الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الكتابة أمام الموت بداية الذات دراسة في جدارية محمود درويش بقلم:د.كريم عبيد

تاريخ النشر : 2010-06-06
بقلم : الدكتور كريم عبيد




العودة من الحياة ..
" هل قلتُ موتى ؟
لا موتَ هناك
هناك فقط تبديل عوالم "
سياتل زعيم دواميش

بهذه العبارة صدّر محمود درويش إحدى أهمّ قصائد مجموعته / أحد عشر كوكباً 1992 / وهي قصيدة / خطبة الهندي الأحمر – ما قبل الأخيرة – أمام الرجل الأبيض / ..
وهذا ما أراد الشاعر أن يقوله على امتداد هذه القصيدة : الموت بداية , بل بدايات , لما سوف تحمله الحياة الأخرى , التي لم يعرفها الرجل الأبيض , بأية صورة تجلّى بها / المحتل / الصهيوني / المعتدي .. إلخ , لذلك أفسد روح الطبيعة الخالدة , التي تتحوّل فيها أرواح أهل الأرض إلى أشجار عالية , تناجي السماء الأخيرة على هذه الأرض , وتهبها الإنسانية , وروح الخلود .. يقول :
" إذا ً, نحن من نحن في المسيسيبي . لنا ما تبقـّى من الأمس /
لكنّ لون السماء تغيّر , والبحر شرقا ً
تغيّر , يا سيّد البيض ! يا سيّد الخيل ماذا تريدُ
من الذاهبين إلى شجر الليل ؟ /
عالية أرواحنا , والمراعي مقدّسة , والنجومْ
كلام ٌ يضيء ... إذا أنتَ حدّقتَ فيها قرأتَ حكايتنا كلها :
ولدنا هنا بين ماء ونار ٍ ... ونولد ثانية في الغيوم ْ
على حافـّة الساحل اللازورديّ بعد القيامة ... عمّا قليلْ
فلا تقتل العشب أكثر , للعشب روح يدافع فينا
عن الروح في الأرض /
يا سيّد الخيل ! علـّم حصانك أن يعتذرْ
لروح الطبيعة عمـّا صنعتَ بأشجارنا :
آه ! يا أختيَ الشجرة ْ
لقد عذبوكِ كما عذبوني
فلا تطلبي المغفرة ْ
لحطـّاب أمـّي وأمـّكْ ... " ( 121 )
إنّ هذا الكلام لا يبتعد كثيراً , عن الصورة التي رسمها القرآن للشهداء :


" ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم
يرزقون " ( 122 )
فالروح قادرة على اختراق سديم هذه الحياة , واكتشاف مجاهيل الحياة الأخرى , التي تشفّ حولنا , فلا نراها , فهي أثير يملأ الكون , ويختزن المعرفة الحقيقية للوجود ..
لقد أراد درويش أن يوصل لنا رسالته , من خلال محاورته لخطبة سياتل المشهورة , بأنّ الحياة جديرة بأن نحياها , ولكن دون أن ننسى بعدها
الآخر , الحياة في الموت وبعده .. وهذا ما يستدعي احترام روح الطبيعة بكلّ معطياتها ومفرداتها , فهي ليست أكثر من ذرّات سابحة في فضاءات الوجود اللا متناهي ..
محمود درويش في وقفة جديدة مع الموت , هذه المرة , وجهاً لوجه , دون أيّ اعتبارات أخرى ..
- بعد انتهائه من / مديح الظلّ العالي / أصيب محمود درويش بنوبة قلبية حادة , كادت تودي بحياته , حزناً على بيروت, وسقوط آخر معاقل الشعراء , مدينة الحبّ والحرية .. ولكنه خرج سليماً معافى , وأشدّ عزماً وإصراراً على الشعر / الحياة ..
- في مرحلة قريبة من مديح الظلّ العالي , أصيب درويش بنوبة من اليأس القاتل , والانهزام الروحي , الذي هزّه من العمق , وجعل العالم حوله سراباً ووهماً , فكانت مجموعته / هي أغنية .. هي أغنية 1986 / تزخر بهذا النفس اليائس .. حيث نجد قصائد مثل : في آخر الأشياء , محاولة انتحار , يكتب الراوي : يموت , آن للشاعر أن يقتل نفسه ... إلخ .
وتنسرب بين هذه القصائد قصيدة صغيرة تحت عنوان / في غرفة العناية الفائقة / يقف فيها درويش بضعفه الإنسانيّ , أمام الموت في غرفة العناية الفائقة , ولكن هذا الضعف , يتحوّل في لحظة الحبّ الحقيقية إلى تحدّ كبير للموت , هذا الذي يصبح وسيلة للحبّ , وشاهداً عليه .. يقول :
" تدور بيَ الريح حين تضيق بيَ الأرض . لا بدّ لي أن أطير وأن ألجم
الريح , لكنني آدميّ .. شعرتُ بمليون ناي ٍ يمزّق صدري . تصبّبتُ ثلجا ً وشاهدتُ قبري على راحتيّ تبعثرتُ فوق السرير تقيّأتُ . غبتُ قليلا ً عن الوعي . متُّ. وصحتُ قبيل الوفاة القصيرة : إني أحبك ِ, هل أدخل الموت من قدميك ؟ ومتّ .. ومتُّ تماما ً , فما أهدأ الموت لولا بكاؤك ! ما أهدأ الموت لولا يداك اللتان تدقاّن صدري لأرجع من حيث متُّ . أحبك قبل الوفاة , وبعد الوفاة , وبينهما لم أشاهدْ سوى وجه أمي .
هو القلب ضلّ قليلا ً وعاد , سألتُ الحبيبة : في أيّ قلب ٍ أصبتُ ؟ فمالت عليّ وغطـّتْ سؤالي بدمعتها . أيها القلب .. يا أيها القلب كيف كذبتَ عليّ وأوقعتني عن صهيلي ؟ " ( 123 )
إنّ ما تقدّمه هذه القصيدة حواراً أحاديّ الجانب , يستدعي الحبيبة الغائبة , على مستوى الحوار , الحاضرة بظلالها في القصيدة .. وهي التي ستنتصر في نهايتها , بانتصار الحبّ على الموت , والرغبة بالحياة على اليأس .. يقول :
" لدينا كثير من الوقت , يا قلبُ , فاصمدْ
ليأتيك من أرض بلقيس هدهدْ .
بعثنا الرسائل .
قطعنا ثلاثين بحرا ً وستين ساحلْ
وما زال في العمر وقتٌ لنشردْ
ويا أيها القلب , كيف كذبتَ على فرس ٍ لا تملّ الرياح .
تمهّلْ لنكملَ هذا العناق الأخير ونسجدْ
تمهّل .. تمهّلْ لأعرف إن كنتَ قلبيَ أم صوتها وهي
تصرخ : خذني . " ( 124 )
القلب أقوى من الموت , وقادر على خداعه , فهو كذب على الفرس التي لا تملّ الرياح / الموت .. وهذا القلب توحّد بمن يحبّ .. فامتزجت الذات بموضوعها , حتى غدا الشاعر غير قادر على التمييز بينهما ..
إنّ هذه القصيدة من القصائد القليلة التي يحاور فيها الشاعر الموت هكذا .. وإن كان للموت عند درويش تاريخ طويل .. ولكنه الموت الذي يوصل إلى الحياة دائماً .. فلا تنازلات , ولا تخاذل .. الحياة دائماً أجمل ..
وها هو محمود درويش , يعلن من جديد , موت الموت وانتصار الفنّ / وجه الخلود .. الجدارية ..
وللموت في التراث الشعري العربي , تاريخ طويل , فقلما خلا ديوان شاعر من ذكره , أو الإشارة إليه .. ولكن , من خلال قراءتي لما كتب عن
الموت , وجدتُ أنّ النظرة إليه اختلفت من عصر إلى عصر , دون أن
تحمل , غالباً , كبير تغيير , إلا استثناء ..

* *



العنوان
دلالة أم كثافة أم انكسار !؟
العنوان لعبة الشاعر ..
لعبة كتابية , لم تعرفها الثقافات الشفهية إلا قليلاً ..
لعبة يراد بها إيهامُ المتلقي بحقيقة ما , أو وضعُه أمام سؤال ما ..!
لماذا اختار الشاعر هذا العنوان بالتحديد دون غيره ؟ هل يحمل دلالة ما , أم أنه محض مصادفة ؟ وهل يلخّص الشاعر نصّه من خلال هذا العنوان ؟ أم يعطي لمتلقيه مفتاحاً أولياً للدخول ؟ أم أنه يغلق عليه جميع المنافذ والأبواب , ليبقى وحيداً مع النصّ ؟ أم أنه يريد استفزاز ذاكرة المتلقي , وإشعالها من جديد , ووضعها في مهبّ المعرفة والثقافة والتاريخ , ليحظى هذا المتلقي بمتعة المقارنة بين ما كان , وما تكوّن ؟
أسئلة كثيرة جداً قد تتوارد للذهن , حين يقف المتلقي , أمام عنوان ديوان ما .. فكيف إذا كان ديواناً لشاعر خبير بعناوين دواوينه , وحريصٍ على انتقائها أشدّ الحرص .. شاعرٍ كمحمود درويش ..
جدارية محمود درويش سؤال جديد , يلقيه الشاعر في وجه الثقافة والوجدان العربيين .. سؤال ما برح يعمّق نفسه , حتى غدا واضحاً في ذروة غموضه , وغامضاً في ذروة وضوحه ..
جدارية محمود درويش محاكمة جديدة , لكلّ ما هو متكوّن في الذاكرة الجمعية , من خلال ذاكرة فردية شديدة التعقيد , تخترم الأولى بجميع مفرداتها , وتعرف متى تتملص منها , وتعلن نفسها بنفسها ..
من العنوان , يبدأ درويش لعبته الفنية , ويلقي بأوّل إشكاليات الحوار : جدارية محمود درويش . يكشف هذا العنوان عن أبعاد كثيرة , شديدة
الغنى , متناقضة ومتداخلة في آن واحد .. ومنها :
- إحالة القارئ على فنّ شديد الشهرة في الفن , وهو فنّ الجداريات , الذي ارتبط بادئ الأمر بالعبادة والدين , وكان موضوعها غالباً الموت والحياة والصراع الأبديّ بينهما ... ثم انتقل هذا الفنّ إلى القصور
والقلاع , ليصوّر ملاحم الملوك وإنجازاتهم ومعاركهم , بوصفه فناً جمالياً , وهكذا ... ( 125 )
- قد يكون درويش استشف تسمية المعلّقة , التي اشتهرت في العصر
الجاهلي , وهي من حيث التسمية لا تبتعد كثيراً عن الجدارية ,
والرابط بينهما واضح في هذا .. ولاسيما أن درويش سمّى قصيدته هذه معلقة في النص ( 126 ) فكما نقول : معلقة امرئ القيس , معلقة
زهير .. نقول : جدارية محمود درويش ..
- تحيلنا الجدارية تناصيّاً على قصيدة للشاعر العراقي سعدي يوسف بعنوان
/ قصيدة للجبهة : تحت جدارية فائق حسن / ( 127 ) وهي حوار بين الشعر والفن الذي يمثل انتقاماً من الواقع المنهار بالحلم المشرق ..
- انصهار الذات بموضوعها , الفنيّ بالذاتي , الميت بالحيّ .. وهذا ما يستدعي السؤال عن طبيعة علاقة الشاعر بشعره ..
- الإحساس بالغياب , والوحدة , والقهر , وبالتالي , بالفناء / الموت .. حقيقة الوجود الخالدة .
- الإحساس بالقوة , وبانتصار الفنّ على الموت .. وكأننا أمام فرعون
جديد ..
الفنّ الفرعوني , استطاع أن يقاوم الموت , ويتحدّى هزّات الآخرين , حيث زرعوا أرواحهم وحياتهم في الحجر : هرماً , مسلةً , جداراً , بردة .. إلخ .
ومحمود درويش في جداريته , يحفر روحه على الورق , وينـزلها بكلّ شموخها الأزليّ ..
بلا كلمات زائدة
ولا تزيينات غير ضرورية ..
فالحاضر حاضر ولكنه ليس كما نراه ..
والماضي ما زال يكتب نفسه فينا , دون أن نعرف ..
والمستقبل هائمٌ بين الكتابة والكلام ..
النصّ الذي سقط في القصيدة , ها هو الآن يستعيد نفسه من براثنها , لينجو من شفوية فتّاكة ..
إنه يسلّم نفسه للكتابة .. الأنثى الخالقة التي انتصرتْ على الموت في حضن النصّ ..
" هزمتـْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
هزمتـْكَ يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين . مسلـّة المصريّ , مقبرة الفراعنةِ ,
النقوشُ على حجارة معبد ٍ هزمتـْكَ
وانتصرتْ , وأفْلَتَ من كمائنكَ
الخلودُ ...
فاصنعْ بنا , واصنعْ بنفسكَ ما تريدُ " ( 128 )
عشتار في الأسطورة , استطاعت أن تنتصر على الموت , بأن أعادت الحياة إلى تموز , وبالتالي , إلى الأرض والكائنات ..
الفنّ عشتار أخرى , انتصر على الموت , بدءاً بأغاني جلجامش ومقابر الفراعنة ومسلاّتهم .. وليس انتهاء بآخر صرعات الكمبيوتر ..
* *
ماء الشاعر
التناص وصياغة الذاكرة ..
الماء الذي خرج صافيا ً من الأرض , أو انساب عذبا ً من
السماء .. لم يعدْ كذلك .. !
فالماء في البحر غيره في الأنهار والبحيرات , وغيره في الينابيع ..وهكذا ..
لكلّ شيء ماؤه ..
والكتابة ماء الشاعر ..
والشعر ماء الكتابة ..
وليس ثمة كتابة تبدأ من الصفر ..
وليس ثمة ماءٌ صافٍ ..
والشعر ماء اختلط بمياه الآخرين ..
تدخل الكلمة روح الشاعر , كما تدخل القطرةُ صخورَ الأرض , لتخرج مقطرة صافية , بعد أن تماهت في كلّ ما حولها , لتأخذ روحها الجديدة , حتى ليظنّ القارئ , أنها بنت ساعتها , ويغيب عن ذهنه كلّ ما قطعته , حتى وصلت إلى ما هي عليه من النقاء ..
وكلما كانت روح الشاعر صافية أكثر , جاءت الكلمة أشدَّ إيهاماً بالصفاء ..
ليس ثمة كتابة تبدأ من الصفر .. كما يقول محمود درويش ..
بل الكتابة مجموع ما تركته إبداعات الآخرين فينا , بحضورها وغيابها , حيث تستحضر الذاكرة ما يناسبها , وتنفي ما يناسبها أيضا ً ..
فالقرآن بسحره الأسلوبي الأخاذ , كان استحضارا ً طويل الأمد , لذاكرة الأساطير وخيالها , دون نصها , واستيعاباً لروح الديانات القديمة , دون
جسدها , وتجسيداً لواقع يمتدّ , دون أن يقع ضحية لما يضيق به الواقع ..
من هنا يبدأ التناص ..
عملية أشبه بعملية صهر , حيث تحافظ فيه الأجزاء على خصائصها , ولكنها تتخذ خصائص مختلفة في المنتج الجديد ..
ومن هنا يبدأ محمود درويش ..!
تبدأ رؤياه للموت , بالذاكرة الموروثة , والمتخيّل الواقعي الذي يسير في
ثلاثة محاور :
1 - التراث الديني في تحليل الموت وكشف كنهه .
2- التراث الصوفي والروحي .
3 – التراث الأدبي بجميع اتجاهاته .
وتندمج هذه المحاور لتشكّل , بالضرورة , نسيجاً واحداً , لا يمكن فصل أحدها عن الآخر في جسد الجدارية .. هذا النصّ التي هو أقرب ما يكون إلى حالة من التداعي الحرّ , ولكن هذه المرة , ليس أمام طبيب نفسيّ , بل أمام الموت ..
غير أنّ هذه الرؤيا لا تقف عند حدود الذاكرة , بل تتجاوزها لتخلص إلى حوار , فريد من نوعه مع الموت ..
ومن أجل توضيح حالة التداعي المذكورة , والتي تحمل كلّ أنواع التناص , التي يعرفها النقد تقريباً ( التناص التاريخي , التناص الديني , التناص
الشعري , التناص الأدبي , التناص مع الذات .. إلخ ) , كان أجدر بنا , نقدياً , وحفاظاً على روح النصّ , أن نقرأ هذا التناص من الداخل , أي كما أراد له محمود درويش , أن يكون من نسيج النص وروحه , دون أن نعمد إلى عزله وتقسيمه إلى أبواب مستقلة , لما في ذلك من ظلم للنص .. ويمكن أن نوزع التناص عند درويش إلى نوعين , تندرج تحتهما جميع أنواع التناصات المختلفة .. وهما : التناص مع الذات , التناص مع الآخر .
وتجدر الإشارة أيضاً , إلى أنّ كلا التناصين لا ينفرق أحدهما عن الآخر , لما فيهما من التداخل , والتشابه أحياناً .. فقد يستخدم الشاعر تناصاً خارجياً , استخدمه في إحدى مجموعاته السابقة , وبالتالي , فما كان خارجياً , أصبح الآن داخلياً .. باختصار : التناص هو إحدى آليات الشاعر , في التواصل مع ذاته من جهة , ومع الآخر من جهة أخرى , لذلك , فإن التمييز بينهما ضمن هذا النص / الجدارية , خصوصاً , قد يكون قسراً له , وسحباً له , نحو نقدٍ لا ينتمي للنقد إلا شكلياً فقط ..

* *
التناص مع الذات / إعادة القراءة ..
التناص مع الآخر / قراءة القراءة ..
- والمقصود بالتناص الأول :
هو حالة الفهم المنبثق عن قراءة محمود درويش الدائمة , والمستمرّة لمفاصل تجربته , وأفكاره, ومن ثمّ , إعادة إنتاجها شعرياً , إمّا نفياً , أو تثبيتاً , أو تماهياً , دون أن تكون نافرة في الجسد الشعريّ الجديد ..
- أما المقصود بالتناص الثاني :
فهو حالة الفهم الجديدة التي يقدّمها محمود درويش لنصوص / متناصات سابقة, أياً كان نوع هذه النصوص : دينية , أدبية , تاريخية ,
اجتماعية ...إلخ , بوصفها إحدى مكوّنات ثقافته الواسعة , فلا تشكّل إلا أفكاراً , يمكن للشاعر أن يستحضرها , بوعي أو بلا وعي , لتكون في الطبقات العميقة من نصه الشعري الجديد .. حيث تخرج الفكرة الجديدة , بعيدة كلّ البعد , عن لبوسها القديم , الذي لا يمثّل إلا الشرارة الأولى في روح النص الدرويشيّ ..
والعلاقة القائمة بين هذين النوعين هي كالعلاقة بين الزهرة والثمرة , ينفي أحدهما الآخر , ولكن لا يكون بغيره ..
ويبدأ التناص عنده منذ الصفحة الأولى .. يقول :
" هذا هو اسمك /
قالت امرأة ٌ
وغابتْ في الممرّ اللولبيّ ..
أرى السماء هناك في متناول الأيدي .
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى . ولم أحلم بأني
كنت أحلم . كلّ شيء واقعيٌّ . " ( 129 )
تبدأ القصيدة بمشهد واقعيّ , يسبق حالة الغيبوبة : الممرضة التي تسجّل اسم الشاعر وترددّه على مسمعه , وهو شبه غائب عن الوعي , وتمضي
في أحد ممرات المستشفى .. وهي امرأة مجهولة , تظهر في النص بشكل خاطف , يبدأ سريعاً مع بداية النصّ .. حيث تكتفي هذه المرأة بتذكير الشاعر بنفسه , من خلال اسمه , ليبدأ الشاعر رحلته بين الوجود والعدم , ليؤكّد الشاعر ذاته في هذا المقطع الافتتاحي , مصرّاً على ضمير المتكلم , بتمظهراته المختلفة الاسمية والفعلية ..
هنا تبدأ عملية انفصام الشاعر عن الواقع , ليدخل في حلم , وكأنه
حقيقة .. إنه صورة أخرى للحياة التي يعيشها الشاعر , حياةٍ قريبة منه , لكنّه لا يراها , إلا بعين هذيانه ولا شعوره .. فالسماء لم تعد بعيدة عنه , بل يحسّ بأنه يمكن أن يمسكها بيديه .. فروحه الصاعدة كحمامة بيضاء , ألغت المسافات والأزمنة , وبات كلّ شيء متداخلاً , متماهياً ...
ومن الجدير بالذكر أنّ الحمامة في التراث العربي, تشكـّل دالاً أسلوبياً شديدة الدلالة , أكثر الشعراء من استخدامه , فكانت حيناً صديقة الشكوى وأنيسة الشاعر .. من ذلك قول أبي فراس الحمداني : ( 130 )
أقول وفد ناحتْ بقربي حمـامة أيا جارتا لو تعلمين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
بينما نجدها عند شاعر آخر تدلّ على تبدّل حالات الحياة واختلافها .. كما عند المعرّي : ( 131 )
- وشــبيهٌ صوتُ النعيّ إذا ما قيـــس بصوت البشير في كـلّ ناد ِ
- أبكتْ تلكمُ الحمامة أم غنـّــــــت فوق فرع غصنها الميّاد
في حين قد تمثـّل عند شاعر آخر حالة من الحبّ وتبادل الشوق .. كما عند أبي تمام حيث يقول : ( 132 )
- غنّى فشاقك طائر غرّيدُ لمّا ترنّم والغصــون تميدُ
ساق على ساق دعا قمريّة فدعتْ تقاسمه الهوى وتصيدُ
هذا ويمكن أن نقف على دلالات لا تنتهي لهذا الدال الأسلوبي الغني في التراث الشعريّ العربي ..
غير أن محمود درويش , وجد في قصيدة ابن سينا بعداً جديداً لهذا الدال , حيث يقول : ( 133 )
- هبطتْ إليـــك من المحلّ الأرفع ِ ورقــاء ذاتُ تعزّز وتمنّع ِ
- سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرتْ ما ليس يدرك بالعيون الهجّع ِ
فالروح , عند ابن سينا , أشبه بحمامة بيضاء ترى ما لا يراه الجسد , بينما عند درويش تعيده إلى طفولة أخرى , إلى حياة أِشبه باللعب والحلم المجنّح , غير أن هذا الحلم ليس حلماً , بل هو منـزلة بين منـزلتين .. فهو صعود الحلم وتحليقه من جهة , وصدق الوقع وحقيقته من جهة أخرى ..
إنها الحياة الأخرى ..
ولا يكتفي درويش بفكرة ابن سينا بل يفجّر المعنى من عمق دلالة اللون الأبيض الذي يتخذ عند بعض الشعوب رمزاً للموت / اليابانيون مثلاً / ..
ويحاول درويش أن يرسّخ حالة الموت العام التي يعيشها , باستخدام دلالة الأبيض , حيث يقول :
" ... وكلّ شيء أبيضُ ,
البحر المعلّق فوق سقف غمامةٍ
بيضاءَ . واللاشيء أبيضُ في
سماء المطلق البيضاء . كنتُ ولم
أكنْ . فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبديّة البيضاء . " ( 134 )
لم تتغيّر رؤيا محمود درويش لشفافية الموت / اللون الأبيض , الذي تنصهر فيه جميع الألوان الأخرى وتمّحي , ليصبح هو اللونَ الكليَّ .. هذه الرؤيا التي عايشها وعاشها , خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان , وانتشار الموت كالعشب البريّ في كلّ مكان .. وهذا ما عبّر عنه في مديح الظلّ العالي 1983 :
" دع ْ كلّ ما ينهار منهارا ً ,
ولا تقرأ عليهم أيّ شيء من كتابكْ
والبحر أبيضُ
والسماءُ
قصيدتي بيضاء
والتمساح أبيضُ
والهواءُ
وفكرتي بيضاءُ
كلبُ البحر أبيضُ
كلّ شيء أبيض ٌ :
بيضاء دهشتنا
بيضاء ليلتنا
وخطوتنا
وهذا الكون أبيضُ
أصدقائي
والملائكة الصغار
وصورة الأعداء
أبيض , كلّ شيء صورة بيضاء . هذا البحر , ملء البحر ,
أبيضُ .. " ( 135 )
إنه الموت المسيطر على كلّ شيء , المحتوي لكلّ شيء . بداية الحياة الجديدة التي انتقل إليها درويش , في سكرة من سكرات الموت الخالدة .
وإذا كان الموت في مديح الظل العالي آتياً من الخارج , فالموت في جدارية آتٍ من الداخل , من شفافية الروح التي حلّقت في سماء المطلق ..
ولهذا يعيد درويش قراءته للواقع الذي عاشه ليصل إلى النتيجة التالية :
" لا القوّة انتصرتْ
ولا العدلُ الشريدُ " ( 136 )
إنّ التناص الخفيّ الذي يحمله هذا السطر الشعري , إيحاء شديد العمق , ينفض به درويش عن كتفيه , كلّ الادّعات التي تنحاز إلى جانب دون
آخر ..
فكلّ شيء وهمٌ , والصراع مستمرّ إلى أبد الآبدين ..
فإذا عدنا إلى الشعر , فسوف نجد المتنبي على النقيض تماماً .. فهو يؤكد قيمة القوة في حماية الشرف / العدل / المجد .. حيث يقول : ( 137 )
- لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ
إن قوّة الصياغة التي يحملها بيت المتنبي , والتي جعلت منها حكمة خالدة على مرّ العصور , أخفتْ الوجه الآخر للبعد الإنساني المحتمل .. ولاسيما أنّ مصطلح / الشرف الرفيع / سديمي , غامض , وغير محدد , وبالتالي , فقد ينفتح على كلّ الدلالات , وهذا يستدعي السؤال التالي :
هل الشرف الرفيع الذي رفع شعاره المتنبي , وقبله الديانات جميعاً , أسمى من الدماء الإنسانية التي ستراق من أجله !!؟
والمتنبي نفسه يعود في قصيدة أخرى , ليؤكد مجد السيف , ولكن هذه المرة بتجرّد المجرّب الخبير , بحالة الصراع القائمة في الحياة , بين طرفي معادلة مستحيلة الحلّ .. حيث يقول : ( 138 )
- حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي المجدُ للسيف ليس المجدُ للقلم
- اكتب ْ بنا أبداً بعد الكتابِ به فإنما نحـن للأسـياف كالخدمِ
فإذا كان المتنبي قد اعترف بسلطة السيف / القوة , فإنّ درويش تنكّر لها , وأسس لروح البساطة والمحبّة .. نقرأ ما قبل السطر السابق تماماً :
" سأصير يوماً فكرةً . لا سيف يحملها
إلى الأرض اليبابِ , ولا كتابَ ...


كأنها مطرٌ على جبلٍ تصدّع من
تفتّح عشبةٍ .. " ( 139 )
إن درويش يرى أنّ رؤياه مجرّد فكرة , لا تتخفى وراء أية سلطة , أو قوّة ,
أو عقيدة , بل هي كنـزول المطر , وتفتّح العشب ..
وهذه الفكرة كان درويش أشدّ إيماناً بها , عندما كتب سيرة المكان في / لماذا تركت الحصان وحيداً 1995 / حين قال :
" ..وقال كلاماً
كثيراً عن الحبّ , يا ابني تذكّرْ
غداً . وتذكّرْ قلاعاً صليبيّة
قضمتها حشائش نيسانَ بعدَ
رحيلِ الجنود " ( 140 )
انتصار الحبّ بأقصى حالات الضعف , وانهزام القوة بأقصى حالات
الشدّة ..
ولا شكّ أن الفعل المستخدم / قضمَتْها / شديد الدلالة , على فكرة الفاعلية عند درويش , بانتصار الضعف على القوة .. الحبّ على الحرب ..
ولعلّ حالة الضياع التي يمثلها الصراع في الحياة , بين الحقيقة والوهم , هي التي قادت درويش إلى مشهدية الطير في رحلة البحث عن الحقيقة , فكلما ازداد الألم , انبعثت الحياة أصفى وأوضح في عين الروح البصيرة ..يقول :
" سأصير يوماً ما أريدُ
سأصير يوماً طائراً , وأسلّ من عدمي
وجودي . كلما احترق الجناحانِ
اقتربتُ من الحقيقة , وانبعثتُ من
الرماد . أنا حوار الحالمين , عزفتُ
عن جسدي وعن نفسي لأكملَ
رحلتي الأولى إلى المعنى , فأحرقني
وغاب . أنا الغيابُ . أنا السماويّ
الطريدُ . " ( 141 )
لقد عالج محمود درويش هذه القضية طويلاً في قصيدته الرائعة / الهدهد / فالبحث عن الحقيقة , هو حقيقة في حدّ ذاتها , والوجود هو العدم , والعدم هو الوجود , وكلّ شيء إلى ضدّه ..
والجسد سجن العالم الأرضيّ .. يقول في قصيدة الهدهد :
" قال : اتركوا أجسادكم كي تتبعوني واتركوا الأرض – السرابْ
كي تتبعوني , واتركوا أسماءكم . لا تسألوني عن جوابْ
إن الجواب هو الطريق ولا طريق سوى التلاشي في الضبابْ
هل مسّكَ " العطـّارُ " بالأشعارِ ؟ قلنا . قال : خاطبني وغابْ
في بطن وادي العشق . هل وقَفَ " المعرّي " عند وادي المعرفه ْ ؟
قلنا . فقال : طريقه عبثٌ . سألنا : وابن سينا .. هل أجابَ
عن السؤال وهل رآك ؟ - أنا أُرى بالقلب لا بالفلسفة ْ .. " ( 142 )
إنّ كلا الطائرين يبحث عن المعنى / الحقيقة / الله .. غير أنّ الطائر في الجدارية طريد السموات , مغيّب , وحيد , ذاتي , لا يقود ولا يقاد .. بينما الهدهد في قصيدة الهدهد قائد الطير , ومرشدها إلى الحقيقة .. وهنا تظهر روح التناص مع العهد القديم / في قصة سليمان والهدهد , ومع العطار في كتابه / رحلة الطير ..
إنّ عملية إنتاج الدلالة عند درويش , إحدى مهارات الشاعر الخبير .. فاستخدام الشاعر لفكرة , كان قد استخدمها سابقاً , يكاد يبدو أمراً
خطيراً , بالنسبة لبنية القصيدة الجديدة , إذا لم يحسن الشاعر , كسر الإسار الأسلوبي السابق , وتقديم المعنى , وكأنه يخرج الآن من محرقته للمرة الأولى ..
إنّ ذات درويش المتجددة , الباحثة دائماً عن معنى جديد لكلّ شيء , جعلته ينحاز إلى المخيّلة المتجاوزة للواقع , ولكن ثمة خيط شفيف يربطها بهذا الواقع , فكلما تعالت أكثر , عادتْ لتستريح قليلاً , بين هنا وهناك .. لتعاود التحليق مرةً أخرى في الفضاء المديد .. فالمكان الذي نادى
به درويش يوماً في ديوانه / ورد أقل 1986 / في قصيدته / أنا من
هنا / ( 143 ) , وقدّم أجمل صورة للوطن , ها هو الآن يصغر أمام المكان
اللا نهائيّ , الذي يصبح فيه كلّ شيء رهن البصيرة .. يقول :
" سأصير يوماً ما أريدُ
سأصير يوماً شاعراً ,
والماء رهن بصيرتي . لغتي مجاز
للمجازِ , فلا أقول ولا أشيرُ
إلى مكانٍ . فالمكان خطيئتي وذريعتي .
أنا من هناك . هنا"ي" يقفزُ
من خطاي إلى مخيّلتي ...
أنا من كنتُ أو سأكونُ


يصنعني ويصرعني الفضاء اللا نهائيُّ
المديدُ . " ( 144 )
إنّ درويش المرتبط بكلّ خلية فيه بأرضه , انفتح على مساحات أوسع وفضاءات أجمل لمعنى الوطن .. فالمكان هو ما نتخيّله من جمال على
الأرض .. ولهذا يصبح المكان / الوطن , مقابلاً للمخيّلة / الشعر ..
وهذا ما قاد الشاعر , ليهتف بكل روحه الطافحة بالحبّ في المقطع التالي:
" سأصير يوماً ما أريدُ
سأصير يوماً كرمةً
فليعتصرْني الصيف منذ الآن ,
وليشربْ نبيذي العابرون على
ثريّات المكان السكَّريّ ‍
أنا الرسالة والرسولُ
أنا العناوين الصغيرةُ والبريدُ
سأصير يوماً ما أريدُ " ( 145 )
إنّ أنا الشاعر وروحه ملكٌ للجميع , فليشربوا ما شاؤوا من خمرها , فهي
أممية , كونيّة , لا حدود تقيّدها , بل هي رسالة محبّة لكلّ البشر ..
إنّ محمود درويش في أمنيته هذه , يتقاطع مع الدعوة التي رفع شعارها
سابقاً , جبران خليل جبران , وفي كلّ ما كتب , فالمحبة فوق الجميع , وهي أحد ينابيعها الثرّة .. يقول مثلاً :
" نفسي مثقلة بأثمارها , فهل من جائع يجني ويأكل ويشبع ؟
أليس في الناس من صائمٍ رؤوف يفطر على نتاجي , ويريحني من أعباء خصبي وغزارتي ؟ نفسي طافحة من خمرة الدهور , فهل من ظامئٍ يسكب ويشرب ويرتوي؟ " ( 146 )
الفرق بين درويش وجبران .. أنّ درويش لم يصبح بعدُ , حالة متبلورة ,
متكاملة , فهو رهن الآتي , / سأصير / ولكنه على الرغم من ذلك , يطلب أن يبدأ الآخرون طقوس شرابهم , وهنا خبرة درويش الشعرية والإنسانية :
أن يختصر المسافة بين الأنا والآخر , بين الذات وموضوعها , ليصبحا في النتيجة شيئاً واحداً .. بدليل : سين الاستقبال في أول الجملة , والظرف المنافي لها / الآن / ..
أمّا جبران فقد نضجت روحه وثمار محبّته , وفاضتْ ينابيع نفسه الجيّاشة , فهو رهنٌ بالآخر .. وهذا ما يبعث الوحشة في نفسه المعطاء , وبالتالي , فإنه يوسّع المسافة بينه وبين الآخرين , على الرغم من أنه يهب نفسه بكلّ ما فيها لهم ..نقرأ في المقطع التالي عند جبران :
" هو ذا رجل واقف على قارعة الطريق , يبسط نحو العابرين يداً مفعمة بالجواهر , ويناديهم قائلاً : ألا فارحموني وخذوا ما معي , أمّا الناس فيسيرون ولا يلتفتون . " .... " ليتني كنتُ بئراً جافةً , والناس ترمي فيّ الحجارة , فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حيّاً والظامئون يجتازونني ولا
يتسقون " ( 147 )
إنّ درويش مندفع بلذة التوحد مع الآخر منذ البداية , أمّا جبران فمندفع بلذّة التوحد مع الآخر في النهاية .. فأين وصل كلاهما !!؟
ثمّ يعود درويش , بعد ذلك , إلى صوت المرأة / الممرضة , مرة أخرى , وهي ترددّ اسمه , وتغيب ..
" هذا هو اسمك /
قالت امرأةٌ ,
وغابتْ في ممرّ بياضها " ( 148 )
الغياب هذه المرة ليس في أحد ممرات المستشفى , بل في / ممر بياضها /
, قد يوحي هذا التركيب بأشياء كثيرة : أنها امرأة بيضاء , أو أنّ الممرّ
أبيض , أو أن ممرّ المستشفى تداخل بلون ثوبها الأبيض , أو يمثل حالة من الشرود التي وقعت هذه المرأة أسيرة لها ..
ويتابع درويش :
" هذا هو اسمكَ , فاحفظ اسمكَ جيّداً !
لا تختلف معه على حرفٍ
ولا تعبأ برايات القبائلِ ,
كن صديقاً لاسمك الأفقيّ
جرّبه مع الأحياء والموتى
ودرّبه على النطق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبه على إحدى صخور الكهفِ .. " ( 149 )
بعد غياب الممرضة , نجد درويش يردد في حالة من الهذيان , ما قالته هذه المرأة: / هذا هو اسمك / وكأنه يستعيد ما فقده , مؤكّداً قيمة الاسم
الدلالية , وقدرته على الانفتاح على آفاق الذاكرة , بل يجعل من اسمه شيئاً خارجياً , منفصلاً عنه يخاطبه بقوله :
" يا اسمي : سوف تكبر حين أكبرُ
سوف تحملني وأحملكَ
الغريبُ أخ الغريبِ
سنأخذ الأنثى بحرف العلة المنذور للناياتِ
يا اسمي : أين نحن الآن ؟
قلْ : ما الآن , ما الغدُ ؟
ما الزمانُ وما المكانُ
وما القديمُ وما الجديدُ ؟
سنكون يوماً ما نريد " ( 150 )
لقد تداخلت الأشياء بعضها ببعض , فالزمان هو المكان , والقديم هو
الجديد , فالشاعر واسمه غريبان , ولهذا هما معاً , أنيسان , صديقان ,
فالغريب أخ الغريب .. أو كما عبّر سابقاً , الشاعر الجاهلي , صخر بن عمرو السلمي : ( 151 )
أجارتنا إنّا غريبان ههنا وكلّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ
أو كالشاعر المهجريّ أبو الفضل الوليد بقوله : ( 152 )
تعال أخي نمزجْ دموعاً أبيّة فكلّ غريبٍ آنسٌ بغريبِ
إنّ الفصل الذي قام به درويش بين شيئين متلازمين / الاسم وصاحبه / لعبة
فنية , لتأكيد الذات المغيّبة , من خلال تأكيد الآخر , أو أنه أراد الانتقال
بها , إلى لعبة فنية أخرى , تتعلق بالضمائر .. فبعد أن كان الخطاب يسير على ضمير المتكلم المفرد : أنا / إني / سأصير ... إلخ , اختتم في نهاية الجملة الشعرية , بضمير المتكلم الجمع : نحن / سنكون يوماً ما نريدُ / ..
وبهذه العبارة يختتم درويش , مجازاً , المقاطع التي تبدأ بـ : / سأصير / والصيران حالة من التحوّل .. أما الكينونة فهي حالة التحوّل المتبلورة ..
ويعود الصوت اليائس , المستوحش , الخارج من أعماق روح الشاعر الذي عركته الحياة , فأدرك أن لا شيء تغيّر :
لا الأنبياء وصلوا إلى غاياتهم , في جعل العالم مكاناً للتسامح والمحبة والإنسانية , ولا الحكماء بلغوا ما هفتْ أرواحهم إليه .. وأصبح الشعر عند درويش , شبيهاً بكلام الله , دعوة إلى المحبة , ولكن لا أحد يصغي , وكلّ شيء بعيد بعيد ..
يقول :
" لا الرحلة ابتدأتْ , ولا الدربُ انتهى
لم يبلغ الحكماءُ غربتهم
كما لم يبلغ الغرباءُ حكمتهم
ولم نعرف من الأزهار غير شقائق النعمان
فلنذهب إلى أعلى الجداريّاتِ :
أرضُ قصيدتي خضراء , عالية ٌ ,
كلامُ الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد
أنا البعيدُ " ( 153 )
شقائق النعمان , بوصفها دالاً أسلوبياً عميقاً , هي الفرح الوحيد الذي عرفه الشاعر , هذا الفرح الذي غمّس بدماء الشهداء , لذلك فهو ليس الحقيقة التي يصبو إليها ..
ويبدأ درويش بعد ذلك , حالة من التداعي الحر , إن صحّ التعبير , تمتدّ
من الصفحة السابعة عشرة حتى الصفحة الثامنة والعشرين , حيث تبدأ الذاكرة فيها باستعراض خسارتها وانهياراتها , أمام قسوة الواقع المنهار , الذي لم يغيّره هذيان العشاق ولا أحلام الأنبياء , ولا رسائل السلام , ولا الأساطير , ولا الجماليات , كلّ شيء كان هباءً ..
ومن الملاحظ في المقطع المذكور , أنه يزخر بمدلولات شديدة الإيحاء بالضياع والانكسار , حيث نقرأ :
- العبث : " في كلّ ريح تعبث امرأة بشاعرها " ( 154 )
- الانكسار : " خذ الجهة التي أهديتني
الجهة التي انكسرتْ
وهات أنوثتي " ( 155 )
- السقوط : " ستسقط نجمة بين الكتابة والكلام
وتنشر الذكرى خواطرها : ولدنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصبّار . كان الموت أبطأ .
كان أوضح ... " ( 156 )
- الوجع : " .. وكلّ نبضٍ فيك يوجعني , ويرجعني
إلى زمن خرافيٍّ . ويوجعني دمي
والملح يوجعني ... ويوجعني الوريدُ " ( 157 )
- النحيب والبكاء : " في الجرَّة المكسورة انتحبتْ نساء
الساحل السوريّ من طول المسافة ,
واحترقنَ بشمس آبَ . رأيتهنّ على
طريق النبع ِ قبل ولادتي . وسمعتُ
صوت الماء في الفخّار يبكيهنّ :
عدنَ إلى السحابة يرجع الزمنُ الرغيدُ " ( 158 )
- الصدى والفراغ : " قال الصدى :
وتعبتُ من أملي العضال . تعبتُ
من شرك الجماليّاتِ : ماذا بعد
بابلَ ؟ كلّما اتَّضح الطريق إلى
السماء , وأسفر المجهول عن هدفٍ
نهائيّ تفشّى النثر في الصلوات ,
وانكسر النشيدُ " ( 159 )
أو : " بحّارة حولي , ولا ميناء
أفرغني الهباء من الإشارة والعبارة ... " ( 160 )
- الغربة : " وأنا الغريب بكلّ ما أوتيتُ من
لغتي . " ... "
ولا يكفي الكتابُ لكي أقول :
وجدتُ نفسي حاضراً ملء الغياب .
وكلّما فتّشتُ عن نفسي وجدتُ
الآخرين . وكلّما فتّشتُ عنهم لم
أجدْ فيهم سوى نفسي الغريبةِ ,
هل أنا الفرد الحُشُودُ ؟ " ( 161 )
- العدم : " الوقتُ صفرٌ . لم أفكّر بالولادة
حين طار الموتُ بي نحو السديم ِ,
فلم أكنْ حيّاً ولا ميْتاً ,
ولا عدمٌ هناك , ولا وجودُ " ( 162 )
إنّ درويش يرسم هنا لوحة فريدة للموت , لم يشهدها الشعر العربي
من قبلُ .. فهو في حالة من الهيمان اللا مطلق في هوامش الذاكرة , البعيدة إلى الوراء , والبعيدة إلى الأمام .. انصهار كاملٌ بعمق التفكير والوجود الإنسانيّ على هذه الأرض ..
إنها رحلة الروح إلى ما وراء الطبيعة , بعد أن تجوهرت فيها كلّ الأشياء , وتماهتْ بها , لتمحو عالماً وتبدأَ عالماً جديداً .. نهاية حياة وبداية حياة
أخرى .. وكأنّ درويش , في سكرة الموت , يؤمن بتقمّص الأرواح , التي تبدأ رحلة جديدة بعد مفارقة الجسد .. حيث يعلن بوضوح :
" .. وتنحلّ العناصر والمشاعر . لا
أرى جسدي هناك , ولا أحسّ
بعنفوان الموت , أو بحياتيَ الأولى .
كأنّي لستُ مني . من أنا ؟ أأنا
الفقيد أم الوليدُ ؟ " ( 163 )
ويعود درويش من رحلة الهذيان إلى الواقع .. فيبدأ حوار سريع :
" تقول ممرضتي : أنتَ أحسنُ حالاً .
وتحقنني بالمخدّر : كنْ هادئاً
وجديراً بما سوف تحلمُ
عمّا قليل ... " ( 164 )
العودة إلى الوعي لم تستمرّ إلا ثوانيَ , لأنّ الممرضة تعيده إلى الحلم بحقنة مخدّر , فيرى أشياء كثيرة : طبيبه الفرنسيّ , أباه العائد من الحجّ , شباباً مغاربة يلعبون الكرة , ريني شار , وهيدغر , رفاقه المتنحبين , المعرّي , بلاده التي تعانقه بأيدٍ صباحيّة ...
الإنسان أمام الموت , يستعيد كلّ تفاصيل الذاكرة , ولاسيما البعيدة منها , فيقف خصماً وحكماً لنفسه , لتعلن الروح خضوعها أمام جلال الموت ..
غير أن درويش يسترجع أشخاصاً , بالدرجة الأولى , يقدّم من خلالهم أفكاره , ويسترجع وطنه البعيد بأجمل صورة له .. وكأنه الشخص الأخير الذي سيودّعه عند الموت ..
ويعود درويش من جديد ليقف أمام لعبة المتناقضات في الحياة , فالحلم قد يجمّل الألم , والأغاني قد تجعل الصحراء أرضاً من جمال , فالشعر روح الشعوب .. يقول :
" لا شعب أصغر من قصيدته . ولكنّ السلاح
يوسّع الكلماتِ للموتى وللأحياء فيها , والحروفُ تلمّعُ
السيفَ المعلَّقَ في حزام الفجر , والصحراء تنقص
بالأغاني , أو تزيدُ " ( 165 )
على مدى التاريخ ,كانت الأفكار والنظريات تسوّغ أفعال أصحابها , وتمهّد الطرق أمامهم , وترسم لهم أحلامهم ..
وينتقل درويش إلى حوار شديد التألُّق مع الآخر الأنثى / الروح , ليختصر بهذا الحوار تاريخاً من الصراع , بين الروح والجسد , المادة والهيولى , الباطن والظاهر , .. حيث يقول :
" رعويّةٌ أيامنا رعويّةٌ بين القبيلة والمدينة , لم أجدْ ليلاً
خصوصيّاً لهودجكِ المكلّلِ بالسراب , وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادِني , فأنا خلقتُكَ
عندما سمّيتني , وقتلتني حين امتلكتَ الاسمَ ...
كيف قتلتَني ؟ وأنا غريبة كلِّ هذا الليل . أدخلني
إلى غاباتِ شهوتكَ , احتضنِّي واعتصرني ,
واسفك العسلَ الزفافيَّ النقيّ على قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولمّني .
فالليل يسلمُ روحه لكَ يا غريبُ , ولن تراني نجمةٌ
إلا وتعرف أنّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ,
فهاتني ليكونَ لي - وأنا أحطّم جرّتي بيديّ –
حاضريَ السعيدُ " ( 166 )
الجسد بلا روح لا معنى له , مجرّد تكوين خالٍ , والروح بلا جسد ستظلّ هائمةً كالسراب .. والاسم هو الجسد الذي يحاصر الروح الهائمة ..
لقد حار الفلاسفة والمفكرون في سموّ العناصر , وذهبوا مذاهبَ شتّى :
- فبعضهم أعلى من شأن الروح , وألغى قيمة الجسد : الديانات غالباً . وبعض الفلسفات القديمة .. يقول أفلاطون مثلاً :
" إنّ الحكيم هو من يموت قبل الموت " ( 167 )
إنها دعوة إلى قهر الجسد , من أجل استكشاف مكامن الخير فيه .
- وبعضهم أعطى الجسد قيمة أولى : فلسفات اللذة / ديموقريطس , وأبيقور الذي يقول :
" ما دام لا وجود للحقّ ولا للخير في ذاتهما , لا وجود إذنْ لأخلاق
مطلقة , والدينُ لا يفرض علينا ما يجب فعله . لا تقشّف ولا قداسة . يجب اتّباع طريق الجسد , وهو البحث عن اللذة وتحاشي الألم . إن هيكل الحكيم هو جسده . ولا يسكنه روح الله كما يعتقد أفلاطون , ولا تلتهمه إلا اللذة الإلهية . " ( 168 )
كلا النظرتين تفصل ما لا ينفصل , الجسد والروح ..
الجسد بوابة الروح , والحياة بوابة الخلود .. وهذا ما يريده درويش :
" أنا من يحدّث نفسه :
وقعتْ معلقتيَ الأخيرةُ عن نخيلي
وأنا المسافر داخلي
وأنا المحاصرُ بالثنائياتِ ,
لكنّ الحياة جديرةٌ بغموضها
وبطائر الدوريّ ...
لم أولَدْ لأعرفَ أنني سأموت , بل لأحبّ محتوياتِ ظلّ
اللهِ
يأخذني الجمالُ إلى الجميلِ
وأحبّ حبّكِ , هكذا متحرّراً من ذاته وصفاتهِ
وأنا بديلي ... " ( 169 )
إن لغة المتصوفة تظهر في هذا المقبوس بجلاء ووضوح , حيث يتّحد العاشق بالمعشوق , والجسد طريق الروح / فالحياة طريق لمعرفة ظلّ الله , والجمال يأخذ إلى الجميل , والحبّ يقود المحبّ إلى ذات محبّه متحرّراً من ذاته وصفاته , فكلاهما واحدٌ ..
ويقف محمود درويش , مستوحياً من طريقة شعراء الأطلال , مخاطباً روحه الهائمة في الأثير :
أنا من يحدّث نفسه :
يا بنتُ : ما فعلتْ بك الأشواقُ ؟
إن الريح تصقلنا وتحملنا كرائحة الخريف ِ ,
نضجتِ يا امرأتي على عكـّازتيَّ ,
بوسعك الآن الذهاب على " طريق دمشق "
واثقة ً من الرؤيا . ملاك ٌ حارسٌ
وحمامتان ترفرفان على بقيّة عمرنا , والأرض عيدُ .. " ( 170 )
يطلُّ أبو نواس في مقدّمة هذا المقبوس جليّاً , أبو نواس التقليدي , وليس
المتمرّد , بقصيدة يحاكي بها شعراء الأطلال , ويبدؤها بقوله : ( 171 )
- يا دار ما فعلتْ بك الأيــــــــــــــــــــــــامُ ضامتْكِ والأيام ليـــس تضامُ
- عرم الزمان على الذين عهدتُهم بكِ قاطنين وللزمـــانِ عُرامُ
غير أن درويش يعيد إنتاج المعنى التقليدي بمعنى جديد , يوظّفه في رسم صورة الرؤيا , والتأكيد مجدّداً : أنّ الحياة أقوى وأسمى من قيودها , وتعاليم من حاولوا جعلها أجمل :
" كنّا طيّبين وزاهدين بلا تعاليم المسيح . " ( 172 )
ويتابع درويش استلهام معانٍ وحوادثَ دينيةٍ , ليوظّفها في الفكرة ذاتها :
إن كلّ من أتى إلى هذه الأرض , وعاش عليها من الأنبياء والفلاسفة ,
لم يستطيع أن يغيّر فيها شيئاً , ويقودها نحو الحلم الإلهيّ الجميل , بعيش إنساني , يملأ الأرض محبّة وسلاماً .. يقول :
" كنّا طبيعيّين لو كانتْ نجوم سمائنا أعلى قليلاً من
حجارة بئرنا , والأنبياء أقلّ إلحاحاً , فلم يسمع مدائحَنا
الجنودُ ... " ( 173 )
الصراع على الله , تحوّل إلى صراع على الأرض .. ولهذا يصرّ درويش على حالة التماهي بين شعره , وبين البعد الإنساني الذي حمله الأنبياء في حياتهم .. يقول :
" خضراء أرض قصيدتي خضراءُ
" ... "
ولي منها التشابه في كلام الأنبياءِ
على سطوح الليلِ
لي منها حمار الحكمة المنسيّ فوق التلّ
يسخر من خرافتها وواقعها ... " ( 174 )
لقد سخر المسيح بكلّ أحبار اليهود , الذين كانوا ينتظرون مجيئه ملكاً , عندما دخل المدينة على حمار , إمعاناً في البساطة , وإعلاء من شأنها في
الحياة , وسخرية من كلّ ما حاكوه حوله ..
ولا يكتفي درويش بمثل هذا التناص الإشاريّ , بل يعمد إلى آلية كتابية مهمة في الشعر , استخدمها درويش مرّات عديدة , على امتداد تجربته
الثرّة , وهي آلية القناع .. ( 175 )
وهنا , يتقنّع بشخصية السيد المسيح عند لقائه الشيطان ليمتحنه ويجرّبه , فيندحر الشيطان ويُغلَب .. يقول درويش :
" أعلى من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تمتحنّي !
لا تضعني في الثنائيّات , واتركني
كما أنا زاهداً برواية العهد القديم
وصاعداً نحو السماء , هناك مملكتي
خذ التاريخَ , يا ابن أبي , خذِ
التاريخَ ... واصنع بالغرائزِ ما تريدُ " ( 176 )
جاء في العهد الجديد ما يلي : " ثمّ سار المسيح إلى البريّة ليجرّبه إبليس . فصام أربعين يوماً وأربعين ليلة حتى جاع . فدنا منه المجرِّبُ وقال له : إن كنت ابن الله , فمرْ أن تصير هذه الحجارة أرغفة . فأجابه : ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان , بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله . فمضى به إبليس إلى المدينة المقدّسة, وأقامه على شرفة الهيكل , وقال له : إن كنت ابن الله فألقِ بنفسك إلى الأسفل , لأنه مكتوبٌ : يوصي ملائكته بك , فعلى أيديهم يحملونك لئلا تصدم بحجرٍ رجلَك . فقال له يسوع : مكتوبٌ أيضاً : لا تجربنّ الربَّ إلهكَ . فمضى به إبليس إلى جبلٍ عالٍ جداً وأراه جميع ممالك الدنيا ومجدَها , وقال له : أعطيك هذا كلّه إن جثوتَ لي ساجداًَ . فقال يسوع : اذهبْ يا شيطان ! لأنه مكتوب : للربّ إلهِك تسجد وإياه وحده تعبد. ثمّ تركه إبليس , وإذا بملائكةٍ قد دنوا منه وأخذوا يخدمونه . "( 177 )
لقد استشفّ درويش روح الحكاية ليقول : مملكة الروح هي الخالدة , مملكة الله الأبديّة , وليس الواقع المتغيّر الأدنى .. إنّ الشاعر يحاول أن يوظّف كلّ ثقافته ومعرفته في سبيل النصّ , ليقدّم لنا , لوحة متكاملة لرؤيا الموت الذي عاشه , وسمتْ به روحه , ليهتف بعدها بالسؤال الأبديّ :
" من أنتَ , يا أنا ؟ في الطريق
اثنان نحن , وفي القيامة واحدٌ .
خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى
صيرورتي في صورتي الأخرى . فمن
سأكون بعدكَ , يا أنا ؟ جسدي
ورائي أم أمامكَ ؟ من أنا يا
أنتَ ؟ ... " ( 178 )
من أنا ؟ ...
على مثل هذا السؤال قامت الفلسفات جميعاً , دينية كانت أم فكرية , أم اجتماعية ... إلخ . ويبقى السؤال معلّقاً أمام حضرة الموت المهيب ..
وتأتي قصّة الطوفان لتكون رمزاً جديداً في النص , للموت والحياة .. فنوح بفلكه العظيم , حسب الأسطورة , كانت وظيفته إنقاذ الحياة على الأرض , وإعادة إعمارها من جديد , بعد أن امتلأت بالفساد والكفر ..
ولكن هل استطاع فعل ذلك ؟
هذا السؤال هو ما استلهمه درويش من هذه القصة .. حيث يقول :
" وأريد أن أحيا ...
فلي عمل على ظهر السفينة . لا
لأنقذ طائراً من جوعنا أو من
دوار البحر , بل لأشاهد الطوفان
عن كثبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقةِ ؟
هل يعيدون الحكاية ؟ ما البدايةُ ؟
ما النهايةُ ؟ ... " ( 179 )
إنه يريد معرفة ماهية الموت / الطوفان .. وماذا سيفعل الإنسان على هذه الأرض , بعده ..
إنّ درويش يلقي أسئلته ويمضي .. ليقدّم النتيجة التالية :
" لم يعد أحدٌ من
الموتى ليخبرَنا الحقيقةَ ... / " ( 180 )
إن النتيجة التي وصلها درويش هنا , وهو في هذيان الكتابة , واسترجاع حالة الموت التي عاشها , كان قد وصلها أبو نواس قبله, بعدَّة مئات من السنوات , وهو في حالة من هذيان السُكْر .. حيث قال :
- ما جـــاءني أحدٌ يخبّر أنه في جنَّـةٍ مذ ماتَ أو في نارِ
إنّ الحقيقة واحدةٌ , عند كلا الشاعرين , ضعف الكائن الحيّ عن معرفة ما وراء الحياة .. ففي حين يسوّغ أبو نواس ذلك , من أجل امتصاص المتعة منها , حتى آخر رمق , نجد أن محمود درويش , ينطلق من هذا الخواء , محاولاً فهم الموت , وتشخيصه , ومحاورته نداً لند , دون استعطاف
أو تذلل ...
وهنا يبدأ النصّ الدرويشيّ , أجمل حالة من التوهّج ..
فالموت ليس حدثاً طارئاً على الحياة , وليس وجهها الآخر , بل هو حياة
أخرى , وقف الإنسان أمامها عاجزاً , متفكّراً ..
وأوّل ما يلاحَظُ , في الحوار الطويل الذي أجراه محمود درويش مع الموت , أنه شبيه بحوار الأصدقاء والنظراء , وليس بين قويّ وضعيف , أو حاكم ومحكوم..
ويبدأ الحوار مباشراً واضحاً :
" أيها الموتُ انتظرني خارج الأرض ,
انتظرني في بلادكَ , ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي
قرب خيمتكَ , انتظرني ريثما أنهي
قراءة طرفة بن العبد . يغريني
الوجوديّون باستنـزاف كلّ هنيهةٍ
حرية وعدالة , ونبيذ آلهةٍ ... / " ( 181 )
يتمسك درويش بالحياة حتى آخر نفَس , ولكن بكلّ كبرياء وشموخ , فهو لا يريد أن يتابع ما تبقّى حياته على طريقته .. فهو يريد أن ينهي قراءة طرفة بن العبد , هذا الشاعر الذي كان رمزاً للتمرّد والشاعرية , على الرغم من صغر سنه , فقد حاول أن يعيش حياته بإرادته, وبكلّ ما فيها من مفاجآت , مثله في ذلك مثل الوجوديين , الذين ملأت شعاراتهم ومواقفهم أفكار الناس وحياتهم ..
ويرى درويش أن الموت سيقوده في رحلة ما , فلهذا يطلب منه أن ينتظره ليُعدَّ ما سيحتاجه في هذه الرحلة :
" أيها الموت انتظرْ ! حتى أعدَّ
حقيبتي : فرشاةَ أسناني , وصابوني
وماكنة الحلاقة , والكولونيا , والثيابَ .
هل المناخ هناك معتدلٌ ؟ وهل
تتبدّل الأحوال في الأبديّة البيضاء ,
أم تبقى كما هي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
لتسليتي مع اللا وقت , أم أحتاج
مكتبةً ؟ وما لغة الحديث هناك ,
دارجةٌ لكلّ الناس أم عربيّةٌ
فصحى / " ( 182 )
تتواضع لغة الشعر هنا , لتصبح حديثاً عادياً يومياً , يتعمّده درويش ليحيط بكلّ ما يمكن له أن يصبّ في روح النصّ ..
ثمّ تتجلّى الرؤية الدرويشية للموت , فالشاعر يرفضه غدّاراً , أو طفيليّاً على الحياة , ويريد أن تكون العلاقة بينهما واضحة , أشبه بعلاقات المقايضة
العادلة .. يقول :
" .. ويا موتُ انتظرْ , يا موتُ ,
حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع
وصحّتي , لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيد الظبيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا ودّيةً وصريحةً : لك أنتَ
ما لك من حياتي حين أملأها ..
ولي منك التأمّلُ في الكواكب :
لم يمتْ أحدٌ تماماً . تلك أرواحٌ
تغيّر شكلَها ومقامَها / " ( 183 )
إن درويش يرفض أن يكون الموت غدّاراً , ومتصيّداً لنقاط الضعف , فهو القويّ القادر على سلب الروح دون حاجة لأسلحةٍ وخطط مسبقة .. على عكس المتنبي الذي يقرّ بغدره وقوته .. حيث يقول : ( 184 )
غدرتَ يا موت فكم أفنيتَ من عددٍ بمنْ أصبتَ وكم أسكتَّ من لجبِ
غير أننا نجد كثيراً من الشعراء ممن أقرّوا بقوته دون غدره .. كقول محمود الورّاق : ( 185 )
- ألا يا موت لم أرَ منكَ أقـسى أبيـــــــــــــــــــتَ فما تحَيفُ ولا تحـــابي
- كأنّك قد هجمتَ على شبابي كما هجم المشيبُ على الشبابِ
و يتابع درويش هذه الفكرة , ويصرّ عليها طويلاً . إعلاء من شأنِ الموت , وإجلالاً له , وكأني به يرفع من شأن خصمه , ليعلي من شأن ذاته , على عادة شعراء الحماسة العرب .. كما فعل عنترة العبسيّ مثلاً بقوله : ( 186 )
- ومدجّجٍ كره الكماةُ نـزاله لا ممعـــــنٍ هرباً ولا مستسـلم ِ
- جادتْ له كفّي بعاجل طعنةٍ بمثقّفٍ صدق الكعوب مقوّم ِ
وهذا ما فعله درويش .. حيث يقول :
" ... اجلسْ
على الكرسيّ ! ضع أدواتِ صيدِكَ
تحت نافذتي . وعلّق فوق باب البيتِ
سلسلة المفاتيح الثقيلةَ ! لا تحدّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصد نقطةَ
الضعفِ الخيرةَ . أنتَ أقوى من
نظامِ الطبِّ . أقوى من جهازِ
تنفّسي . أقوى من العسلِ القويّ ,
ولستَ محتاجاً – لتقتلَني – إلى مرضي .
فكنْ أسمى من الحشراتِ . كنْ من
أنتَ , شفّافاً بريداً واضحاً للغيبِ .
كنْ كالحبّ عاصفة على شجرٍ , ولا
تجلسْ على العتباتِ كالشحّاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكنْ شرطيّ سيرٍ في
الشوارعِ . كنْ قويّاً , ناصعَ الفولاذ , واخلعْ عنكَ أقنعةَ
الثعالبِ . كنْ
فروسيّاً , بهيّاً كاملَ الضرباتِ ... " ( 187 )
في نصّ من النصوص الفريدة من نوعها , كتب عزيز نيسين , الكاتب التركيّ الساخر , نصّاً بعنوان : / رسالة إلى الموت / يقول فيه :
" لقد تحمّلتُ كلَّ ما عانيتُ ضاحكاً ولم يعلمْ به سواي . أحزاني خبّأتُها
لنفسي , أمّا أفراحي فكنتُ أتقاسمها مع الآخرين . كم أتمنّى أن تكون نهايتي أيضاً على تلك الصورة ! أنا أعرف أنّكَ قويٌّ . رأسي الذي لم ينحنِ لأحدٍ قد ينحني لكَ أنتَ , عشتُ حياتي مرفوع الرأس , ناصع الجبين . فعانقني واقفاً . مرفوع الرأس , حين تأتي لتأخذَني . " ... " حياتي كلُّها أمضيتها وأنا في صراعٍ معكَ ندّاً لند . كثيرةٌ هي المرّاتُ التي تلقّيتُ فيها الهزيمة . روحي , وهي أقدس ما عندي , أريد أن أعطيها برجولةٍ , بوقارٍ , واقفاً , بصورة تليق بي , إنني لا أريد أن أستسلمَ ... أريد أن أقدّمَ روحي لكَ كما لو كنتُ أقدّمُ لك هدية تذكاريّة . " ( 188 )
نيسين يطلب من خصمه الموت , وهو القويّ , أن يحترم كبرياءه , وتجربته الطويلة التي خاضها , دون انكسار أو خضوع لأحد .. أي يريد أن يكون موتُه كبيراً , مثلما كانت حياته .. أو كما يعبّر :
" أريد أن أكون جديراً بالموت مثلما كنت جديراً بالحياة , لقد عملتُ وناضلتُ كي أكون جديراً بالحياة فكنتُ جديراً بها . بقي الآن أن أكون جديراً بالموت , اعترف لي بهذا الحقّ ! " ( 189 )
كلاهما : درويش ونيسين , يحاور الموت مشخصّاً , مجسّداً , وصديقاً
حميماً .. ومغيّباً في الآن نفسه .. فالحوار , كما يبدو , أحاديّ عند كليهما , ولكن غياب المحاور , ليس إلا غياباً شكلياً فقط , فهو ينشر ظلاله على كلا النصّين , ليصبح هو الأشدَّ حضوراً , والمحاور الحاضر هو الأشدَّ غياباً ووحشةً ...
وفي حين أن نيسين , يتوقف عند الفكرة السابقة , ويستسلم للموت , ويختتم رسالته بقوله :
" أيها الموت : تعال باحترام , فأنا في انتظارك ! " ( 190 )
أما درويش , فإذا كان قد استسلم جسدياً للموت , فهو يرى أنه انتصر عليه بفنّه .. فيصل إلى النتيجة التالية :
" ألديكَ وقتٌ لاختبار ِ
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ . أنتَ مسؤولٌ عن الطينيّ في
البشريِّ , لا عن فعلِه أو قولِه /
هزمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
هزمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلادِ
الرافدين , مسلّة المصريّ , مقبرة الفراعنةِ ,
النقوش على حجارة معبدٍ هزمتْكَ
وانتصرتْ , وأفْلَتَ من كمائنكَ
الخلودُ ...
فاصنع بنا , واصنع بنفسِكَ ما تريدُ " ( 191 )
إذن , فالموت آنيٌّ مرتبطٌ بالطينيِّ الفاني , أمّا الفنّ , بأيّة صورةٍ تجلّى , فهو الخلود .. فالموت بهذا المعنى , ليس موتاً , أو هو موت الفن / اللغة .. وبهذا يلغي درويش ما كتبه مفكرو العدم حول موت الفن .. ولم يعد الفنُّ " نسمة معارة من العدم " كما يعبّر كافكا .. بل هو الخلود الأبديّ الذي قهر
الموت ...
في بحثه عن الخلود , سقط جلجامش في ضيق الحياة , ووقع أسيراً للطينيّ
فيه , وغاب جسده في ظلال القرون , بينما بقيتْ ملحمته حاضرة عبر العصور ..
ويتابع درويش تقديم مسوّغاته للحياة , ليرى : هل تغيّرت الحياة بعد موتها ؟
أم أنّ الموت يتابع عمله المعتاد على جسد الحياة في هذه الأرض :
وأنا أريد , أريد أن أحيا ...
فلي عملٌ على جغرافيا البركان .
من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب . " ( 192 )
الموت ما زال مستمرّاً كعادته , وهذه الأرض ما زالت تعلي رايته عالياً , بمختلف طرقها ووسائلها التي يعرفها البشر ..
ويستشف درويش قول الإمام علي : ( اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً , واعمل ليومك كأنك تعيش أبداً ) .. حيث يقول :
" .. لي عمل لآخرتي
كأني لن أعيش غداً , ولي عملٌ ليوم
حاضرٍ أبداً . لذا أصغي , على مهلٍ
على مهلٍ , لصوت النمل في قلبي :
أعينوني على جَلَدي .. " ( 193 )
الغياب والحضور .. صراع المطلق الأبديّ مع الواقع العبثيّ .. مطلق يترصّد الإنسان في سكناته وحركاته , وواقع يغريه أكثر بنسيان المطلق , ليحفر أكثر في جسد الغياب الحاضر / الحياة ..
ولذا يرثي درويش لحال الموت , هذا الوحيد المستوحش بوحدانيته , المنفيّ عن كلّ ما يهب الوجود لذّته الخالدة / الزائلة .. فلا امرأة عاشقة , ولا ابنٌ محبٌّ , ولا وطنٌ .. يقول :
" .. وحدكَ
المنفيّ , يا مسكين , لا امرأةٌ تضمّكَ
بين نهديها , ولا امرأةٌ تقاسمكَ
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيّ
المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تلدْ ولداً يجيئكَ ضارعاً : أبتي ,


أحبّكَ . وحدكَ المنفيُّ , يا ملكَ
الملوك " ( 194 )
ويدخل الحوار مرحلة جديدة عند درويش , فينحرف عن الحوار الشبيه
بالذاتي , أو المفرد .. حيث بقي الآخر مغيّباً تقريباً على امتداد النص , على الرغم من حضوره الرمزيّ , فيبلغ التجسيد ذروته , ويدخل الآخر المغيّب لعبة الحوار الفذِّ , في لحظة من لحظات انعتاق الذات من نفسها , ليصبح الآخر / الموت صورة للذات المحاورة .. يقول درويش :
" ... كلما قلتُ : ابتعدْ
عني لأكمل دورة الجسدين , في جسدٍ
يفيضُ , ظهرتَ ما بيني وبيني
ساخراً : لا تنسَ موعدنا ...
- متى ؟ - في ذروة النسيان
حين تصدّق الدنيا وتعبد خاشعاً
خشبَ الهياكلِ والرسوم على جدار الكهفِ ,
حيث تقول: آثاري أنا وأنا ابن نفسي . – أين موعدنا ؟
أتأذنُ لي بأن أختار مقهىً عند
باب البحرِ ؟ - لا .... لا تقتربْ
يا ابن الخطيئة , يا ابن آدمَ
من حدود الله ‍ لم تُولَدْ لتسألَ , بل
لتعملَ ... " ( 195 )
يظهر الموت المشخّص هنا , بمظهر العرّاف الحكيم المتعالي , الذي يحاور من هو أقلُّ منه شأناً , / ابن الخطيئة / ابن آدم الذي أغضب الله , فسلط عليه الموت ليعرف حجم نفسه , ويقف عند حدودها ..
غير أنّ الشاعر يرفض هذا الحوار المأزوم , ويريد حواراً ودّياً بين صديقين حميمين .. فيقول :
" – كن صديقاً طيباً يا
موتُ ‍! كنْ معنىً ثقافياً لأدركَ
كنهَ حكمتكَ الخبيئةِ ! ... " ( 196 )
لقد استطاع درويش أن يعمّق صورة الموت هنا أكثر , وأن يقدّمه بعيداً عن التجريد المعهود , والوصف الذي لا يقدّمه إلا من بعيد .. أو بما يخدم فكرة وكفى , دون أن يمتدَّ في روح النص .. كقول أدونيس في قصيدته مفرد بصيغة الجمع .. مثلاً :
اجلس ، أيها الموت ، في مكان آخر
ولنتبادل وجهينا
أقول باسمك وباسمي :
نضلّل الحياة وهي التي تقودنا
ماذا أفعل
وجسدي أوسعُ من الفضاء الذي يحتويه
أنا الباحثُ
وليس أمامي غير الموت " ( 197 )
فعلى الرغم من التشخيص الذي يستخدمه أدونيس هنا , إلا أنه لم يتجاوز الاستخدام التقليدي للموت , الذي هو نهاية الحياة , كما أنّ هذا المقطع يأخذ اتجاهاً مختلفاً , في استخدام البعد الذهني للصورة عند أدونيس ..
وينتصر درويش / المحاور الضعيف أحياناً , ليصبح هو المحاور الأقوى , الذي يدير الحوار كما يشاء , بل ويقرّر ما يشاء .. حيث يعود ليخبر الموت ما يتوجّب عليه فعله :
" أيها الموتُ , انتظرني عند باب
البحر في مقهى الرومانسيين . لم
أرجع وقد طاشتْ سهامُك مرة
إلا لأودِعَ داخلي في خارجي
وأوزّع القمح الذي امتلأت به روحي
على الشحرور حطّ على يديَّ وكاهلي
وأودّعَ الأرضَ التي تمتصّني ملحاً , وتنثرني
حشيشاً للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمانِ
ولا تصدّقني أعود ولا أعودُ " ( 198 )
ومع انكسار الإيقاع , وخروجه من تفعيلة الكامل إلى تفعيلة المتقارب , يكشف درويش صورة الأنا من خلال الآخر / الممرضة , حيث تتداخل الضمائر / هي , أنتَ , هو ... / يقول :
" تقول ممرضتي : كنتَ تهذي
كثيراً وتصرخ : يا قلبُ !
يا قلبُ ! خذني
إلى دورة الماء ... / ( 199 )
ويتكرر قول الممرضة / كنت تهذي / تأكيداً على حالة الهذيان التي وقع الشاعر أسيراً لها , ولكن استطاعت هذه الحالة من الهذيان الشديد , أن تكشف عمق الصراع القائم في نفس درويش بين نقيضين أبديين في الذات المبدعة :
الأنا الشعري / والأنا الاجتماعي ..
الأول رغبويٌّ , متقحّمٌ , ساحرٌ , أبديٌّ , لا شعوريٌّ .. بما يعيشه من وحدة وتمرّد وخيال , تبعده عن الآخرين , بقدر ما تقرّبه منهم ...
والثاني لحظويٌّ , آنيٌّ , عاديٌّ , سطحيٌّ , شعوريٌّ , بوصفه كائناً اجتماعياً من حقه أن يعيش ويحب ويكره ويتزوج ... إلخ .
وهناك طغيان لأحدهما على الآخر دائماً , وقلما سار الاثنان معاً , فإن حدث ذلك فعلاً , فثمة خلل ما ...
ودرويش في هذيانه هنا , ينتصر للأول / الشاعر , ممثلاً باللغة .. ففي المقطع الأول بعد أن ينسى الشاعر كلّ شيء : / جسدَه , قلبَه , امرأتَه , تنفّسَه , كلامَه .. / يصرخ :
" ... أخاف على لغتي
فاتركوا كلّ شيء على حاله
وأعيدوا الحياة إلى لغتي ! .. " ( 200 )
بينما نجده في المقطع الثاني , وحيداً , مستوحشاً , لا صديقٌ ولا وطن .. إلا الشعر , الذي يتحوّل في لحظات الهذيان , حيث تصبح النفس في أصفى حالات الصدق , إلى وطن حقيقيّ يريد الشاعر أن يلتجئ إليه فقط ..
يقول :
- " تقول ممرضتي : كنتَ تهذي
كثيراً , وتصرخ بي قائلاً :
لا أريد الرجوع إلى أحدٍ
لا أريد الرجوع إلى بلدٍ
بعد هذا الغياب الطويل ...
أريد الرجوع فقطْ
إلى لغتي في أقاصي الهديل " ( 201 )
ويأتي المقطع الثالث , ليصبح الموتُ عنده موتَ اللغة , وليس أيّ شيء
آخر :
" تقول ممرّضتي :
كنتَ تهذي طويلاً , وتسألني :
هل الموتُ ما تفعلين بي الآن
أم هو موتُ اللغةْ ؟ " ( 202 )
كسر الإيقاع هنا حالة نفسية , تتمظهر فيه , فإذا كانت تفعيلة الكامل السابقة , تمثّل حالة انبثاق الذاكرة وانعتاقها أمام الموت , تأتي تفعيلة المتقارب حاملة لوجه آخر من الحياة , كانبثاق نبع ماء في أرض جرداء , ولاسيما أن درويش يعود إلى لعبة اللون من جديد , هذه اللعبة التي تمرّس بها طويلاً ... ويأتي اللون الأخضر دلالة عميقة إلى الخصب والتجدّد والحياة في هذه المجموعة , التي تقف أمام الموت وجهاً لوجه .. ولاسيما أنّ الصراع بين الألوان هنا , خصوصاً بين الأبيض والأخضر , يمثل حالة الصراع بين الموت والحياة .. يقول :
" خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية ...
" ... "
خضراء أكتبها على نثر السنابل في
كتاب الحقل قوّسها امتلاء شاحبٌ
فيها وفيَّ . وكلما صادقتُ أو
آخيتُ سنبلة تعلمتُ البقاء من
الفناء وضدّه " أنا حبّة القمح
التي ماتت لكي تخضرّ ثانية . وفي
موتي حياة ما ... " ( 203 )
هذا الموت الذي سيقود إلى الحياة .. موتٌ خبِرَه درويش سابقاً , متحدّياً
أعداءه , مصرّاً على الحياة .. في قوله :
يا دامي العينين والكفّين
إنّ الليل زائلْ
نيرون مات ولم تمتْ روما
بعينيها تقاتلْ !
وحبوب سنبلة تموت
ستملأ الوادي سنابلْ " ( 204 )
كما نجد في المقبوس السابق , أن درويش يعيد إنتاج بعض رؤاه السابقة , من خلال الموازنة بين عبارتين .. فقد تعلّم أن مؤاخاة العواصم , قد رمته في المنافي , بينما أعطته مؤخاة السنابل أملاً جديداً بالحياة .. يقول في / أحمد الزعتر / :
" كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار " ( 205 )
العاصمة = تمثل عداء / خيانة ما ...
الحلم والأشعار = يمثلان الوطن / الحميمية ...
ونتيجة المؤاخاة هي النفي في دروب الهجرة الدائمة .. وتأتي دلالة الفعل رمى قاسية على الشاعر . بينما نجد في المثال الثاني أنّ :
السنبلة = تمثل المواجهة / حالة ما / الآخر / العفوية ...
البقاء = يمثل الحياة واستمرارها ..
فنتيجة المؤاخاة هنا هي معرفة الحياة في وجه الفناء , بل ضدّه .. وتأتي دلالة الفعل / تعلم / جميلة عذبة , تمسّ روح الشاعر التوّاق إلى الحياة ..
ثمّ يتخذ درويش من عبارة / كأني لا كأني / بما تحمله من وحي صوفيّ , التي يكررها ثلاث مرّات محوراً ليلقي بالأسئلة الكونية بدءاً من سؤال الموت
الأبديّ :
" ... من أنا في الموت
بعدي ؟ من أنا في الموت قبلي
قال طيف هامشيٌّ : كان أوزيريسُ
مثلك , كان مثلي . وابن مريم
كان مثلك . بيْد أنّ
الجرح في الوقت المناسب يوجع

العدم المريض , ويرفع الموت المؤقّتَ
فكرةً " ( 206 )
إيزوريس , المسيح .. رمزان كبيران جعلا من الموت حالة من الحياة الأخرى , التي تستمرّ إلى أبد الآبدين ..
ويجعل درويش السؤال عن الموت , نظيراً للسؤال عن الشعر ومنابعه .. حيث يقول :
" من أين تأتي الشاعرية ؟ من
ذكاء القلب , أم من فطرة الإحساس
بالمجهول ؟ أم من وردة حمراء
في الصحراء ؟ لا الشخصيّ شخصيٌّ
ولا الكونيُّ كونيٌّ ... " ( 207 )
هذا السؤال حيّر الشعراء والنقاد كثيراً , دون أن يصلوا إلى نتيجة فيه ..
وإذا كان درويش يقدّم هنا , بعض الإجابات , غير أنها تزيد الأمر غموضاً وشفافيةً ..
ليدخل بعدها في سؤال مؤرّق : الصراع بين سموّ اللغة / الشعر , والواقع الذي قد يقودها إلى أسفل السافلين .. وهذا ما عبّر عنه المعرّي في تصويره لفلسفته في الحياة , حيث رفض الزواج وآثر العيش وحيداً ..
بقوله : ( 208 )
هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحدْ
حياة مليئة بالتناقض المرّ , تذكّرها درويش على حين غرّة , ليؤنس نفسه الهائمة بقوله :
ويؤنسني تذكّر ما نسيتُ من
البلاغة : لم ألدْ ولداً ليحمل موت
والده ...
وآثرت الزواج الحرّ بين المفردات " ( 209 )
ففي حين اكتفى المعرّي برفض الزواج , وجد درويش ضالته في الشعر , وبناء مجده الدنيويّ في لغةٍ , تؤسس لجمالية جديدة , تنبعث منها الحياة , لا الموت ..
كما يجد فيما فعله امرؤ القيس , عندما تنازل عن مكانته العظيمة , بوصفه
شاعراً , ليصبح كأيّ ملك ضعيف , يلتجئ إلى من هم أقوى منه لحمايته واستعادة ملكه , وبهذا يكون امرؤ القيس قد فتح الباب على ما نسمّيه الآن
/ طلب الوصاية / .. يقول درويش :
" تعبتُ من لغتي تقول ولا
تقول على ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيّام امرئ القيس الموزّع
بين قافية وقيصر ... / " ( 210
لقد ناقش درويش هذه القضية طويلاً في قصيدته المتميزة / سنختار سوفوكليس / وعقد الموازنة نفسها , بين الشعر المترفع عن كلّ شيء , والانحطاط الذي يقودنا إليه طلب المعونة من الأعداء , والذي أوقع الأمة العربية في انكسار تاريخيّ طويل الأمد .. يقول :
" ولم نعترفْ أننا سائرون على درب قيصر . لم ننتبهْ للقصيدةْ
وقد أفرغتْ أهلها من عواطفهم كي توسّع شطآنها
وتنصب خيمتنا حيث ألقتْ بنا الحرب بين أثينا وفارسْ
وبين العراق ومصر . ونحن نحبّ المحاريث أكثر مما
نحبّ السيوف , نحبّ هواء الخريف , نحبّ المطرْ
نحبّ الطبيعة عاشقة في تقاليد آلهة ولدتْ بيننا
لتحميَنا من رياح الجفاف وخيل العدوّ الذي نجهله ْ ,
ولكنّ أبوابنا بين مصر وبابل مفتوحة للحروب
ومفتوحة للرحيل . " ( 211 )
إنّ التنازل عن الشعر لمصلحة أيّ شيء آخر , سوف يودي بالشعر , ويلقي به في غيابات الضياع ..
ويجعل درويش من فكرة إعلاء شأن الشعر , مدخلاً لأسطورة الخصب , من خلال أجمل رموزها / عناة , عشتار , إنانا .. حيث يحتفل درويش بها
أيّما احتفال , وكأنه بهذا يعبّر عن توقه الدائم للخلود , بما تمثله هذه
الأسطورة , التي تدخل في بنية القصيدة , لتسير بها نحو جمالية دلالية عالية , ولاسيما مع وضوح الغنائية العالية , التي تتخذ شكل أغنية على لسان عناة الوحيدة المستوحشة بذاتها .. يقول درويش :
" كلما يمّمتُ وجهي شطر آلهتي ,
هنالك , في بلاد الأرجوان أضاءني
قمرٌ تطوّقه عناةُ , عناةُ سيّدة
الكناية في الحكاية . لم تكنْ تبكي على
أحدٍ , ولكن من مفاتنها بكتْ :
هل كلّ هذا السحر لي وحدي
أما من شاعر عندي
يقاسمني فراغ التختِ في مجدي ؟
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أما من شاعر يغوي
حليب الليل في نهدي ؟
أنا الأولى
أنا الأخرى
وحدّي زاد عن حدي
وبعدي تركض الغزلان في الكلمات
لا قبلي ... ولا بعدي / " ( 212 )
إن درويش يتناول نفسه المأزومة , من خلال رموز شديدة التأزّم والضياع :
المعرّي , امرئ القيس , عناة سيّدة الخصب والحياة , من خلال أزمتها
ووحشتها , فهي من تهب الخصب للحياة , ها هي الآن تعيش جدبها وقحطها وحيدة , لا أنيسَ ولا حبيبَ ... هؤلاء جميعاً يعكسون أزمة الشاعر ووحشتَه وغربتَه في هذه الحياة ..
من الواضح , أن درويش يسعى إلى خلق لوحة تشكيلية , شديدة التعقيد والجمال , تنعكس فيها كلّ معطيات معرفته وثقافته ..
ولعلّ درويش في طرحه هذا , أراد من جديد , تأكيدَ عجز الشعر / الحلم / الأنبياء .. عن تغيير الواقع المنهار .. ولكن يكفي الإنسان أن يحلم , لا لشيء بل ليحلم .. يقول :
" سأحلم لا لأصلح مركبات الريح
أو عطباً أصاب الروح
فالأسطورة اتخذتْ مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعيّ . وليس في وسع القصيدة
أن تغيّر ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أن توقف الزلزال
ولكني سأحلم ... " ( 213 )
الأسطورة بنيةٌ مضادة للواقع , على الرغم من أنها استطاعت أن تمثل واقعا ً
ما , بنيةٌ استطاع الشعر أن يمتصّها , ويعيدَ إنتاجها على نحو أجمل غالباً...
فهي تصعيد لحالة متفرّدة في الواقع , كالبحث عن الخلود / جلجامش ,
أو تفجرِ الحياة واستعادِتها خصبَها / عناة , أو انهزام الفطرة الأولى أمام قسوة الواقع / أنكيدو ..
فالأسطورة التي اتخذت مكانتها / المكيدة في سياق الواقعي , قلبت الواقع رأساً على عقب , وساقته نحو نهايات مفتوحة الأبعاد , تعلو على الواقع , وتحاول إعلاءه , نحو سماء ما .. نحو بساطة ما .. تتحوّل في لحظة الخلق إلى ملهم للكتابة والحياة في آن معاً .. يقول :
" ...كلّما حكّ
السحابة طائرٌ دوّنتُ : فكّ الحلمُ
أجنحتي . أنا أيضاً أطير. فكلّ
حيٍّ طائرٌ . وأنا أنا , لا شيء
آخرَ / ... " ( 214 )
إن الشعر كما يراه درويش تحرير للذات البشرية , من ضعفها وسكونها وانحطاطها , وخطفها نحو نهايات التلاشي .. فكلّ حيّ طائرٌ .. هذا ما عبّر عنه درويش سابقاً في قصيدته الفريدة / الهدهد / حيث قال :
" والناس طيرٌ لا تطيرُ " ( 215 )
ولهذا يستخدم درويش ثلاثة رموز شديدة الدلالة حيث يصبح :
- واحداً من أهل هذا البحر ... ( 216 )
- واحداً من أهل هذا السهل ... ( 217 )
- واحداً من أهل هذا الليل ... ( 218 )
فالبحر بكل ما فيه من عمقٍ وامتداد يجعل السؤال عن الأنا مشروعاًَ ..
والسهل بكلّ ما يحمله من امتداد وتجدد وذكريات للمكان , يؤكّد هوية الذات , حين يصبح / مثل وشمٍ في الهويّة / لا تبدّدها الرياح ولا تؤبّدها / تأكيد يجعل الإثبات نفياً , والنفيَ إثباتاً ..
والليل بما فيه من غموض شفيف , يحمل ما يحمله من الشهوات والعودة إلى الينابيع الأولى للحياة , حيث تتّحد روح درويش الهائمة برمز الحصان كدلالة على البعد الجنسي , هذا الذي يحفظ للإنسان إنسانيته وبقاءه .. لذلك يقول :
" أنتَ فتوّتي وأنا خيالك . فانتصبْ
ألفاً وصكّ البرقَ . حكَّ بحافر
الشهواتِ أوعية الصدى . واصعدْ ,
تجدّد , وانتصبْ ألفاً , توتّر يا
حصاني وانتصبْ ألفاً , ولا تسقطْ

عن السفح الأخير كراية مهجورة في
الأبجديّة ... " ( 219 )
إنّ الرموز الجنسية شديدة الوضوح في هذا المقبوس .. حيث يستخدمها درويش لتأكيد قدرته على البقاء , ورفضه الموتَ الذي يعني , بطريقة ما : عقمَ الحياة .. فلا خصب , ولا حبّ , ولا خيال .. هزيمة على سفوح الصراع , وانهيار المكان , وهيمنة السراب على كلّ شيء ...
إن الربط الذي يقوم به درويش , بين القدرة الجنسية والإبداع , أمر شديد الأهمية , حيث يجعل توهّج الأولى , سبباً أو دافعاً لتوهّج الإبداع ؛ وكلما انطفأت شعلة الشهوة في الجسد الإنساني , خبت نيران الإبداع , أو اتخذت مسارات أخرى , أقرب إلى العقلانية منها , إلى توهّج الحياة وحرارتها .. حيث يعلن درويش :
" حين يجفّ ماء القلب تزداد الجماليّات
تجريداً , وتَدَّثرُ العواطف بالمعاطف ,
والبكارة بالمهارة / ... " ( 220 )
إنّ هذا الكلام يفسّر تجارب كثيرة لشعراء , لم يعترفوا بمرور العمر , وخمود نيران القلب , فتابعوا الكتابة , بالطريقة نفسها التي بدؤوا بها , فسقط شعرهم في التكرار والاجترار والافتعال ... ولم يستطيعوا فهْمَ هذه الفكرة التي يشير إليها درويش .. فكرة الجمال المجرّد , التي تحمي الشاعر من
نفسه , بل وتجعله متجدّداً على الدوام ...
وأمام هذا الصراع في الذات البشرية , بين البشريّ الفاني , والإلهي الخالد , يظهر أنكيدو , بوصفه أحد أكبر رموز هذا الصراع , في الأساطير
الشرقية .. حيث يعلو النفس التراجيدي الملحمي , في محاولة لصياغة الأشياء من جديد , بتوليفة تتداخل فيها عناصر الوجود كلّها .. بحثٌ دائمٌ عن الجمال الناقص , في سعي لبلوغ كمال الغياب .. " وفي نهاية كل سباق، بعد كل امتحان أو محنة، وفي ختام كل معركة أو صراعٍ مع الجمال: محمود درويش ( مهزوماً ) أمام محمود درويش آخر ( منتصرٍ إلى حين ) لا يلبث أن يتحول إلى مهزوم آخر يتنحّى خارج حلبة السباق، مسلّماً رايةَ الأمل - راية الخيبة بالأصحّ - لمنافسٍ آخر اسمه ، كالعادة، محمود درويش .
شاعرٌ متفرغ لهزيمةِ نفسه.
شاعرٌ لا يهزم إلا نفسه..
ولا تهزمه سوى نفسه : ذلك هو .
إذا كان هذا دأبه على الدوام ( ينقض ما بناه ليشرع في بنائه مرة أخرى ، محاولاً قدر مستطاعه، بل وفوق مستطاع الأحلام ، إعادة اختراع الحجارة والأدوات ومطامح الجمال ).. فما الذي يمكن أن يقوله ( هو ) حيال هذه التراجيديا الضارية ؟ : ( إنني أعيد صياغة هفواتي ) !.. " ( 221 )
أنكيدو دالٌّ مهمّ يمثل حال الصراع الوجودي الملحمي , الذي يعوّل
عليه درويش كثيراً , بوصفه رمزاً من رموز التحدّي السافر مع السلطة ,
أياً تكن ... في محاولة للمساواة البسيطة التي ينشدها الإنسان على هذه الأرض .. يقول :
" ... فانهض بي بكامل
طيشك البشريِّ , واحلمْ بالمساواة
القليلة بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نعمّر الأرض الجميلة بين
دجلةَ والفرات ونحفظ الأسماء ... " ( 222 )( ص 82 )
إن تداخل الضمائر الواضح هنا , / أنت , أنا , هي , نحن / تمثل حالة من التقاء الضعفاء أمام السلطة العليا , بكل ما تحمله من جبروت وقسوة ..
لذلك يرى درويش أن أنكيدو بما هو , يكشف جانباً مهماً من نفسه
المأزومة , أمام انهيار الواقع , فتصبح العودة إلى الفطرة الأولى هي الحل.. يقول :
" ظلمتُك حينما قاومتُ فيك الوحشَ ,
بامرأة سقتْكّ حليبها , فأنستَ ...
واستسلمتَ للبشريّ . أنكيدو , ترفّقْ
بي وعدْ من حيث متَّ , لعلّنا
نجدُ الجوابَ , فمن أنا وحدي ؟ " ( 223 )
إن صوت الشاعر يتقنّع , كما يبدو , بصوت جلجامش صديق أنكيدو , الباحث عن الخلود , الذي يأسى على ما فعله بصديقه , بأن أخرجه من وحشيته وفطرته , إلى عالم آخر , عالم باطل زائلٍ ..
صوت الشاعر الخارجُ من أبديّة العصور , محمّلاً بكلّ انكسارات الحياة , يكتشف بعد طويل عناء , أنّ الحياة : هي أن يعيش الإنسان في بعده الأرضيّ , لا الكونيّ , لجسمه لا لحلمه أو وهمه .. إن قيمة الجسد تبرز هنا وتعلو , لإقصاء شبح الموت الذي يحوم في المكان .. الجسد بوصفه أجمل تكريم للروح تمّ عبر العصور , ها هو الآن يشكّل درع الحماية الأقوى , في وجه الموت ... يقول :
" فاحذر غداً وعشِ الحياة الآن في امرأة
تحبُّكَ . عشْ لجسمكَ لا لوهمكَ .
وانتظرْ
ولداً سيحمل عنكَ روحكَ .
فالخلود هو التناسلُ في الوجود .
وكلُّ شيء باطلٌ أو زائلٌ , أو
زائلٌ أو باطلٌ " ( 224 )
سقطتْ كلّ أحلام جلجامش الخضراء في الخلود , وكذلك أحلام الشاعر , ليصبح الخلود مجرّد تناسل , وما عداه فهو باطل أو زائل ...
وتتصعّد حالة الاغتراب , لتصل ذروتها , وتلقي بمكنوناتها دفعة واحدة , كما المطر بعد انحباس طويل , وتفتح السؤال عميقاً , على مجموعة من الإشكاليات الكبرى يجسدّها النفسُ الملحمي , حيث يتداخل السرديّ بالإيقاعيّ , والغنائيّ بالدراميّ , والواقعيّ بالميتافيزقيّ , والفرديّ بالجمعيّ , والموت بالحياة , والأنا بالآخر ...
إن حالة التصعيد المذكورة آنفاً , جعلت درويش يستجمع كلّ معاناته , ليدخل في عالم من سراب , لا معنى له , ولا هدف , كلّ ما يحيط به هو الموت , والضياع , والتيه , والكمال الفارغ , وبطلان كلّ شيء .. يقول :
" من أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حكمة الجامعةْ ؟
وكلانا أنا ...
وأنا شاعر
وملك ْ
وحكيم على حافة البئر
لا غيمةٌ في يدي
ولا أحد عشر كوكباً
على معبدي
ضاق بي جسدي
ضاق بي أبدي
وغدي
جالسٌ مثل تاج الغبار
على مقعدي " ( 225 )
درويش هنا بدأ يحسّ بلا قيمة الأشياء وخوائها , ولذلك يبدأ بالسؤال الأزليّ : من أنا ؟ ويحاول أن يضع أجوبة له , ليجد نفسه أنه المتناقض المتماهي في صورة واحدة , كما كان سليمان الحكيم يوماً , كما صوّرته التوراة .. غير أن درويش يجد اللا جدوى بانتظاره , وقد ذهبت أحلامه سدى .. فإذا كان النبي يوسف قد حلم وتحققت رؤياه , فإن درويش حلم أيضاً , ولكن رؤياه ذهبت مع الرياح وتحوّل كلّ شيء إلى غبار ومحض سراب .. ولهذا يستنهض درويشُ حكمةَ الشاعر الجاهليّ لبيد بن ربيعة , بعدما أسلم , وخلع عنه حياته الجاهلية , فوصل إلى هذه النتيجة : ( 226 )
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
وكذلك درويش , بعد أن امتلأت نفسه بالموت والرحيل , وصل إلى هذه النتيجة , وبلغة الشاعر الجاهليّ وأسلوبه مستخدماً البحر الخفيف , وكأنما الشاعر يستخفّ بكلّ ما على هذه الأرض فيعلن أنه :
" باطلٌ باطلُ الأباطيل ... باطلْ
كلّ شيء على البسيطة زائلْ " ( 227 )
ويبلغ اليأس حدّه عند درويش , فكلّ ما حوله سدى , ولا جديد .. حيث :
" تشرق الشمس من ذاتها
تغرب الشمس في ذاتها
لا جديد , إذاً
والزمنْ
كان أمسِ
سدىً في سدى ... " ( 228 )
يتلبّس درويشَ هنا صوتُ عرّاف أو كاهنٍ من العهد القديم , ليلَّخص لنا حكمته في الحياة , ويقدّم لنا نصائحه , التي يتوّجها البطلان والزوال في
النهاية ... إنّ درويش يقع هنا تحت تأثير لحظة استسلام مرعبة أمام جبروت الموت , على عكس ما كان عليه في أول القصيدة , ولاسيما مع اختياره الذكي لتفعيلة المتدارك / فاعلن / وهو آخر العروض .. وكأن الشاعر أراد القول : هذا آخر المطاف ... غير أنّ الجدارية تفضي , بعد ذلك , عن أجمل صورها , وأكثرها شفافية وعذوبة وعمقاً , يلخّص فيها درويش ذاته : إنساناً , وشاعراً , بكل ما يحمله هذان المصطلحان من أبعاد ودلالات .. حيث يبدأ التجوال في أرجاء ذاكرته المشحونة بذكريات المكان المؤلم / الوطن الفقيد , والزمن الضائع / الطفولة المشرّدة , الحلم الخواء ... إلخ .. يقول درويش :
" مثلما سار المسيح على البحيرة
سرتُ في رؤياي . لكنّي نـزلتُ عن
الصليب لأنني أخشى العلوَّ , ولا
أبشّرُ بالقيامة . لم أغيّر غير
إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحاً ." ( 229 )
يعقد درويش موازنة واضحة تبدأ بـ / مثلما / التي تفيد التشبيه .. ويمكن أن نرتب هذه الموازنة على النحو التالي :
المسيح = درويش
السير على البحيرة/ التعالي = السير في الرؤيا / التعمّق
النتيجة : الأول / المسيح يبشّر بالقيامة / تغيير إيقاع الكون ..الكون لم
يتغيّر ..
الثاني / درويش يخشى العلوّ , ينـزل ليغيّر إيقاعه الخاص .. يسمع صوت
قلبه ..
التغيير هدف لكليهما , والبحث عن البساطة , عن الإنسان العادي , وليس عن البطل الملحمي النمط .. يقول درويش :
" للملحميّين النسورُ ولي أنا : طوقُ
الحمامة , نجمة مهجورةٌ فوق السطوح ِ ,
وشارع متعرّجٌ يفضي إلى ميناء
عكا – ليس أكثر أو أقلّ – " ( 230 )

* *

تشكيل المكان في زمن هلاميّ :
لم يعد المكان عند درويش مجرّد جغرافيا منفصلة عن الذات , تهبُّ عليه من الخارج , بل أصبح أرضاً للذاكرة تهبّ على الروح من أعماق الداخل , لتهبها لحظات إبداعها , لتقوم بعملية تشكيل جديد للعلاقات , تنفتح على مستويات لا نهائية , يتداخل فيها الماضي بالحاضر بالمستقبل , ويصبح المكان أرضاً ثابتة , يقف عليها الشاعر لإثبات ذاته , أمام حركة الزمن الهلامية , المتغيرة ...
يبدأ درويش تشيكل المكان بعملية مزاوجة , بين المكان الحقيقي / الواقعيّ :
/ شارع متعرّج , ميناء عكا , النخلة , البحر , السور , السوق القديمة , رائحة البخور ... إلخ / , وبين المكان المتشكل في الذاكرة / الرؤيا الشعرية .. يقول :
" ... أريد أن ألقي تحيات الصباح عليَّ
حيث تركتُني ولداً سعيداً [ لم
أكن ولداً سعيدَ الحظّ يومئذٍ
ولكنّ المسافة , مثل حدَّادينَ ممتازين
تصنع من حديدٍ تافهٍ قمراً ] " ( 231 )
مازالت ذكرى التهجير الأولى من فلسطين , تحفر عميقاً في روح الشاعر , ذكرى طفولته المشردة أصبحت , بعد مرور نصف قرن ونيف , ذات وجهين :
- وجه للحقيقة يحمل جرح الهجرة الفلسطينية 1948 , بكل مآسيها , وإعلان الكيان الصهيوني , على أشلاء القتلى , ودماء الجرحى , وذكريات المهجّرين ..
- وجه للذكرى عمل على تحويل المكان في نفس الشاعر , من مجرد مكان عاديّ إلى مكان أسطوريّ / حلميّ / شعريّ , يمتدّ بكلّ جذوره في نسيج النص الدرويشي .
ومن الواضح , أن حركة الزمان , داخل هذا المكان المتشكّل في الرؤيا الشعرية , ساعدت على تشكيله بهذه الصيغة ..
فالمسافة = الزمن الممتدّ من الطفولة إلى لحظة الكتابة
هذه الحركة هي التي تُرينا الذكريات الحزينة , أو الأشياء التافهة جميلة
برّاقة ...
وهذه الحركة الزمنية في المكان , تفتح النصّ على حوارات متعددة , تجعل الشاعر يعيش بين زمنين مختلفين :
- زمن الكتابة / الزمن الواقعيّ الذي يعيشه الشاعر , وهو زمن مأزوم , متوتّر , متشظٍّ ...
- زمن الماضي / الزمن الذي عاشه الشاعر , وهو زمن ثابت , راسخ , ويتحرك ضمن معطيات واقع حقيقيّ أيضاً , ولكنه واقع مضى ...
وحركة الزمن في ذات الشاعر حركة ارتدادية , تنطلق نحو الماضي , لتحيط بجميع مكوّناته الأولى , كما تركها الشاعر آنذاك , لتعود نحو الحاضر الذي يعيشه الشاعر ... وهذه الحركة تأخذ طابعاً حزيناً , يتأتَّى من المقارنة الخفيّة التي يعقدها الشاعر بين ما كان , وما يكون , وذلك من خلال تداعٍ
نفسيّ , أو حلميٍّ , يحاول الشاعر ألاَّ يضيع في هذيانه ... يقول :
" – أتعرفني ؟
سألتُ الظلّ قربَ السور ,
فانتبهتْ فتاةٌ ترتدي ناراً ,
وقالت : هل تكلّمني ؟
فقلتُ : أكلمُ الشبح القرينَ
فتمتمتْ : مجنون ليلى آخرٌ يتفقَّد الأطلال َ ,
وانصرفت إلى حانوتها في آخر السوق
القديمةِ ... " ( 232 )
إنّ الحوار الذي يديره الشاعر حميميٌّ , ذاتي , غير أن صوتاً آخر , يخترق الحوار فجاءة , ثم يختفي , دون أن يقود حركة الزمن , وكأنما هذا الصوت صدى لذات أخرى , لا تعي لحظة الكتابة بكل حنينها , وتدفقها الذي يصوغ الماضي , وتحاول تشكيل المكان فيه بكلّ رموزه العربية الدالّة :
ههنا كنا وكانت نخلتان تحمّلان
البحر بعض رسائل الشعراء ...
لم نكبر كثيراً يا أنا . فالمنظرُ
البحريُّ والسورُ المدافعُ عن خسارتنا
ورائحة البخور تقول مازلنا هنا
حتى لو انفصل الزمان عن المكان " ( 233 )
إنّ المحاوَر الآخر , هو ذات الشاعر / الأنا الأخرى فيه , وكأنه يعيش بين حياتين / يمتدّ بينهما الصراع , فالمكان الذي ألفه درويش عربياً , بكلّ تفاصيله , وجزئياته الأولى ( النخل , البحر , السور , رائحة البخور .. ) , أصبح الآن غريباً , وملامحه تمزّق الذاكرة شطرين / ههنا كنّا وكانت ... / ضياع المكان والزمان في آن معاً ...
إنّ الذاكرة البصرية التي يعوّل عليها الشاعر كثيراً , جعلت الجرح أعمق في ذاته الشاعرة , فكلّ شيء تغيّر , وثمة فصام روحي في ذات الشاعر : الماضي / الحاضر , الطفولة / ما بعد الطفولة , الوطن / المنفى , الحلم / الواقع :
" – أتعرفني ؟
بكى الولد الذي ضيعته :
لم نفترق. لكننا لن نلتقي أبداً
وأغلق موجتين صغيرتين على ذراعيه
وحلق عالياً ...
فسألتُ من منّا المهاجرُ ؟ " ( 234 )
ولا شكّ أنّ استدعاء محمود درويش للمكان الأليف / عكا / , من خلال رسمه لجماليات هذا المكان , نوع من تأكيد الهوية العربية له , ولاسيما أنه اعتمد الأنا الآخر محاوراً له , وهذا الاستدعاء للمكان , جعله يستدعي صورة أخرى , أكثر قسوة ووحشية , وهي التجربة المريرة التي عاشها داخل هذا المكان الأليف , الذي تحوّل بفعل الاحتلال إلى سجنٍ كبير , وهذه الصورة تفتح المشهد على حوار طريف , بين الأنا والآخر / العدو , ليصل درويش في نهاية المطاف , إلى أنّ هذا العدو لم يغيّر رؤيته القديمة , ولهجته العدائية ... يقول :
" قلت للسجان عند الشاطئ الغربي :
- هل أنت ابن سجاني القديم ؟
- نعم !
- فأين أبوك؟
قال: أبي توفي من سنين
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة .
ثم أورثني مهمته ومهنته وأوصاني
بأن أحمي المدينة من نشيدك ...
قلت: منذ متى تراقبني وتسجن
فيَّ نفسَكَ ؟
قال: منذ كتبتَ أولى أغنياتك
قلت: لم تكُ قد ولدتَ
فقال: لي زمن ولي أزليَّةٌ
وأريد أن أحيا على إيقاع أمريكا
وحائط أورشليم " ( 235 )
إن هذا الحوار يكشف عن عمق الصراع , بين الفلسطيني , والإسرائيلي , بين السلاح والأغنية , ولا يقف عدوان الآخر عند حدٍّ واضح , بل تحوّل مع الزمن إلى عملية وراثية , تمتدّ من جيل إلى جيل ...
في قصيدة شديدة الجرأة بعنوان / جندي يحلم بالزنابق البيضاء / من مجموعته / آخر الليل 1967 / أدار درويش حواراً شديد التألق , في محاولة للكشف عن الجانب الإنساني في الآخر / العدوّ , الذي هو ضحيّة لآلة الحرب الإسرائيلية , ويتمنّى هذا الجندي لو تنتهي الحرب , ويعود آمناً إلى بيته في المساء .. يقول :
" ودّعني , لأنه .. يبحث عن زنابق بيضاء
عن طائر يستقبل الصباح
عن غصن زيتون
لأنه لا يفهم الأشياء
إلا كما يحسّها .. يشمّها
يفهم – قال لي – أنّ الوطن
أن أحتسي قهوة أمي ..
أن أعود , آمناً , مع المساء " ( 236 )
غير أن السجّان في جدارية , مازال محتفظاً بعدائه الوراثي , الذي حوّله أيضاً إلى سجين آخر ... ويتطوّر الحوار ليصبح كلا المحاورين مجرد أشباح , وأصداء لماضي الصراع .. ولذلك يطلق درويش هذه الصرخة التساؤلية :
" فقلت محدثاً نفسي : أنا حيٌّ .
وقلتُ : إذا التقى شبحان
في الصحراء , هل يتقاسمان الرملَ ,
أم يتنافسان على احتكار الليل ؟ / " ( 237 )
إذن , فالصراع صراع على المكان , وليس ثمة شيء آخر ... ومن هنا يأتي اختيار درويش لمدينة عكا , دون سائر المدن الفلسطينية الأخرى , لما تمثله هذه المدينة الخالدة , التي سقط على أسوارها نابليون بونابرت ... يقول :
" عكا / أقدم المدن الجميلة ,
أجمل المدن القديمة / علبةٌ
حجرية يتحرّك الأحياء والأموات
في صلصالها كخلية النحل السجين
ويُضربون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كلما
اشتدَّ الحصار " ( 238 )
عكا هي الأقدم والأجمل , ولكنها تحوّلت بفعل الاحتلال إلى / علبة
حجرية / .. إن درويش يرى عكا الماضية بعين ذاكرته , ويرى عكا الحاضرة بأم عينيه , وهنا ينزاح المكان الأليف , ليحلّ محلّه المكان الموحش , المقفر .
ويصل درويش إلى ذروة التشكيل المكاني , الذي ينفتح على الحاضر , بكلّ معطياته الجميلة , الخاصة , الإنسانية , حيث يعود للتذكير برموز إنسانية شفافة ( المسيح , طوق الحمامة وشارع يفض إلى الميناء ... ) ليقدّم آخر صرخاته في الجدارية , صرخات تنضح من عمق الأنا المغتربة , داخل الزمن الشعريّ , وداخل الزمن الحقيقيّ , لتصبح لحظة التقاء الزمنين , انفجاراً دلالياً داخل النصّ الشعريّ .. فالمرتكز الدلالي / هذا ... لي / يتكرر عشرين مرة تقريباً , في محاولة لإثبات الذات المغتربة مرة أخرى , الأنا المنفية خارج الأزمنة , حيث ينفتح الخطاب الشعري على فضاءات كثيرة : الأنا , الآخر , الماضي , الحاضر , المستقبل , النفس , المعرفة , المكان , الوطن , الخاص , العام ... إلخ ) يقول :
" ... هذا البحر لي
هذا الهواء الرطبُ لي
هذا الرصيف وما عليه
من خطايَ وسائلي المنويّ ... لي
" ... "
لي حذوة الفرس التي
طارت عن الأسوار ... لي
ما كان لي . وقصاصة الورق التي
انتزعت من الإنجيل لي
والملح من أثر الدموع على
جدار البيت لي ... " ( 239 )
إن درويش يحاول أن يجد ذاته الضائعة , التي أعياها التنقّل بين الواقع
والحلم , بأن يطوّر أسلحته ضدّ الموت , بأن يشهر سيف الحياة بكلّ جمالها وخصوبتها في وجهه , ويحسّ لوهلة أنه انتصر على الموت , فيبدأ بتنغيم
اسمه , متفنناً في رسمه , وإضفاء طابع السحر على حروفه الخمسة , بحيث يفتح كلّ حرف مجموعة من الدلالات ... يقول :
" واسمي وإن أخطأتُ لفظَ اسمي
بخمسةِ أحرفٍ أفقيةِ التكوينِ لي :
ميمُ / المتيَّمُ والميتمَُّ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتان وحسرتان
ميمُ /المغامر والمعدُّ المستعدُّ لموته
الموعودُ منفياً ، مريض المشتهى
واوُ / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ولاءُ
للولادة أينما وُجدت ووعدُ الوالدينْ
دالُ / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ درستْ ودوريٌّ يدللني ويدميني
وهذا الاسم لي " ( 240 )
إن تفكيك الاسم على هذه الشاكلة , لهو إيحاء بالمعرفة والاتساع , فلقد تحوّل اسمه / وبالتالي , هو نفسه , لأن يكون ملتقى لكلّ شيء في هذه الأرض / الإنسانية / الشفافية / البساطة / الحقيقة / الحرية / الحب ...
وبعد أن يسخر من كلّ مفارقات الحياة , بهذه اللغة المالكة لكلّ شيء , الناسخة لكلّ شيء خارجها , حتى يظنّ المتلقي أننا أمام نرجس جديد , يفاجئنا , وليس غريباً عليه ذلك , بأن يترك كلّ ما جمعه أو امتلكه , حتى اسمه وذاته , للآخرين :
" أما أنا - وقد امتلأتُ
بكلّ أسباب الرحيل -
فلستُ لي
أنا لستُ لي
أنا لستُ لي ... " ( 241 )
لم يعد درويش ملك نفسه , فهو ملك الآخرين , بأحلامه وأحزانه
وأفراحه ... وهذه ضريبة الشعراء الكبار . غير أن الخيار الإنسانيّ يظلّ هو الأقوى والأعمق في نفس درويش المتخمة بالمحبة . وبعد , يمكن القول :
" إن شاعراً كمحمود درويش، صنْعتُه الكمال ومحنته، يخترع ( النقصان ) ليتسلّى بحياكةِ كمالٍ آخر. يتعمّد على الدوام جعْل الكمال ناقصاً ( على وهم النقصان يتغذى الشعراء..). يتركه ناقصاً.. كأنما لكي يُبقي على فسحة شاغرة لخطوته التالية .
يقسّط الكمالَ - مادةَ الموت - كما لو أنه يتعمّد تقسيطَ ما يستهلكه، أو ما تستهلكه القصيدةُ، من مادة الحياة.
أمام شاعر منكَّدٍ باشتراطاته الفنية كمحمود درويش: كلّ كمال ناقص .
أمامه : كلُّ كمالٍ بحاجة إلى إعادة صياغة أو إعادة ترميم .
أمامه : على القارئ أن يتحلى بأقصى ما يستطيع من فضيلةِ ( الشك ).. أومن لعنةِ ( الاصطبار ) .
شعر محمود درويش، إذا أخذنا في الاعتبار شهوتَه العالية إلى كمال النص ، هو مخاطرة دائمة ( يخاطر في البحث ويخاطر في نقض الإنجاز، ليكتشف - حسب نيتشه - أنه لا ينتج في النهاية غير أخطائه ). تعمُّدٌ دائم لاختلاق النقصان .
وفي النهاية : خيبة دائمة في مواجهة اشتراطات الحلم ..
محمود درويش، في ورشته الجديدة، منصرفٌ إلى إنتاج ما تسميه الصلاةُ الربّانية ( الخبز الجوهري ) .
يحوّل القصيدة إلى زادٍ روحي، زاد أخلاقي، زاد إنسانيّ، زادٍ جماليّ: زادِ حياة
( أقول: الحياة، فأشفق على الحياة. يا للكلمة الحزينة: الحياة ! يا للزاد الحزين الذي ليس بوسعه أن يسندَ جسد صانعه، ويعجزُ عن حماية شهوته الظامئة إلى الحياة! يا لزاد الموت ! ) .
حقاً الشاعرُ نسّاجُ موت. نسّاج موته. " ( 242 )

السويداء / صيف 2003

* * *
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف