الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المســـرح الثالـــث والتعامل مع التراث بقلم: د. جميل حمداوي

تاريخ النشر : 2010-06-04
المســـرح الثالـــث والتعامل مع التراث
د. جميل حمداوي

تمهيـــــد:


ظهرت نظرية المسرح الثالث في بداية الثمانينيات من القرن العشرين لتقدم تصورها النظري قصد توجيه مسرح الهواة بالمغرب نحو آفاق رحبة من التجريب والتحديث والتأسيس والتأصيل. وترتبط نظرية المسرح الثالث بالمسكيني الصغير وعبد القادر عبابو وسعد الله عبد المجيد. وترتكز هذه النظرية المسرحية على الرؤية الجدلية في التعامل مع المكان والزمان والتاريخ، وعلى تقنيات المسرح الفقير فيما يخص الممثل والمتفرج واستخدام اللغات الدرامية البصرية والمسموعة.
ومن هنا، يمكن أن نتساءل : ماهي مرتكزات المسرح الفقير؟ وكيف تعامل المسرح الثالث مع التراث؟ وماهي التقنيات الفنية والجمالية التي استخدمها للاشتغال على التراث؟

1- نشـــأة المســرح الثالــث:

جاءت نظرية المسرح الثالث مع المسكيني الصغير كرد فعل على النظرية الاحتفالية التي بشر بها زعيمها عبد الكريم برشيد . وكان أول بيان للمسرح الثالث سنة 1980م في المهرجان الواحد والعشرين لمسرح الهواة بتطوان، ويسمى ببيان تطوان. ونشر هذا البيان مرة أخرى في مجلة " المدينة " التي تصدر بالدار البيضاء، وذلك في العدد السادس، بتاريخ 06 يونيو من سنة 1981م. وقد أرفق هذا البيان بورقة تقنية تحمل اسم:" المسرح الفقير"، و ترتكز على ثلاث قواعد فنية وجمالية، وهي: العين (المتفرج)، والروح(الممثل)، والأداة(اللغات).
هذا، ويضم المسرح الثالث مجموعة من المبدعين والمؤلفين والمخرجين المسرحيين، ومن بين هؤلاء: المسكيني الصغير صاحب مسرحية:" يوم السعد والنحس في حياة هارون الرشيد"، ومسرحية:" مذكرات رجل يعرفهم جيدا"، ومسرحية:" البحث عن شهرزاد"، ومسرحية:" الجاحظ وتابعه الهيثم"، ومسرحية:" حكايات بوجمعة الفروج"، ومسرحية:" السيد جمجمة"، ومسرحية" رحلة السيد عيشور"، ومسرحية:" العقرب والميزان"، ومسرحية" سرحان" ، ومسرحية:" البحث عن رجل يحمل عينين فقط"، ومسرحية:" رجل اسمه الحلاج"، ومسرحية: " الشجرة"، وسعد الله عبد المجيد صاحب مسرحية:" زهرة بنت البرنوسي" أو " شهرزاد وراء الكانطوار" ، والتي نالت جائزة العرض المسرحي سنة 1983م،ومسرحية:" مقامات بديع الزمان الهمذاني" ، ومسرحية: " دون كيشوط يحارب مرتين"، وعبد القادر عبابو الذي أخرج مجموعة من المسرحيات مثل مسرحية:" الجاحظ وتابعه الهيثم" و" رحلة السيد عيشور" للمسكيني الصغير، ومسرحية " ثورة الزنج" للشاعر معين بسيسو، ومسرحية :" المهمة" لآرثر ميلر...
ويلاحظ أن اسم المسرح الثالث غامض وملتبس بسبب تعدد دلالاته ، فقد يدل هذا الاسم على المسرح الثالث الأنتروبولوجي كما عند المسرحي الإيطالي أوجينيو باربا، و قد يدل على العناصر الثلاثة التي ينبني عليها المسرح الثالث: المكان، والزمان، والتاريخ، وقد يدل كذلك على المنهجية الجدلية التي تتكون من ثلاثة عناصر: الأطروحة ونقيض الأطروحة والتركيب. وهذا هو الرأي الصائب حسب مفهوم ومنطوق البيان:" لا يمكن أن يتقبل المسرح الثالث تصورا بعيدا عن الفكرتين اللصيقتين بالوجود الإنساني والمرتبطتين في نفس الوقت، ضمن علاقة تحكمها معايير تصور جدلي، تؤدي ديناميته إلى ( الجديد المتميز) دائما في نطاق التعالق الدياليكتيكي بين الفكرة التلقائية (كقديم) والفكرة الضد (الجديد الداعي إلى الانتقال والانتقاد)، والفكرة الثالثة المستقرئة والمتجاوزة للفكرتين السابقتين بمعنى أن التغيير في هذا السياق هو التأصيل، والتطوير في نفس الآن، أي تجذير المشرق في الأصيل، وتجاوز القديم المتخلف، وبناء الجديد المطور نحو الأسمى.
ومن هنا، جاء مفهوم المسرح الثالث، أي جاء استبطانا واستنباطا لقانون التغيير الجدلي والقانون نفي النفي وحركيته المطورة/ الصاعدة في الزمان والمكان، والتاريخ. وهكذا، يأتي المسرح الثالث حاملا لمشروع رؤية منهجية إبداعية مسرحية حداثية، تنويرية، تجادل الإنسان في مكوناته المادية والروحية والعلائقية والتواصلية عبر تقنية المجادلة الإبداعية بين عوامل الزمان والمكان والتاريخ."
ومن هنا، فنظرية المسرح الثالث نظرية جدلية بريختية وكروتوفسكية ارتبطت بمسرح الهواة إبداعا وتنظيرا وتأليفا وإخراجا.

1- التصور النظري للمسرح الثالث:

ينبني المسرح الثالث كما وضعته جماعة المسرح الثالث على مجموعة من المقومات الفكرية والمرتكزات القضوية، والتي يمكن حصرها في المبادئ التنظيرية التالية:
* المكان: يدعو المسرح الثالث إلى الانفتاح على المكان العالمي رغبة في التعاون والتعايش والتواصل، ولكن مع حماية المكان الأصل جدليا من كل عدوان أو غطرسة أو هجوم أو استغلال:" المكان: المغربي، العربي، الأفريقي، العالمي، لأن منطق المكان، يفرض حدا أدني للتفاهم، والتعاون، والتفاعل على صعيد الوجود الإنساني، كما أن المكان هو امتداد جغرافي بالنسبة لكل قطر بجميع قيمه الروحية وإمكانياته المادية والبشرية، وهذا يعد شرطا في حماية الذات والمواجهة: مواجهة العدو أيا كان: استعماريا ، طبقيا، اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، إيديولوجيا، فكريا، ثقافيا."
*الزمان: يعني الزمان الحضور المادي الملموس في المكان أمسا وحاضرا ومستقبلا، والتفاعل مع المكون الحضاري للغير بطريقة جدلية إيجابية:" يرى هذا المسرح أن التواجد في الزمان يأتي عن طريق التلمس، الذي يعني الانتقال من الملموس إلى المحسوس، لهذا فإن الشكل والمضمون ( الحضريين) يجب أن يكون حافزا دائما في إحساس الجمهور انطلاقا من تحليل إشكالية التفاوت المادي، الذي ينعكس على موقف المكان، وهذا ينعكس بالضرورة تفاوتا في الرؤيا وتفاوتا في الموقف، الذي يحدد الحضور، في الماضي، والحاضر والمستقبل، ولا يمكن أن يكون عامل الزمان مجرد إحساس بعيد عن عملية التفاعل المكاني الحضاري. وبالتالي، فإن الزمان في المسرح الثالث، هو مقياس ومعيار لمعرفة المسرح المغربي/ العربي من وجود الآخرين حيث ينفعل، ويتفاعل، وينفي هذا الانفعال، والتفاعل، كلما وجد نفسه أمام الضد الذي ينفي عنه حركته في الزمان والمكان."
* التاريخ: يعني التاريخ في بيان المسرح الثالث الذاكرة الحية النابضة بالأحداث الدرامية والحركة الجدلية، والتي لها علاقة متينة بالحاضر:"يرى المسرح الثالث أن التاريخ حركة حية يمكن استعارتها وتشخيصها مرة أخرى، بناء على الموقف من الذات ومن الآخر، فالاستقراء التاريخي ينبني على قناعات إيديولوجية مرحلية، فليست البطولة من صنع شخص واحد، لأن الناس ليسوا على دين حكامهم، بل الحكام هم الذين على دين الناس، التاريخ في المسرح الثالث هو الحاضر، ولكن على أساس التحدي القائم، في إطار قناعات جماهيرية، فلا يمكن أن نستقرىء التاريخ من أجل التاريخ، لأن المسرح الثالث، ينفي عملية النسخ، والنقل والتلقائية، ولأنه ينفي أن يكون المسرح مجرد مسرح للطرف والملح و الغرائب، واستعراض الأمجاد الفردية."
وعلى المستوى التقني والجمالي، يرتكز المسرح الثالث على ثلاث قواعد تقنية تحيل على تأثر المسرح الثالث بالمسرح الفقير لكروتوفسكي والمسرح الثالث لأوجينيو باربا. والسبب في تبني المسرح الفقير تقنيا هو أن هذا المسرح يقوم " بإظهار وجوه التناقض بأسلوب إبداعي بسيط. ومن ثم، لايصبح العرض المسرحي حفلا يلتقي فيه الصراع ، وينتفي فيه الفقر، وهموم وأحزان الإنسان على الركح المسرحي."
وهذه التقنيات هي: العين، والروح، والأداة.
* العين: تعني العين في المسرح الثالث المتلقي/ المتفرج /المشاهد الذي يستخدم عينه لرصد العرض المسرحي الجدلي. و بالتالي، فالمسرح الثالث يستلزم تواصلا جدليا بين الملقي والمتلقي يكون قوامه الحضور والمشاركة في النقد والتموقف ، وبناء العرض المسرحي على ضوء الرؤية الجدلية البناءة والهادفة.
* الروح: يقصد بالروح الممثل الذي عليه أن يوصل العرض المسرحي إلى الآخر مهما كانت طبيعته أو مستواه الثقافي أو الاجتماعي أوالطبقي. ومن هنا، فالثالوث التقني يهدف إلى:" تبليغ العمل الدرامي إلى المتفرج- العين أي الغير أو الآخر، على أن الآخر هذا يعني مفاهيم كثيرة، فمن الممكن أن يكون الآخر: عاميا مثقفا... أمام هذه المفاهيم، وهذه العلاقات النفسانية، وجد الممثل- الروح نفسه يتعامل مع لغات مسرحية محيطة به...يتعامل مع عين وأدوات."
وعلى أي حال، فالمسرح الثالث يعتمد على تقنيات المسرح الفقير، ويقتصد في السينوغرافيا، ويتقشف في الديكورات، ويركز كثيرا على قدرات الممثل الهائلة على مستوى التشخيص الصوتي والغنائي والتشكيلي البصري والجسدي. ويكون التشخيص نابعا من رؤية ذاتية وواقعية مرتبطة بالمحيط الجدلي:" إن المسرح الثالث يرى أن الإنسان لا ينفصل عن محيط اقتصادي، فنحن عندما نتكلم أو نغني ونبكي ونرقص، فلكي نعبر عن هذا المحيط ولا نخرج عن ذواتنا، وعن واقعنا إلا إبداعيا وطبق منهجية فنية" .
وعلي العموم، فالممثل هو العنصر الأساس في المسرح الثالث على غرار نظرية المسرح الفقير لدى كروتوفسكي. فالممثل في المسرح الثالث يبدع بجسده، مثل المؤلف والمخرج:" في المسرح الفقير لا فرق بين المؤلف والممثل، الأول يؤرخ بأبجدية لغة، والثاني يوصل ويقوم بالإيصال عن طريق الحركة والإلقاء".
* الأداة: والمقصود منها اللغات المستعملة في المسرح الثالث سواء أكانت سمعية أم بصرية. ويكون المقصود بها أيضا كل أدوات وتقنيات الفرجة الشعبية والتراثية.
ويلاحظ على بيان المسرح الثالث أنه غامض من حيث الأفكار والقضايا المطروحة، والتي ترد في البيان النظري مجردة ومبهمة غير واضحة الملامح والمعالم. كما أن المسرح الثالث مسرح ماركسي جدلي لا يختلف إطلاقا عن التصور الجدلي في ورقة عبد القادر عبابو صاحب بيان المنهج الجدلي في الإخراج المسرحي. كما يبدو لنا أن المسرح الثالث قد تأثر بالمسرح البريختي ومسرح كروتوفسكي أيما تأثر كباقي النظريات المسرحية المغربية الأخرى، وقد تأثر أيضا بنظرية النقد والشهادة لدى المسرحي محمد مسكين. وهناك كذلك تأثير واضح وجلي للنظرية الاحتفالية في هذا البيان التأسيسي على مستوى المفاهيم والمبادئ النظرية.ويتجلى المشترك بينهما في الانطلاق من فلسفة التحدي والتجاوز والمواجهة، والإيمان بالواقعية والإنسانية والمشاركة الجماعية ، والتركيز على فعل التغيير والحيوية والفعل الدينامي. ولكن المختلف في كون المسرح الثالث يؤمن بالقراءة الإيديولوجية ، ويتبنى المنهج الجدلي والطريقة البريختية ، ويرفض التلقائية والعفوية.
ويرى الدكتور مصطفى رمضاني بأن المسرح الثالث قد تأثر بالاحتفالية تأثرا كبيرا إلى درجة النقل والاستنساخ، ولكن أقول لأستاذي بأن ثمة اختلافا في بعض المقولات كنفي المسرح الثالث للتلقائية والعفوية ، ورفض مبدإ الاحتفال، وتأكيد أهمية قانون الجدل في التنظير المسرحي. ومن هنا، يقول مصطفى رمضاني:" لقد بدأ التيار الاحتفالي يفرض نفسه بإلحاح داخل الوطن وخارجه، لأنه يسعى إلى خلق فلسفة جمالية تأصيلية للثقافة العربية، وللمسرح خاصة. ونظرا للمكانة التي تحتلها الاحتفالية في خريطة المسرح المغربي، فقد ظهرت محاولات تجريبية أخرى أرادت أن تتجاوز ما طرحته، إلا أنها لم تعمل غير تكرار ماذهبت إليه الاحتفالية. ولعل تجربة المسرح الثالث إحدى تلك المحاولات التي لم تستطع أن تحقق وضوحا في توجهاتها الجمالية بالرغم من كونها أخذت كثيرا من الطروحات من البيانات الاحتفالية، كما أن المحاولات الأخرى لم تتجاوز رفع بعض البيانات في بعض المناسبات الخاصة في نوع من الحياء والحذر، وأعني بتلك المحاولات ماقام به أصحاب المسرح الجديد بفاس والمسرح الفردي ومسرح المرحلة ومسرح النفي والشهادة، وهي محاولات لم تستطع أن تحيط بالخطاب المسرحي العربي/ المغربي في شموليته كما فعلت الاحتفالية."
وفعلا، لم تصمد نظرية المسرح الثالث أمام قوة الاحتفالية، وتجدد بياناتها وإبداعاتها ودراساتها العلمية الجادة التي ينشرها عبد الكريم برشيد وناقدها الدكتور مصطفى رمضاني من فينة إلى أخرى. ويعلل المسكيني الصغير عدم انتشار نظرية المسرح الثالث بقوله:" المسرح الاحتفالي منذ انطلاقه وجد مجموعة من المنابر لإيداع ونشر بياناته. لذلك، وجد ضالته سيما في مراحله الأولى . وتجربتنا نحن في المسرح الثالث كانت تنحصر في منبر واحد وهو مجلة " المدينة" ".
لكن هذا التبرير غير علمي وغير مقبول إطلاقا، فنظرية عبد الكريم برشيد لها أسس فلسفية وجمالية متينة وقوية، وأسلوب بياناتها واضح ومنطقي ومعقول. كما أن صاحبها كثير الإنتاج، وغزير الإبداع، ويساير المستجد والمستحدث.

2- موقف المسرح الثالث من التراث:

يتعامل المسرح الثالث مع التراث المغربي والعربي والإنساني والكوني كباقي النظريات المسرحية المغربية الأخرى، ولكن ليس تعاملا سلبيا قائما على النسخ والتقليد والاجترار والتلقائية، بل هو تعامل مدروس مبني على قراءة جدلية متأنية أنتروبولوجية، تنطلق من رؤية إيجابية إيديولوجية حية ونابضة بالحركة قائمة على الطرح والنفي والتركيب الجدلي. كما يخضع التراث ضمن المسرح الثالث للتموقف الفكري والسياسي والطرح الأيديولوجي. ويخضع أيضا للرؤية الواقعية التاريخية الزاخرة بالتناقضات:" المسرح الثالث مع تقنيات المسرح المتقدمة، مع أعمال مسرحية مبدعة، مثل: مقامات بديع الزمان الهمذاني، وسيدي عبد الرحمن المجذوب وغيرها، إلا أنه يناقضها في منهجية معالجتها للضد في الزمان، والمكان، والتاريخ. مادام الموضوع ينفي الحد الأدنى من فضح التناقض التاريخي، ويداعب الواقع بأساليب وهمية سطحية ، هي الأخرى تداعب خيال المتفرجين، لا تشدهم إلى واقعهم، ولا تقودهم إلى مناقشة الضد في الزمان، والمكان، والتاريخ، كأن يكون المضمون في التاريخ مغربيا ومنافيا في التاريخ، فيصبح تكريسا لمفاهيم بعيدة عن الفعل الفاعل المطور وعن التعامل الجدلي مع الضد...الخ".
هذا، ويقوم المسرح الثالث على غربلة التراث تقويما وتصحيحا، ونقده فكريا وذهنيا وفنيا وجماليا، وذلك من أجل تغييره إيجابيا وجدليا، معتمدا في ذلك على المنهج الجدلي في الإخراج والتأليف والتمثيل والتشخيص كما يطرحه عبد القادر عبابو:" المسرح الثالث يضع أمامه هدف التغيير في تعامله مع جميع النصوص المبدعة، ويعتبر هذا شرطا أساسيا في تعامله مع التراث المغربي العربي والعالمي، بناء على أدوات ورموز حضارية قابلة للتغيير والتعبير على طموحات الإنسان المغربي والمتلقي بصفة عامة. ومن هنا، فإن المسرح الثالث، يمكن له أن يتعالق مع جميع أنواع المسرح في حدود معينة أهمها: إمكانية مجادلة هذه الأنواع وتوظيفها مضمونا وإخراجا في إطار رؤيته الإبداعية . المسرح الثالث، يتصور عملية التشخيص المسرحي انطلاقا من منهج يستمد مبادئه الفنية من قانون التغيير وفضح التناقضات المتجلية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية."
ويشترط المسرح الثالث للتعامل مع التراث أن يكون التعامل فنيا وجماليا قائما على الإيحاء والترميز والانزياح؛ ، وذلك بعيدا عن التقريرية الفجة والمباشرة السطحية التي تقتل الإبداع الدرامي:" يرفض المسرح الثالث المباشرة في الطرح، والطرح البعيد عن الإطار الفني والإبداعي والمسرحي، المسرح الثالث يتعامل مع المسرح العالمي برؤية التجادل والتفاعل والتكافؤ بعيدا عن التبعية، يرفض الاستيراد المستمر، والتصدير المستمر، يؤيد الخط الإنساني التحرري في مواجهة كل أنواع الضغط والهيمنة والسطحيات، يرفض الأسلوب المداعب، كما يرفض كل تركيب لا يقترن بالحياة، ضمن جدلية الزمان والمكان والتاريخ المغربي والعربي والإنساني في نسق إبداعي."
ومن هنا، فالمسرح الثالث يقرأ التراث كما يقرأه الجابري في كتابه:" نحن والتراث"، وذلك عبر قراءة إيديولوجية تاريخية موقفية. ويعني هذا ضرورة ربط الفعل الدرامي بالواقع الجدلي المليء بالتناقضات المتنوعة كما وكيفا. كما يرفض المسرح الثالث التعامل مع التراث بطريقة سلبية جامدة قائمة على الرؤية الفلكلورية السياحية للتراث،و" ينزع في هذا الإطار إلى وسم تعامله مع الفنون الإنسانية بخاصيات التجادل والتحديث والتكافؤ والتكامل، كما ظلت تلك الفنون تخدم الإنسان وجودا وموقفا وتقدما."
وعليه، فالمسرح الثالث يتعامل مع التراث تعاملا جدليا رغبة في التجريب والتحديث والتغيير تمهيدا للتأسيس والتأصيل الإيجابي قصد تحقيق التقدم والازدهار والاستقلال الفكري الحقيقي على مستوى التحتي والفوقي. ولايمكن استيعاب هذا التراث على مستوى التلقي إلا إذا وجد الممثل الجدلي والمؤلف الجدلي والمخرج الجدلي والمتفرج الجدلي الذي يدخل في علاقة جدلية مع التراث و العرض المسرحي. كما ينبغي أن يرتبط التراث الموظف في المسرح الثالث بجدلية الماضي والحاضر، وجدلية القديم والجديد، وجدلية الأصالة والمعاصرة. ويستلزم المسرح الثالث كذلك التعامل مع الأفكار الواقعية الجدلية، مع استقراء بناها السياقية تاريخيا لفضح تناقضاتها الجدلية، وكل ذلك بغية تحديد مجموعة من المواقف تجاه القضية المطروحة. كما أن الأفعال والأحداث المسرحية لابد أن تكون أفعالا دينامكية جدلية خاضعة لقانون التناقض والكم والكيف.
هذا، ويركز المسكيني الصغير على مفهوم التثوير في التعامل مع التراث واستخدام لغة تجمع بين العربية والدارجة، وقد سماها باللغة: " العربدجية". يقول في هذا الصدد المسكيني الصغير:" فنحن في حاجة إلى تثوير فعل ثقافتنا الشعبية، تثوير الحدث الدرامي في الزمان والمكان، تثوير يعتمد في كتابته " عربدجية" راقية تحبل بحرارة الدم ، وتختصر في جسدها اللغوي العريق دفء وحساسية الإنسان المغربي، تجاه الأشياء والمحيط والواقع المعيش، فنحن في هذا التعامل نتمثل ثقافتنا المحلية والوطنية، والقومية، والإنسانية في الزمان والمكان، والتي تشكل الثقافة الشعبية الخالصة فيها أمصال مناعة ووقاية وانتماء، تميز سلوكنا في التربية والسحنة واللون، والأكل، والملبس، والمسكن، والذوق، والقيم...لكنها تبقى إزاء الثقافات الأخرى والتثاقف المفروض الحضاري، نموذجا حاضرا محترما فوق الأرض."
ويرى المسكيني الصغير في الأخير أنه لابد من القيام بدراسات أنتروبولوجية لتطوير الفرجة الدرامية عبر فرق بحث ومختبرات ومحترفات وورشات علمية وثقافية، وذلك لإغناء المسرح العربي قصد تحقيق ما يسمى بالتأسيس والتأصيل.

3- آليات التعامل مع التراث:

يعتمد المسرح الثالث على مجموعة من الآليات المسرحية للتعامل مع التراث الإنساني والكوني بصفة عامة والتراث المغربي بصفة خاصة، ومن بين هذه الآليات والتقنيات: آلية الجدل، وآلية الاستعارة، وآلية التشخيص، وآلية الارتجال، وآلية الأدلجة، وآلية النقد والغربلة الفكرية، وآلية التموقف، وآلية التغيير، وآلية الترميز، وآلية التهجين( استخدام اللغة العربدجية)، وآلية الفضح وتعرية التناقضات في الذاكرة التراثية، وذلك من خلال الاشتغال على الثقافة الموروثة ، واستعمال السيرة والحلقة والفرجة الشعبية.
كما شغل المسرح الثالث تقنية الاستخراج كما عند المسكيني الصغير في مسرحياته التراثية ، وذلك حينما ربط بين الأحداث من خلال مجموعة من الحكايات كحكاية طارق بن زياد وجنوده، وحكاية السندباد وشهرزاد الفلسطينية، واستعمل أيضا آلية المسرح داخل المسرح، وتقنية التباعد ، وآلية السخرية الكاريكاتورية، وآلية العنونة التراثية ، وآلية التجنيس التراثي على مستوى القالب بتوظيف السيرة أو الحلقة أو الحكاية أو المقامات...

تركيــب واستنتــاج:

وهكذا، نخلص إلى أن المسرح الثالث ينطلق من التصور الجدلي البريختي في التعامل مع المسرح المغربي والعربي والإنساني، وذلك بتقديم تنظير يشمل المكان والزمان والتاريخ. كما يتبنى تقنيا فنيات المسرح الفقير على مستوى التشخيص والتمثيل والرصد وتشغيل اللغات السمعية والبصرية. زد على ذلك، فالمسرح الثالث يتعامل مع التراث تعاملا إيجابيا قائما على التغيير والتثوير والنقد والتموقف الإيديولوجي، مع استعمال آلية الجدل على سبيل الخصوص من خلال الانتقال من جدلية الماضي والحاضر إلى جدلية القديم والجديد.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف