
اكمالية هوية يهودية لم ولن تكتمل
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
مع ظهور الهوية اليهودية بالتاريخ التوراتي ، على مسرح السياسة والجغرافية ، بدت تساؤلات التاريخ التوراتي عن دلالاته في المخزون المعرفي للأرض ، فهي بحكم سيرورته في النص التوراتي لا بد موجودة وتدل عليه ، فأين هي ، فهذا ما استدعى بحثا مستفيضا عن موروثات آباء وأجداد ، تطل بهيئتها من داخل النص وتتساءل ، وتود أن ترى دلالاتها .
كانت تلك عملية تاريخية فارقة في مجرى السيرورة ، وذلك منذ اندمجت الهوية اليهودية في فكرة استعمارية استيطانية ، تقضي بأن يتم تجسيد هذه الهوية في دولة لليهود في أرض فلسطين ، فمن هذا الوقت
شرعت الصهيونية في حربها على العروبة والاسلام ، ولم تكن فكرة الاقتلاع لشعب فلسطين من مكانه ليحل في محله اليهود تكفي الهوية اليهودية تجسيدا في الواقع العملي ، وانما كان لا بد للتاريخ التوراتي الذي أطل من داخل سيرورة الغزو أن يتبين دلالاته في الواقع ، فكان البحث في المخزون المعرفي للأرض ، عن دلالات وشواهد من ماض يتم بها اسناد التاريخ التوراتي بما هو عليه ، فهذه ضرورة اكمالية لهوية يهودية ، وتاريخ توراتي ، فمن دونها يظل هذا التاريخ في رتبة الشك ، ما يزعزع الهوية في ما هي عليه ، وفيما تسعى اليه من تشكل وتجدد ، فتبدى الهيكل بما هو عليه من توصيف في التوراة ، وبما يلح عليه في الوعي الديني اليهودي من اعادة هيكلته في الوقع العملي ، كدرة التاج في هيكل الهوية اليهودية ، فباقامة الهيكل تتكامل للهوية اليهودية مطابقة واقع للنص التوراتي ، فاحتلال القدس ونفي العروبة والاسلام منها ، ضرورة الضرورات ، وسيطرة على الحرم الابراهيمي في الخليل ، وكل ما يقول به التاريخ التوراتي من صلة ليهود به ، هو بعينه ما يوفر للمرويات التوراتية محورها الذي تبدأ بالدوران حوله ، في عملية تهدف الى انتاج دلالات عليها ، فمرويات بلا دلالات وبلا زمان ، يعاد انتاج دلالاتها وزمانها ، ما يعني اعادة التأسيس لتاريخ توراتي ودين يهودي ، فعلى ذلك اقامة الهيكل في مكان المسجد الأقصى ، هي مسألة فارقة تتمحور حولها اكمالية هوية يهودية ناقصة ، ويراد لها أن تتكامل ، فيتصل في ذاتها ماضيها مع حاضرها ، ليؤثثان معا لمستقبلها .
ولم يغب عن اليهود بأن الاسراء والمعراج ، والمسجد الأقصى ، كلمة في القرآن الكريم ، آية كريمة ، هوية لا يقوم ايمان بلاها ، والحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، املاء ايمان ، وأسوار القدس تنطق بعروبتها واسلامها عبر الزمان ، فهي كتابة تاريخ ، من أجادوا صنعة التاريخ من العرب والمسلمين .
فالتفكير في اقامة هيكل عبادة ليهود مكان المسجد الأقصى ، أو على مساحة منه ، انما هو التفكير في نفي هوية اسلامية وعربية ، بل هو التفكير اليهودي في نفي الدين الاسلامي ، من كونه دينا ، فكل ما يعنيه أي نشاط عملي هادف الى بلورة هذا التفكير في فكرة ، وآليات تقوم على تجسيدها ، انما هو التأثيث لهدم مرتكز ايماني مركزي في دين الاسلام ، لا يصح ايمان ولا اسلام من دونه ، فالاعتراف في جواز الفكرة وتجسيدها كفر صريح ، وخروج من ملة الاسلام ، بل كفر وشروع بالعدوان .
فعلى ذلك التناقض الذي أنتجته الصهيونية ، في سيرها نحو تشكيل الهوية اليهودية في الجغرافية السياسية ، قد أفصح عن صراع وجود وأبعد من ذلك ، فالاقتلاع لم يتحدد بنفي شعب وفقط ، وانما المعنى تناهي في متغيراته التي يتشكل بها الى التاريخ والثقافة واللغة والدين ، فالى الهوية ، ذلك بأن آليات التشكل كما تعيها الصهيونية وتدأب على توظيفها ، انما تنشيء صراعا يستهدف الهوية الاسلامية والعربية ، في الجانب الذي لا تتأتى فيه اكمالية لهوية يهودية بغير الهدم في الهوية العربية الاسلامية .
فما حقيقة هذا التناقض ؟ ، وما سيرورة تشكله ؟ ، وهل ثمة صلة لتاريخ توراتي بمخزون معرفي في المنطقة العربية كلها ؟ ، وكيف كانت صلة المثقف العربي والمسلم بالتاريخ التوراتي ؟ ، وما هي مخاطر هذه الصلة ؟، وألم يكن عدل عمر بن الخطاب كافيا دليلا على بطلان كل قول ليهود بصلة لهم بالقدس ؟ ، وكيف هي سيرورة التهافت على اكمالية هوية يهودية ناقصة ، وماذا تشكله من مخاطر على الهوية الاسلامية العربية ، وكيف يتم انتاج تاريخ شائه في مجرى التشكل لاكمالية هوية يهودية ، لا تقر بما يفصح عنه علم الآثار ، من نفي لتاريخ توراتي تقول به ؟ .
فهذه أسئلة سياق المعرفة التي سوف نحاول أن نجليها ، بتناول يبدأ في الاقتراب من سيرورة الفكرة الاستعمارية ، ويتدرج مع تدرجها في سعيها الى اكمالية هوية يهودية ، بتهيئة ظروف التشكل في الجغرافية ، وفي كل ما له صلة بمخزون معرفي في الأرض ، يراد له أن يدل على ما ليس هو عليه .
ولعل نظرة شاملة الى يهود العالم اليوم تلفت الانتباه بكل سؤال عن أصلهم ، وعن تعدادهم في مراحل سابقة من التاريخ ، فمن أين جاءوا ، ما الأعراق التي انحدروا منها ، ومن أي أمم في الأرض هم ، فمن منهم في أصله يحال على احتمال كونه من العرب أو من سكان هذه الأرض العربية ، وهذه مسألة على جدارتها بالبحث ، فانها ليست محتاجة الى كثير من حوار ، او من فصاحة فكر ، لكي ينتبه العقل الى أنه على ثقافة الحصن التي مازت اليهود بصورة عامة عبر التاريخ ، فانه بالامكان الاشارة الى خلاف ذلك ، فيما يتصل ببعض من يهود قاموا بدعوة غيرهم الى دينهم ، متجاوزين بذلك اشتراط كون الأم يهودية لكي يكون الابن يهوديا ، فنهجوا نهجا تماما كما هو الحال مع المسيحية أو الزردشتية ، أو البوذية ، وبالفعل فان دعوة كهذه أدت الى دخول العديد في ديانة يهود ، وقد حصل هذا بعيدا عن الانغلاق على يهودية منبثقة من رحم يهودية ، وفي هذا الجانب يلتفت كثيرون الى ما تدعى بلاد الخزر( وهي اليوم بلاد اسلامية ) ، في زمن من الأزمان الغابرة ، ويرون بأن دعوة كتلك قد أسفرت عن كثيرين أستحالوا يهودا ، وبأن هؤلاء انتشروا في زمن لاحق في بلاد متعددة من دول مثل روسيا وبولونيا وغيرها ، وبأن هؤلاء ومن يماثلهم في العروق المختلفة في تلك الدول ( التي لا صلة لها بفلسطين ولا سوريا ولا حتى الجزيرة العربية ، ولم يكن لها صلة كتلك في زمن من الأزمان ، فلا أب ولا جد ولا أم لأي من هؤلاء يمكن القول بأنه عاش في بلاد العرب لحظة من حياته ) ، فهم وأمثالهم من الأوروبيين ، قد وجد لهم نابليون فكرة لربما قد حلت في وعيه محل الفكرة الصليبية ، وشكلت في تصوره ساترا لها ، فتجد الفكرة الصليبية ما تريد ، ومن دون أن يستغرقها ذلك صداما مباشرا في خلال حملات صليبية ، فهي في حكم التاريخ قد نالت الفشل على أي وجه كانت عليه ، فكل حملة تليها عودة الى نقطة بدايتها ، وبفارق هو أن البداية التالية تقوم على خلفية أكثر مأساوية من التي سبقتها ، والفكرة تحقق استيطانا دائما يتم به استبعاد الحس بأن جغرافية كان فيها المسيح تحت سيطرة اسلامية ، فهي فكرة الغزو مضافا اليها البقاء في الأرض ، واستكمال هوية بسيطرة على جغرافية تتجلى في فكر الغزو ، بأنها بعض ضرورات سيطرة لهوية بابوية مسيحية أوروبية ، فهي فكرة استعمارية استيطانية ، يتم بها أيضا فصل البر السوري عن البر المصري ، أو لنقل فصل الشمال عن الجنوب ، فلا يكون بتجسيد لهكذا فكرة أي امتداد لبر العرب في الجنوب مع بر العرب في الشمال ، وهذا الطعن بالخنجر في الجسد العربي ، انما هو المستقى الاستراتيجيي من الدروس المستفادة من الحروب الصليبية في مستوى صراع القوى ، فوحدة بر العرب لعبت دورا بارزا في اجتماع العرب والمسلمين ، وتحقيق هزيمة منكرة ألحقوها بمن ناهزهم سيادتهم على أرضهم ، وليس هذا وحده وانما تمزيق الجغرافية السياسية ، بكيانات تسهل السيطرة عليها أو التفريق بينها ، فلا تكون هناك وحدة كلمة ، ولا وحدة ، فتبدو الجغرافية وكأنها مسرح في رتبة من ضعف ، ولا بد من انتاج ديموميته بردع ، بعدوان يستبقيه ، فهو ضرورة استبعاد وحدة الكلمة وضرورة استبعاد الوحدة التي فيما لو تحققت لاستحالت الفكرة الاستعمارية الى ما استحالت اليه من قبل ، الى نهاية مأساوية تنتهي اليها الفكرة الاستعمارية كما كانت نهايات من سبقتها الى الوجود ، ولا يغيب عن البال حال دول الطوائف في الأندلس ، وما كانوا عليه من صراعات ، ونزوع الى الاستعانة بالأجنبي على العربي ، وما أبقته في الذاكرة الاستعمارية من درس استراتيجي تم الانتفاع به في الهجمة الاستعمارية على المنطقة العربية .
وهذه هي مكونات الفكرة الاستعمارية لعدوان يستطيل في الزمان على أمة العرب والاسلام ، وليس ثمة وجه غرابة بأن تكون نشأتها في فكر استعماري أوروبي ، لتتم سقايتها ، ليهود أوروبيين ، ارتضوها وأعطوا عمرهم لها ، وذلك لكونها تجلت في وعيهم بأنها وحدها التي سوف تحقق نقلة فريدة من نوعها في تاريخ اليهود ، فهي التي سوف تنقلهم من مجرد فئات أو أقليات في دول شتى الى كيان سياسي في جغرافية ، فيتحولون الى شعب له مهابته بين شعوب العالم ، وبما لاحت به الفكرة في بداياتها ، فانها لم ترق لكثيرين من اليهود ، فلقد اختار هؤلاء اشهار العداء لأمة العرب والمسلمين ، الذين عاش اليهود بينهم حياة كريمة ، وعلاقاتهم بهم انما كانت علاقات طيبة ارتقت في مجملها الى مرتبة علاقة بين جيران ، أشبه ما يكونون باخوة ، ويكفي هنا ذكر حماية العرب لليهود في الاندلس وكيف أن العرب حال دخولهم الأندلس قاموا بتسليم ادارت عدة مدن لليهود ، ولا مفر من لفت الانتباه الى مظاهرات أهل السنة ، في مصر ابان الدولة الفاطمية ، مطالبين بأن تعاملهم الدولة ، ليس بأقل من معاملتها لليهود ، ولم تزل حياة يهود في سوريا والمغرب دالة حقيقة العلاقة بين العرب واليهود ، وبأن الفكرة الاستعمارية لم تقدر أن تطال من انتماء كثيرين من اليهود الى أوطانهم حيث هم ، ولا من متانة رباطهم بجيران عاشوا ومازالوا واياهم بأحسن حال .
ولكنها الفكرة الاستعمارية المليئة بكل عداء للعرب ، راحت تتدحرج وتتنامى في ظروف من مد استعماري ترافق ما تقدم صناعي هائل ، خرجت به أوروبا باحثة عن المواد الخام والثروات في أفريقيا وغيرها ، وهي الظروف التي شكلت العقلية الامبريالية ، فقهر شعوب و,ابادة بشر ، وبيع وشراء بالبشر ، وبحث عن الثروات ونهبها ، واستيطان في خدمة المشروع الاستعماري ، فهكذا الحرب والقتل واحتلال الأرض ونهب ما فيها وعليها ، استحالت الى مكونات عقلية يغذيها الفكر وتشجع عليها الظروف ، وفي هكذا ظروف نشأت الصهيونية ، وسعت كفكرة استعمارية ، تحت ظلال استعمارية نحو تجسيد فكرة استعمارية لها غاياتها التي ارتسمت لها ، من قبل أن تكون هناك الحركة الصهيونية .
وقامت دولة اسرائيل بتضافر القدرة الاستعمارية والضعف العربي والاسلامي ، فكلاهما اجتمعا معا ، البطش الاستعماري والوهن العربي ، في تشكيل سيطرة أجنبية على أرض فلسطين تحمل اسم اسرائيل ، ومنذ قيام هذه الدولة ، وهي تعمل على مضاعفة قدرتها ، على كل صعيد ، مستفيدة من كل مدد أجنبي ، يرى فيها عنصر قوة في استراتيجيه أمنه القومي ، ومنذ بدء المشروع الاستعماري هذا ، والاستشراق في جانب واسع منه ، في خدمة الغزو الاستعماري ، فغزو ثقافي ، وتشويه للوعي بالتاريخ ، وانتقاص من قيمة ما يدعى حضارة عربية أو اسلامية ، فحتى القرآن الكريم والرسول الكريم ، والصحابة ، جميعا قد تم اطلاق الرصاص عليهم ، فالغزو الاستعماري سعى الى تفكيك كل ما له صلة بهذه الأمة ، وذلك من باب البحث عن سيطرة على العقل باحتلاله كما هو احتلال الأرض التي أريد لها أن تتمزق .. لتتمزق بكياناتها الصغيرة أمة بحالها .
ولقد ركن الغزاة الى ضعف الأمة ، في مستوى انتاج قدرات تتصدى بها ، وانتفعوا بالجهل والأمية التي أطبقت على المنطقة العربية بسبب من الناس ، ومن جهل الادارة التي تسمت باسلامية ، وهي لاتهتم بشيء اسمه الفعل الأول في القرآن (اقرأ) ، فقد نهض من داخل الغزو من يطعن بالهوية العربية والاسلامية ، ولا يهمه من ذلك سوى ما يمليه عليه الاندراج في خدمة مشروع استعماري يتم تنفيذه ، فالهجمة الاستعمارية أو الصليبية ، طالت كل ما أمكنها ، من أجل تحطيمه ، ولم يكن هناك حرمة لأي شيء ، فبدءا بسفك الدماء ، الى التشكيك في الهوية والهجوم على كل مرتكز لها وبكل وسيلة ، فكان الذبح في رقاب العرب والفلسطينيين خاصة ، وذلك من أجل تشريدهم من قراهم ومن مدنهم ، تفريغا للمكان ، لاحلال من لم يكن لهم يوما جد في المكان ، في محلهم ، وقامت الصهيونية بمذبحة ثقافية رهيبة ، اذ أبادت الكتب والوثائق والمخطوطات ، وكل ما أمكنها وبدا لها بأنه يدلل على عروبة الأرض ، وعلى شعب فلسطين ، وعلى تاريخ الأرض العربي الاسلامي ، ولم تترك تراثا دالا على بطلان مقولاتها وأمكنها ابادته الا وفعلت ، فهو الغزو الذي استهدف الأرض والدين الاسلامي واللغة العربية والتاريخ والتراث والوجود برمته ، وانه الاقتلاع الذي سعى ولم يزل الى خلع الوجود من جذوره ، وقد ترافق ذلك مع عملية نبش للتراب بكليته بحثا عن ما يؤيد الرواية التوراتية ، التي هي في ذهن الغزاة ، بمثابة المصدر للتاريخ الصواب ، لكن الأرض لم تنطق الا بما بين يديها وفي بطونها ، ولا يمكن استنطاقها بما لم تعرف له صفة أو وجودا ، فالرومان جاءوا غزاة ، وبسطوا سيطرة لهم ، وأقاموا أبنية ومدرجات ، وجاء زمن وأفاق العرب من بؤسهم وهبوا الى بناء صرح حقوقهم وخلعوا الروم من أرضهم ، ولكنهم مع ذلك حافظوا على ما يمكنه الى الآن أن يدل على أن هؤلاء الغزاة مروا وعبروا من هنا ، فهناك المدرج الروماني ، وهنا ، وهناك شواهد على تاريخ ومقدرة على انتاج ما يتسمى تراثا دالا على وجود كان في مكان ما ، بصرف النظر كان هذا الوجود موجودا بحق أم بغير حق ، فلم يحصل أن أزال العرب والمسلمون آثارا دالة على تاريخ ، حتى ولو كانت تلك الآثار دالة وجود على ألد أعدائهم ، وحتى ولو كان أولئك كفارا ، وكانت تلك الآثار دالة كفر ، فلقد حافظ المسلمون عليها كتراث مخلوقات مرت وعبرت من هنا في زمان مضى ، فأين هي الدلالات على التاريخ التوراتي وأين هو التراث اليهودي ، وهل ثمة غيره كتاب التوراة يدل على تاريخ حكايات ، وهل عرف اليهود مثل المسلمين رأفة ورحمة ومعاملة طيبة ، فصليبيوا القدس طلبوا من عمر بن الخطاب أن لا يدخل القدس يهود ، ولكن صلاح الدين أعطاهم أن يدخلوا ويسكنوا ، ومثله فعل المسلمون من بني عثمان ، ولسنا هنا في سيرة المعاملة الانسانية الرفيعة للمسلمين مع اليهود عبر الزمان ، وانما نذكرها للفت الانتباه ، الى أنه لم يكن من مصلحة اليهود زراعة كراهية لهم في صدور العرب والمسلمين بهذا الارتماء في أحضان الاستعمار ، والذي جعل من أمن كيانهم العنصري متناقض بالتمام مع أمن العرب والمسلمين ، وقد يشهد التاريخ على أن اليهود عبر التاريخ وجدوا أمنهم في أحضان رعاية عربية واسلامية ، فهل من سبيل الى خروج هذا الكيان من هذا التناقض الوجودي الأمني بغير فكفكة للكيان العنصري ، بؤرة الحقد على العرب والمسلمين ومناط التآمر الاستعماري على حاضر العرب ومستقبلهم ، فالغريب هو الغريب ، فهذه أرض العرب ، ولم يحصل عبر التاريخ أن دامت فيها سيطرة لغريب ، وهذه صفحات التاريخ ، ليقلبها من يريد .
وهكذا فان أوهام التاريخ التوراتي ، التي هي في الذهنية اليهودية بمثابة حقائق تاريخية ودينية ، ولا يعدو لديها غيبة أدلة من آثار على مقولاتها سوى أنه المندرج في كراهية اليهود ، وفي تجريف التاريخ من كل تلك الأدلة نكاية بيهود ، وهذا هو حال الذهنية التي تتسور بكل رفض للعقلانية والموضوعية ، فليست ذاتها وما تعتقده سوى المسور في حصن من اعتقاد ، لا يطاله كل ما يقول به الآخرون الغرباء عن الاعتقاد باليهودية ، فهو الحصن الذي أغلقت به الذهنية ذاتها على كل اعتقادها ، وهو الاعتقاد الذي انساقت به الذهنية هذه ، فأنبت على ألسنة اليهود قولهم بأنهم انما يعودون الى أرض الآباء والأجداد ، أو بأنهم انما عادوا الى أرض أبائهم وأجدادهم ، فهم بوعيهم ليسوا الغرباء في الأرض وهذه حقهم التاريخي والديني ، وانما العرب في وعي ذهنية كهذه انما هم المستعمرون الذين عمروا أرضا ليست لهم ، ولهذا فان اقتلاعهم وتشريدهم ، انما هو مسألة ممارسة لحق يهودي ، واذا قيل لهم بأن الحق التاريخي هو في جانب السكان الأصليين ، وهم العرب ، وبأن النص التوراتي لا يخلو من ذكر أن هذه الأرض انما كانت معمورة بسكان وهم كنعان ، واذا قيل لهم هذه حقائق التاريخ ناطقة بأن حضارة كنعان انما هي أصل الحضارة على هذه الأرض ، بكل بما أنتجته من حضارة ، لا تزال الأرض ناطقة به ، وتدل عليه ، فالآلهة التي أبدعوها والأصنام التي صنعوها لتلك الآلهة لم تزل موجودة ، وتم العثور على عشتار وغيرها كثير ، ففي كتابه ( مغامرة العقل الأولى ، دراسة في الأسطورة وبلاد الرافدين ) الصادر في دمشق عام 1988 ، يقول فراس السواح ، في صفحة 111 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) :
"ومن الآلهة المؤنثة عبد الكنعانيون ( عشيرة ) ألأم الكبرى وزوجة ايل ، وكانت تدعى ( ايلات ) نسبة الى ايل( كبير الآلهة ورب السماء ) ، من ألقابها سيدة البحر ، وما زال اسمها حتى الآن يطلق على الخليج المعروف باسم خليج ايلات . كما عبدوا عناة حبيبة الاله بعل وروح الخصوبة الكونية ، وكانت تلقب بالعذراء ، وعشتارت ، وهي الهة أخرى للخصب تقاسمت مع عناة وظائف الهة الخصب عشتار ، الى جانب هذه الآلهة نجد آلهة في المرتبة الثانية مثل الاله ( يم ) وهو البحر الأول ، وشبش ، الهة الشمس ، وهي انثى على عكس اله الشمس الباابلي شمش ، وداجون اله القمح وأبو الاله بعل " .
فالبحث عن الخالق قد نحا بالفكر في اتجاهات متعددة ، كلها تصب في اقرار ، بأن العقل كان باحثا ومتأملا في سير الطبيعة ، وناطقا بأسئلة هامة ، تؤثر في مجرى مجتمع قائم ، وبأن الملحمة الشعرية الكنعانية بها الكثير من الدلالة على أن الملحمة اليونانية انما تأثرت بالأدب الكنعاني ، فمبانيها بها دلالات تستدعي أسئلة كثيرة حول تأثير حقيقي للحضارة الكنعانية في دول البحر المتوسط ، ثم ان الفنيقيين انما هم الكنعانيون وهو اسم لحق بهم من تسمية أسماهم أياها الآخرون من سكان أوروبا .
ويقول فراس السواح ، في كتابه ( مغامرة العقل الأولي ) صفحة 109 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) : " سكن الكنعانيون سورية الشرقية والشريط الساحلي السوري منذ مطلع التاريخ المكتوب وأشادوا مراكز حضارية بقيت مشعة حتى الفترات الكلاسيكية المتأخرة . وبالاضافة الى التأثير المتبادل بين الثقافة الكنعانية والثقافات السامية الأخرى المجاورة والثقافة المصرية ، فان الثقافة الكنعانية كانت ذات تأثير مباشر على الثقافة الكريتية والثقافة اليوناينة اللاحقة . يظهر هذا التأثير في الأساطير اليونانية التي تشير صراحة الى التأثير الثقافي . كأسطورة قدموس الاله الذي جاء فينيقيا وعلم اليونانيين الكتابة ، وأسطورة اختطاف الالهة السورية يوروبا التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة . وقد أطلق اليونان على من احتكوا بهم من الشعوب الكنعانية اسم الفنينقيين . " . وفي صفحة 110 من نفس الكتاب يقول : " الا أن اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل السوري ، جعلنا نقف على أرض أكثر صلابة لأن الألوح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل هناك ، قد وصلتنا بالثقافة الكنعانية مباشرة دون وسيط أو ناقل . وبعد حل رموز الكتابة الأوغارتية ، ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نقشت على تلك الألواح ، هي كتابة أبجدية ، وأنها أول أبجدية كتبها الانسان وتنتمي لعائلة اللغات السامية . والأوغارتية شديدة القرب للغة العربية " .
ونجد في بحوث عديدة ، وفي كتب أحمد داوود ، التي خص بها سوريا في الزمان القديم ، تأكيده على عروبة المنطقة عبر الزمان كله ، وهو يتوقف عند هذا في أكثر من كتاب له ، ويقدم كل دليل يبرهن مقدار التصاقه بالحقيقة ، فسوريا لديه تشمل فلسطين ، وهو يدلل على عروبة ممتدة في الدلتا شمال مصر ، فهي منطقة متداخلة ، متفاعلة عبر الزمان ، و يبين بشرح تفصيلي بأن لغات المنطقة في حقيقتها ، انما كانت لهجات مختلفة للغة واحدة وهي العربية ، وانما الجهل باللغات هو ما حدا الى توصيف لتجمعات سكانية لا تجمعها لغة واحدة .
وينحو محمد عبد الحميد الحمد نفس النحو في كتابه ( التأثير الآرامي في الفكر العربي ) الصادر عام 1999 ، عن دار الطليعة الجديدة في دمشق – سوريا ، اذ يقول : بأنه " من خلال البحث والتقصي تبين لي أن العرب والآراميين والكنعانيين من أصل واحد . ولكن من سكن منهم المرتفعات دعي بالآرامي ، ومن سكن المنخفضات دعي بالكنعاني ، ومن سكن البادية دعي بالعربي . أما الآرميون الذين آمنوا بدعوة المسيح فتسموا بالسريان تمييزا لهم عن الآرميين الذين تمسكوا بالوثنية " .
لقد كانت الجغرافية حاضنة تاريخ يتأهل ، بما يؤديه العقل من دور في رسم نمو وتطور الى وعي بمصير واحد ، فالتيارات التي تهب على المنطقة واحدة ، والجغرافية واحدة ، والتفاعل ضرورة حياة وأمن ، ما أنتج عقلا كليا ، ربط بين سكان جغرافية واسعة الأطراف . فاذا فئة من ناس راحت تعتقد عقيدة مختلفة عن كل الناس ، فهي مع ذلك لا تستطيع أن تزعم لنفسها ، بأنها بما تعتقده من معتقد ، يؤهلها الى نكران استعارتها من محيطها لغة تتكلم بها ، ولباسا تلبسه ومأكلا تأكله وبيتا تأوي اليه ، فنكرانها جملة كاذبة ، فأسماء آلهة كنعان نجدها في لغة عبرية تقول هي بأنها من ابداعها ، وأخرى غيرها أصلها آرامية أو أوغارتية ، وغيرها التقويم البابلي ( قمري – شمسي ) ، نجده يتسمى تقويما عبريا ، فأن تكون فئة بعدد أصابع اليدين والقدمين ، في جغرافية مترامية الأطراف وتزعم بأنها بانية ملك وحضارة ، فهذا خارج العقل ، وخارج كل امكانية يمكن أن يدلل عليها عقل ، واذا فئة عاشت في ظل ملك أو في ظل حضارة وأخذت منها كل ما يمكنها ذلك ، بسبب من اندماجها الذي لا يمكنها غيره ، وجازت لنفسها أن تفاخر بذلك الملك ، أو بتلك الحضارة ، فليكن لها ذلك ، فأما أن تزعمها لنفسها ، فالملك ملكها فهو من ذاتها فهي صاحبة الحق بالملك وبالأرض وبنفي كل سكان لا يدينون بما تدين به ، فهذا انحراف عن جادة الصواب ، ولا يصوبه الا بما يعاد به مارق الى صوابه ، فتلك سوريا فيها الآن فئة يهودية ، وتعتبر حافظ الأسد رئيسها وتعتز به ، وتدين له بكل حب ، وتعتبر سوريا بلدها وانتماءها ، ومنطقها هذا متصل في زمن بشار الأسد ، فهل ثمة من ينكر عليها ذلك ، فماذا لو جاء زمان ، وقالت هذه الفئة بأن حافظ الأسد ملكها أو رئيسها ، وبأن سوريا ملكها ، وراحت تعمل بكل تآمر على نفي سكان سوريا من مكانهم ، فهل هذا كلام فيه رائحة من عقل أو صواب فكر ، فيقبله عاقل .
فهذه أرض عربية اسلامية ، ولم تكن يوما غير ذلك ، وقد تحدثت الأرض ، بما بها من مخزون ، بلسان علم الآثار ، ودلت على مجرى تاريخ تعرفه ، وهو بكل دليل متناف مع ما تحكيه مرويات توراتية ، وبازاء ذلك فمسألة الهوية اليهودية التي لم تكف تلح على ما يؤيدها ، لم يكن لها الا أن تلجأ من داخل فراغ الواقع من كل تأييد الى الوهم ، فتتوهم الواقع الذي لا وجود له في واقع ، وهو ما لم يكن ذلك ممكنا ولا متاحا بغير الزعم الفارغ من كل تأييد آت من غير النص التوراتي ، تماما كما حال قصة هيكل سليمان ، وما الى ذلك من قبور أجداد ، وأوهام ، وأوهام ، والتي لا حل لها سواها الأوهام ، فهي وحدها طعام ألأوهام ، وبدأت سيرة الوهم ، فزعم بأن حجارة الأساس لحائط البراق انما هي بقايا هيكل سليمان ، وهو ما لم يقم عليه دليل ، فالذين أقاموا بنيان المسجد الأقصى ، هم أنفسهم الذين أقاموا حائط البراق ليعتدل لهم البنيان في مكانه ، وفقا لشريعة الاسلام التي ملأتهم وعيا وفهما ودراية بما هم فاعلون ، وهنا يجب أن يتوقف الذين يقتربون من سرد للتاريخ ، ويبتعدوا عن المرويات التوراتية ، المتناقضة مع تاريخ الاسلام ومع علم الآثار ، ومع منطق التناول للنص ، فالذي لا يجاز على أساس من العقل ، نظرا لتبيان هذا العقل جملة من متناقضات تجوب النص ، لا يصح تناوله بغير اسقاطه والابتعاد عنه ، لينزوي على رفوف اللامعقولية ، وبين طيات الضلال ، وفن التضليل الذي افترس عقولا ، ووظفها في خدمته في مدى زمن طويل ، بوعي كان ذلك منها أم بغير وعي ، بفهم أو بغير فهم ، وليتم فضح هذا النهج الضلال بكل حقيقة تكتب عليه سيرته ، في سلب الوعي اساسيات تعقل كان أولى له بأن تكون له ، في كل حين يتناول فيه نصا ضلالا ، أو يصيخ سمعا لتضليل بضلال ، ولعل هذا هو حال اللاعقل حين اقترابه من اللامعقول ، فانه يستسيغه لكون جملته متسقة مع اساسيات تكوينه ، فاذا استوى اللاعقل في محل العقل ، بدا وكأن العقل يعقل لا معقولا ويستسيغه ، ويدافع عنه ، فاذا تجلى العقل لذاته وخرج من تغريبه لذاته عن ذاته ، أدرك مدى التوظيف له بجملة من ضلال .
وحري بنا ونحن ندعو دعوة العروبة والاسلام الى فضح الضلال واسقاطه ، أن نلفت الانتباه الى أن عمر بن الخطاب والذين هم من حوله حين دخلوا القدس ، ما كانوا بحاجة الى كعب الأحبار ولا الى أحد من هذا الصنف أو ذاك ، فهم الفاتحون الذين خبروا الأرض وما عليها ، فذلك عمرو بن العاص ما كان على رأس الفتح لمصر الا لكونه يعرف الأرض التي هو ذاهب اليها ، فما تراها هذه السذاجة التي جابت السرد التاريخي لدى كثيرين من المؤرخين ، حين اقتربوا من توصيف دخول عمر بن الخطاب الى القدس ، فهو العادل الذي لم يعرف ممارسة لظلم ، بل هو العادل وبأعلى صوت للحقيقة وبكل المعاني التي تعنيها ويعنيها ، فهو الذي عرف الحق والتزمه ، فأقام العدل غير مقيم لغيره قبولا ، فكيف أجاز لنفسه قبول طلب من نصارى بأن لا يدخل القدس يهود وأن لا يقيموا فيها ، وهم في عرفه ، في دينه ، أهل ذمة ، فكيف ارتضى ذلك ، والجواب واضح وضوح العدل لديه ، وبيان الحق في وعيه ، وهو لأنه بذلك يحقق عدلا ، لا يضار به يهود ، وانما ينصفهم وينصف النصارى ، فكيف يكون ليهود حق في داخل القدس ، ويتغافل عن اسدائه لهم عمر الفاروق ، والجواب هو لأنه يعلم بأن لا صلة لهم تربطهم بقدس ولا بما فيها ، فلا ضير ان باعد بينهم وبين نصارى لا يطيقون أن يرونهم ، فهو بذلك يحفظ سلاما اجتماعيا ، لا يقرب نصارى مما لا يطيقون ، ولا يقرب يهودا بما يضيقون به .
أمن العقل أن يكون هناك من يكتب تاريخا اسلاميا عربيا ، يتوهم أن الفاروق انصاع لطلب من نصارى ، بانزال ظلم بغيرهم ، وهم اليهود ، فكيف والظلم يتناقض مع عدله ، ومع دينه الذي يأمره ، بأن يحفظ حقوق أهل الذمة ، كيف لم يخطر على بال مؤرخ عربي مسلم بأنه وهو يكتب التاريخ ، حري به أن لا يلحق بعمر الفاروق ما يسيء اليه وللاسلام ، فجملة التناقض ، فسرعان ما يتنبه لها عقل يحترم التعقل المبني على عدم التناقض على أقل تقدير ، ثم أليس هو عمر الذي لم يرض لنفسه أن يقيم الصلاة في كنيسة القيامة ، خشية أن يقيم المسلمون ، من بعده ، في مكان صلاته مسجدا ، أليس هو ، الذي يرى ما بين يديه ويستشرف بما يفعل آفاق مستقبل قادم ، فلم يمكنه أن يقبل لمسلمين من بعده أن ينكروا على نصارى حقهم في بيت عبادة لهم ، فينبثق عن ذلك من الصراع ما لم يقل به الاسلام ، لكونه يستبطن انكارا على أهل ذمة حقهم فيما هم عليه من عبادات حتى ولو لم يتفق للاسلام تجويزها ، وانما هي حق لمن آمن بها ، فهي شأنهم ، وهم في داخل الحرية التي يحرسها الاسلام أحرار فيما هم عليه من اعتقاد ، فهم داخل الاسلام آمنين ، فقياسا على هذا ، فكيف يمكن أن يقال بأن حقا ليهود قد أنكره عمر الفاروق ، أو استثناه من رحمة الاسلام وعدله ، وانما عمر الفاروق ومن كانوا معه والنصارى ، بل وكل الناس الذين كانوا في القدس لم يروا حقا ليهود في القدس ، ولا أي شيء من ذلك ، فكانت استساغتة أن يكونوا خارجها ، ثم ماذا كان يمنع يهودا من أن يأتوا عمر الفاروق ويسألوه حقهم في سكن أو في عبادة ، فهم من أهل الذمة ، وهم يعلمون ذلك ، واستبعاد علمهم بحقوقهم هو نوع من التغابي ، ولو سألوه ، فهل كان يمكنه أن يمنعهم عبادة في أي مكان هو خاص بهم ، فلماذا لم يفعلوا ، وهم يعلمون بأن حقهم في دينهم وفي ما يملكون بين أيديهم ، فليس مثل عمر الفاروق صونا للاسلام ، وفي داخل الاسلام هم يملكون كما النصارى أن ينالوا حقهم كاملا ، ويكونوا آمنين على كافة حقوقهم بحراسة الاسلام نفسه ، فمن هنا اذا ثمة أفراد من يهود في ذلك الزمان ، فهم على القياس الذي نقيس عليه ، الشاهدون على خلوهم من أية صلة لهم بكل ما له صلة بالقدس التي كانت أيام دخلها عمر الفاروق عدلا وحرية وأمنا وآمانا .
فماذا أقول بمؤرخين كتبوا مجلدات ضخمة ، وقد استحالت الى مراجع لاستشراف التاريخ ، فلا يصح تجاوزها بغير العقل المتجدد في منطق تناوله الذي يستعيد به صوابه من تيه في تناول بلا أدنى تمحيص ، فلقد تصنم عرب ومسلمون أمامهم ، فكأن ما جاءوا به هو هو الذي يؤخذ كما هو ، فهذا التصنيم لفراغ في وعي ، أو بسبب من عدم تأسيس للعقل على منطق تناول خلو من قبول الشيء وضده في آن واحد ، أو بسبب من عقل عربي قد روضوه ، في مجرى الاستبداد ، على استساغة ما يقول به من قيل له بأنهم أعلم منه وأفصح منه في الخطابة ، فاذا هو لم يستسغ قولهم ، وجد نفسه محاطا بشعبية من عوام يرهبونه فكريا ، فلا أحد من حوله يرتضي بغير أن يركن عقله جانبا ويستسيغ الذي يلقى على عقله ، وهو حال العقل العربي الذي وعينا دورته عبر العصور ، وهو بعينه الحال الذي يدعونا الى اعادة تأسيس العقل العربي ، لكي نستطيع قراءة جديدة لتاريخنا ، ولكي نستطيع أن نؤثث لحاضرنا ما يمكنا أن نقيم مستقبلنا الذي نحلم به .
فكيف جاز لهؤلاء المؤرخين الكبار ، أن ينتقصوا من علياء تربعوا عليها ، كيف لم يفهموا بأن المكان أولى القبلتين ، الى حيث كان الاسراء ، ومنه كان المعراج ، لم يكن هذا مثل أي مكان ، وانما له خصوصية لا يعدلها الا الذي هو مثلها ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف لكل من حوله ، سيرة الاسراء والمعراج ، ووصف بدقة لا يقتدر عليها غيره ، وحدد بالوصف وبدقته كونه الرسول الكريم المكان ، وبأنه من ساعة كون ذلك المكان أولى القبلتين ، ومن ساعة أن كان المعراج منه ، فان المكان قد نال من الاهتمام البالغ الذي يعني بأبسط قول هو القرب من المكان ومعرفته، وبكل السبل المتاحة ، ولم تكن بعد تلك الاحاطة المستقاة من الرسول الكريم ، أية امكانية لقلة معرفة بالمكان ، ولم تكن ثمة حاجة لمخلوقات غير الذين يحيطون بالرسول ويسمعون منه ويأخذون ما يقول به ، لمعرفة المكان ، فكل من هم غيرهم ولم يأخذوا عن الرسول الكريم ، كانوا خارج التعريف الدقيق بالمكان ، فتحديد المكان لم يكن ليكون برأي من خارج المحيط المؤمن بما جاء به الرسول ، فاذا جاء عمر الفاروق الى المكان ، في القدس ، فهو ومن حوله يعرفونه معرفة الواحد منهم ليده اليمنى من يده اليسرى ، فكيف جاز لمؤرخين كبار استساغة وكتابة سرديات لا تتفق مع ايمان ولا تتفق مع شأو المكان ، وشأن خصيصته ، ودلالاته ، والمعرفة به ممن عرج منه الى السماء ، كيف جاز لهم ذلك التوصيف بأن ثمة من سأل كعب الأحبار ، أو سأل هنا وهنا ليتعرف على المكان ، وبأن زبالة كانت في المكان ، كان النصارى يضعونها على المكان نكاية بيهود ، فأي قول متناقض هذا مع فصاحة وعي الفاروق وصحبة بالمكان ، ثم أليس في ذكر هذه السرديات من استفسار عن المكان ومسألة الزبالة ، وغيرها ما يدل على انتقاص من معرفة عمر الفاروق وصحبه بالمكان وهو أولى القبلتين ، وهو اللامعقول الذي لا يرتضي به دين الاسلام ، ولا العقل الرصين ، أفأولى القبلتين ولما يصلوه وهم الذين عرفوا كيف يصلوا كل مكان أرادوا وقبل أن يذهبوا اليه كانوا على دراية به ، فأي سرديات هذه ، أهي من جملة الاضافات التي تتراكم لدى الكاتب من جمع بلا وعي ، فاذا سردية قرت في أذنه وكانت من بنات خيال ، أو من دس رخيص ، لم يتساءل بأكثر من حفظها ، فهي تزيد في عدد الصفحات ، وتزيد في الايهام بالموسوعية ، أفهكذا تكون كتابة التاريخ ، أو ليس تاريخ في أمهات كتب التاريخ أحوج ما يكون منا الى اعادة تنقيته ، بل اعادة كتابة التاريخ كله من جديد ، فثمة سرديات كتلك كمثل القول بأن ثمة حقا ليهود في المكان ، كيف تم استغفال الخلق بسرديات تبدو حائرة تائهة ، فليس ما يؤيدها من سرد متسق ولا من عقل ، ولا من ايمان ، فلا تصمد أمام العقل بحال ، فلا قيمة لسرديات كهذه ، ، فمكانها الزبالة ، كما قولهم بزبالة توضع في المكان ليدللوا بما يشبه الشهادة بالزبالة على حق من لا حق له ، ولم يكن له ولن يكون له في المكان .
وليست أزمة الكتابة للتاريخ مقصورة على كتب قديمة ، وانما هي ممتدة باللاوعي الى كتاب معاصرين ، بهم غيرة على بلادهم وحب كبير لها ، فترى الى الكاتب ، يقترب بالكتابة من فلسطين ، بهدف خدمة القضية الفلسطينية ، وحفظ تاريخ هذه المنطقة من الوطن العربي ، واذا به حين يدنو من تاريخ مضى يعود أخطاء الذين نسخ عنهم أو أخذ عنهم أو تعلم منهم ، فاذا بها مرويات التاريخ التوراتي تنزل له في صفحات كتابه ، واذا بها مرويات كتبها كتاب عرب بلا وعي بما يكتبون ، تنزل هي أيضا في صفحات الكتاب ، فاذا بالكتاب وبه ما لا يخدم تاريخ فلسطين بل يشوهه ، ويضر بالعقل الذي يريد أن يفهمه ، فمرويات كهذه مادة ضلال ، لا فائدة منها لغير من هم أعداء العرب ، والطامعين بأرض فلسطين ، وتلك " الموسوعة الفلسطينية " ، لمؤلفها " الدباغ " ، ولنقرأ معا ما كتب عن القدس وعن الخليل مثلا ، فالجانب الفلسطيني من الكتابة اضافة مهمة ويؤخذ بها عربيا وفلسطينيا ، ولكن سرعان ما ترد المرويات التوراتية ، فكأنها بعض تاريخ وكأن لها صلة بواقع ، فكيف جاز لحريص على فلسطين ، أن لا يحرص على صدق ما يرويه وعلى دقته ، فمثل هكذا موسوعة فهي فلسطينية في جانب ، وهي في جانب مترافق ليست فلسطينية ، بل تؤثث لما يلحق ضررا تاريخيا بالحقوق الفلسطينية في جانب منها ، فلا بد من اعادة تشطيب لكثير مما جاء فيها ، وهذه مسؤولية تاريخية ، ليس فيها محل من اسداء قيمة على ما لا قيمة له ، وليس فيها مجال لكي لا نكون صرحاء بين أنفسنا ، وليس فيها مجال للمساومة ، فهنا نحن نصدى لقضية مصير ، وليست هذه الموسوعة وحدها بهذا الحال ، بل غيرها كثير ، ونحن تحت الحاح الحقيقة ، محتاجون الى جرافات من قدرات علمية تقوم بتجريف كتب التاريخ من كل زيغ ، ومن كل تهافت فالت من عقال الوعي ، وجانح عن صواب التاريخ ، فشأن من تهافتوا من الكتاب العرب على الكلام الكثير ، ومن غير بحث علمي لتبيان حقيقة ما يسطرون أو ينقلون عن غيرهم ، كحال من يرجو بناء وعي ، فاذا هو ومن دون أن يدري يضع في ركن منه ، ما يظل يرهق هذا الوعي بأسئلة تنتج له شكه في وعيه ، فليحاذر كاتب تاريخ وليتبصر خطورة ما يقول به .
فلا تثاب غفلة فكر في تناول ، أو سرد له صلة بمسائل المصير ، ولماذا يعرج عربي عن قراءة عربية صحيحة للتاريخ ليحط في قراءات شائة ، فينهل منها ما يعود ليسقيه لأبناء العرب ، على غير بصيرة منه بخطورة ما يذهب اليه ، فكم من خطأ قاتل ، ثم ان صوابنا فيما أصبنا ، فهنا لمن يشاء اطلالة في كتاب التاريخ لابن الأثير ، فسوف يجد في الجزء الأول منه ، عن ابراهيم الخليل ، ما يفيد ، بأن الوليد هو اسم الفرعون الذي ذهب اليه ابراهيم ، وبأن أخوه الضحاك هو من ولاه على شمال الدلتا في مصر ، فعلى ما يبدو ، فان هذه المنطقة كانت بالحال الذي وصفة أحمد داوود وآخرون ، ممن تنبهوا للزيف الاستعماري الذي حط على كتابة تاريخ هذه المنطقة ، وكذلك كان شأن موسى ، ثم فليذهب المسلم والعربي الى معتقده ، فابراهيم مسلم وكذلك يعقوب وموسى ، وبنص القرآن ، فما شأن غير المسلمين بهم ، وكيف يجاز تاريخ لهؤلاء لا يقول به الاسلام ، فمن يجيز ذلك بغير علم آثار فصيح الدلالة ، فكأنه يرتضي غير الاسلام دينا ، ناهيك الى أن البحث في أصل البشر ، يستدعي السؤال عن العروق ، فمن أي عرق جاء هذا اليهودي ، وكم من اليهود ينحدرون من عروق لها صلة بهذا المشرق العربي ، فسؤال التناسل عبر التاريخ يوجب التفاتة ، ويستدعي السؤال ، فكم كان عدد اليهود في العالم ، وأين كانوا حين نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكم كان عددهم قبل ذلك بمئات من السنيين ، فكم كان العدد على وجه التقريب ، فلينطق علم الاحصاء ، فهل بمثل أعداد كهذه يقام ملك ، أو تقام دولة ، أو تصاغ حضارة ، أو حي في قرية ،
فالصهيونية عدوان على العروبة والاسلام ، قالت وتقول ما يعزز مقولاتها ، وطموحاتها ، وكذلك كان شأن قول الفرنسيين حين استعمروا الجزائر في مدى عشرات من السنين ، فلقد قالوا بأن الجزائر جزء من جغرافية فرنسا ، وقد انفصلت عنها بسبب من تباعد القارات ، وتصرفوا على هذا الأساس واستوطنوا الأرض وحلبوا خيراتها ، وسبلوا الناس جهدهم ، وساموهم سوء العذاب ، فلم يكن لانسان الجزائر قيمة انسانية في وعي استعمار جاء يستوطن ويسلب ، ولم يكن لهذا المستعمر بازاء مشروعه الاستعماري ، الا أن يبرره بكل كذب على التاريخ وعلى العقل وعلى النفس، من قول يلقي به على المسامع ، مستهدفا انتاج عقلية ومفاهيم ومعايير وقيم ، في خلال اعادة هيكلة انتماء وهوية ، فكلها في خدمة الأطماع الاستعمارية ذاتها ، ومثلهم قال الروم حين جاءوا الى هذا الشرق ، وكذلك كان حال الحروب الصليبية ، التي جرت تحت شعار مهد المسيح ، فالهوية مسألة فارقة في خطورتها ، فتلبيسها للغزو يعطى الغزو مسألة جامعة ، تجمع كل الذين يتوجه اليهم الخطاب الرامي الى توظيفهم ، في تأهيل الغزو ليغدو ناجزا منجزا محققا أهدافه ، فقراءة التاريخ تساعد على معرفة مقدار قيمة مقولات استعمارية كهذه ، في سياقاتها الاستعمارية ، فلقد ظلت هذه المقولات كمساهمات من جانب المستعمرين لتعزيز سعيهم الى اطماعهم ، لكنها في ذاكرة الشعوب المقهورة ، لم تكن سوى ما يدلل على المخاطر وعلى ضرورة التصدي لها ، فانصباب وعي الشعوب كان دوما على خلاصها من القهر ، ومن السيطرة الأجنبية ، فهاجسها وحاديها هو استعادة حقوقها في أرضها ، بارغام الغزاة على الرحيل .
وهنا جملة التناقض بين العرب والمسلمين وبين كيان استعماري استيطاني ، يسعى الى تكامل ترسيخه لذاته في المكان وفي ذاكرة البشر ، فتشكيل هويته وانتاج دلالات عليها في الواقع ، لجعل مبررات قيامه واستمرارة في سرد تاريخي توراتي يؤيده ، ويصبح بالدلالات وله فصاحة التعبير عن ذاته ، في خلال عملية انتاج لمصداقية تبرر سيره في التشكل عبر الزمان ، وتبرر حقه في الديمومية ، وتنفي عن العرب والمسلمين حقهم في استعادة حقوقهم في تراب أرضهم ، وهي التي تعني تفكيك الكيان الاستعماري ذاته ، فالمسألة مسألة مصير . فثمة تناقض وجودي يملي تناقضا جوهريا في الأمن ، وتناقضات في مستوى الثقافة والتاريخ والدين ، فليس ثمة ما يجيز مساومة أو تفاهما أو تواصلا ، فليس سواه النفي ، فهكذا حال التناقض الذي تشكل بالغزو لأرض فلسطين .
فمنذ أن كانت الصهيونية ، واشكالية الهوية اليهودية لوطن قومي يهودي شاغلة عقليتها ، فهي الهوية التي لا مصدر لها سوى الدين اليهودي ، وهي التي سوف تستحيل ، في ضوء النزوع والعمل الذي لا يكل ولا يمل ، الى فكرة مجسدة في واقع ، ومتمثلة في وطن قومي لليهود ، فأين ؟ ، فهذا سؤال الفكرة الاستعمارية التي بغير الحضن الاستعماري الصليبي لن تجد لها صلة بأرض ، فأين ؟ فالجملة الاستعمارية يجب أن تكون منطوقة وتصحبها آليات تجسيد ، والصهيونية يجب أن تكون نتاج هذه الجملة ، ولا تحيد عن سير تحدده ، ولا عن أهداف ترسمها ، في فلسطين ! ، فليكن ، فهنا ملتقى الحقد الاستعماري كله عبر الزمان كله ، وهذا ما كان ، فلقد تم انتاج دولة اسرائيل ، من خلال انتاج نكبة لشعب فلسطين ، فالنكبة شرط يهودية اسرائيل ، فلا أغلبية يهودية في الدولة من دون صناعة نكبة لشعب فلسطين ، وهذا حال عقلية يهودية لم تزل تفكر على هذا النحو ، فضمان أغلبية يهودية يعني صناعة نكبة ، ترحيل ، صناعة ظروف لهم لا تطاق ، فيغادرون أرضهم مكرهين ، واذا غادروها ليعودا ، فالقوة كفيلة بأن تحول بينهم وبين أن يعودوا ، تفريغ الأرض من الفلسطيني ، فالهوية اليهودية لا تتجسد بدولة من غير أرض ، فهنا القانون واداة القمع في دولة يهودية هو شيء واحد ، فبهذا المعنى الذي هو منطوق تاريخ جرى ، فتشكيل هوية يهودية لدولة ، متناقض بالتمام مع وجود شعب فلسطين ، ومتفق تماما مع انسانية صهيونية ووجودها ، فهنا انسانية ليست بمعنى انسانية مشروحة مسرودة في كتب عن الانسان ، وانما هي بمعنى مختلف ، فانسانية صهيونية نقيض انسانية فلسطيني بالتمام ، فمن الخطاء حين الاقتراب من هذه الكلمة ، بأن يتم القفز عن كون الكلمة تعني في هذا السياق الشيء وضده في آن واحد ، فانتاج الهوية ، وهيكلتها على ما يتفق ويهودية دولة ، لا يتأتى بغير نفي لما يمكن نفيه من كل ما يعني فلسطيني ، فآلية تشكل الهوية حرب على تاريخ فلسطين وعلى ثقافتها وعلى كل ما يصلها بالعروبة والاسلام ، وهذه جملة دولة يهودية ديمقراطية ، من لحظة أن كانت فكرة الى أن تجسدت بالقوة كدولة في أرض فلسطين .
ولما أن الذي قيل بأنه الوهم ، وبأنه الأسطورة ، قد أسفر عن وطن قومي لليهود ( دولة اسرائيل ) ، فالتاريخ التوراتي أصبح أحوج ما يكون الى دلالات عليه ، وها هي الأرض تحت السيطرة ، ما جعل علم الآثار يتبوأ مقاما رفيعا ، فهو المعول عليه ، بأن يقيم للتاريخ التوراتي أركانه ، بالكشف عن ما يؤهل القول للدنيا : ها هو وهذه هي الأدلة على وجود يهودي ، وحضارة يهودية كانت في زمن مضى ، على أرض فلسطين ، وأبعد من ذلك ، فهذا ما يعطي مبررات العودة الى أرض الآباء والأجداد ، فاليهود عادوا الى حضن آبائهم ، وما العرب سوى مهاجرين جاءوا واحتلوا أرض فلسطين ، وآن لهم أن يتفضلوا بتركها الى أصحابها الذي عادوا اليها ، فان لم يفعلوا ، فالقوة متوفرة ، وزاد على تأهبها الدائم لترحيلهم ، بأن انضاف الى مبرراتها ، ما يسندها من أدلة على تاريخ توراتي تنطق به آثار دالة عليه .
وهكذا تم ايلاء البحث عن الآثار اهتماما بالغا ، ذلك لكون وظيفته استحالت الى ضرورات هوية يهودية ، فالتوظيف لهذا العلم ، لم يعد في هذا الجانب مسألة أبحاث وتفتيش عن حقائق تاريخ ، وانما البحث في خدمة هوية يهودية ، فاذا ثمة آثار هنا أو هنا ، ويصبح بالامكان اسباغ تفسيرات يمكنها أن تنطلي وتجري مجرى الحقيقة ، حتى وان كانت الزيف بذاته ، فالهوية لها ضروراتها ، فخدمتها بما يضيف اليها ، وبالفعل فقد كان هذا هو الاتجاه الذي نحا بالبحث نحوه ، وقد بذلت جهودا كبيرة وصرفت أموال طائلة ، ولم يتركوا مكانا ويظنون في باطنه دالة على ما يتمنون ، الا وحفروا وبحثوا ، وفتشوا ولم يجدوا دليلا واحدا ، على وجود ما تسمى آثارا يهودية ، تدل بدلالة على تاريخ يهودي كان في الزمان والمكان ، وانما كل الآثار التي تم التوصل اليها ، بدورها أفصحت عن تاريخ عربي .. كنعاني .. اسلامي ، وأخرى تدل على آخرين مثل رومان ، مروا ، عبروا ، هربوا ، وهذه حقيقة نتائج الأبحاث الكثيرة ، والتي لم تزل تمضي ، تحاول أن لا تترك مكانا من فلسطين الا وتبحث فيه ، عن ما يؤيد هوية تشكلت وتدل على حقيقة يهود كانوا ، ويبدو بأن البحث العلمي عن التاريخ التوراتي الذي قالت به التوراة ، لا يتصل بما يدل على كيان ليهود ذي بال في أرض اسمها فلسطين ، ومع ذلك فان السياسة لم تزل تلح الحاحها على انتاج الهوية ، ولو من داخل الايهام والتوهم ، فاذا الواقع ينكر تاريخا توراتيا دالا على عمارة يهود ، فذلك لا يعني ، في ضوء سطوة القوة أن لا يتم انتاج دلالات تشير الى ما يدل على مصداقية لهذا التاريخ ، فهكذا هم ، وهكذا هي علاقتهم بتراث لا وجود له ، ويراد له أن يخرج من النص التوراتي ، من داخل الأسطورة ، الى فضاء واقع يفصح بدلالات ، يتم انزالها من الوهم الى واقع لم يعرفها من قبل ، فالفكرة الاستعمارية والأطماع تحدوها ، لا يعنيها من أمر سوى ما تنتفع به ، فحتى من قبل قيام دولة اسرائيل ، كان علماء من دول استعمارية ، جاءوا يبحثون عن كنوز سليمان ، عن المجوهرات ، عن الذهب ، وهم أصحاب فكرة البحث عن هذه الكنوز المتخيلة ، وهم أول من حفروا ، ومنذ ذلك الوقت والتنقيب والوهم كما الأسطورة ، يتدافعان نحو آثار موهومة ، فلعلهم بها يسندون بها الاسطورة .
ومباشرة بعد حرب عام 1967 سيطرت اسرائيل على ساحات بمحاذاة حائط البراق ، وهدمت بالجرافات حي المغاربة ، بعد أن أرغمت سكانه على اخلائه بالقوة ، ولقد شاهدت الهدم بأم عيني ، وكانت نفسي تتصدع ، وهي قصة تحتاج الى روايتها تفصيلا في وقت آخر ، وأما سكان حي المغاربة ، فهم الذين مكن لهم الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي ، مكانهم في محاذاة الأقصى . ولم يكن الهدم الا مترافقا في الوعي الصهيوني ، مع رغبة قوية بهدم هوية عربية اسلامية ، ليتأتى التأثيث لهوية يهودية في المكان ، فالقدس القديمة والمسجد الأقصى ، استحالا الى المجال الذي في نطاقه يراد تشكيل لدلالات على هوية يهودية ، فالحرب على الوجود ، وعلى التاريخ ، وعلى الثقافة وعلى الرموز ، لم تتوقف ساعة من زمن ، ولقد تم تأهيل كل ذلك بجملة من قوانين ، ما استبقى القضاء ، كما كان حاله دوما ، أداة فاعلة في خدمة العنصرية ، وهي اللعبة التي تبيحها ديمقراطية الدولة اليهودية ، فالفلسطيني الحريص على حقه في تراب أرضه ، سرعان ما استحال الى خارج على القانون ، ما يؤهل أجهزة القمع الى انزال العقوبة التي تتناسب مع ما يقضي به القضاء ، ولقد مشى التأثيث لهوية يهودية ، بانتاجها من داخل الوهم ، تحت سطوة قوة ، يحرسها قضاء في فضاء عمومي يهودي ، يقيم قيمة كبرى للقضاء وما يقضي به ، فكان الاستيلاء على ما يمكنها اسرائيل أن تستولي عليه من مساحات أرض ومبان ، وأقامت فيها ما أوحت بأنه تأهيل لهويتها ، وحفرت تحت الأرض حيث شاءت ، وزعمت تاريخا لا صلة ليهود به ، وهكذا راحوا يقيموا زعما تلو زعم ، يؤثثون به لوهم هم يصدقونه ، ويمضي بهم الوهم ، فالقوة مجال تسوير يتيح استنساخ الفكرة في الواقع ، وبظنهم بأن في ذلك ما يهيء لها ، فبمرور الوقت ، وبقوة الاشاعة ، والدعاية أن تستحيل من مجرد فكرة ، أو وهم الى حقيقة واقعية ملموسة ، تمكن الاشارة اليها بأنها موجودة ، فها هي ، فكل ذلك يؤثث لهوية لها دلالات تدل عليها في واقع ، ما يسمح في اعادة انتاج الصورة والمضمون للهوية ضمن الهيبة ، ما يتيح انتاج عملية تضليل مضافة الى تضليل سابق عليها ، وكان تم به التأثيث لفكرة الكيان الاستعماري .
ولقد امتدت اللهفة الجامحة على ما يؤيد الهوية التوراتية ، فكان الالتفات الماكر الى المسجد الأقصى ومحيطه في القدس القديمة ، وقالوا هنا كان الهيكل ويجب أن يعاد بناؤه ، والى هناك في الخليل حيث الحرم الابراهيمي ، اقتربوا منه وقالوا هنا مكان أبينا ابراهام ، والى هناك ، في محاذاة المقبرة الاسلامية في بيت لحم ، على الطريق الموصل بين القدس والخليل ، حيث مسجد بن رباح ، دنوا وتأملوا وقالوا ، هنا قبر راحيل زوجة يعقوب ، أم يوسف ، وفي نابلس قالوا هذا قبر يوسف ، تسندهم القوة في كل اقتراب لهم ، واصرارهم على أن لا يقيموا قيمة لغير ما يسعون اليه ، غير مكترثين بمصداقية من تاريخ ، ولا بتاريخ ينفي جملتهم ويسقطها ، فما يقال بأنه قبر يوسف في نابلس ، انما هو قبر ( يوسف دويكات ) وهو مسلم تقي ناداه الناس بالشيخ ، وهناك أكثر من مكان على الأرض في فلسطين يشار اليها بقبر يوسف ، فثمة ما قيل بأنه قبر يوسف في الخليل ، ومن قائل بقبر له في مصر ، وبأن مومياء لم تزل في رتبة الظن بأنها يوسف . ثم ان مسجد بن رباح بناء يدل على ذاته ، وتمكن معرفة عمر البناء بسهولة ، فكيف قبته النصف كروية ، استحالت الى قبة قبر راحيل ، فهذا مسجد أقيم بفن على الطراز المملوكي ، فعمره ليس ممتدا الى آلاف من سنيين خلت ، وبناؤه يدل على حضارة اسلامية ، فكثيرا ما يقيم المسلمون مساجد على الطريق أو بجانب مقابر ، ولعل صلاح الدين الأيوبي كان من الذين يلحون على اقامة مساجد بجانب المقابر ، وقد كان بذلك التفكير انسانيا ، فالمسجد للصلاة ، ويمكنه المسلم أن يتعلم فيه ، ويرتاح لبعض من الوقت ، فيجد الماء والظل ، وقيلولة من تعب أو سفر ، فالمسجد وجه حضارة انسانية ، فوجوده ضرورة انسانية ، فالمسجد معين انساني ، فكله خير للانسان ، وهذا ما حدا الى اقامة ذلك المسجد في زمن المماليك في نفس المكان ، واذا افترضنا بأنه البناء الذي كان منذ زمن الست راحيل ، وبأنها كانت هي من وراء اقامته ، فليكن ، فهي فرضية تقيل كل صلة ليهود بالبناء وبالست راحيل ، وتستحيل الى حجة عليهم ، فاذا ارادواها لهم فعليهم اتباعها ، فهذا البناء ، بما هو عليه من تكوين ، واتجاه صلاة نحو القبلة ، نحو الكعبة المشرفة ، وفضاؤه الداخلي لدليل على أنه البناء الذي لا صلة له بما يسمونه كنيسا يهوديا ، فبنيويته الداخلية بنيوية مسجد ، فأهلا بمن يعودون الى دين الاسلام ، ويا عجبي من كشف ، بأن أما لهم كانت مسلمة ، وتصلي في مسجد ولا يتبعونها ، وانما يتبعون دينا لا يتفق بحال مع ما كانت هي عليه ، فاذا هو قبة راحيل ، فهو مسجد وهي مسلمة ، واذا هو البناء أقامه يهود من أجلها ، بعد وفاتها ، وهو قائم منذ ذلك الوقت ، فليس في الدلالة على الانتساب للدين ثمة فرق ، فالبناء ناطق بذلك ، فهيا فليتبعوها وليدخلوا دين الاسلام ، ويا مرحبا ، فنصلي معا ونقرأ القاتحة معا على المسلمة راحيل التي ليست هناك ، فليس ثمة ما يدل على أنها كانت هناك ، بل لا يمكن بحال من فحص عظام في تلك المقبرة تبيان من كان هناك ، وانما تبيان الفترة التي مات فيها من كانت تلك هي عظامه ، ولم يدل أي فحص لعظام على فترة قريبة من فترة يفترض أن راحيل كانت لم تزل تتنفس فيها . ولماذا يكون قبر راحيل هنا في هذا المكان بعيدا عن الزوج والابن ، فماذا دعا من الناحية الاجتماعية في مجتمع زراعي ، يسوده القلق على الرزق وتشيع فيه المخاوف ، فالأمن الشخصي والمعيشة لها مقتضياتهما ، ثم ما سر بقاء بنيان بكذا حال الى يومنا هذا ، كيف صمد في مدى آلاف السنين في وجه كل التيارات التي هبت على المنطقة .
وتلك ( كريات أربع ) ، هاجوا اليها وأقاموا فيها ، فهي موروث آبائهم وأجدادهم على حد زعمهم ، وحوطوها بكل نار ، وجعلوا منها بؤرة عدوان على كل المحيط بها ، فلسطينيا كان في هذا المحيط أم شجرة تطعم الانسان ، وخلخلوا الظروف ، وليس بهم غير غيظ دفين ينفجر كل حين ، يتقصد برصاصه كل ما يظنون زواله مضافا في توسعهم في السيطرة ، فهذه ( كريات أربع ) ، كان أقامها ( أربع بن علي ) وهو ملك عربي كنعاني ، ينتسب الى قبائل العناقيين ، وهم الجبابرة ، فهو من أقامها ، وكلمة أربع بمعنى أربعة ، والمنطقة برمتها قد سكنتها قبائل عربية عبر الزمان ، فتاريخ مدينة الخليل ممتد في الزمان الماضي الى ما يقارب 3500سنة قبل الميلاد ، فكذلك تتحدث آثارها ، وبصرف النظر عن آثار غزاة جاءوا وحطوا برحالهم ، ثم فروا تحت ضربات التطهير للأرض من الغزاة ، فان كل الدلالات تدل على أن العرب هم السكان عبر الزمان ، فهم الذي سكنوها وبنوها ، ودافعوا عنها في مواجهة كل الغزاة ، وحين كان زمان حط لهم الضعف بين أيديهم ، فلم يقتدروا على مواجهة الغزاة فانهزموا ، عادوا ونهضوا وانتصروا ، وأعادوها كما يحبوها ، وهم تحت راية الاسلام أقاموا الحرم الابراهيمي ، فلما جاءت الغزوات الصليبية ، أقام الصليبيون مكانه كاتدرائية ، دامت 90 عاما ، ومثلها كنيسة أقاموها مكان مسجد قبة الصخرة ، بل وجعلوا مما ندعوه المصلى المرواني وغيرة حظيرة لخيولهم وأسموا المكان اسطبلات داوود ، وما لبثوا حتى جاء صلاح الدين يطردهم من بلاد العرب والمسلمين ، فعاد المسجد هنا ، وهناك ، على أحلى صورة أحبها المسلمون .
وقد يدلل ذلك على حتمية تلازمت مع صيرورة تاريخ ساكن روح العرب ، تقرر بأن مآل الغزاة الى فرار من الأرض العربية . ناهيك الى أن الغزاة لا يقيمون احتراما لسكان الأرض الأصليين ، فالظلم والقهر ينزلونه بهم ولا يقيمون لتاريخ لهم ، ولا لثقافة ولا لدين أية قيمة ، فهدم مساجد ، وحجب صلاة ، وبالقياس على ذلك ، فان من هو مؤهل ليفعل ذلك كله ، فان الآخر منفي في وعيه كما في ممارساته ، ما يجعل من الصعب التأشير على قيم ، تحول بينه وبين أن يفعل كل ما يدل على تجاوز أعراف وقيم وأخلاق على اطلاقها .
ولقد اقترب الصهاينة من الحرم الابراهيمي ، بتسارع عدوانهم ، متلهفين على عمل كل ما يقربهم منه وكل ما يأخذه من حوزة المسلمين ، فلم ينقطع يوما عدوانهم على المصلين وعلى ما له صلة بالمسلمين ، وعلى محيطه ومن هم في محيطه من المسلمين ، ولقد أقاموا في عام 1991 مدرسة يهودية ، وفي عام 1968 هدموا بعضا من منشآته الأثرية ، واقتربوا بكل عدوان على الناس وعلى المكان ، فليس ما يحجبهم ، بل الجنود الاسرائيلين يسهلون لهم دربهم الى ما يريدون ، فتحت نيران مشرعة في وجه المسلمين يقتربون ، وفي 25/2/1994 قاموا بمجزرة في داخل الحرم الابراهيمي ، اذا سهلوا لأحدهم يدعى باروخ غولدشتاين أن يدخل المسجد ، ليباشر باطلاق النار على المصليين ساعة سجودهم فجرا ، في رمضان ، وقتل 29 شخصا وجرح العشرات ، ولما فرغت الذخيرة منه هجم عليه مصلون وقتلوه ، وفد هب الناس بأثر المجزرة ، فوجدوا رصاص جنود الاحتلال يتسارع الى صدورهم ، ليرتفع عدد الشهداء الى 50 شهيدا ، بالاضافة الى الكثير من الجرحى ، وفي خلال هذا الصراع الذي أوقدته المجزرة ، قامت قوات الاحتلال باحتلال جانب من المسجد الابراهيمي ، وجعلته بقوة النار كنيسا لليهود ، فهكذا الحرم الابراهيمي ، تم شطره شطرين ، فشطرا ظل مسجدا للمسلمين ، وآخر استحال بسفك الدم وتسيور من نار الى كنيس . ولاستبقاء حال أنتجوه بقوة نيرانيهم ، ولهفتهم على هوية يريدونها أن تلامس في الواقع المادي ما يدل عليها ، أحالوا منطقة الحرم الابراهيمي الى ثكنة عسكرية ، فكل داخل وكل خارج تحت أنظار البندقية .
وهم في خلال عدوانهم الجامح على المسلمين ومقدساتهم ، يتخذون من قصر الحمراء مثالا تاريخيا ، يتذاكرونه ، بين الحين والآخر ، قاصدين من هذا المثال دور القوة ، فبها وحدها تم الحاق هزيمة بالمسلمين ، وبفضلها أمكن احتجاز قسم من قصر الحمراء ليصبح كنيسة .
ولم يكن حال التأثيث ، لعبادة ربهم على طريقتهم ، بسفك الدماء وهي راكعة لله تصلي ، يختلف من حيث منطق التناول ، ومن حيث اللهفة على استنبات دلالات على الهوية ، بين حال هنا وحال هناك ، فقد اطلق الاحتلال النيران على الصلاة في المسجد الأقصى ، ولم تتوقف نيرانه ، فمن مجزرة قام بها الى أخرى مجزرة ، فساحات الأقصى ناطقة بتاريخ يحكي قصة الدماء ، وما سبقها وتلاها ، من تضييق وعدوان ، على سعى المسلمين ، بنية الصلاة الى المسجد الأقصى ، ففي 21/8/1969 أشعلوا النيران في المسجد الأقصى ، وقالوا هذا من صنع معتوه ، ولم يفسروا ماذا دعاهم الى قطع المياه عن الأقصى ، مباشرة بعد أن ارتفع الدخان في الهواء ، ولم هم قاموا بتسويره بحزام من جنود حاولوا أن يمنعوا الناس من هبتهم الى اخماد الحريق .
وفي 8/10/1990 تناهى الأمر بجماعة ( أمناء الهيكل ) ، الى محاولة لوضع حجر أساس لبناء الهيكل ، في ساحة الأقصى ، وكانت جموع المسلمين على يقظة متوقدة اصرارا على التصدي ، فما كان من قوات الاحتلال التي تحرس الغايات الصهيونية ، الا أن تطلق النار على المسلمين ، فاستشهد ما يزيد عن 21 فردا ، وجرح ما يقارب ال 150 ، واعتقل 270 شخصا ، وكان مشهد الدماء في ساحات الأقصى ، يحكي معاني الصلاة ، ودورها في تشكيل الرباط وصناعة الأمن للهوية العربية الاسلامية ، فالصلاة كانت تنطق بأفصح عبارة ، بأنها بمعنى آلية تشكيل الجبهة المتقدمة للدفاع عن أمة العرب والاسلام .
وفي 23/9/1996 عشية يوم الغفران اليهودي ، وفي الساعة الواحدة ليلا ، تم افتتاح نفق تحت الأرض، كان قد بدأ العمل به منذ عام 1968 ، ويمتد من أمام مدخل المدرسة العمرية في طريق الآلام في القدس القديمة قرب باب الغوانمة ، على طول يقارب 488 مترا تحت الأرض الى أن يحاذي حائط البراق ، ليكون مدخله الثاني من الساحة التي سيطر عليها اليهود وجعلوها ملتقى لهم ، لصلاتهم ، لبكائهم عند حجارة حائط البراق . وهذا ما أشعل انتفاضة النفق ، التي امتدت بطول الوطن وعرضه ، وقد سالت دماء عزيرة ، في أمكان كثيرة .
وفي 28/9/2000 كانت زيارة شارون الى ساحات المسجد الأقصى ، ليؤثث لزعامة قادمة ، فكان رد فعل المسلمين جارفا ، فكان صعبا على شارون ومعه الآلاف من جنوده يحيطون به أن يخطو براحة وبحرية توهمها ، وفي اليوم التالي ( الجمعة ) ، كان عشرات الآلاف من أبناء فلسطين ، قد جاءوا الى الصلاة ، فكانوا أشبه بسور من ارادات تساندت ، فما فرغوا من صلاتهم ، حتى غزاهم الرصاص المنبعث من فوهات بنادق جنود الاحتلال ، الذين كانوا بالمئات ينتظرون تفهيم المسلمين ، بأن الموت هو في انتظارهم ، اذا هم بقوا على حال ايمانهم ، وقناعات يزرعها هذا الايمان في سلوكهم ، ومن هنا امتدت ارادة التحدي في تشكلها لتشمل كل ناحية من فلسطين ، في انتفاضة شعبية ناطقة باسم الأقصى والقدس ، فهي القدس التاريخ العربي والاسلامي التي يراد صهيونيا سلخها من انتمائها العربي والاسلامي ، وأما المسجد الأقصى فهو المراد تقاسم جغرافيته ، كما الحرم الابراهيمي ، كما قصر الحمراء ، أو لكم الفوق الأرض ولنا التحت ، فهي عملية سحب اعتراف ، فاذا جاء الاعتراف يقام هيكل ولو تحت الأرض ، وبالموافقة بحكم الاعتراف ، بحكم الاقرار بأن ظلما حاق باليهود ، وبأن هيكلهم الذي زال ، ها هو يعاد في مكان من فوقه يجلس الظالمون ، فالى متى هذا الظلم ، وهذا النيل من يهود ، فليزل الظلم بزوال الفوق ليخرج التحت الى الفوق ، ويزول غبن ، وظلم أنزله المسلمون باليهود ، وليبني المسلمون مسجدا لهم بعيدا وحيث يريدون ، فأرضهم واسعة ، ولديهم المال الكثير ، فهذا وجه من تفكير يهودي ، وثمة وجه آخر ينحو نحو اقامة عدة كنس ، فمنها تحت الأقصى ، ومنها في القدس القديمة في مشهد يزيل عن الأقصى ميزته في مشهد القدس القديمة ، فلا يكون فريدا ، وانما واحدا من جملة تزيح النظر عنه اليها ، فلا يظل في مركز الشعور حين النظر الى صورة للقدس القديمة ، فثمة كنيس الخراب ، وهو الذي اقيمت قبته على نمط مملوكي مشابه لقبة مسجد بن رباح التي الحقوا بها اسم قبة راحيل ، ليزرعوا في خلال وجه الشبه فهما بأن الذي هنا هو الذي هناك ، ومن أقام بهذا هو من أقام ذلك ، وبأن الفن المعماري اذا هو هنا في كنيس الخراب خصيصة يهود فكذلك هو هناك في ( قبة راحيل ) ، وآخرى كنس يراد لها أن تطل في الصورة وأخطرها كنيس كامن في فضاء التشكيل للهوية ، يقام على الأغلب في منطقة يحكمون السيطرة عليها وهي منطقة المغاربة ، بحيث يكون لصيقا بساحة مفتوحة للمسجد الأقصى ، بحيث يتأتى في غمرة انتاج صراع وسفك دماء ، واستدامة لهذا الصراع أن يتم احتجاز جانب من ساحة للأقصى ، وتسويرها بالجنود ، وبعد ذلك بالحواجز وبعدها ، بحواجز ثابتة ، بحيث تبدو كثكنة عسكرية ، وداخل الساحة التي يتم احجزاها يتم تمدد الكنيس والصلاة فيه بانتظار ظروف يقام فيها على الساحة نفسه هيكل مصغر ، لكنه الهيكل الذي سوف يريح يهود ، ويطالبون بعدها باعتراف بالأمر الواقع ، وجعله ، اساسا لسلام لا يطالب اليهود بعدها بما كانوا يطالبون به من قبل ، وانما يكتفون بما توصلوا اليه من اعتراف بهوية ، ما كان يمكن لها أن تتكامل من دون اعتراف كهذا ، فهي فاصلة في مجرى تاريخ اليهود ، ويتركون ما تبقى من حلمهم ، الى زمان لربما قادم .
وهذا الاعتراف بحق ليهود في المسجد الأقصى هو الذي لن يأتي أبدا ، فلن يمكنه مسلم أن يلغي الاسراء والمعراج والمسجد الأقصى ، من كونه كلمة في القرآن الكريم ، واجبة النفاذ بكل دلالاتها في ايمان كل مسلم ، فلا حرية اختيار له في تأويل معنى كلمة كهذه ، فهي كما هي غير محتاجة لتأويل ، ولا يعني التنازل عنها أو المساومة عليها سوى الكفر ، والخروج من أمة الاسلام ، فهي لبنة من لبنات الهوية الاسلامية ، وهي مرتكز اساسي لا يقوم بلاها ايمان بدين الاسلام ، فهنا نحن بصدد هوية اسلامية من عدمها ، فأن يتم الغاء هوية اسلامية ، أو تشويه هوية اسلامية ، ليقوم في مقامها اكمالية هوية ليهود هو الذي لم ولن يكون ، فاكمالية هوية يهودية ناقصة لم ولن تكتمل .
ومع ذلك فاستحصال اكمالية لهوية يهودية ، هو ما ارتسم في ضوئه منطق تناول لظروف قائمة ، بهدف اعادة هيكلتها بالسياسة وبالقوة ، على ما يعيد ترميم الهوية ويوفر اطلالة لها بما لم تعرفه من قبل ، واستكمالا لمجرى لم تنقطع فيه فاعلية هذه هي غاياتها ، فلقد قامت حكومة اسرائيل برئاسة بنيامين نتانياهو ، برصد مبالغ طائلة ، من أجل اعادة ترميم ما تسميه هي باسم الآثار اليهودية ، وأعلنت بأنها سوف تدرج على سجل الآثار التي يراد ترميمها كلا من الحرم الابراهيمي ومسجد بن رباح ، و... ، وأسوار القدس ، على اعتبار أنها موروثات يهودية ، فكان الرد الفلسطيني ، وبكل وضوح الكلمات ، وكانت جملته ما قاله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، من أن اقدام اسرائيل على اعتبار الحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، وأسوار القدس ، كمواقع أثرية اسرائيلية يهودية ، سوف يشعل حربا دينية ، وبمثل هذا القول قال كل من كان نبض قلبه على التاريخ العربي والاسلامي وعلى الدين الاسلامي ، وبازاء الأصداء التي ترددت في الفضاء العام ، من جراء عدوان كهذا ، جاء قول نتانياهو ، بأن الأمر الواقع لا تبديل فيه ، وانما هي مسألة ترميمات ، فهي موروثات آباء ويجب ترميمها ، فحرية العبادة مكفولة ، وقام بيرس رئيس دولة اسرائيل يقول بنفس الكلام ، بأن اسرائيل غير معنية بصدام ، وانما هي مسألة ترميمات ، وأغنى العرب آذان العرب والمسلمين كلاما ذا صلة وله أهميته ، ومرت عيون الجموع الشعبية من المحيط الى الخليج ، على شاشات ، وانفعلوا مع محاورات جادة وعميقة الدلالة ، فكل محاور ، أو صائح بقول أو موقف ، يدير معركته بمعقول من كلام ، ومقالات برع كتابها في توصيف الموقف ، حتى حار عقل الانسان العربي من أين يبدأ القراءة لفهم ما يجري ، فغزارة الكلام مثل المطر في عز الشتاء ، والى جانب كل هذا مضت اسرائيل تعمل ما خططت له ، عارفة كيف تصل الى ما تريد ،على الرغم من العواصف الكلامية التي تحرك الرياح من حولها وتزعجها ، وتبعث فيها القلق ، فماذا سوف يجري غدا .
لقد اعتمدت اسرائيل فكرة تعويم الصراع على المكان ، لانتاج فضاء عمومي يمكنها في خلاله ، وبصورة دائمة التأكيد على حق ليهود في المكان ، فبذلك وفي مجرى الصراع الذي تنتجه ، يتأتى ليهود زراعة قناعات في الوعي العام بهذا الحق ، وذلك من دون أن تكون هناك ضرورات لتقديم شواهد وأدلة ، من تاريخ وعلم آثار ، لا يمكنها بحال أن تنطق بما يقنع به أحد ، فليس ثمة آثار يهودية دالة بفصيح لغة ، والقول بنص توراتي ، فسرعان ما تقابله نصوص تنقضه وترفضه ، ويبدو عندها وكأن نصوصا دينية من طرفين متناقضين تتحاددان ، وهذا صراع ديني في مستوى الفكر ، يعيق سعي يهود الى مبتغاهم ، فأولى للقوة والسياسة أن تتصدرا الصراع وتشكلانه ، وليطل الديني من خلالهما .
فمن ضرورات التعويم للصراع ، اندرجت فكرة اقامة الحواجز على الطريق الى الصلاة ، وتحديد أعمار من يتاح لهم أن يمروا الى الصلاة في المسجد الأقصى ، و محاصرة المصليين ، والتضييق عليهم ، والعدوان عليهم باعتقالهم وبضربهم وسفك دمهم ، وليس هذا بكاف ، بل التمادي الى ممارسة قمعهم في ساحات المسجد واطلاق النار عليهم ، فمعركة بين الصهيونية وبين المسلمين في ساحات المسجد الأقصى ، مسألة صراع تفيض في الفضاء العمومي ، فكل الدنيا تتحدث بها ، فثمة اسئلة يراد ليهود أن يجيبوا عليها ، وفي فضائيات عربية ومشهورة ، فيتاح لهم أن يتحدثوا الى المسلمين عن حق ليهود ، وبأنهم لا يريدون سوى ذلك ، والسلام بعد ذلك مع الجميع ، ففكرة الحق اليهودي الغائبة عن الأذهان تصبح حاضرة ، ومقرونة في الوعي باصرار يهودي على تجسيدها ، وميزان القوة في صالح اسرائيل ، وهي قادرة على استدامة تمددها في ناحية التشكيل لهويتها ، وهذا ينطوي على مخاطر على كل ما هو عربي واسلامي في القدس ، ويجعل من تهويد المدينة ، أو على الأقل انتاج ملامح يهودية لها لا تتعدى كونها مسألة وقت ، وهذا الوقت يتقاصر أمام الاندلاق اليهودي على سيطرة لا تعرف حدودا من معايير أو قيم ، أو ما شابه مما اعتاد العرب والمسلمون على الانتباه اليها ، وحساب حساباتها ، قبل أن يأتوا بفعل أو قول ، ناهيك الى ما يتم انتاجه من عمليات تبديل لا تنقطع في الوضع القائم ، فكل تبديل يقيل شواهد التاريخ من هيئتها ومضمونها ولسانها ، ويحيلها برسم جديد الى يهودية ، ويجري كل هذا داخل أنفاق تحت مصاطب الأقصى ، وفي جوانبه ، وفي محيطه ، بل في القدس القديمة كلها ، في منطقة الشيخ جراح ، في سلوان ، في بيوت يتم انتزاعها من سكانها ، في يافطات تقال من أماكنها ، وتوضع مكانها أخرى بلغة عبرية ، فالعربية بما يصلها به سعي يهود ، من عدوان ، لا بد عابرة ، ولا يصح أن تظل ولها وجود في ذكر اسم شارع ، فان كان لا مفر من ذلك ، لحاجة من سياحة اليها فتحت التحت ، فتحت الانكليزية ، وتحتها العربية ، ولتكن الحروف فيها مشوهة لتدل على ما هو شائه ، فبذلك ايحاء الى قوم اسمهم عرب ، وكل شائه تضيق به الأنظار وبه ما يجعل المشهد بائسا ، والسائحين في ضيق ، فأولى أن لا يكون هذا الشائه موجودا بحال ، فاقتلاعه كما اقتلاع من تدل عليهم الحروف الشائهة ، فالقدس لا بل أورشاليم أو أورشليم ، عاصمة الدولة اليهودية ، تنزع الى صفاء الانتساب الى دين يهود ، ولن ينفع عرب ذكر حقائق تنطق بها آثار ، فسوف تجرى عليها عمليات تجميل كما وجه المخلوق في زماننا ، وتحال الى شاهد على يهود ، فذاك النفق الذي أجج انتفاضة ، اذهب وسر في داخله ، فالأيوبية ، والمملوكية والرومانية والاسلامية ، أصبحت برسم ملامح هنا ، وبودرة هنا ، وأسماء وكلمات عبرية هنا ، وقد استحالت يهودية ، فهكذا يقال للسائح ويذهب هو الى بيته ومعه تاريخ متجدد ، فهو الذي يندرج في تعريف أولاده ، وكل عقل يطل على ما في الأوراق ، وما فيها من صور لنفق تحت الأرض في أورشليم ، فلا حاجة لعرب الى العودة بتذكير بأن شلامو اسم نبطي عربي ، وأورشليم هو الاسم الذي تحمله المدينة ، من قبل أن يأتي ذكر ليهود على الأرض ، بألف عام على الأقل ، وكذلك علماء آثار يهود بما توصلوا اليه يقروون بأن مدينة أورشاليم ، كانت مسكونة بخلق كثير من قبل التاريخ التوراتي لداوود ، وفي المقابل عرب من مثل فراس السواح حين اقترابه من التاريخ التوراتي يقول : بأن ذلك التاريخ التوراتي لداوود ليس ما يدل عليه في واقع ، بل علم الآثار يدل على ما يخالف الرواية التوراتية ، وبأدلة قاطعة .
وهكذا الأسطورة أصبحت ولها دولة حديثة وقوية ، فهي ملتقى أو منتدى الكراهية كلها التي تربصت عبر الزمان ولم تزل تتربص الى الآن ، بكل عرب واسلام ، والتاريخ التوارتي أصبح يطل من خلال دلالات مستعارة من الواقع ، من داخل آثار عربية واسلامية ، واذا نظرت الى تلك الدلالات ، ورغبت استنطاقها ، لبدا المشهد مأساويا ، فأنت أمام أقنعة زائفة ، تستر من ورائها ما لا يدل عليها ، ويراد منك أن تستدل بها على ما يراد للزيف أن يدل عليه ، فأنت مطالب بأن تكون بوعي شائه ، فهكذا هي لغة الزيف ، فاذا أنت صدقته بما هو عليه ، فأنت تنوب عنه ، تتحدث بلغته ، تقول قوله ، تصبح زاعما علما بما يدلل العلم على بطلانه .
فهوية تتشكل بزيف الدلالات ، انما تهيء دلالات على زيفها ، فلن يكون لها تكاملها بتة ، في غير مستوى زيف تشكلت عليه ، فهي في مواجهة حقائق التاريخ فسرعان ما تتهاوى ، فاستعارات قسرية من تاريخ ، انما هي تزيف تاريخ ، ولا يمكنها بحال أن تستحيل الى تاريخ ، حتى ولو أن الوهم طاف بالعقل في كل ناحية واتجاه ، فهل ثمة مطبخا يهوديا ، حتى يقال بأن جماعة يهود أنتجت ما يمييزها في معاشها ، وذلك في خلال علاقاتها مع الطبيعة ، فما هو وكيف حاله ، فهو بما يدل عليه جملة استعارات من أمم شتى ، وهذه " التبولة " ، ومن قبلها الحمص ، راحت اسرائيل تزعم بأنها اسرائيلية ، فاذا بها لبنان تضج ، فهذه لبنانية ولنا حق الملكية الفكرية والمهنية بها .
ومطلع السبعينات من القرن الماضي ، كان لقاء اليهود في أورشليم القدس بما لم يعرفوا له وجها منذ بعثوا أحياء في الأرض ، كان لقاؤهم مع ( حمص أبو شكري ) ، في شارع من شوارع القدس العتيقة ، فهو مثل ما قالوا الذي ليس مثله في البلاد ، ولم يعرفوا لطعمه مثيلا ، واذا هي السنون تمضي ، فاذا اسرائيل تزعم بأن الحمص خصيصتها ، فشعب أو أمة بلا مطبخ يخصها دون سائر الأمم لا تكون أمة بحال ، فهكذا قالت لي أمي التي لم تعرف القراءة والكتابة .
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
مع ظهور الهوية اليهودية بالتاريخ التوراتي ، على مسرح السياسة والجغرافية ، بدت تساؤلات التاريخ التوراتي عن دلالاته في المخزون المعرفي للأرض ، فهي بحكم سيرورته في النص التوراتي لا بد موجودة وتدل عليه ، فأين هي ، فهذا ما استدعى بحثا مستفيضا عن موروثات آباء وأجداد ، تطل بهيئتها من داخل النص وتتساءل ، وتود أن ترى دلالاتها .
كانت تلك عملية تاريخية فارقة في مجرى السيرورة ، وذلك منذ اندمجت الهوية اليهودية في فكرة استعمارية استيطانية ، تقضي بأن يتم تجسيد هذه الهوية في دولة لليهود في أرض فلسطين ، فمن هذا الوقت
شرعت الصهيونية في حربها على العروبة والاسلام ، ولم تكن فكرة الاقتلاع لشعب فلسطين من مكانه ليحل في محله اليهود تكفي الهوية اليهودية تجسيدا في الواقع العملي ، وانما كان لا بد للتاريخ التوراتي الذي أطل من داخل سيرورة الغزو أن يتبين دلالاته في الواقع ، فكان البحث في المخزون المعرفي للأرض ، عن دلالات وشواهد من ماض يتم بها اسناد التاريخ التوراتي بما هو عليه ، فهذه ضرورة اكمالية لهوية يهودية ، وتاريخ توراتي ، فمن دونها يظل هذا التاريخ في رتبة الشك ، ما يزعزع الهوية في ما هي عليه ، وفيما تسعى اليه من تشكل وتجدد ، فتبدى الهيكل بما هو عليه من توصيف في التوراة ، وبما يلح عليه في الوعي الديني اليهودي من اعادة هيكلته في الوقع العملي ، كدرة التاج في هيكل الهوية اليهودية ، فباقامة الهيكل تتكامل للهوية اليهودية مطابقة واقع للنص التوراتي ، فاحتلال القدس ونفي العروبة والاسلام منها ، ضرورة الضرورات ، وسيطرة على الحرم الابراهيمي في الخليل ، وكل ما يقول به التاريخ التوراتي من صلة ليهود به ، هو بعينه ما يوفر للمرويات التوراتية محورها الذي تبدأ بالدوران حوله ، في عملية تهدف الى انتاج دلالات عليها ، فمرويات بلا دلالات وبلا زمان ، يعاد انتاج دلالاتها وزمانها ، ما يعني اعادة التأسيس لتاريخ توراتي ودين يهودي ، فعلى ذلك اقامة الهيكل في مكان المسجد الأقصى ، هي مسألة فارقة تتمحور حولها اكمالية هوية يهودية ناقصة ، ويراد لها أن تتكامل ، فيتصل في ذاتها ماضيها مع حاضرها ، ليؤثثان معا لمستقبلها .
ولم يغب عن اليهود بأن الاسراء والمعراج ، والمسجد الأقصى ، كلمة في القرآن الكريم ، آية كريمة ، هوية لا يقوم ايمان بلاها ، والحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، املاء ايمان ، وأسوار القدس تنطق بعروبتها واسلامها عبر الزمان ، فهي كتابة تاريخ ، من أجادوا صنعة التاريخ من العرب والمسلمين .
فالتفكير في اقامة هيكل عبادة ليهود مكان المسجد الأقصى ، أو على مساحة منه ، انما هو التفكير في نفي هوية اسلامية وعربية ، بل هو التفكير اليهودي في نفي الدين الاسلامي ، من كونه دينا ، فكل ما يعنيه أي نشاط عملي هادف الى بلورة هذا التفكير في فكرة ، وآليات تقوم على تجسيدها ، انما هو التأثيث لهدم مرتكز ايماني مركزي في دين الاسلام ، لا يصح ايمان ولا اسلام من دونه ، فالاعتراف في جواز الفكرة وتجسيدها كفر صريح ، وخروج من ملة الاسلام ، بل كفر وشروع بالعدوان .
فعلى ذلك التناقض الذي أنتجته الصهيونية ، في سيرها نحو تشكيل الهوية اليهودية في الجغرافية السياسية ، قد أفصح عن صراع وجود وأبعد من ذلك ، فالاقتلاع لم يتحدد بنفي شعب وفقط ، وانما المعنى تناهي في متغيراته التي يتشكل بها الى التاريخ والثقافة واللغة والدين ، فالى الهوية ، ذلك بأن آليات التشكل كما تعيها الصهيونية وتدأب على توظيفها ، انما تنشيء صراعا يستهدف الهوية الاسلامية والعربية ، في الجانب الذي لا تتأتى فيه اكمالية لهوية يهودية بغير الهدم في الهوية العربية الاسلامية .
فما حقيقة هذا التناقض ؟ ، وما سيرورة تشكله ؟ ، وهل ثمة صلة لتاريخ توراتي بمخزون معرفي في المنطقة العربية كلها ؟ ، وكيف كانت صلة المثقف العربي والمسلم بالتاريخ التوراتي ؟ ، وما هي مخاطر هذه الصلة ؟، وألم يكن عدل عمر بن الخطاب كافيا دليلا على بطلان كل قول ليهود بصلة لهم بالقدس ؟ ، وكيف هي سيرورة التهافت على اكمالية هوية يهودية ناقصة ، وماذا تشكله من مخاطر على الهوية الاسلامية العربية ، وكيف يتم انتاج تاريخ شائه في مجرى التشكل لاكمالية هوية يهودية ، لا تقر بما يفصح عنه علم الآثار ، من نفي لتاريخ توراتي تقول به ؟ .
فهذه أسئلة سياق المعرفة التي سوف نحاول أن نجليها ، بتناول يبدأ في الاقتراب من سيرورة الفكرة الاستعمارية ، ويتدرج مع تدرجها في سعيها الى اكمالية هوية يهودية ، بتهيئة ظروف التشكل في الجغرافية ، وفي كل ما له صلة بمخزون معرفي في الأرض ، يراد له أن يدل على ما ليس هو عليه .
ولعل نظرة شاملة الى يهود العالم اليوم تلفت الانتباه بكل سؤال عن أصلهم ، وعن تعدادهم في مراحل سابقة من التاريخ ، فمن أين جاءوا ، ما الأعراق التي انحدروا منها ، ومن أي أمم في الأرض هم ، فمن منهم في أصله يحال على احتمال كونه من العرب أو من سكان هذه الأرض العربية ، وهذه مسألة على جدارتها بالبحث ، فانها ليست محتاجة الى كثير من حوار ، او من فصاحة فكر ، لكي ينتبه العقل الى أنه على ثقافة الحصن التي مازت اليهود بصورة عامة عبر التاريخ ، فانه بالامكان الاشارة الى خلاف ذلك ، فيما يتصل ببعض من يهود قاموا بدعوة غيرهم الى دينهم ، متجاوزين بذلك اشتراط كون الأم يهودية لكي يكون الابن يهوديا ، فنهجوا نهجا تماما كما هو الحال مع المسيحية أو الزردشتية ، أو البوذية ، وبالفعل فان دعوة كهذه أدت الى دخول العديد في ديانة يهود ، وقد حصل هذا بعيدا عن الانغلاق على يهودية منبثقة من رحم يهودية ، وفي هذا الجانب يلتفت كثيرون الى ما تدعى بلاد الخزر( وهي اليوم بلاد اسلامية ) ، في زمن من الأزمان الغابرة ، ويرون بأن دعوة كتلك قد أسفرت عن كثيرين أستحالوا يهودا ، وبأن هؤلاء انتشروا في زمن لاحق في بلاد متعددة من دول مثل روسيا وبولونيا وغيرها ، وبأن هؤلاء ومن يماثلهم في العروق المختلفة في تلك الدول ( التي لا صلة لها بفلسطين ولا سوريا ولا حتى الجزيرة العربية ، ولم يكن لها صلة كتلك في زمن من الأزمان ، فلا أب ولا جد ولا أم لأي من هؤلاء يمكن القول بأنه عاش في بلاد العرب لحظة من حياته ) ، فهم وأمثالهم من الأوروبيين ، قد وجد لهم نابليون فكرة لربما قد حلت في وعيه محل الفكرة الصليبية ، وشكلت في تصوره ساترا لها ، فتجد الفكرة الصليبية ما تريد ، ومن دون أن يستغرقها ذلك صداما مباشرا في خلال حملات صليبية ، فهي في حكم التاريخ قد نالت الفشل على أي وجه كانت عليه ، فكل حملة تليها عودة الى نقطة بدايتها ، وبفارق هو أن البداية التالية تقوم على خلفية أكثر مأساوية من التي سبقتها ، والفكرة تحقق استيطانا دائما يتم به استبعاد الحس بأن جغرافية كان فيها المسيح تحت سيطرة اسلامية ، فهي فكرة الغزو مضافا اليها البقاء في الأرض ، واستكمال هوية بسيطرة على جغرافية تتجلى في فكر الغزو ، بأنها بعض ضرورات سيطرة لهوية بابوية مسيحية أوروبية ، فهي فكرة استعمارية استيطانية ، يتم بها أيضا فصل البر السوري عن البر المصري ، أو لنقل فصل الشمال عن الجنوب ، فلا يكون بتجسيد لهكذا فكرة أي امتداد لبر العرب في الجنوب مع بر العرب في الشمال ، وهذا الطعن بالخنجر في الجسد العربي ، انما هو المستقى الاستراتيجيي من الدروس المستفادة من الحروب الصليبية في مستوى صراع القوى ، فوحدة بر العرب لعبت دورا بارزا في اجتماع العرب والمسلمين ، وتحقيق هزيمة منكرة ألحقوها بمن ناهزهم سيادتهم على أرضهم ، وليس هذا وحده وانما تمزيق الجغرافية السياسية ، بكيانات تسهل السيطرة عليها أو التفريق بينها ، فلا تكون هناك وحدة كلمة ، ولا وحدة ، فتبدو الجغرافية وكأنها مسرح في رتبة من ضعف ، ولا بد من انتاج ديموميته بردع ، بعدوان يستبقيه ، فهو ضرورة استبعاد وحدة الكلمة وضرورة استبعاد الوحدة التي فيما لو تحققت لاستحالت الفكرة الاستعمارية الى ما استحالت اليه من قبل ، الى نهاية مأساوية تنتهي اليها الفكرة الاستعمارية كما كانت نهايات من سبقتها الى الوجود ، ولا يغيب عن البال حال دول الطوائف في الأندلس ، وما كانوا عليه من صراعات ، ونزوع الى الاستعانة بالأجنبي على العربي ، وما أبقته في الذاكرة الاستعمارية من درس استراتيجي تم الانتفاع به في الهجمة الاستعمارية على المنطقة العربية .
وهذه هي مكونات الفكرة الاستعمارية لعدوان يستطيل في الزمان على أمة العرب والاسلام ، وليس ثمة وجه غرابة بأن تكون نشأتها في فكر استعماري أوروبي ، لتتم سقايتها ، ليهود أوروبيين ، ارتضوها وأعطوا عمرهم لها ، وذلك لكونها تجلت في وعيهم بأنها وحدها التي سوف تحقق نقلة فريدة من نوعها في تاريخ اليهود ، فهي التي سوف تنقلهم من مجرد فئات أو أقليات في دول شتى الى كيان سياسي في جغرافية ، فيتحولون الى شعب له مهابته بين شعوب العالم ، وبما لاحت به الفكرة في بداياتها ، فانها لم ترق لكثيرين من اليهود ، فلقد اختار هؤلاء اشهار العداء لأمة العرب والمسلمين ، الذين عاش اليهود بينهم حياة كريمة ، وعلاقاتهم بهم انما كانت علاقات طيبة ارتقت في مجملها الى مرتبة علاقة بين جيران ، أشبه ما يكونون باخوة ، ويكفي هنا ذكر حماية العرب لليهود في الاندلس وكيف أن العرب حال دخولهم الأندلس قاموا بتسليم ادارت عدة مدن لليهود ، ولا مفر من لفت الانتباه الى مظاهرات أهل السنة ، في مصر ابان الدولة الفاطمية ، مطالبين بأن تعاملهم الدولة ، ليس بأقل من معاملتها لليهود ، ولم تزل حياة يهود في سوريا والمغرب دالة حقيقة العلاقة بين العرب واليهود ، وبأن الفكرة الاستعمارية لم تقدر أن تطال من انتماء كثيرين من اليهود الى أوطانهم حيث هم ، ولا من متانة رباطهم بجيران عاشوا ومازالوا واياهم بأحسن حال .
ولكنها الفكرة الاستعمارية المليئة بكل عداء للعرب ، راحت تتدحرج وتتنامى في ظروف من مد استعماري ترافق ما تقدم صناعي هائل ، خرجت به أوروبا باحثة عن المواد الخام والثروات في أفريقيا وغيرها ، وهي الظروف التي شكلت العقلية الامبريالية ، فقهر شعوب و,ابادة بشر ، وبيع وشراء بالبشر ، وبحث عن الثروات ونهبها ، واستيطان في خدمة المشروع الاستعماري ، فهكذا الحرب والقتل واحتلال الأرض ونهب ما فيها وعليها ، استحالت الى مكونات عقلية يغذيها الفكر وتشجع عليها الظروف ، وفي هكذا ظروف نشأت الصهيونية ، وسعت كفكرة استعمارية ، تحت ظلال استعمارية نحو تجسيد فكرة استعمارية لها غاياتها التي ارتسمت لها ، من قبل أن تكون هناك الحركة الصهيونية .
وقامت دولة اسرائيل بتضافر القدرة الاستعمارية والضعف العربي والاسلامي ، فكلاهما اجتمعا معا ، البطش الاستعماري والوهن العربي ، في تشكيل سيطرة أجنبية على أرض فلسطين تحمل اسم اسرائيل ، ومنذ قيام هذه الدولة ، وهي تعمل على مضاعفة قدرتها ، على كل صعيد ، مستفيدة من كل مدد أجنبي ، يرى فيها عنصر قوة في استراتيجيه أمنه القومي ، ومنذ بدء المشروع الاستعماري هذا ، والاستشراق في جانب واسع منه ، في خدمة الغزو الاستعماري ، فغزو ثقافي ، وتشويه للوعي بالتاريخ ، وانتقاص من قيمة ما يدعى حضارة عربية أو اسلامية ، فحتى القرآن الكريم والرسول الكريم ، والصحابة ، جميعا قد تم اطلاق الرصاص عليهم ، فالغزو الاستعماري سعى الى تفكيك كل ما له صلة بهذه الأمة ، وذلك من باب البحث عن سيطرة على العقل باحتلاله كما هو احتلال الأرض التي أريد لها أن تتمزق .. لتتمزق بكياناتها الصغيرة أمة بحالها .
ولقد ركن الغزاة الى ضعف الأمة ، في مستوى انتاج قدرات تتصدى بها ، وانتفعوا بالجهل والأمية التي أطبقت على المنطقة العربية بسبب من الناس ، ومن جهل الادارة التي تسمت باسلامية ، وهي لاتهتم بشيء اسمه الفعل الأول في القرآن (اقرأ) ، فقد نهض من داخل الغزو من يطعن بالهوية العربية والاسلامية ، ولا يهمه من ذلك سوى ما يمليه عليه الاندراج في خدمة مشروع استعماري يتم تنفيذه ، فالهجمة الاستعمارية أو الصليبية ، طالت كل ما أمكنها ، من أجل تحطيمه ، ولم يكن هناك حرمة لأي شيء ، فبدءا بسفك الدماء ، الى التشكيك في الهوية والهجوم على كل مرتكز لها وبكل وسيلة ، فكان الذبح في رقاب العرب والفلسطينيين خاصة ، وذلك من أجل تشريدهم من قراهم ومن مدنهم ، تفريغا للمكان ، لاحلال من لم يكن لهم يوما جد في المكان ، في محلهم ، وقامت الصهيونية بمذبحة ثقافية رهيبة ، اذ أبادت الكتب والوثائق والمخطوطات ، وكل ما أمكنها وبدا لها بأنه يدلل على عروبة الأرض ، وعلى شعب فلسطين ، وعلى تاريخ الأرض العربي الاسلامي ، ولم تترك تراثا دالا على بطلان مقولاتها وأمكنها ابادته الا وفعلت ، فهو الغزو الذي استهدف الأرض والدين الاسلامي واللغة العربية والتاريخ والتراث والوجود برمته ، وانه الاقتلاع الذي سعى ولم يزل الى خلع الوجود من جذوره ، وقد ترافق ذلك مع عملية نبش للتراب بكليته بحثا عن ما يؤيد الرواية التوراتية ، التي هي في ذهن الغزاة ، بمثابة المصدر للتاريخ الصواب ، لكن الأرض لم تنطق الا بما بين يديها وفي بطونها ، ولا يمكن استنطاقها بما لم تعرف له صفة أو وجودا ، فالرومان جاءوا غزاة ، وبسطوا سيطرة لهم ، وأقاموا أبنية ومدرجات ، وجاء زمن وأفاق العرب من بؤسهم وهبوا الى بناء صرح حقوقهم وخلعوا الروم من أرضهم ، ولكنهم مع ذلك حافظوا على ما يمكنه الى الآن أن يدل على أن هؤلاء الغزاة مروا وعبروا من هنا ، فهناك المدرج الروماني ، وهنا ، وهناك شواهد على تاريخ ومقدرة على انتاج ما يتسمى تراثا دالا على وجود كان في مكان ما ، بصرف النظر كان هذا الوجود موجودا بحق أم بغير حق ، فلم يحصل أن أزال العرب والمسلمون آثارا دالة على تاريخ ، حتى ولو كانت تلك الآثار دالة وجود على ألد أعدائهم ، وحتى ولو كان أولئك كفارا ، وكانت تلك الآثار دالة كفر ، فلقد حافظ المسلمون عليها كتراث مخلوقات مرت وعبرت من هنا في زمان مضى ، فأين هي الدلالات على التاريخ التوراتي وأين هو التراث اليهودي ، وهل ثمة غيره كتاب التوراة يدل على تاريخ حكايات ، وهل عرف اليهود مثل المسلمين رأفة ورحمة ومعاملة طيبة ، فصليبيوا القدس طلبوا من عمر بن الخطاب أن لا يدخل القدس يهود ، ولكن صلاح الدين أعطاهم أن يدخلوا ويسكنوا ، ومثله فعل المسلمون من بني عثمان ، ولسنا هنا في سيرة المعاملة الانسانية الرفيعة للمسلمين مع اليهود عبر الزمان ، وانما نذكرها للفت الانتباه ، الى أنه لم يكن من مصلحة اليهود زراعة كراهية لهم في صدور العرب والمسلمين بهذا الارتماء في أحضان الاستعمار ، والذي جعل من أمن كيانهم العنصري متناقض بالتمام مع أمن العرب والمسلمين ، وقد يشهد التاريخ على أن اليهود عبر التاريخ وجدوا أمنهم في أحضان رعاية عربية واسلامية ، فهل من سبيل الى خروج هذا الكيان من هذا التناقض الوجودي الأمني بغير فكفكة للكيان العنصري ، بؤرة الحقد على العرب والمسلمين ومناط التآمر الاستعماري على حاضر العرب ومستقبلهم ، فالغريب هو الغريب ، فهذه أرض العرب ، ولم يحصل عبر التاريخ أن دامت فيها سيطرة لغريب ، وهذه صفحات التاريخ ، ليقلبها من يريد .
وهكذا فان أوهام التاريخ التوراتي ، التي هي في الذهنية اليهودية بمثابة حقائق تاريخية ودينية ، ولا يعدو لديها غيبة أدلة من آثار على مقولاتها سوى أنه المندرج في كراهية اليهود ، وفي تجريف التاريخ من كل تلك الأدلة نكاية بيهود ، وهذا هو حال الذهنية التي تتسور بكل رفض للعقلانية والموضوعية ، فليست ذاتها وما تعتقده سوى المسور في حصن من اعتقاد ، لا يطاله كل ما يقول به الآخرون الغرباء عن الاعتقاد باليهودية ، فهو الحصن الذي أغلقت به الذهنية ذاتها على كل اعتقادها ، وهو الاعتقاد الذي انساقت به الذهنية هذه ، فأنبت على ألسنة اليهود قولهم بأنهم انما يعودون الى أرض الآباء والأجداد ، أو بأنهم انما عادوا الى أرض أبائهم وأجدادهم ، فهم بوعيهم ليسوا الغرباء في الأرض وهذه حقهم التاريخي والديني ، وانما العرب في وعي ذهنية كهذه انما هم المستعمرون الذين عمروا أرضا ليست لهم ، ولهذا فان اقتلاعهم وتشريدهم ، انما هو مسألة ممارسة لحق يهودي ، واذا قيل لهم بأن الحق التاريخي هو في جانب السكان الأصليين ، وهم العرب ، وبأن النص التوراتي لا يخلو من ذكر أن هذه الأرض انما كانت معمورة بسكان وهم كنعان ، واذا قيل لهم هذه حقائق التاريخ ناطقة بأن حضارة كنعان انما هي أصل الحضارة على هذه الأرض ، بكل بما أنتجته من حضارة ، لا تزال الأرض ناطقة به ، وتدل عليه ، فالآلهة التي أبدعوها والأصنام التي صنعوها لتلك الآلهة لم تزل موجودة ، وتم العثور على عشتار وغيرها كثير ، ففي كتابه ( مغامرة العقل الأولى ، دراسة في الأسطورة وبلاد الرافدين ) الصادر في دمشق عام 1988 ، يقول فراس السواح ، في صفحة 111 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) :
"ومن الآلهة المؤنثة عبد الكنعانيون ( عشيرة ) ألأم الكبرى وزوجة ايل ، وكانت تدعى ( ايلات ) نسبة الى ايل( كبير الآلهة ورب السماء ) ، من ألقابها سيدة البحر ، وما زال اسمها حتى الآن يطلق على الخليج المعروف باسم خليج ايلات . كما عبدوا عناة حبيبة الاله بعل وروح الخصوبة الكونية ، وكانت تلقب بالعذراء ، وعشتارت ، وهي الهة أخرى للخصب تقاسمت مع عناة وظائف الهة الخصب عشتار ، الى جانب هذه الآلهة نجد آلهة في المرتبة الثانية مثل الاله ( يم ) وهو البحر الأول ، وشبش ، الهة الشمس ، وهي انثى على عكس اله الشمس الباابلي شمش ، وداجون اله القمح وأبو الاله بعل " .
فالبحث عن الخالق قد نحا بالفكر في اتجاهات متعددة ، كلها تصب في اقرار ، بأن العقل كان باحثا ومتأملا في سير الطبيعة ، وناطقا بأسئلة هامة ، تؤثر في مجرى مجتمع قائم ، وبأن الملحمة الشعرية الكنعانية بها الكثير من الدلالة على أن الملحمة اليونانية انما تأثرت بالأدب الكنعاني ، فمبانيها بها دلالات تستدعي أسئلة كثيرة حول تأثير حقيقي للحضارة الكنعانية في دول البحر المتوسط ، ثم ان الفنيقيين انما هم الكنعانيون وهو اسم لحق بهم من تسمية أسماهم أياها الآخرون من سكان أوروبا .
ويقول فراس السواح ، في كتابه ( مغامرة العقل الأولي ) صفحة 109 ( الباب الثالث – التكوين الكنعاني ) : " سكن الكنعانيون سورية الشرقية والشريط الساحلي السوري منذ مطلع التاريخ المكتوب وأشادوا مراكز حضارية بقيت مشعة حتى الفترات الكلاسيكية المتأخرة . وبالاضافة الى التأثير المتبادل بين الثقافة الكنعانية والثقافات السامية الأخرى المجاورة والثقافة المصرية ، فان الثقافة الكنعانية كانت ذات تأثير مباشر على الثقافة الكريتية والثقافة اليوناينة اللاحقة . يظهر هذا التأثير في الأساطير اليونانية التي تشير صراحة الى التأثير الثقافي . كأسطورة قدموس الاله الذي جاء فينيقيا وعلم اليونانيين الكتابة ، وأسطورة اختطاف الالهة السورية يوروبا التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة . وقد أطلق اليونان على من احتكوا بهم من الشعوب الكنعانية اسم الفنينقيين . " . وفي صفحة 110 من نفس الكتاب يقول : " الا أن اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل السوري ، جعلنا نقف على أرض أكثر صلابة لأن الألوح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل هناك ، قد وصلتنا بالثقافة الكنعانية مباشرة دون وسيط أو ناقل . وبعد حل رموز الكتابة الأوغارتية ، ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نقشت على تلك الألواح ، هي كتابة أبجدية ، وأنها أول أبجدية كتبها الانسان وتنتمي لعائلة اللغات السامية . والأوغارتية شديدة القرب للغة العربية " .
ونجد في بحوث عديدة ، وفي كتب أحمد داوود ، التي خص بها سوريا في الزمان القديم ، تأكيده على عروبة المنطقة عبر الزمان كله ، وهو يتوقف عند هذا في أكثر من كتاب له ، ويقدم كل دليل يبرهن مقدار التصاقه بالحقيقة ، فسوريا لديه تشمل فلسطين ، وهو يدلل على عروبة ممتدة في الدلتا شمال مصر ، فهي منطقة متداخلة ، متفاعلة عبر الزمان ، و يبين بشرح تفصيلي بأن لغات المنطقة في حقيقتها ، انما كانت لهجات مختلفة للغة واحدة وهي العربية ، وانما الجهل باللغات هو ما حدا الى توصيف لتجمعات سكانية لا تجمعها لغة واحدة .
وينحو محمد عبد الحميد الحمد نفس النحو في كتابه ( التأثير الآرامي في الفكر العربي ) الصادر عام 1999 ، عن دار الطليعة الجديدة في دمشق – سوريا ، اذ يقول : بأنه " من خلال البحث والتقصي تبين لي أن العرب والآراميين والكنعانيين من أصل واحد . ولكن من سكن منهم المرتفعات دعي بالآرامي ، ومن سكن المنخفضات دعي بالكنعاني ، ومن سكن البادية دعي بالعربي . أما الآرميون الذين آمنوا بدعوة المسيح فتسموا بالسريان تمييزا لهم عن الآرميين الذين تمسكوا بالوثنية " .
لقد كانت الجغرافية حاضنة تاريخ يتأهل ، بما يؤديه العقل من دور في رسم نمو وتطور الى وعي بمصير واحد ، فالتيارات التي تهب على المنطقة واحدة ، والجغرافية واحدة ، والتفاعل ضرورة حياة وأمن ، ما أنتج عقلا كليا ، ربط بين سكان جغرافية واسعة الأطراف . فاذا فئة من ناس راحت تعتقد عقيدة مختلفة عن كل الناس ، فهي مع ذلك لا تستطيع أن تزعم لنفسها ، بأنها بما تعتقده من معتقد ، يؤهلها الى نكران استعارتها من محيطها لغة تتكلم بها ، ولباسا تلبسه ومأكلا تأكله وبيتا تأوي اليه ، فنكرانها جملة كاذبة ، فأسماء آلهة كنعان نجدها في لغة عبرية تقول هي بأنها من ابداعها ، وأخرى غيرها أصلها آرامية أو أوغارتية ، وغيرها التقويم البابلي ( قمري – شمسي ) ، نجده يتسمى تقويما عبريا ، فأن تكون فئة بعدد أصابع اليدين والقدمين ، في جغرافية مترامية الأطراف وتزعم بأنها بانية ملك وحضارة ، فهذا خارج العقل ، وخارج كل امكانية يمكن أن يدلل عليها عقل ، واذا فئة عاشت في ظل ملك أو في ظل حضارة وأخذت منها كل ما يمكنها ذلك ، بسبب من اندماجها الذي لا يمكنها غيره ، وجازت لنفسها أن تفاخر بذلك الملك ، أو بتلك الحضارة ، فليكن لها ذلك ، فأما أن تزعمها لنفسها ، فالملك ملكها فهو من ذاتها فهي صاحبة الحق بالملك وبالأرض وبنفي كل سكان لا يدينون بما تدين به ، فهذا انحراف عن جادة الصواب ، ولا يصوبه الا بما يعاد به مارق الى صوابه ، فتلك سوريا فيها الآن فئة يهودية ، وتعتبر حافظ الأسد رئيسها وتعتز به ، وتدين له بكل حب ، وتعتبر سوريا بلدها وانتماءها ، ومنطقها هذا متصل في زمن بشار الأسد ، فهل ثمة من ينكر عليها ذلك ، فماذا لو جاء زمان ، وقالت هذه الفئة بأن حافظ الأسد ملكها أو رئيسها ، وبأن سوريا ملكها ، وراحت تعمل بكل تآمر على نفي سكان سوريا من مكانهم ، فهل هذا كلام فيه رائحة من عقل أو صواب فكر ، فيقبله عاقل .
فهذه أرض عربية اسلامية ، ولم تكن يوما غير ذلك ، وقد تحدثت الأرض ، بما بها من مخزون ، بلسان علم الآثار ، ودلت على مجرى تاريخ تعرفه ، وهو بكل دليل متناف مع ما تحكيه مرويات توراتية ، وبازاء ذلك فمسألة الهوية اليهودية التي لم تكف تلح على ما يؤيدها ، لم يكن لها الا أن تلجأ من داخل فراغ الواقع من كل تأييد الى الوهم ، فتتوهم الواقع الذي لا وجود له في واقع ، وهو ما لم يكن ذلك ممكنا ولا متاحا بغير الزعم الفارغ من كل تأييد آت من غير النص التوراتي ، تماما كما حال قصة هيكل سليمان ، وما الى ذلك من قبور أجداد ، وأوهام ، وأوهام ، والتي لا حل لها سواها الأوهام ، فهي وحدها طعام ألأوهام ، وبدأت سيرة الوهم ، فزعم بأن حجارة الأساس لحائط البراق انما هي بقايا هيكل سليمان ، وهو ما لم يقم عليه دليل ، فالذين أقاموا بنيان المسجد الأقصى ، هم أنفسهم الذين أقاموا حائط البراق ليعتدل لهم البنيان في مكانه ، وفقا لشريعة الاسلام التي ملأتهم وعيا وفهما ودراية بما هم فاعلون ، وهنا يجب أن يتوقف الذين يقتربون من سرد للتاريخ ، ويبتعدوا عن المرويات التوراتية ، المتناقضة مع تاريخ الاسلام ومع علم الآثار ، ومع منطق التناول للنص ، فالذي لا يجاز على أساس من العقل ، نظرا لتبيان هذا العقل جملة من متناقضات تجوب النص ، لا يصح تناوله بغير اسقاطه والابتعاد عنه ، لينزوي على رفوف اللامعقولية ، وبين طيات الضلال ، وفن التضليل الذي افترس عقولا ، ووظفها في خدمته في مدى زمن طويل ، بوعي كان ذلك منها أم بغير وعي ، بفهم أو بغير فهم ، وليتم فضح هذا النهج الضلال بكل حقيقة تكتب عليه سيرته ، في سلب الوعي اساسيات تعقل كان أولى له بأن تكون له ، في كل حين يتناول فيه نصا ضلالا ، أو يصيخ سمعا لتضليل بضلال ، ولعل هذا هو حال اللاعقل حين اقترابه من اللامعقول ، فانه يستسيغه لكون جملته متسقة مع اساسيات تكوينه ، فاذا استوى اللاعقل في محل العقل ، بدا وكأن العقل يعقل لا معقولا ويستسيغه ، ويدافع عنه ، فاذا تجلى العقل لذاته وخرج من تغريبه لذاته عن ذاته ، أدرك مدى التوظيف له بجملة من ضلال .
وحري بنا ونحن ندعو دعوة العروبة والاسلام الى فضح الضلال واسقاطه ، أن نلفت الانتباه الى أن عمر بن الخطاب والذين هم من حوله حين دخلوا القدس ، ما كانوا بحاجة الى كعب الأحبار ولا الى أحد من هذا الصنف أو ذاك ، فهم الفاتحون الذين خبروا الأرض وما عليها ، فذلك عمرو بن العاص ما كان على رأس الفتح لمصر الا لكونه يعرف الأرض التي هو ذاهب اليها ، فما تراها هذه السذاجة التي جابت السرد التاريخي لدى كثيرين من المؤرخين ، حين اقتربوا من توصيف دخول عمر بن الخطاب الى القدس ، فهو العادل الذي لم يعرف ممارسة لظلم ، بل هو العادل وبأعلى صوت للحقيقة وبكل المعاني التي تعنيها ويعنيها ، فهو الذي عرف الحق والتزمه ، فأقام العدل غير مقيم لغيره قبولا ، فكيف أجاز لنفسه قبول طلب من نصارى بأن لا يدخل القدس يهود وأن لا يقيموا فيها ، وهم في عرفه ، في دينه ، أهل ذمة ، فكيف ارتضى ذلك ، والجواب واضح وضوح العدل لديه ، وبيان الحق في وعيه ، وهو لأنه بذلك يحقق عدلا ، لا يضار به يهود ، وانما ينصفهم وينصف النصارى ، فكيف يكون ليهود حق في داخل القدس ، ويتغافل عن اسدائه لهم عمر الفاروق ، والجواب هو لأنه يعلم بأن لا صلة لهم تربطهم بقدس ولا بما فيها ، فلا ضير ان باعد بينهم وبين نصارى لا يطيقون أن يرونهم ، فهو بذلك يحفظ سلاما اجتماعيا ، لا يقرب نصارى مما لا يطيقون ، ولا يقرب يهودا بما يضيقون به .
أمن العقل أن يكون هناك من يكتب تاريخا اسلاميا عربيا ، يتوهم أن الفاروق انصاع لطلب من نصارى ، بانزال ظلم بغيرهم ، وهم اليهود ، فكيف والظلم يتناقض مع عدله ، ومع دينه الذي يأمره ، بأن يحفظ حقوق أهل الذمة ، كيف لم يخطر على بال مؤرخ عربي مسلم بأنه وهو يكتب التاريخ ، حري به أن لا يلحق بعمر الفاروق ما يسيء اليه وللاسلام ، فجملة التناقض ، فسرعان ما يتنبه لها عقل يحترم التعقل المبني على عدم التناقض على أقل تقدير ، ثم أليس هو عمر الذي لم يرض لنفسه أن يقيم الصلاة في كنيسة القيامة ، خشية أن يقيم المسلمون ، من بعده ، في مكان صلاته مسجدا ، أليس هو ، الذي يرى ما بين يديه ويستشرف بما يفعل آفاق مستقبل قادم ، فلم يمكنه أن يقبل لمسلمين من بعده أن ينكروا على نصارى حقهم في بيت عبادة لهم ، فينبثق عن ذلك من الصراع ما لم يقل به الاسلام ، لكونه يستبطن انكارا على أهل ذمة حقهم فيما هم عليه من عبادات حتى ولو لم يتفق للاسلام تجويزها ، وانما هي حق لمن آمن بها ، فهي شأنهم ، وهم في داخل الحرية التي يحرسها الاسلام أحرار فيما هم عليه من اعتقاد ، فهم داخل الاسلام آمنين ، فقياسا على هذا ، فكيف يمكن أن يقال بأن حقا ليهود قد أنكره عمر الفاروق ، أو استثناه من رحمة الاسلام وعدله ، وانما عمر الفاروق ومن كانوا معه والنصارى ، بل وكل الناس الذين كانوا في القدس لم يروا حقا ليهود في القدس ، ولا أي شيء من ذلك ، فكانت استساغتة أن يكونوا خارجها ، ثم ماذا كان يمنع يهودا من أن يأتوا عمر الفاروق ويسألوه حقهم في سكن أو في عبادة ، فهم من أهل الذمة ، وهم يعلمون ذلك ، واستبعاد علمهم بحقوقهم هو نوع من التغابي ، ولو سألوه ، فهل كان يمكنه أن يمنعهم عبادة في أي مكان هو خاص بهم ، فلماذا لم يفعلوا ، وهم يعلمون بأن حقهم في دينهم وفي ما يملكون بين أيديهم ، فليس مثل عمر الفاروق صونا للاسلام ، وفي داخل الاسلام هم يملكون كما النصارى أن ينالوا حقهم كاملا ، ويكونوا آمنين على كافة حقوقهم بحراسة الاسلام نفسه ، فمن هنا اذا ثمة أفراد من يهود في ذلك الزمان ، فهم على القياس الذي نقيس عليه ، الشاهدون على خلوهم من أية صلة لهم بكل ما له صلة بالقدس التي كانت أيام دخلها عمر الفاروق عدلا وحرية وأمنا وآمانا .
فماذا أقول بمؤرخين كتبوا مجلدات ضخمة ، وقد استحالت الى مراجع لاستشراف التاريخ ، فلا يصح تجاوزها بغير العقل المتجدد في منطق تناوله الذي يستعيد به صوابه من تيه في تناول بلا أدنى تمحيص ، فلقد تصنم عرب ومسلمون أمامهم ، فكأن ما جاءوا به هو هو الذي يؤخذ كما هو ، فهذا التصنيم لفراغ في وعي ، أو بسبب من عدم تأسيس للعقل على منطق تناول خلو من قبول الشيء وضده في آن واحد ، أو بسبب من عقل عربي قد روضوه ، في مجرى الاستبداد ، على استساغة ما يقول به من قيل له بأنهم أعلم منه وأفصح منه في الخطابة ، فاذا هو لم يستسغ قولهم ، وجد نفسه محاطا بشعبية من عوام يرهبونه فكريا ، فلا أحد من حوله يرتضي بغير أن يركن عقله جانبا ويستسيغ الذي يلقى على عقله ، وهو حال العقل العربي الذي وعينا دورته عبر العصور ، وهو بعينه الحال الذي يدعونا الى اعادة تأسيس العقل العربي ، لكي نستطيع قراءة جديدة لتاريخنا ، ولكي نستطيع أن نؤثث لحاضرنا ما يمكنا أن نقيم مستقبلنا الذي نحلم به .
فكيف جاز لهؤلاء المؤرخين الكبار ، أن ينتقصوا من علياء تربعوا عليها ، كيف لم يفهموا بأن المكان أولى القبلتين ، الى حيث كان الاسراء ، ومنه كان المعراج ، لم يكن هذا مثل أي مكان ، وانما له خصوصية لا يعدلها الا الذي هو مثلها ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف لكل من حوله ، سيرة الاسراء والمعراج ، ووصف بدقة لا يقتدر عليها غيره ، وحدد بالوصف وبدقته كونه الرسول الكريم المكان ، وبأنه من ساعة كون ذلك المكان أولى القبلتين ، ومن ساعة أن كان المعراج منه ، فان المكان قد نال من الاهتمام البالغ الذي يعني بأبسط قول هو القرب من المكان ومعرفته، وبكل السبل المتاحة ، ولم تكن بعد تلك الاحاطة المستقاة من الرسول الكريم ، أية امكانية لقلة معرفة بالمكان ، ولم تكن ثمة حاجة لمخلوقات غير الذين يحيطون بالرسول ويسمعون منه ويأخذون ما يقول به ، لمعرفة المكان ، فكل من هم غيرهم ولم يأخذوا عن الرسول الكريم ، كانوا خارج التعريف الدقيق بالمكان ، فتحديد المكان لم يكن ليكون برأي من خارج المحيط المؤمن بما جاء به الرسول ، فاذا جاء عمر الفاروق الى المكان ، في القدس ، فهو ومن حوله يعرفونه معرفة الواحد منهم ليده اليمنى من يده اليسرى ، فكيف جاز لمؤرخين كبار استساغة وكتابة سرديات لا تتفق مع ايمان ولا تتفق مع شأو المكان ، وشأن خصيصته ، ودلالاته ، والمعرفة به ممن عرج منه الى السماء ، كيف جاز لهم ذلك التوصيف بأن ثمة من سأل كعب الأحبار ، أو سأل هنا وهنا ليتعرف على المكان ، وبأن زبالة كانت في المكان ، كان النصارى يضعونها على المكان نكاية بيهود ، فأي قول متناقض هذا مع فصاحة وعي الفاروق وصحبة بالمكان ، ثم أليس في ذكر هذه السرديات من استفسار عن المكان ومسألة الزبالة ، وغيرها ما يدل على انتقاص من معرفة عمر الفاروق وصحبه بالمكان وهو أولى القبلتين ، وهو اللامعقول الذي لا يرتضي به دين الاسلام ، ولا العقل الرصين ، أفأولى القبلتين ولما يصلوه وهم الذين عرفوا كيف يصلوا كل مكان أرادوا وقبل أن يذهبوا اليه كانوا على دراية به ، فأي سرديات هذه ، أهي من جملة الاضافات التي تتراكم لدى الكاتب من جمع بلا وعي ، فاذا سردية قرت في أذنه وكانت من بنات خيال ، أو من دس رخيص ، لم يتساءل بأكثر من حفظها ، فهي تزيد في عدد الصفحات ، وتزيد في الايهام بالموسوعية ، أفهكذا تكون كتابة التاريخ ، أو ليس تاريخ في أمهات كتب التاريخ أحوج ما يكون منا الى اعادة تنقيته ، بل اعادة كتابة التاريخ كله من جديد ، فثمة سرديات كتلك كمثل القول بأن ثمة حقا ليهود في المكان ، كيف تم استغفال الخلق بسرديات تبدو حائرة تائهة ، فليس ما يؤيدها من سرد متسق ولا من عقل ، ولا من ايمان ، فلا تصمد أمام العقل بحال ، فلا قيمة لسرديات كهذه ، ، فمكانها الزبالة ، كما قولهم بزبالة توضع في المكان ليدللوا بما يشبه الشهادة بالزبالة على حق من لا حق له ، ولم يكن له ولن يكون له في المكان .
وليست أزمة الكتابة للتاريخ مقصورة على كتب قديمة ، وانما هي ممتدة باللاوعي الى كتاب معاصرين ، بهم غيرة على بلادهم وحب كبير لها ، فترى الى الكاتب ، يقترب بالكتابة من فلسطين ، بهدف خدمة القضية الفلسطينية ، وحفظ تاريخ هذه المنطقة من الوطن العربي ، واذا به حين يدنو من تاريخ مضى يعود أخطاء الذين نسخ عنهم أو أخذ عنهم أو تعلم منهم ، فاذا بها مرويات التاريخ التوراتي تنزل له في صفحات كتابه ، واذا بها مرويات كتبها كتاب عرب بلا وعي بما يكتبون ، تنزل هي أيضا في صفحات الكتاب ، فاذا بالكتاب وبه ما لا يخدم تاريخ فلسطين بل يشوهه ، ويضر بالعقل الذي يريد أن يفهمه ، فمرويات كهذه مادة ضلال ، لا فائدة منها لغير من هم أعداء العرب ، والطامعين بأرض فلسطين ، وتلك " الموسوعة الفلسطينية " ، لمؤلفها " الدباغ " ، ولنقرأ معا ما كتب عن القدس وعن الخليل مثلا ، فالجانب الفلسطيني من الكتابة اضافة مهمة ويؤخذ بها عربيا وفلسطينيا ، ولكن سرعان ما ترد المرويات التوراتية ، فكأنها بعض تاريخ وكأن لها صلة بواقع ، فكيف جاز لحريص على فلسطين ، أن لا يحرص على صدق ما يرويه وعلى دقته ، فمثل هكذا موسوعة فهي فلسطينية في جانب ، وهي في جانب مترافق ليست فلسطينية ، بل تؤثث لما يلحق ضررا تاريخيا بالحقوق الفلسطينية في جانب منها ، فلا بد من اعادة تشطيب لكثير مما جاء فيها ، وهذه مسؤولية تاريخية ، ليس فيها محل من اسداء قيمة على ما لا قيمة له ، وليس فيها مجال لكي لا نكون صرحاء بين أنفسنا ، وليس فيها مجال للمساومة ، فهنا نحن نصدى لقضية مصير ، وليست هذه الموسوعة وحدها بهذا الحال ، بل غيرها كثير ، ونحن تحت الحاح الحقيقة ، محتاجون الى جرافات من قدرات علمية تقوم بتجريف كتب التاريخ من كل زيغ ، ومن كل تهافت فالت من عقال الوعي ، وجانح عن صواب التاريخ ، فشأن من تهافتوا من الكتاب العرب على الكلام الكثير ، ومن غير بحث علمي لتبيان حقيقة ما يسطرون أو ينقلون عن غيرهم ، كحال من يرجو بناء وعي ، فاذا هو ومن دون أن يدري يضع في ركن منه ، ما يظل يرهق هذا الوعي بأسئلة تنتج له شكه في وعيه ، فليحاذر كاتب تاريخ وليتبصر خطورة ما يقول به .
فلا تثاب غفلة فكر في تناول ، أو سرد له صلة بمسائل المصير ، ولماذا يعرج عربي عن قراءة عربية صحيحة للتاريخ ليحط في قراءات شائة ، فينهل منها ما يعود ليسقيه لأبناء العرب ، على غير بصيرة منه بخطورة ما يذهب اليه ، فكم من خطأ قاتل ، ثم ان صوابنا فيما أصبنا ، فهنا لمن يشاء اطلالة في كتاب التاريخ لابن الأثير ، فسوف يجد في الجزء الأول منه ، عن ابراهيم الخليل ، ما يفيد ، بأن الوليد هو اسم الفرعون الذي ذهب اليه ابراهيم ، وبأن أخوه الضحاك هو من ولاه على شمال الدلتا في مصر ، فعلى ما يبدو ، فان هذه المنطقة كانت بالحال الذي وصفة أحمد داوود وآخرون ، ممن تنبهوا للزيف الاستعماري الذي حط على كتابة تاريخ هذه المنطقة ، وكذلك كان شأن موسى ، ثم فليذهب المسلم والعربي الى معتقده ، فابراهيم مسلم وكذلك يعقوب وموسى ، وبنص القرآن ، فما شأن غير المسلمين بهم ، وكيف يجاز تاريخ لهؤلاء لا يقول به الاسلام ، فمن يجيز ذلك بغير علم آثار فصيح الدلالة ، فكأنه يرتضي غير الاسلام دينا ، ناهيك الى أن البحث في أصل البشر ، يستدعي السؤال عن العروق ، فمن أي عرق جاء هذا اليهودي ، وكم من اليهود ينحدرون من عروق لها صلة بهذا المشرق العربي ، فسؤال التناسل عبر التاريخ يوجب التفاتة ، ويستدعي السؤال ، فكم كان عدد اليهود في العالم ، وأين كانوا حين نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكم كان عددهم قبل ذلك بمئات من السنيين ، فكم كان العدد على وجه التقريب ، فلينطق علم الاحصاء ، فهل بمثل أعداد كهذه يقام ملك ، أو تقام دولة ، أو تصاغ حضارة ، أو حي في قرية ،
فالصهيونية عدوان على العروبة والاسلام ، قالت وتقول ما يعزز مقولاتها ، وطموحاتها ، وكذلك كان شأن قول الفرنسيين حين استعمروا الجزائر في مدى عشرات من السنين ، فلقد قالوا بأن الجزائر جزء من جغرافية فرنسا ، وقد انفصلت عنها بسبب من تباعد القارات ، وتصرفوا على هذا الأساس واستوطنوا الأرض وحلبوا خيراتها ، وسبلوا الناس جهدهم ، وساموهم سوء العذاب ، فلم يكن لانسان الجزائر قيمة انسانية في وعي استعمار جاء يستوطن ويسلب ، ولم يكن لهذا المستعمر بازاء مشروعه الاستعماري ، الا أن يبرره بكل كذب على التاريخ وعلى العقل وعلى النفس، من قول يلقي به على المسامع ، مستهدفا انتاج عقلية ومفاهيم ومعايير وقيم ، في خلال اعادة هيكلة انتماء وهوية ، فكلها في خدمة الأطماع الاستعمارية ذاتها ، ومثلهم قال الروم حين جاءوا الى هذا الشرق ، وكذلك كان حال الحروب الصليبية ، التي جرت تحت شعار مهد المسيح ، فالهوية مسألة فارقة في خطورتها ، فتلبيسها للغزو يعطى الغزو مسألة جامعة ، تجمع كل الذين يتوجه اليهم الخطاب الرامي الى توظيفهم ، في تأهيل الغزو ليغدو ناجزا منجزا محققا أهدافه ، فقراءة التاريخ تساعد على معرفة مقدار قيمة مقولات استعمارية كهذه ، في سياقاتها الاستعمارية ، فلقد ظلت هذه المقولات كمساهمات من جانب المستعمرين لتعزيز سعيهم الى اطماعهم ، لكنها في ذاكرة الشعوب المقهورة ، لم تكن سوى ما يدلل على المخاطر وعلى ضرورة التصدي لها ، فانصباب وعي الشعوب كان دوما على خلاصها من القهر ، ومن السيطرة الأجنبية ، فهاجسها وحاديها هو استعادة حقوقها في أرضها ، بارغام الغزاة على الرحيل .
وهنا جملة التناقض بين العرب والمسلمين وبين كيان استعماري استيطاني ، يسعى الى تكامل ترسيخه لذاته في المكان وفي ذاكرة البشر ، فتشكيل هويته وانتاج دلالات عليها في الواقع ، لجعل مبررات قيامه واستمرارة في سرد تاريخي توراتي يؤيده ، ويصبح بالدلالات وله فصاحة التعبير عن ذاته ، في خلال عملية انتاج لمصداقية تبرر سيره في التشكل عبر الزمان ، وتبرر حقه في الديمومية ، وتنفي عن العرب والمسلمين حقهم في استعادة حقوقهم في تراب أرضهم ، وهي التي تعني تفكيك الكيان الاستعماري ذاته ، فالمسألة مسألة مصير . فثمة تناقض وجودي يملي تناقضا جوهريا في الأمن ، وتناقضات في مستوى الثقافة والتاريخ والدين ، فليس ثمة ما يجيز مساومة أو تفاهما أو تواصلا ، فليس سواه النفي ، فهكذا حال التناقض الذي تشكل بالغزو لأرض فلسطين .
فمنذ أن كانت الصهيونية ، واشكالية الهوية اليهودية لوطن قومي يهودي شاغلة عقليتها ، فهي الهوية التي لا مصدر لها سوى الدين اليهودي ، وهي التي سوف تستحيل ، في ضوء النزوع والعمل الذي لا يكل ولا يمل ، الى فكرة مجسدة في واقع ، ومتمثلة في وطن قومي لليهود ، فأين ؟ ، فهذا سؤال الفكرة الاستعمارية التي بغير الحضن الاستعماري الصليبي لن تجد لها صلة بأرض ، فأين ؟ فالجملة الاستعمارية يجب أن تكون منطوقة وتصحبها آليات تجسيد ، والصهيونية يجب أن تكون نتاج هذه الجملة ، ولا تحيد عن سير تحدده ، ولا عن أهداف ترسمها ، في فلسطين ! ، فليكن ، فهنا ملتقى الحقد الاستعماري كله عبر الزمان كله ، وهذا ما كان ، فلقد تم انتاج دولة اسرائيل ، من خلال انتاج نكبة لشعب فلسطين ، فالنكبة شرط يهودية اسرائيل ، فلا أغلبية يهودية في الدولة من دون صناعة نكبة لشعب فلسطين ، وهذا حال عقلية يهودية لم تزل تفكر على هذا النحو ، فضمان أغلبية يهودية يعني صناعة نكبة ، ترحيل ، صناعة ظروف لهم لا تطاق ، فيغادرون أرضهم مكرهين ، واذا غادروها ليعودا ، فالقوة كفيلة بأن تحول بينهم وبين أن يعودوا ، تفريغ الأرض من الفلسطيني ، فالهوية اليهودية لا تتجسد بدولة من غير أرض ، فهنا القانون واداة القمع في دولة يهودية هو شيء واحد ، فبهذا المعنى الذي هو منطوق تاريخ جرى ، فتشكيل هوية يهودية لدولة ، متناقض بالتمام مع وجود شعب فلسطين ، ومتفق تماما مع انسانية صهيونية ووجودها ، فهنا انسانية ليست بمعنى انسانية مشروحة مسرودة في كتب عن الانسان ، وانما هي بمعنى مختلف ، فانسانية صهيونية نقيض انسانية فلسطيني بالتمام ، فمن الخطاء حين الاقتراب من هذه الكلمة ، بأن يتم القفز عن كون الكلمة تعني في هذا السياق الشيء وضده في آن واحد ، فانتاج الهوية ، وهيكلتها على ما يتفق ويهودية دولة ، لا يتأتى بغير نفي لما يمكن نفيه من كل ما يعني فلسطيني ، فآلية تشكل الهوية حرب على تاريخ فلسطين وعلى ثقافتها وعلى كل ما يصلها بالعروبة والاسلام ، وهذه جملة دولة يهودية ديمقراطية ، من لحظة أن كانت فكرة الى أن تجسدت بالقوة كدولة في أرض فلسطين .
ولما أن الذي قيل بأنه الوهم ، وبأنه الأسطورة ، قد أسفر عن وطن قومي لليهود ( دولة اسرائيل ) ، فالتاريخ التوراتي أصبح أحوج ما يكون الى دلالات عليه ، وها هي الأرض تحت السيطرة ، ما جعل علم الآثار يتبوأ مقاما رفيعا ، فهو المعول عليه ، بأن يقيم للتاريخ التوراتي أركانه ، بالكشف عن ما يؤهل القول للدنيا : ها هو وهذه هي الأدلة على وجود يهودي ، وحضارة يهودية كانت في زمن مضى ، على أرض فلسطين ، وأبعد من ذلك ، فهذا ما يعطي مبررات العودة الى أرض الآباء والأجداد ، فاليهود عادوا الى حضن آبائهم ، وما العرب سوى مهاجرين جاءوا واحتلوا أرض فلسطين ، وآن لهم أن يتفضلوا بتركها الى أصحابها الذي عادوا اليها ، فان لم يفعلوا ، فالقوة متوفرة ، وزاد على تأهبها الدائم لترحيلهم ، بأن انضاف الى مبرراتها ، ما يسندها من أدلة على تاريخ توراتي تنطق به آثار دالة عليه .
وهكذا تم ايلاء البحث عن الآثار اهتماما بالغا ، ذلك لكون وظيفته استحالت الى ضرورات هوية يهودية ، فالتوظيف لهذا العلم ، لم يعد في هذا الجانب مسألة أبحاث وتفتيش عن حقائق تاريخ ، وانما البحث في خدمة هوية يهودية ، فاذا ثمة آثار هنا أو هنا ، ويصبح بالامكان اسباغ تفسيرات يمكنها أن تنطلي وتجري مجرى الحقيقة ، حتى وان كانت الزيف بذاته ، فالهوية لها ضروراتها ، فخدمتها بما يضيف اليها ، وبالفعل فقد كان هذا هو الاتجاه الذي نحا بالبحث نحوه ، وقد بذلت جهودا كبيرة وصرفت أموال طائلة ، ولم يتركوا مكانا ويظنون في باطنه دالة على ما يتمنون ، الا وحفروا وبحثوا ، وفتشوا ولم يجدوا دليلا واحدا ، على وجود ما تسمى آثارا يهودية ، تدل بدلالة على تاريخ يهودي كان في الزمان والمكان ، وانما كل الآثار التي تم التوصل اليها ، بدورها أفصحت عن تاريخ عربي .. كنعاني .. اسلامي ، وأخرى تدل على آخرين مثل رومان ، مروا ، عبروا ، هربوا ، وهذه حقيقة نتائج الأبحاث الكثيرة ، والتي لم تزل تمضي ، تحاول أن لا تترك مكانا من فلسطين الا وتبحث فيه ، عن ما يؤيد هوية تشكلت وتدل على حقيقة يهود كانوا ، ويبدو بأن البحث العلمي عن التاريخ التوراتي الذي قالت به التوراة ، لا يتصل بما يدل على كيان ليهود ذي بال في أرض اسمها فلسطين ، ومع ذلك فان السياسة لم تزل تلح الحاحها على انتاج الهوية ، ولو من داخل الايهام والتوهم ، فاذا الواقع ينكر تاريخا توراتيا دالا على عمارة يهود ، فذلك لا يعني ، في ضوء سطوة القوة أن لا يتم انتاج دلالات تشير الى ما يدل على مصداقية لهذا التاريخ ، فهكذا هم ، وهكذا هي علاقتهم بتراث لا وجود له ، ويراد له أن يخرج من النص التوراتي ، من داخل الأسطورة ، الى فضاء واقع يفصح بدلالات ، يتم انزالها من الوهم الى واقع لم يعرفها من قبل ، فالفكرة الاستعمارية والأطماع تحدوها ، لا يعنيها من أمر سوى ما تنتفع به ، فحتى من قبل قيام دولة اسرائيل ، كان علماء من دول استعمارية ، جاءوا يبحثون عن كنوز سليمان ، عن المجوهرات ، عن الذهب ، وهم أصحاب فكرة البحث عن هذه الكنوز المتخيلة ، وهم أول من حفروا ، ومنذ ذلك الوقت والتنقيب والوهم كما الأسطورة ، يتدافعان نحو آثار موهومة ، فلعلهم بها يسندون بها الاسطورة .
ومباشرة بعد حرب عام 1967 سيطرت اسرائيل على ساحات بمحاذاة حائط البراق ، وهدمت بالجرافات حي المغاربة ، بعد أن أرغمت سكانه على اخلائه بالقوة ، ولقد شاهدت الهدم بأم عيني ، وكانت نفسي تتصدع ، وهي قصة تحتاج الى روايتها تفصيلا في وقت آخر ، وأما سكان حي المغاربة ، فهم الذين مكن لهم الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي ، مكانهم في محاذاة الأقصى . ولم يكن الهدم الا مترافقا في الوعي الصهيوني ، مع رغبة قوية بهدم هوية عربية اسلامية ، ليتأتى التأثيث لهوية يهودية في المكان ، فالقدس القديمة والمسجد الأقصى ، استحالا الى المجال الذي في نطاقه يراد تشكيل لدلالات على هوية يهودية ، فالحرب على الوجود ، وعلى التاريخ ، وعلى الثقافة وعلى الرموز ، لم تتوقف ساعة من زمن ، ولقد تم تأهيل كل ذلك بجملة من قوانين ، ما استبقى القضاء ، كما كان حاله دوما ، أداة فاعلة في خدمة العنصرية ، وهي اللعبة التي تبيحها ديمقراطية الدولة اليهودية ، فالفلسطيني الحريص على حقه في تراب أرضه ، سرعان ما استحال الى خارج على القانون ، ما يؤهل أجهزة القمع الى انزال العقوبة التي تتناسب مع ما يقضي به القضاء ، ولقد مشى التأثيث لهوية يهودية ، بانتاجها من داخل الوهم ، تحت سطوة قوة ، يحرسها قضاء في فضاء عمومي يهودي ، يقيم قيمة كبرى للقضاء وما يقضي به ، فكان الاستيلاء على ما يمكنها اسرائيل أن تستولي عليه من مساحات أرض ومبان ، وأقامت فيها ما أوحت بأنه تأهيل لهويتها ، وحفرت تحت الأرض حيث شاءت ، وزعمت تاريخا لا صلة ليهود به ، وهكذا راحوا يقيموا زعما تلو زعم ، يؤثثون به لوهم هم يصدقونه ، ويمضي بهم الوهم ، فالقوة مجال تسوير يتيح استنساخ الفكرة في الواقع ، وبظنهم بأن في ذلك ما يهيء لها ، فبمرور الوقت ، وبقوة الاشاعة ، والدعاية أن تستحيل من مجرد فكرة ، أو وهم الى حقيقة واقعية ملموسة ، تمكن الاشارة اليها بأنها موجودة ، فها هي ، فكل ذلك يؤثث لهوية لها دلالات تدل عليها في واقع ، ما يسمح في اعادة انتاج الصورة والمضمون للهوية ضمن الهيبة ، ما يتيح انتاج عملية تضليل مضافة الى تضليل سابق عليها ، وكان تم به التأثيث لفكرة الكيان الاستعماري .
ولقد امتدت اللهفة الجامحة على ما يؤيد الهوية التوراتية ، فكان الالتفات الماكر الى المسجد الأقصى ومحيطه في القدس القديمة ، وقالوا هنا كان الهيكل ويجب أن يعاد بناؤه ، والى هناك في الخليل حيث الحرم الابراهيمي ، اقتربوا منه وقالوا هنا مكان أبينا ابراهام ، والى هناك ، في محاذاة المقبرة الاسلامية في بيت لحم ، على الطريق الموصل بين القدس والخليل ، حيث مسجد بن رباح ، دنوا وتأملوا وقالوا ، هنا قبر راحيل زوجة يعقوب ، أم يوسف ، وفي نابلس قالوا هذا قبر يوسف ، تسندهم القوة في كل اقتراب لهم ، واصرارهم على أن لا يقيموا قيمة لغير ما يسعون اليه ، غير مكترثين بمصداقية من تاريخ ، ولا بتاريخ ينفي جملتهم ويسقطها ، فما يقال بأنه قبر يوسف في نابلس ، انما هو قبر ( يوسف دويكات ) وهو مسلم تقي ناداه الناس بالشيخ ، وهناك أكثر من مكان على الأرض في فلسطين يشار اليها بقبر يوسف ، فثمة ما قيل بأنه قبر يوسف في الخليل ، ومن قائل بقبر له في مصر ، وبأن مومياء لم تزل في رتبة الظن بأنها يوسف . ثم ان مسجد بن رباح بناء يدل على ذاته ، وتمكن معرفة عمر البناء بسهولة ، فكيف قبته النصف كروية ، استحالت الى قبة قبر راحيل ، فهذا مسجد أقيم بفن على الطراز المملوكي ، فعمره ليس ممتدا الى آلاف من سنيين خلت ، وبناؤه يدل على حضارة اسلامية ، فكثيرا ما يقيم المسلمون مساجد على الطريق أو بجانب مقابر ، ولعل صلاح الدين الأيوبي كان من الذين يلحون على اقامة مساجد بجانب المقابر ، وقد كان بذلك التفكير انسانيا ، فالمسجد للصلاة ، ويمكنه المسلم أن يتعلم فيه ، ويرتاح لبعض من الوقت ، فيجد الماء والظل ، وقيلولة من تعب أو سفر ، فالمسجد وجه حضارة انسانية ، فوجوده ضرورة انسانية ، فالمسجد معين انساني ، فكله خير للانسان ، وهذا ما حدا الى اقامة ذلك المسجد في زمن المماليك في نفس المكان ، واذا افترضنا بأنه البناء الذي كان منذ زمن الست راحيل ، وبأنها كانت هي من وراء اقامته ، فليكن ، فهي فرضية تقيل كل صلة ليهود بالبناء وبالست راحيل ، وتستحيل الى حجة عليهم ، فاذا ارادواها لهم فعليهم اتباعها ، فهذا البناء ، بما هو عليه من تكوين ، واتجاه صلاة نحو القبلة ، نحو الكعبة المشرفة ، وفضاؤه الداخلي لدليل على أنه البناء الذي لا صلة له بما يسمونه كنيسا يهوديا ، فبنيويته الداخلية بنيوية مسجد ، فأهلا بمن يعودون الى دين الاسلام ، ويا عجبي من كشف ، بأن أما لهم كانت مسلمة ، وتصلي في مسجد ولا يتبعونها ، وانما يتبعون دينا لا يتفق بحال مع ما كانت هي عليه ، فاذا هو قبة راحيل ، فهو مسجد وهي مسلمة ، واذا هو البناء أقامه يهود من أجلها ، بعد وفاتها ، وهو قائم منذ ذلك الوقت ، فليس في الدلالة على الانتساب للدين ثمة فرق ، فالبناء ناطق بذلك ، فهيا فليتبعوها وليدخلوا دين الاسلام ، ويا مرحبا ، فنصلي معا ونقرأ القاتحة معا على المسلمة راحيل التي ليست هناك ، فليس ثمة ما يدل على أنها كانت هناك ، بل لا يمكن بحال من فحص عظام في تلك المقبرة تبيان من كان هناك ، وانما تبيان الفترة التي مات فيها من كانت تلك هي عظامه ، ولم يدل أي فحص لعظام على فترة قريبة من فترة يفترض أن راحيل كانت لم تزل تتنفس فيها . ولماذا يكون قبر راحيل هنا في هذا المكان بعيدا عن الزوج والابن ، فماذا دعا من الناحية الاجتماعية في مجتمع زراعي ، يسوده القلق على الرزق وتشيع فيه المخاوف ، فالأمن الشخصي والمعيشة لها مقتضياتهما ، ثم ما سر بقاء بنيان بكذا حال الى يومنا هذا ، كيف صمد في مدى آلاف السنين في وجه كل التيارات التي هبت على المنطقة .
وتلك ( كريات أربع ) ، هاجوا اليها وأقاموا فيها ، فهي موروث آبائهم وأجدادهم على حد زعمهم ، وحوطوها بكل نار ، وجعلوا منها بؤرة عدوان على كل المحيط بها ، فلسطينيا كان في هذا المحيط أم شجرة تطعم الانسان ، وخلخلوا الظروف ، وليس بهم غير غيظ دفين ينفجر كل حين ، يتقصد برصاصه كل ما يظنون زواله مضافا في توسعهم في السيطرة ، فهذه ( كريات أربع ) ، كان أقامها ( أربع بن علي ) وهو ملك عربي كنعاني ، ينتسب الى قبائل العناقيين ، وهم الجبابرة ، فهو من أقامها ، وكلمة أربع بمعنى أربعة ، والمنطقة برمتها قد سكنتها قبائل عربية عبر الزمان ، فتاريخ مدينة الخليل ممتد في الزمان الماضي الى ما يقارب 3500سنة قبل الميلاد ، فكذلك تتحدث آثارها ، وبصرف النظر عن آثار غزاة جاءوا وحطوا برحالهم ، ثم فروا تحت ضربات التطهير للأرض من الغزاة ، فان كل الدلالات تدل على أن العرب هم السكان عبر الزمان ، فهم الذي سكنوها وبنوها ، ودافعوا عنها في مواجهة كل الغزاة ، وحين كان زمان حط لهم الضعف بين أيديهم ، فلم يقتدروا على مواجهة الغزاة فانهزموا ، عادوا ونهضوا وانتصروا ، وأعادوها كما يحبوها ، وهم تحت راية الاسلام أقاموا الحرم الابراهيمي ، فلما جاءت الغزوات الصليبية ، أقام الصليبيون مكانه كاتدرائية ، دامت 90 عاما ، ومثلها كنيسة أقاموها مكان مسجد قبة الصخرة ، بل وجعلوا مما ندعوه المصلى المرواني وغيرة حظيرة لخيولهم وأسموا المكان اسطبلات داوود ، وما لبثوا حتى جاء صلاح الدين يطردهم من بلاد العرب والمسلمين ، فعاد المسجد هنا ، وهناك ، على أحلى صورة أحبها المسلمون .
وقد يدلل ذلك على حتمية تلازمت مع صيرورة تاريخ ساكن روح العرب ، تقرر بأن مآل الغزاة الى فرار من الأرض العربية . ناهيك الى أن الغزاة لا يقيمون احتراما لسكان الأرض الأصليين ، فالظلم والقهر ينزلونه بهم ولا يقيمون لتاريخ لهم ، ولا لثقافة ولا لدين أية قيمة ، فهدم مساجد ، وحجب صلاة ، وبالقياس على ذلك ، فان من هو مؤهل ليفعل ذلك كله ، فان الآخر منفي في وعيه كما في ممارساته ، ما يجعل من الصعب التأشير على قيم ، تحول بينه وبين أن يفعل كل ما يدل على تجاوز أعراف وقيم وأخلاق على اطلاقها .
ولقد اقترب الصهاينة من الحرم الابراهيمي ، بتسارع عدوانهم ، متلهفين على عمل كل ما يقربهم منه وكل ما يأخذه من حوزة المسلمين ، فلم ينقطع يوما عدوانهم على المصلين وعلى ما له صلة بالمسلمين ، وعلى محيطه ومن هم في محيطه من المسلمين ، ولقد أقاموا في عام 1991 مدرسة يهودية ، وفي عام 1968 هدموا بعضا من منشآته الأثرية ، واقتربوا بكل عدوان على الناس وعلى المكان ، فليس ما يحجبهم ، بل الجنود الاسرائيلين يسهلون لهم دربهم الى ما يريدون ، فتحت نيران مشرعة في وجه المسلمين يقتربون ، وفي 25/2/1994 قاموا بمجزرة في داخل الحرم الابراهيمي ، اذا سهلوا لأحدهم يدعى باروخ غولدشتاين أن يدخل المسجد ، ليباشر باطلاق النار على المصليين ساعة سجودهم فجرا ، في رمضان ، وقتل 29 شخصا وجرح العشرات ، ولما فرغت الذخيرة منه هجم عليه مصلون وقتلوه ، وفد هب الناس بأثر المجزرة ، فوجدوا رصاص جنود الاحتلال يتسارع الى صدورهم ، ليرتفع عدد الشهداء الى 50 شهيدا ، بالاضافة الى الكثير من الجرحى ، وفي خلال هذا الصراع الذي أوقدته المجزرة ، قامت قوات الاحتلال باحتلال جانب من المسجد الابراهيمي ، وجعلته بقوة النار كنيسا لليهود ، فهكذا الحرم الابراهيمي ، تم شطره شطرين ، فشطرا ظل مسجدا للمسلمين ، وآخر استحال بسفك الدم وتسيور من نار الى كنيس . ولاستبقاء حال أنتجوه بقوة نيرانيهم ، ولهفتهم على هوية يريدونها أن تلامس في الواقع المادي ما يدل عليها ، أحالوا منطقة الحرم الابراهيمي الى ثكنة عسكرية ، فكل داخل وكل خارج تحت أنظار البندقية .
وهم في خلال عدوانهم الجامح على المسلمين ومقدساتهم ، يتخذون من قصر الحمراء مثالا تاريخيا ، يتذاكرونه ، بين الحين والآخر ، قاصدين من هذا المثال دور القوة ، فبها وحدها تم الحاق هزيمة بالمسلمين ، وبفضلها أمكن احتجاز قسم من قصر الحمراء ليصبح كنيسة .
ولم يكن حال التأثيث ، لعبادة ربهم على طريقتهم ، بسفك الدماء وهي راكعة لله تصلي ، يختلف من حيث منطق التناول ، ومن حيث اللهفة على استنبات دلالات على الهوية ، بين حال هنا وحال هناك ، فقد اطلق الاحتلال النيران على الصلاة في المسجد الأقصى ، ولم تتوقف نيرانه ، فمن مجزرة قام بها الى أخرى مجزرة ، فساحات الأقصى ناطقة بتاريخ يحكي قصة الدماء ، وما سبقها وتلاها ، من تضييق وعدوان ، على سعى المسلمين ، بنية الصلاة الى المسجد الأقصى ، ففي 21/8/1969 أشعلوا النيران في المسجد الأقصى ، وقالوا هذا من صنع معتوه ، ولم يفسروا ماذا دعاهم الى قطع المياه عن الأقصى ، مباشرة بعد أن ارتفع الدخان في الهواء ، ولم هم قاموا بتسويره بحزام من جنود حاولوا أن يمنعوا الناس من هبتهم الى اخماد الحريق .
وفي 8/10/1990 تناهى الأمر بجماعة ( أمناء الهيكل ) ، الى محاولة لوضع حجر أساس لبناء الهيكل ، في ساحة الأقصى ، وكانت جموع المسلمين على يقظة متوقدة اصرارا على التصدي ، فما كان من قوات الاحتلال التي تحرس الغايات الصهيونية ، الا أن تطلق النار على المسلمين ، فاستشهد ما يزيد عن 21 فردا ، وجرح ما يقارب ال 150 ، واعتقل 270 شخصا ، وكان مشهد الدماء في ساحات الأقصى ، يحكي معاني الصلاة ، ودورها في تشكيل الرباط وصناعة الأمن للهوية العربية الاسلامية ، فالصلاة كانت تنطق بأفصح عبارة ، بأنها بمعنى آلية تشكيل الجبهة المتقدمة للدفاع عن أمة العرب والاسلام .
وفي 23/9/1996 عشية يوم الغفران اليهودي ، وفي الساعة الواحدة ليلا ، تم افتتاح نفق تحت الأرض، كان قد بدأ العمل به منذ عام 1968 ، ويمتد من أمام مدخل المدرسة العمرية في طريق الآلام في القدس القديمة قرب باب الغوانمة ، على طول يقارب 488 مترا تحت الأرض الى أن يحاذي حائط البراق ، ليكون مدخله الثاني من الساحة التي سيطر عليها اليهود وجعلوها ملتقى لهم ، لصلاتهم ، لبكائهم عند حجارة حائط البراق . وهذا ما أشعل انتفاضة النفق ، التي امتدت بطول الوطن وعرضه ، وقد سالت دماء عزيرة ، في أمكان كثيرة .
وفي 28/9/2000 كانت زيارة شارون الى ساحات المسجد الأقصى ، ليؤثث لزعامة قادمة ، فكان رد فعل المسلمين جارفا ، فكان صعبا على شارون ومعه الآلاف من جنوده يحيطون به أن يخطو براحة وبحرية توهمها ، وفي اليوم التالي ( الجمعة ) ، كان عشرات الآلاف من أبناء فلسطين ، قد جاءوا الى الصلاة ، فكانوا أشبه بسور من ارادات تساندت ، فما فرغوا من صلاتهم ، حتى غزاهم الرصاص المنبعث من فوهات بنادق جنود الاحتلال ، الذين كانوا بالمئات ينتظرون تفهيم المسلمين ، بأن الموت هو في انتظارهم ، اذا هم بقوا على حال ايمانهم ، وقناعات يزرعها هذا الايمان في سلوكهم ، ومن هنا امتدت ارادة التحدي في تشكلها لتشمل كل ناحية من فلسطين ، في انتفاضة شعبية ناطقة باسم الأقصى والقدس ، فهي القدس التاريخ العربي والاسلامي التي يراد صهيونيا سلخها من انتمائها العربي والاسلامي ، وأما المسجد الأقصى فهو المراد تقاسم جغرافيته ، كما الحرم الابراهيمي ، كما قصر الحمراء ، أو لكم الفوق الأرض ولنا التحت ، فهي عملية سحب اعتراف ، فاذا جاء الاعتراف يقام هيكل ولو تحت الأرض ، وبالموافقة بحكم الاعتراف ، بحكم الاقرار بأن ظلما حاق باليهود ، وبأن هيكلهم الذي زال ، ها هو يعاد في مكان من فوقه يجلس الظالمون ، فالى متى هذا الظلم ، وهذا النيل من يهود ، فليزل الظلم بزوال الفوق ليخرج التحت الى الفوق ، ويزول غبن ، وظلم أنزله المسلمون باليهود ، وليبني المسلمون مسجدا لهم بعيدا وحيث يريدون ، فأرضهم واسعة ، ولديهم المال الكثير ، فهذا وجه من تفكير يهودي ، وثمة وجه آخر ينحو نحو اقامة عدة كنس ، فمنها تحت الأقصى ، ومنها في القدس القديمة في مشهد يزيل عن الأقصى ميزته في مشهد القدس القديمة ، فلا يكون فريدا ، وانما واحدا من جملة تزيح النظر عنه اليها ، فلا يظل في مركز الشعور حين النظر الى صورة للقدس القديمة ، فثمة كنيس الخراب ، وهو الذي اقيمت قبته على نمط مملوكي مشابه لقبة مسجد بن رباح التي الحقوا بها اسم قبة راحيل ، ليزرعوا في خلال وجه الشبه فهما بأن الذي هنا هو الذي هناك ، ومن أقام بهذا هو من أقام ذلك ، وبأن الفن المعماري اذا هو هنا في كنيس الخراب خصيصة يهود فكذلك هو هناك في ( قبة راحيل ) ، وآخرى كنس يراد لها أن تطل في الصورة وأخطرها كنيس كامن في فضاء التشكيل للهوية ، يقام على الأغلب في منطقة يحكمون السيطرة عليها وهي منطقة المغاربة ، بحيث يكون لصيقا بساحة مفتوحة للمسجد الأقصى ، بحيث يتأتى في غمرة انتاج صراع وسفك دماء ، واستدامة لهذا الصراع أن يتم احتجاز جانب من ساحة للأقصى ، وتسويرها بالجنود ، وبعد ذلك بالحواجز وبعدها ، بحواجز ثابتة ، بحيث تبدو كثكنة عسكرية ، وداخل الساحة التي يتم احجزاها يتم تمدد الكنيس والصلاة فيه بانتظار ظروف يقام فيها على الساحة نفسه هيكل مصغر ، لكنه الهيكل الذي سوف يريح يهود ، ويطالبون بعدها باعتراف بالأمر الواقع ، وجعله ، اساسا لسلام لا يطالب اليهود بعدها بما كانوا يطالبون به من قبل ، وانما يكتفون بما توصلوا اليه من اعتراف بهوية ، ما كان يمكن لها أن تتكامل من دون اعتراف كهذا ، فهي فاصلة في مجرى تاريخ اليهود ، ويتركون ما تبقى من حلمهم ، الى زمان لربما قادم .
وهذا الاعتراف بحق ليهود في المسجد الأقصى هو الذي لن يأتي أبدا ، فلن يمكنه مسلم أن يلغي الاسراء والمعراج والمسجد الأقصى ، من كونه كلمة في القرآن الكريم ، واجبة النفاذ بكل دلالاتها في ايمان كل مسلم ، فلا حرية اختيار له في تأويل معنى كلمة كهذه ، فهي كما هي غير محتاجة لتأويل ، ولا يعني التنازل عنها أو المساومة عليها سوى الكفر ، والخروج من أمة الاسلام ، فهي لبنة من لبنات الهوية الاسلامية ، وهي مرتكز اساسي لا يقوم بلاها ايمان بدين الاسلام ، فهنا نحن بصدد هوية اسلامية من عدمها ، فأن يتم الغاء هوية اسلامية ، أو تشويه هوية اسلامية ، ليقوم في مقامها اكمالية هوية ليهود هو الذي لم ولن يكون ، فاكمالية هوية يهودية ناقصة لم ولن تكتمل .
ومع ذلك فاستحصال اكمالية لهوية يهودية ، هو ما ارتسم في ضوئه منطق تناول لظروف قائمة ، بهدف اعادة هيكلتها بالسياسة وبالقوة ، على ما يعيد ترميم الهوية ويوفر اطلالة لها بما لم تعرفه من قبل ، واستكمالا لمجرى لم تنقطع فيه فاعلية هذه هي غاياتها ، فلقد قامت حكومة اسرائيل برئاسة بنيامين نتانياهو ، برصد مبالغ طائلة ، من أجل اعادة ترميم ما تسميه هي باسم الآثار اليهودية ، وأعلنت بأنها سوف تدرج على سجل الآثار التي يراد ترميمها كلا من الحرم الابراهيمي ومسجد بن رباح ، و... ، وأسوار القدس ، على اعتبار أنها موروثات يهودية ، فكان الرد الفلسطيني ، وبكل وضوح الكلمات ، وكانت جملته ما قاله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، من أن اقدام اسرائيل على اعتبار الحرم الابراهيمي ، ومسجد بلال بن رباح ، وأسوار القدس ، كمواقع أثرية اسرائيلية يهودية ، سوف يشعل حربا دينية ، وبمثل هذا القول قال كل من كان نبض قلبه على التاريخ العربي والاسلامي وعلى الدين الاسلامي ، وبازاء الأصداء التي ترددت في الفضاء العام ، من جراء عدوان كهذا ، جاء قول نتانياهو ، بأن الأمر الواقع لا تبديل فيه ، وانما هي مسألة ترميمات ، فهي موروثات آباء ويجب ترميمها ، فحرية العبادة مكفولة ، وقام بيرس رئيس دولة اسرائيل يقول بنفس الكلام ، بأن اسرائيل غير معنية بصدام ، وانما هي مسألة ترميمات ، وأغنى العرب آذان العرب والمسلمين كلاما ذا صلة وله أهميته ، ومرت عيون الجموع الشعبية من المحيط الى الخليج ، على شاشات ، وانفعلوا مع محاورات جادة وعميقة الدلالة ، فكل محاور ، أو صائح بقول أو موقف ، يدير معركته بمعقول من كلام ، ومقالات برع كتابها في توصيف الموقف ، حتى حار عقل الانسان العربي من أين يبدأ القراءة لفهم ما يجري ، فغزارة الكلام مثل المطر في عز الشتاء ، والى جانب كل هذا مضت اسرائيل تعمل ما خططت له ، عارفة كيف تصل الى ما تريد ،على الرغم من العواصف الكلامية التي تحرك الرياح من حولها وتزعجها ، وتبعث فيها القلق ، فماذا سوف يجري غدا .
لقد اعتمدت اسرائيل فكرة تعويم الصراع على المكان ، لانتاج فضاء عمومي يمكنها في خلاله ، وبصورة دائمة التأكيد على حق ليهود في المكان ، فبذلك وفي مجرى الصراع الذي تنتجه ، يتأتى ليهود زراعة قناعات في الوعي العام بهذا الحق ، وذلك من دون أن تكون هناك ضرورات لتقديم شواهد وأدلة ، من تاريخ وعلم آثار ، لا يمكنها بحال أن تنطق بما يقنع به أحد ، فليس ثمة آثار يهودية دالة بفصيح لغة ، والقول بنص توراتي ، فسرعان ما تقابله نصوص تنقضه وترفضه ، ويبدو عندها وكأن نصوصا دينية من طرفين متناقضين تتحاددان ، وهذا صراع ديني في مستوى الفكر ، يعيق سعي يهود الى مبتغاهم ، فأولى للقوة والسياسة أن تتصدرا الصراع وتشكلانه ، وليطل الديني من خلالهما .
فمن ضرورات التعويم للصراع ، اندرجت فكرة اقامة الحواجز على الطريق الى الصلاة ، وتحديد أعمار من يتاح لهم أن يمروا الى الصلاة في المسجد الأقصى ، و محاصرة المصليين ، والتضييق عليهم ، والعدوان عليهم باعتقالهم وبضربهم وسفك دمهم ، وليس هذا بكاف ، بل التمادي الى ممارسة قمعهم في ساحات المسجد واطلاق النار عليهم ، فمعركة بين الصهيونية وبين المسلمين في ساحات المسجد الأقصى ، مسألة صراع تفيض في الفضاء العمومي ، فكل الدنيا تتحدث بها ، فثمة اسئلة يراد ليهود أن يجيبوا عليها ، وفي فضائيات عربية ومشهورة ، فيتاح لهم أن يتحدثوا الى المسلمين عن حق ليهود ، وبأنهم لا يريدون سوى ذلك ، والسلام بعد ذلك مع الجميع ، ففكرة الحق اليهودي الغائبة عن الأذهان تصبح حاضرة ، ومقرونة في الوعي باصرار يهودي على تجسيدها ، وميزان القوة في صالح اسرائيل ، وهي قادرة على استدامة تمددها في ناحية التشكيل لهويتها ، وهذا ينطوي على مخاطر على كل ما هو عربي واسلامي في القدس ، ويجعل من تهويد المدينة ، أو على الأقل انتاج ملامح يهودية لها لا تتعدى كونها مسألة وقت ، وهذا الوقت يتقاصر أمام الاندلاق اليهودي على سيطرة لا تعرف حدودا من معايير أو قيم ، أو ما شابه مما اعتاد العرب والمسلمون على الانتباه اليها ، وحساب حساباتها ، قبل أن يأتوا بفعل أو قول ، ناهيك الى ما يتم انتاجه من عمليات تبديل لا تنقطع في الوضع القائم ، فكل تبديل يقيل شواهد التاريخ من هيئتها ومضمونها ولسانها ، ويحيلها برسم جديد الى يهودية ، ويجري كل هذا داخل أنفاق تحت مصاطب الأقصى ، وفي جوانبه ، وفي محيطه ، بل في القدس القديمة كلها ، في منطقة الشيخ جراح ، في سلوان ، في بيوت يتم انتزاعها من سكانها ، في يافطات تقال من أماكنها ، وتوضع مكانها أخرى بلغة عبرية ، فالعربية بما يصلها به سعي يهود ، من عدوان ، لا بد عابرة ، ولا يصح أن تظل ولها وجود في ذكر اسم شارع ، فان كان لا مفر من ذلك ، لحاجة من سياحة اليها فتحت التحت ، فتحت الانكليزية ، وتحتها العربية ، ولتكن الحروف فيها مشوهة لتدل على ما هو شائه ، فبذلك ايحاء الى قوم اسمهم عرب ، وكل شائه تضيق به الأنظار وبه ما يجعل المشهد بائسا ، والسائحين في ضيق ، فأولى أن لا يكون هذا الشائه موجودا بحال ، فاقتلاعه كما اقتلاع من تدل عليهم الحروف الشائهة ، فالقدس لا بل أورشاليم أو أورشليم ، عاصمة الدولة اليهودية ، تنزع الى صفاء الانتساب الى دين يهود ، ولن ينفع عرب ذكر حقائق تنطق بها آثار ، فسوف تجرى عليها عمليات تجميل كما وجه المخلوق في زماننا ، وتحال الى شاهد على يهود ، فذاك النفق الذي أجج انتفاضة ، اذهب وسر في داخله ، فالأيوبية ، والمملوكية والرومانية والاسلامية ، أصبحت برسم ملامح هنا ، وبودرة هنا ، وأسماء وكلمات عبرية هنا ، وقد استحالت يهودية ، فهكذا يقال للسائح ويذهب هو الى بيته ومعه تاريخ متجدد ، فهو الذي يندرج في تعريف أولاده ، وكل عقل يطل على ما في الأوراق ، وما فيها من صور لنفق تحت الأرض في أورشليم ، فلا حاجة لعرب الى العودة بتذكير بأن شلامو اسم نبطي عربي ، وأورشليم هو الاسم الذي تحمله المدينة ، من قبل أن يأتي ذكر ليهود على الأرض ، بألف عام على الأقل ، وكذلك علماء آثار يهود بما توصلوا اليه يقروون بأن مدينة أورشاليم ، كانت مسكونة بخلق كثير من قبل التاريخ التوراتي لداوود ، وفي المقابل عرب من مثل فراس السواح حين اقترابه من التاريخ التوراتي يقول : بأن ذلك التاريخ التوراتي لداوود ليس ما يدل عليه في واقع ، بل علم الآثار يدل على ما يخالف الرواية التوراتية ، وبأدلة قاطعة .
وهكذا الأسطورة أصبحت ولها دولة حديثة وقوية ، فهي ملتقى أو منتدى الكراهية كلها التي تربصت عبر الزمان ولم تزل تتربص الى الآن ، بكل عرب واسلام ، والتاريخ التوارتي أصبح يطل من خلال دلالات مستعارة من الواقع ، من داخل آثار عربية واسلامية ، واذا نظرت الى تلك الدلالات ، ورغبت استنطاقها ، لبدا المشهد مأساويا ، فأنت أمام أقنعة زائفة ، تستر من ورائها ما لا يدل عليها ، ويراد منك أن تستدل بها على ما يراد للزيف أن يدل عليه ، فأنت مطالب بأن تكون بوعي شائه ، فهكذا هي لغة الزيف ، فاذا أنت صدقته بما هو عليه ، فأنت تنوب عنه ، تتحدث بلغته ، تقول قوله ، تصبح زاعما علما بما يدلل العلم على بطلانه .
فهوية تتشكل بزيف الدلالات ، انما تهيء دلالات على زيفها ، فلن يكون لها تكاملها بتة ، في غير مستوى زيف تشكلت عليه ، فهي في مواجهة حقائق التاريخ فسرعان ما تتهاوى ، فاستعارات قسرية من تاريخ ، انما هي تزيف تاريخ ، ولا يمكنها بحال أن تستحيل الى تاريخ ، حتى ولو أن الوهم طاف بالعقل في كل ناحية واتجاه ، فهل ثمة مطبخا يهوديا ، حتى يقال بأن جماعة يهود أنتجت ما يمييزها في معاشها ، وذلك في خلال علاقاتها مع الطبيعة ، فما هو وكيف حاله ، فهو بما يدل عليه جملة استعارات من أمم شتى ، وهذه " التبولة " ، ومن قبلها الحمص ، راحت اسرائيل تزعم بأنها اسرائيلية ، فاذا بها لبنان تضج ، فهذه لبنانية ولنا حق الملكية الفكرية والمهنية بها .
ومطلع السبعينات من القرن الماضي ، كان لقاء اليهود في أورشليم القدس بما لم يعرفوا له وجها منذ بعثوا أحياء في الأرض ، كان لقاؤهم مع ( حمص أبو شكري ) ، في شارع من شوارع القدس العتيقة ، فهو مثل ما قالوا الذي ليس مثله في البلاد ، ولم يعرفوا لطعمه مثيلا ، واذا هي السنون تمضي ، فاذا اسرائيل تزعم بأن الحمص خصيصتها ، فشعب أو أمة بلا مطبخ يخصها دون سائر الأمم لا تكون أمة بحال ، فهكذا قالت لي أمي التي لم تعرف القراءة والكتابة .