وعلى محيطه ومن هم في محيطه من المسلمين ، ولقد أقاموا في عام 1991 مدرسة يهودية ، وفي عام 1968 هدموا بعضا من منشآته الأثرية ، واقتربوا بكل عدوان على الناس وعلى المكان ، فليس ما يحجبهم ، بل الجنود الاسرائيلين يسهلون لهم دربهم الى ما يريدون ، فتحت نيران مشرعة في وجه المسلمين يقتربون ، وفي 25/2/1994 قاموا بمجزرة في داخل الحرم الابراهيمي ، اذا سهلوا لأحدهم يدعى باروخ غولدشتاين أن يدخل المسجد ، ليباشر باطلاق النار على المصليين ساعة سجودهم فجرا ، في رمضان ، وقتل 29 شخصا وجرح العشرات ، ولما فرغت الذخيرة منه هجم عليه مصلون وقتلوه ، وفد هب الناس بأثر المجزرة ، فوجدوا رصاص جنود الاحتلال يتسارع الى صدورهم ، ليرتفع عدد الشهداء الى 50 شهيدا ، بالاضافة الى الكثير من الجرحى ، وفي خلال هذا الصراع الذي أوقدته المجزرة ، قامت قوات الاحتلال باحتلال جانب من المسجد الابراهيمي ، وجعلته بقوة النار كنيسا لليهود ، فهكذا الحرم الابراهيمي ، تم شطره شطرين ، فشطرا ظل مسجدا للمسلمين ، وآخر استحال بسفك الدم وتسيور من نار الى كنيس . ولاستبقاء حال أنتجوه بقوة نيرانيهم ، ولهفتهم على هوية يريدونها أن تلامس في الواقع المادي ما يدل عليها ، أحالوا منطقة الحرم الابراهيمي الى ثكنة عسكرية ، فكل داخل وكل خارج تحت أنظار البندقية .
وهم في خلال عدوانهم الجامح على المسلمين ومقدساتهم ، يتخذون من قصر الحمراء مثالا تاريخيا ، يتذاكرونه ، بين الحين والآخر ، قاصدين من هذا المثال دور القوة ، فبها وحدها تم الحاق هزيمة بالمسلمين ، وبفضلها أمكن احتجاز قسم من قصر الحمراء ليصبح كنيسة .
ولم يكن حال التأثيث ، لعبادة ربهم على طريقتهم ، بسفك الدماء وهي راكعة لله تصلي ، يختلف من حيث منطق التناول ، ومن حيث اللهفة على استنبات دلالات على الهوية ، بين حال هنا وحال هناك ، فقد اطلق الاحتلال النيران على الصلاة في المسجد الأقصى ، ولم تتوقف نيرانه ، فمن مجزرة قام بها الى أخرى مجزرة ، فساحات الأقصى ناطقة بتاريخ يحكي قصة الدماء ، وما سبقها وتلاها ، من تضييق وعدوان ، على سعى المسلمين ، بنية الصلاة الى المسجد الأقصى ، ففي 21/8/1969 أشعلوا النيران في المسجد الأقصى ، وقالوا هذا من صنع معتوه ، ولم يفسروا ماذا دعاهم الى قطع المياه عن الأقصى ، مباشرة بعد أن ارتفع الدخان في الهواء ، ولم هم قاموا بتسويره بحزام من جنود حاولوا أن يمنعوا الناس من هبتهم الى اخماد الحريق .
وفي 8/10/1990 تناهى الأمر بجماعة ( أمناء الهيكل ) ، الى محاولة لوضع حجر أساس لبناء الهيكل ، في ساحة الأقصى ، وكانت جموع المسلمين على يقظة متوقدة اصرارا على التصدي ، فما كان من قوات الاحتلال التي تحرس الغايات الصهيونية ، الا أن تطلق النار على المسلمين ، فاستشهد ما يزيد عن 21 فردا ، وجرح ما يقارب ال 150 ، واعتقل 270 شخصا ، وكان مشهد الدماء في ساحات الأقصى ، يحكي معاني الصلاة ، ودورها في تشكيل الرباط وصناعة الأمن للهوية العربية الاسلامية ، فالصلاة كانت تنطق بأفصح عبارة ، بأنها بمعنى آلية تشكيل الجبهة المتقدمة للدفاع عن أمة العرب والاسلام .
وفي 23/9/1996 عشية يوم الغفران اليهودي ، وفي الساعة الواحدة ليلا ، تم افتتاح نفق تحت الأرض، كان قد بدأ العمل به منذ عام 1968 ، ويمتد من أمام مدخل المدرسة العمرية في طريق الآلام في القدس القديمة قرب باب الغوانمة ، على طول يقارب 488 مترا تحت الأرض الى أن يحاذي حائط البراق ، ليكون مدخله الثاني من الساحة التي سيطر عليها اليهود وجعلوها ملتقى لهم ، لصلاتهم ، لبكائهم عند حجارة حائط البراق . وهذا ما أشعل انتفاضة النفق ، التي امتدت بطول الوطن وعرضه ، وقد سالت دماء عزيرة ، في أمكان كثيرة .
وفي 28/9/2000 كانت زيارة شارون الى ساحات المسجد الأقصى ، ليؤثث لزعامة قادمة ، فكان رد فعل المسلمين جارفا ، فكان صعبا على شارون ومعه الآلاف من جنوده يحيطون به أن يخطو براحة وبحرية توهمها ، وفي اليوم التالي ( الجمعة ) ، كان عشرات الآلاف من أبناء فلسطين ، قد جاءوا الى الصلاة ، فكانوا أشبه بسور من ارادات تساندت ، فما فرغوا من صلاتهم ، حتى غزاهم الرصاص المنبعث من فوهات بنادق جنود الاحتلال ، الذين كانوا بالمئات ينتظرون تفهيم المسلمين ، بأن الموت هو في انتظارهم ، اذا هم بقوا على حال ايمانهم ، وقناعات يزرعها هذا الايمان في سلوكهم ، ومن هنا امتدت ارادة التحدي في تشكلها لتشمل كل ناحية من فلسطين ، في انتفاضة شعبية ناطقة باسم الأقصى والقدس ، فهي القدس التاريخ العربي والاسلامي التي يراد صهيونيا سلخها من انتمائها العربي والاسلامي ، وأما المسجد الأقصى فهو المراد تقاسم جغرافيته ، كما الحرم الابراهيمي ، كما قصر الحمراء ، أو لكم الفوق الأرض ولنا التحت ، فهي عملية سحب اعتراف ، فاذا جاء الاعتراف يقام هيكل ولو تحت الأرض ، وبالموافقة بحكم الاعتراف ، بحكم الاقرار بأن ظلما حاق باليهود ، وبأن هيكلهم الذي زال ، ها هو يعاد في مكان من فوقه يجلس الظالمون ، فالى متى هذا الظلم ، وهذا النيل من يهود ، فليزل الظلم بزوال الفوق ليخرج التحت الى الفوق ، ويزول غبن ، وظلم أنزله المسلمون باليهود ، وليبني المسلمون مسجدا لهم بعيدا وحيث يريدون ، فأرضهم واسعة ، ولديهم المال الكثير ، فهذا وجه من تفكير يهودي ، وثمة وجه آخر ينحو نحو اقامة عدة كنس ، فمنها تحت الأقصى ، ومنها في القدس القديمة في مشهد يزيل عن الأقصى ميزته في مشهد القدس القديمة ، فلا يكون فريدا ، وانما واحدا من جملة تزيح النظر عنه اليها ، فلا يظل في مركز الشعور حين النظر الى صورة للقدس القديمة ، فثمة كنيس الخراب ، وهو الذي اقيمت قبته على نمط مملوكي مشابه لقبة مسجد بن رباح التي الحقوا بها اسم قبة راحيل ، ليزرعوا في خلال وجه الشبه فهما بأن الذي هنا هو الذي هناك ، ومن أقام بهذا هو من أقام ذلك ، وبأن الفن المعماري اذا هو هنا في كنيس الخراب خصيصة يهود فكذلك هو هناك في ( قبة راحيل ) ، وآخرى كنس يراد لها أن تطل في الصورة وأخطرها كنيس كامن في فضاء التشكيل للهوية ، يقام على الأغلب في منطقة يحكمون السيطرة عليها وهي منطقة المغاربة ، بحيث يكون لصيقا بساحة مفتوحة للمسجد الأقصى ، بحيث يتأتى في غمرة انتاج صراع وسفك دماء ، واستدامة لهذا الصراع أن يتم احتجاز جانب من ساحة للأقصى ، وتسويرها بالجنود ، وبعد ذلك بالحواجز وبعدها ، بحواجز ثابتة ، بحيث تبدو كثكنة عسكرية ، وداخل الساحة التي يتم احجزاها يتم تمدد الكنيس والصلاة فيه بانتظار ظروف يقام فيها على الساحة نفسه هيكل مصغر ، لكنه الهيكل الذي سوف يريح يهود ، ويطالبون بعدها باعتراف بالأمر الواقع ، وجعله ، اساسا لسلام لا يطالب اليهود بعدها بما كانوا يطالبون به من قبل ، وانما يكتفون بما توصلوا اليه من اعتراف بهوية ، ما كان يمكن لها أن تتكامل من دون اعتراف كهذا ، فهي فاصلة في مجرى تاريخ اليهود ، ويتركون ما تبقى من حلمهم ، الى زمان لربما قادم .
وهذا الاعتراف بحق ليهود في المسجد الأقصى هو الذي لن يأتي أبدا ، فلن يمكنه مسلم أن يلغي الاسراء والمعراج والمسجد الأقصى ، من كونه كلمة في القرآن الكريم ، واجبة النفاذ بكل دلالاتها في ايمان كل مسلم ، فلا حرية اختيار له في تأويل معنى كلمة كهذه ، فهي كما هي غير محتاجة لتأويل ، ولا يعني التنازل عنها أو المساومة عليها سوى الكفر ، والخروج من أمة الاسلام ، فهي لبنة من لبنات الهوية الاسلامية ، وهي مرتكز اساسي لا يقوم بلاها ايمان بدين الاسلام ، فهنا نحن بصدد هوية اسلامية من عدمها ، فأن يتم الغاء هوية اسلامية ، أو تشويه هوية اسلامية ، ليقوم في مقامها اكمالية هوية ليهود هو الذي لم ولن يكون ، فاكمالية هوية يهودية ناقصة لم ولن تكتمل .
ومع ذلك فاستحصال اكمالية لهوية يهودية ، هو ما ارتسم في ضوئه منطق تناول لظروف قائمة ، بهدف اعادة هيكلتها بالسياسة وبالقوة ، على ما يعيد ترميم الهوية ويوفر اطلالة لها بما لم تعرفه من قبل ، واستكمالا لمجرى لم تنقطع فيه فاعلية هذه هي غاياتها ، فلقد قامت حكومة اسرائيل برئاسة بنيامين نتانياهو ، برصد مبالغ طائلة ، من أجل اعادة ترميم ما تسميه هي باسم الآثار اليهودية ، وأعلنت بأنها سوف تدرج على سجل الآثار التي يراد ترميمها كلا من الحرم الابراهيمي ومسجد بن رباح ، و... ، وأسوار القدس ، على اعتبار أنها موروثات يهودية ، فكان الرد الفلسطيني ، وبكل وضوح الكلمات ، وكانت جملته ما قاله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، من أن اقدام اسرائيل على اعتبار الحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، وأسوار القدس ، كمواقع أثرية اسرائيلية يهودية ، سوف يشعل حربا دينية ، وبمثل هذا القول قال كل من كان نبض قلبه على التاريخ العربي والاسلامي وعلى الدين الاسلامي ، وبازاء الأصداء التي ترددت في الفضاء العام ، من جراء عدوان كهذا ، جاء قول نتانياهو ، بأن الأمر الواقع لا تبديل فيه ، وانما هي مسألة ترميمات ، فهي موروثات آباء ويجب ترميمها ، فحرية العبادة مكفولة ، وقام بيرس رئيس دولة اسرائيل يقول بنفس الكلام ، بأن اسرائيل غير معنية بصدام ، وانما هي مسألة ترميمات ، وأغنى العرب آذان العرب والمسلمين كلاما ذا صلة وله أهميته ، ومرت عيون الجموع الشعبية من المحيط الى الخليج ، على شاشات ، وانفعلوا مع محاورات جادة وعميقة الدلالة ، فكل محاور ، أو صائح بقول أو موقف ، يدير معركته بمعقول من كلام ، ومقالات برع كتابها في توصيف الموقف ، حتى حار عقل الانسان العربي من أين يبدأ القراءة لفهم ما يجري ، فغزارة الكلام مثل المطر في عز الشتاء ، والى جانب كل هذا مضت اسرائيل تعمل ما خططت له ، عارفة كيف تصل الى ما تريد ،على الرغم من العواصف الكلامية التي تحرك الرياح من حولها وتزعجها ، وتبعث فيها القلق ، فماذا سوف يجري غدا .

لقد اعتمدت اسرائيل فكرة تعويم الصراع على المكان ، لانتاج فضاء عمومي يمكنها في خلاله ، وبصورة دائمة التأكيد على حق ليهود في المكان ، فبذلك وفي مجرى الصراع الذي تنتجه ، يتأتى ليهود زراعة قناعات في الوعي العام بهذا الحق ، وذلك من دون أن تكون هناك ضرورات لتقديم شواهد وأدلة ، من تاريخ وعلم آثار ، لا يمكنها بحال أن تنطق بما يقنع به أحد ، فليس ثمة آثار يهودية دالة بفصيح لغة ، والقول بنص توراتي ، فسرعان ما تقابله نصوص تنقضه وترفضه ، ويبدو عندها وكأن نصوصا دينية من طرفين متناقضين تتحاددان ، وهذا صراع ديني في مستوى الفكر ، يعيق سعي يهود الى مبتغاهم ، فأولى للقوة والسياسة أن تتصدرا الصراع وتشكلانه ، وليطل الديني من خلالهما .
فمن ضرورات التعويم للصراع ، اندرجت فكرة اقامة الحواجز على الطريق الى الصلاة ، وتحديد أعمار من يتاح لهم أن يمروا الى الصلاة في المسجد الأقصى ، و محاصرة المصليين ، والتضييق عليهم ، والعدوان عليهم باعتقالهم وبضربهم وسفك دمهم ، وليس هذا بكاف ، بل التمادي الى ممارسة قمعهم في ساحات المسجد واطلاق النار عليهم ، فمعركة بين الصهيونية وبين المسلمين في ساحات المسجد الأقصى ، مسألة صراع تفيض في الفضاء العمومي ، فكل الدنيا تتحدث بها ، فثمة اسئلة يراد ليهود أن يجيبوا عليها ، وفي فضائيات عربية ومشهورة ، فيتاح لهم أن يتحدثوا الى المسلمين عن حق ليهود ، وبأنهم لا يريدون سوى ذلك ، والسلام بعد ذلك مع الجميع ، ففكرة الحق اليهودي الغائبة عن الأذهان تصبح حاضرة ، ومقرونة في الوعي باصرار يهودي على تجسيدها ، وميزان القوة في صالح اسرائيل ، وهي قادرة على استدامة تمددها في ناحية التشكيل لهويتها ، وهذا ينطوي على مخاطر على كل ما هو عربي واسلامي في القدس ، ويجعل من تهويد المدينة ، أو على الأقل انتاج ملامح يهودية لها لا تتعدى كونها مسألة وقت ، وهذا الوقت يتقاصر أمام الاندلاق اليهودي على سيطرة لا تعرف حدودا من معايير أو قيم ، أو ما شابه مما اعتاد العرب والمسلمون على الانتباه اليها ، وحساب حساباتها ، قبل أن يأتوا بفعل أو قول ، ناهيك الى ما يتم انتاجه من عمليات تبديل لا تنقطع في الوضع القائم ، فكل تبديل يقيل شواهد التاريخ من هيئتها ومضمونها ولسانها ، ويحيلها برسم جديد الى يهودية ، ويجري كل هذا داخل أنفاق تحت مصاطب الأقصى ، وفي جوانبه ، وفي محيطه ، بل في القدس القديمة كلها ، في منطقة الشيخ جراح ، في سلوان ، في بيوت يتم انتزاعها من سكانها ، في يافطات تقال من أماكنها ، وتوضع مكانها أخرى بلغة عبرية ، فالعربية بما يصلها به سعي يهود ، من عدوان ، لا بد عابرة ، ولا يصح أن تظل ولها وجود في ذكر اسم شارع ، فان كان لا مفر من ذلك ، لحاجة من سياحة اليها فتحت التحت ، فتحت الانكليزية ، وتحتها العربية ، ولتكن الحروف فيها مشوهة لتدل على ما هو شائه ، فبذلك ايحاء الى قوم اسمهم عرب ، وكل شائه تضيق به الأنظار وبه ما يجعل المشهد بائسا ، والسائحين في ضيق ، فأولى أن لا يكون هذا الشائه موجودا بحال ، فاقتلاعه كما اقتلاع من تدل عليهم الحروف الشائهة ، فالقدس لا بل أورشاليم أو أورشليم ، عاصمة الدولة اليهودية ، تنزع الى صفاء الانتساب الى دين يهود ، ولن ينفع عرب ذكر حقائق تنطق بها آثار ، فسوف تجرى عليها عمليات تجميل كما وجه المخلوق في زماننا ، وتحال الى شاهد على يهود ، فذاك النفق الذي أجج انتفاضة ، اذهب وسر في داخله ، فالأيوبية ، والمملوكية والرومانية والاسلامية ، أصبحت برسم ملامح هنا ، وبودرة هنا ، وأسماء وكلمات عبرية هنا ، وقد استحالت يهودية ، فهكذا يقال للسائح ويذهب هو الى بيته ومعه تاريخ متجدد ، فهو الذي يندرج في تعريف أولاده ، وكل عقل يطل على ما في الأوراق ، وما فيها من صور لنفق تحت الأرض في أورشليم ، فلا حاجة لعرب الى العودة بتذكير بأن شلامو اسم نبطي عربي ، وأورشليم هو الاسم الذي تحمله المدينة ، من قبل أن يأتي ذكر ليهود على الأرض ، بألف عام على الأقل ، وكذلك علماء آثار يهود بما توصلوا اليه يقروون بأن مدينة أورشاليم ، كانت مسكونة بخلق كثير من قبل التاريخ التوراتي لداوود ، وفي المقابل عرب من مثل فراس السواح حين اقترابه من التاريخ التوراتي يقول : بأن ذلك التاريخ التوراتي لداوود ليس ما يدل عليه في واقع ، بل علم الآثار يدل على ما يخالف الرواية التوراتية ، وبأدلة قاطعة .
وهكذا الأسطورة أصبحت ولها دولة حديثة وقوية ، فهي ملتقى أو منتدى الكراهية كلها التي تربصت عبر الزمان ولم تزل تتربص الى الآن ، بكل عرب واسلام ، والتاريخ التوارتي أصبح يطل من خلال دلالات مستعارة من الواقع ، من داخل آثار عربية واسلامية ، واذا نظرت الى تلك الدلالات ، ورغبت استنطاقها ، لبدا المشهد مأساويا ، فأنت أمام أقنعة زائفة ، تستر من ورائها ما لا يدل عليها ، ويراد منك أن تستدل بها على ما يراد للزيف أن يدل عليه ، فأنت مطالب بأن تكون بوعي شائه ، فهكذا هي لغة الزيف ، فاذا أنت صدقته بما هو عليه ، فأنت تنوب عنه ، تتحدث بلغته ، تقول قوله ، تصبح زاعما علما بما يدلل العلم على بطلانه .

فهوية تتشكل بزيف الدلالات ، انما تهيء دلالات على زيفها ، فلن يكون لها تكاملها بتة ، في غير مستوى زيف تشكلت عليه ، فهي في مواجهة حقائق التاريخ فسرعان ما تتهاوى ، فاستعارات قسرية من تاريخ ، انما هي تزيف تاريخ ، ولا يمكنها بحال أن تستحيل الى تاريخ ، حتى ولو أن الوهم طاف بالعقل في كل ناحية واتجاه ، فهل ثمة مطبخا يهوديا ، حتى يقال بأن جماعة يهود أنتجت ما يمييزها في معاشها ، وذلك في خلال علاقاتها مع الطبيعة ، فما هو وكيف حاله ، فهو بما يدل عليه جملة استعارات من أمم شتى ، وهذه " التبولة " ، ومن قبلها الحمص ، راحت اسرائيل تزعم بأنها اسرائيلية ، فاذا بها لبنان تضج ، فهذه لبنانية ولنا حق الملكية الفكرية والمهنية بها .
ومطلع السبعينات من القرن الماضي ، كان لقاء اليهود في أورشليم القدس بما لم يعرفوا له وجها منذ بعثوا أحياء في الأرض ، كان لقاؤهم مع ( حمص أبو شكري ) ، في شارع من شوارع القدس العتيقة ، فهو مثل ما قالوا الذي ليس مثله في البلاد ، ولم يعرفوا لطعمه مثيلا ، واذا هي السنون تمضي ، فاذا اسرائيل تزعم بأن الحمص خصيصتها ، فشعب أو أمة بلا مطبخ يخصها دون سائر الأمم لا تكون أمة بحال ، فهكذا قالت لي أمي التي لم تعرف القراءة والكتابة .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف