الأخبار
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأقصوصة الأولى : أبو سعدية بقلم: رضية المحرصي

تاريخ النشر : 2010-06-01
الأقصوصة الأولى : أبو سعدية

من الحكايات التي ظلت عالقة في ذهني حكاية روتها لي جدتي في صغري اعتقدت أنها من نسج خيالها

و لكن اتضح لي بعد حين أن معظم أترابي في المدرسة يعرفونها مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل.

كانت ليلة شديدة البرودة أويت فيها الى فراشي و تدثرت بغطاء صوفي ثقيل بحثا عن الدفء. جاءت جدتي كعادتها و أخدت مكانها بقربي، أسندت رأسي اليها و بدأت تخلل أصابعها الدافئة في خصلات شعري المتناثرة و استرسلت بصوتها العذب الدافئ تقص علي من روائعها:


يحكى أنه في عصر بعيد و تاريخ قديم، عندما كانت أسواق الرقيق رائجة والعبودية منتشرة كان لأحد الزنوج زوجة زنجية جميلة. كان يحبها حبا جما اذ يرى فيها سعده و سعادته و نوره وهدايته و اسمها مبروكة. تضاعف حبه لها عندما أنجبت له بنية جميلة اسمها سعدية. منذ ذلك الحدث السعيد أصبح هذا الزنجي يدعى أبو سعدية. عاش أبو سعدية عيشة راضية الى أن حدث ما لم يكن في الحسبان. عاد ذات ليلة الى بيته بعد عمل يوم شاق فلم يجد لا زوجة ولا بنية ، فداخلته الوساوس و تسارعت دقات قلبه و أظلمت الدنيا في عينيه و بدأ البحث عنهما في كل مكان حتى أدركه اليأس المميت و أصابه الحزن الشديد. ومازالت به الحيرة و الأحزان حتى أصابه الجنون. اتخذ حمارا أسود و لبس الحداد و الأطمار البالية و ضرب في الأرض هائما على وجهه لا يلوي على شيء، ينتقل من مدينة الى مدينة يسأل عن أسرته و يعدد محاسن زوجته و مازال هكذا حتى ساقته الأقدار الى مدينة في أقصى الجنوب ووقفت به الصدف أمام قصر منيف لبعض الأثرياء المنعمين و رجال الحكم المكرمين. سمعت مبروكة دق الطبول و نهيق الحمار فأطلت من الشرفة و أمعنت النظر و اذا بها تصرخ :" هذا زوجي ,هذا ابوسعدية." هبطت الدرج مسرعة و ارتمت في أحضانه تردد :" مرحبا بالزوج الوفي ." بقي أبو سعدية حائرا واجما لا يصدق ما يراه و لا يفهم ما يسمعه و لا يدري أهو في يقظة أم في منام. و مازال في دهشته حتى أقبلت سعدية تجري و تنادي: " أبي، أبي مرحبا بك" عندها رجع له رشده و تيقن أمره. أخبرت مبروكة زوجها كيف تعرضت الى الخطف هي و ابنتها و تم بيعهما في سوق الرقيق و اشتراهما صاحب هدا القصر. اخبرها أبو سعدية كيف ظل طيلة خمسة أعوام على ظهر حماره يجوب البلاد طولا و عرضا سائلا باحثا عنهما فعرفه الجميع و علم بخبره القاصي و الداني. تناهى الخبر الى صاحب القصر فأشفق عليهم و أعتق مبروكة و ابنتها و أغدق عليهم من المال الكثير. هكذا التم شمل العائلة من جديد و بقيت قصة أبو سعدية في الذاكرة والبال يرويها الكبيرالى الصغيرو يتناقلها جيل بعد جيل ليستخلصوا منها العبر ويعلموا قسوة العبودية و حلاوة الحرية و يعلموا أيضا قيمة الوفاء و الاخلاص.

أنستني حلاوة القصة لسعات البرد القارسة وسرى الدفء في كامل جسمي فاستسلمت لنوم عميق هادىء.

الأقصوصة الثانية: صابرة مجاهد

للطفل حقوق كما عليه واجبات ولكن من يبالي بحقوق هذا المخلوق الصغير؟ من يسعى لكي يضمن لهذا البريء أن ينمو نمو السنابل في الحقل أصله ثابت و فرعه في السماء؟ أ ليس من حقه الكرع من مناهل العلم و المعرفة؟ أليس من حقه العيش في أمن و أمان؟ أ ليس من حقه اللعب و اللهومع أقرانه و خلانه؟

راودتني كل هذه التساؤلات وأنا اتقلب في فراشى يمنة و يسرة. ظلت كلماتها ترن في أذني و صورتها مرسومة نصب عيني لا تفارق مخيلتي فلم أستطع الخلود الى النوم.

فوجئت بدخولها الصف صباح اليوم صحبة مديرة المدرسة قدمتها لي قائلة:" تلميذتك الجديدة صابرة مجاهد." كان وجهها يتلألأ كالبدر عليه مسحة من حزن دفين. تقدمت لتعرفني بنفسها، حيتني بشجاعة ثم أردفت :" أنا طفلة من أطفال الأرض المباركة, أنا طفلة تحمل غصن زيتونة شامخة, أنا طفلة من أرض الاسراء و المعراج, أنا طفلة من أرض فلسطين و معاناتي أكثر من رمل البحر و الطين...قريتي هي إحدى قرى فلسطين ، أهلها طيبون، بيوتها متواضعة و أشجارها يانعة. منذ نعومة أظفاري و أنا أحبها حبا جما و أرفض الإبتعاد عنها . تعودت أن أستيقظ كل صباح ، أرى أرجائها المليئة بخيوط الشمس الذهبية و أسمع صياح ديوكها و أذهب إلى مدرستي و أنا آمنة مطمئنة. أما الآن فإنني أعاني الكثير والكثير. أبي في سجون الإحتلال يقبع و بيتي تحت الأرض يدمع و إخوتي على فراش المقاومة يتألمون و أمي تبحث عن الأشجارالتي سلبت من التين و الزيتون فالوحوش تحاصرنا من كل الجهات و القصف دائم ليل نهار و القتل صار عادة يجرونها على الكبار و الصغار و الإعتقال أصبح حجة على أهل الحق و الثوار." كادت هذه الكلمات تخنقها فتوقفت هنيهة تسترجع أنفاسها ثم أكملت قائلة: "إن ذاكرتي مفعمة بالمآسي الموجعة فأختي منيرة طفلة نجيبة تدرس في الصف السابع تلقى التكريم من قبل معلماتها و زميلاتها. قلبها يحمل العديد من الأحلام الوردية و صورا تفوح بعبقها لمستقبل زاهر ينتظرها. لم تقترف ذنبا سوى أنها غادرت البيت و اتجهت الى المدرسة طلبا للعلم .اثناء عودتها كان مصيرها تلقي رصاص الغدر واللوم. سقطت على الأرض و خرج شلال الدم الدافق باتجاه الأرض العطشى فآستقبلها القمر و كفنها الليل و تراقصت عيون النجوم لاستقبال روحها الطاهرة. خاف أهلي أن يكون مصيري كمصيرها فأرسلوني عندكم لأتم تعليمي."

بدأت عيني تذرف الدمع بغزارة كأنه ينبوع نهر لكنه مالح مر. ضممتها لأساند حياتها و طفولتها المجروحة و قلت لها محاولة التخفيف عنها: "أنت فتاة شجاعة و الشجاعة هي التبسم وقت الشدائد و التفاؤل رغم المحن و الأمل رغم الضياع. كوني اسما على مسمى فأنت صابرة مجاهد. تحلي بالصبرو جاهدي المحن فدوام الحال من المحال. لاتحزني و لا تيأسي. هاأنت بيننا بين الحضن الدافىء و الصدر الحنون فمأساتك مأساتنا و بلادنا بلادك. والليل مهما طال لا بد أن ينجلي و القيد مهما انحسر لا بد أن ينكسر. ستعودين يوما ما إلى بيتك الجميل و حضن أمك الدافىء و شعبك الجريح مدججة بالعلم فهو أقوى سلاح تحمله معك و أجمل هدية تطيبين بها خاطروالديك. تأكدي أن تحرير فلسطين ليس وهما ولا حلما بل هو حقيقة، حقيقة آتية... "

تناهى الى مسمعي أذان الفجر فانتفضت من فراشى ولم يغمض لي جفن. أديت صلاتي و تأبطت حقيبتى و انطلقت نحومدرستي أنتظر قدوم صابرة مجاهد و قد عزمت على أمر ما.



اعداد: راضية علية المحرصي
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف