متحف ضد الرصاص
ليلة شتوية مظلمة ، و مطر خرافي يزداد ، و سيارة الشاب عبد العزيز ، تشق الشوارع القديمة غير المرصوفة ، و هو يتساءل ما الذي ألقى في عقلي هذه الفكرة المجنونة ، فكرة زيارة الدور القديمة ، في مثل هذا الجو العاصف ! ؟
توقفت سيارته ، حاول إصلاحها ، و إدارة محركها عبثا ، تطلع حوله ، فوجد نفسه أمام دار متهالكة ، تصفق الرياح نوافذها ، فهرب إليها راكضا ، و دفع الباب القديم ، فكاد يقع لولا أن أسنده و أعاده لموضعه ، و هو يردد :
- متى يتوقف هذا المطر ؟
وقف عبد العزيز مرتجفا ، فسمع صوتا نسويٍا ساخرا :
- كيف دخلت إلى هنا ؟ أليس لبيوت الناس حرمة ؟!
اقشعر بدنه ، و تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فردت :
- و هل النشامى يخافون ؟! أو تظنني جنية ؟ أين ثبات الرجال و قوة قلوبهم ؟ هل يرتجفون لصوت عجوز رجلها في القبر ؟
قال بوجل ، يعتذر عن دخوله بلا استئذان :
- آسف جدا يا خالة ..... آسف ، أنا مجرد عابر سبيل ، اشتد سقوط المطر ، فلم أعد أتبين الطريق ، و تعطلت سيارتي ، فلجأت لهذه الدار ، و لم أتوقع بها أحداً .
صارت تكلم نفسها بصوت مسموع :
- ياه ...... كم حدثوني عن الرجال و قلوبهم الشجاعة ، خمسون سنة و أنا هنا ..... في هذا القبر الرطب ، أسمع عن الرجال و لا أراهم .... هل أنت رجل !!
هل من حقي أن أسأل هذا السؤال ؟ ربما من الأفضل لو أستشير أوجاعي و تحفي ، ربما لم أكن بحاجة إلى رجل ، ربما كنت بحاجة لأسد خرافي يحميني ، و رضيع صغير يمنحني الحب و الحنان ..... ربما أحتاج ....
- ما الذي تهذين به ؟ رجل ، و أسد ، و قبر رطب ... هل أنت مجنونة فرت من المستشفى ، فاختبأت في هذه الدار المتهالكة ؟ ما الذي يبقيك هنا في هذا الوقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- متحف ضد الرصاص : القصة الفائزة في مسابقة ( راشد بن حميد الثقافية ) ، في مجال : القصة القصيرة ، عام : ( 1999 م ) .
- هذيان !؟ أنا أهذي !؟ أنا مجنونة ... الجنون أمر خيالي ، و الحقيقة أنني ميتة ..... أنا جثة و هذه آثار الرصاص في بدني كله .
- أنت أذن شبح لضحية مقتولة ....... يا الله ... أن حديث الأموات يفزعني ، لطالما
قرأت في خرافات العرب عن أشباح القتلى التي تخرج من القبور طالبة الثأر !!!
يا الله ... هل تتكلم الأشباح ؟! أنا .. أنا لست قاتلك ... أنا أخاف حتى أن أقتل نملة ... صدقيني بالله عليك !
- لا ترتجف يا رجل ... أنت لست قاتلي فعلا ... أتدري من قتلني ؟ !
- من ... من قتلك ؟
رأته أمامها – عبر منظار الذاكرة – عملاقا يرتدي الغلظة ، و يلتحي القسوة ، فانزوت بمشاعرها في أحد الجحور كفأر صغير ، انطلقت ضحكات هستيرية من جوفها ، و رفعت صوتها مقلدة صوت رجل :
- أنا ابن الأكابر ، لا أصاهر ، إلا ابن أكابر ، ابنتي قمر لا يكافئها إلا نجم ، و لم يتبق في السماء نجوم .
هتفت و نبرة الحزن تصاحب صوتها :
- أين أنت الآن يا بن الأكابر سكنت التراب ... و تركتني في هذا القبر الدنيوي .
- ما الذي تهذين به ! أشعر بغموض يلفك كظلام هذه الليلة ، أنت و دارك الموحشة ترعبانني .
- و هل هذه الليلة مظلمة ؟ لقد رأيت ليالي أشد و أحلك ظلاما ، ثم أنك لا تعرف ما الرعب ، لا بد أنك مجرد شاب مدلل ضل الطريق أثناء ذهابه للتسلية في مدينة الملاهي .
تأملها جيدا ، هي لا بد أنسية ، في نحو الخمسين ، يغطيها السواد من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها ، تتحرك حركات بطيئة محسوبة ، بين عدة أدوات أثرية : مرش ، و مدخن ، و دلة قهوة ، و صقر محنط ، و سيف صدئ قد اهترى غمده ، خلفها حائط في وسطه شرخ عظيم ، مشوه بثقوب هائلة مخيفة كأنها آثار طلقات للرصاص .
رفعت يديها ماسحة دمعة ، فظهرت خروق في ثوبها الأسود ، و اتضحت معالم وجهها الذي تغزوه التجاعيد المخيفة .
- أنك إنسانة حية ، و لست بجنية أو شبح ميت ، كما أنك لست بمجنونة ، فما الذي يبقيك في هذه الدار المتداعية الباردة ؟ أنها أشد برودة من الخارج حيث هواء الشتاء القارس ، و ما هذه الأشياء التي تحوطك ؟
- ألا تراها !! هي تحف من بقايا أوتاد الأرض ... من بقايا الأكابر ، أنا جزء منها ، و أنا أيضا من بقاياهم ، جزء من تراثهم العريق .
- تقصدين تحفة .
- بالضبط و مكاني في هذا المتحف التراثي العظيم !
- لا أصدق ما أرى .... أحسب نفسي دخلت دارا غير مأهولة ، لا ... لا ... ليس هذا هو المتحف ، للمتحف حراس و باب ضخم .
تأمل عينيها المنطفئتين ، كأنهما فحمتان خامدتان ، وسط الظلام الحالك ، الذي يجثم على المكان ، و ردد كالمهووس :
- إذا كنت لا أتحدث مع جني ، أو شبح ، أو سيدة مجنونة ، فبالله من أنت ؟
- ألا تفهم ما قلت لك أنا تحفة أثرية ، منذ ما يقرب الخمسين عاما ، وضعوني هنا لأبقى تحفة للدار ، و رمزا لبقاء الآثار ،كتبوا على لوح وضعوه عند أقدامي : ممنوع اللمس .. ممتلكات خاصة .
ثم ذهبوا ، و هم يؤكدون أنني لابد أن أظل الزينة الأبدية للمتحف العريق ، و أن أقاوم التبدل و التغير و عوامل الزمن .
- و أين الذين دفنوك ؟
- غادر أبي منذ عشرة أعوام ، و شيعت نعشه بدعائي عليه : ( لا سامحك الله على ما حنطني ) .
- و أخوتك ؟
- غادر بعضهم إلى التراب ، و بعضهم إلى القصور المجاورة ، و هم ما يزالون مصرين على أن أدفن هنا في موضع ولادتي .
- و لم لا تعيشين معهم في قصورهم ؟
- و لمن أترك المتحف الأثري .... لقد أرادوني هنا ... و لا بد أن أبقى هنا ...... فأنا باسم العتاقة و الشرف تحفة .
- ذنبهم عظيم .
- ذنبهم ... و هل يذنبون ؟ أنا ذنبهم الوحيد ، و لهذا استحققت الدفن هنا .
- طريقة تفكيرهم متخلفة ... ستهدمك ، بل ستقتلك .
- تقصد قتلتني و انتهى الأمر ، مرت السنون الماضيات ، و أنا أتمنى قلب أسد ،و لكني لم أجد أحدا ، و لم أجد قلب أسد قوي يحميني رصاص الزيف و أوهام العرق الأصيل ، صدقوا أكذوبة صنعوها ، و خافوا من السيف الجاهلي فحنطوني هنا ، أذرف الدموع ليل نهار ، و يرفرف قلبي كجناحي طير ذبيح ، و يزداد النحيب ، فأموت ألما و يأسا ، و أبقى مجرد شبح ميت لتحفة ذابلة تهذي كالمجنونة ، لا .... لم يحنطوني ، بل قتلوني .... نعم قتلوني ...... برصاص متعصب ... وما تزال آثار الجريمة المشروعة باقية في نفسي و ثوبي و متحفي ، جسدي و نفسي حطام ،و عفن الجاهلية يملأ المتحف البغيض بالرائحة النتنة .
غرقت في مقاطع حزينة من البكاء ، و هي تسترجع كل ما مر بها ، تطلع حوله .... أخذته فجأة نوبة من الغضب لحالها ، و حال المكان البائس الذي تعيش فيه ... فأخذ يدفع كل ما يجده أمامه بغضب ، و كسر الأشياء القديمة ، أخرج قداحة قديمة من جيبه و أشعلها .
كانت آهاتها تتقطع ، و هي تحاول التوقف عن البكاء ، صرخ :
- لقد بكيت كثيرا ، و حان الوقت الآن لتكفي ... إن متحفك : ليس ضد الرصاص .
- ليس بمتحفي .
- متحف أهلك ليس ضد الرصاص .
- ليس بمتحفهم .
- متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص .
و افقته مرددة بهدوء :
- متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص .
أخذ عودين فأشعلهما ، و قدم لها أحدهما ، و هو يقول :
- خذي أن سنن الله في كونه مليئة بالحلول الطيبة .
- النور يؤلم عيني .
- ستعتادينه .
أضرم النار في الأدوات القديمة ، و الدار المتهالكة .
- ما الذي تفعله ؟
- سأحرق بقايا الجاهلية ، سنن الله و قوانينه فوق كل تعصب .
- و لكنك إذا أحرقتها ، أحرقتني معها ، أنا تحفة رسمية للأصول العريقة ، و الدماء الشريفة .
- و من ينقص مقدارك ، إلا هذا الحديث الفارغ .
صرخ فيها ، و هو يرى النيران تحرق المكان :
- أخرجي من هذا المكان ؟
تحركت بوجل نحو الباب ، ترددت ، و عاودت الدخول :
- لكن مطر الشتاء سيطفئ شعلتي .
صرخ بقوة أكبر :
- أخرجي من هنا ، و إلا ستأكلك النيران .
وقفا بعيدين ، يراقبان المتحف البائس تأكله النيران ، و قال :
- ستشرق الشمس بعد قليل ، سنة الله باقية في أرضه ، هو العدل لا يرضى بالظلم ، أضاء برقه ، و اشتد مطره ، ليجئ بي إلى متحفك المزيف ، فانتشلك منه ........
متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص.
ليلة شتوية مظلمة ، و مطر خرافي يزداد ، و سيارة الشاب عبد العزيز ، تشق الشوارع القديمة غير المرصوفة ، و هو يتساءل ما الذي ألقى في عقلي هذه الفكرة المجنونة ، فكرة زيارة الدور القديمة ، في مثل هذا الجو العاصف ! ؟
توقفت سيارته ، حاول إصلاحها ، و إدارة محركها عبثا ، تطلع حوله ، فوجد نفسه أمام دار متهالكة ، تصفق الرياح نوافذها ، فهرب إليها راكضا ، و دفع الباب القديم ، فكاد يقع لولا أن أسنده و أعاده لموضعه ، و هو يردد :
- متى يتوقف هذا المطر ؟
وقف عبد العزيز مرتجفا ، فسمع صوتا نسويٍا ساخرا :
- كيف دخلت إلى هنا ؟ أليس لبيوت الناس حرمة ؟!
اقشعر بدنه ، و تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فردت :
- و هل النشامى يخافون ؟! أو تظنني جنية ؟ أين ثبات الرجال و قوة قلوبهم ؟ هل يرتجفون لصوت عجوز رجلها في القبر ؟
قال بوجل ، يعتذر عن دخوله بلا استئذان :
- آسف جدا يا خالة ..... آسف ، أنا مجرد عابر سبيل ، اشتد سقوط المطر ، فلم أعد أتبين الطريق ، و تعطلت سيارتي ، فلجأت لهذه الدار ، و لم أتوقع بها أحداً .
صارت تكلم نفسها بصوت مسموع :
- ياه ...... كم حدثوني عن الرجال و قلوبهم الشجاعة ، خمسون سنة و أنا هنا ..... في هذا القبر الرطب ، أسمع عن الرجال و لا أراهم .... هل أنت رجل !!
هل من حقي أن أسأل هذا السؤال ؟ ربما من الأفضل لو أستشير أوجاعي و تحفي ، ربما لم أكن بحاجة إلى رجل ، ربما كنت بحاجة لأسد خرافي يحميني ، و رضيع صغير يمنحني الحب و الحنان ..... ربما أحتاج ....
- ما الذي تهذين به ؟ رجل ، و أسد ، و قبر رطب ... هل أنت مجنونة فرت من المستشفى ، فاختبأت في هذه الدار المتهالكة ؟ ما الذي يبقيك هنا في هذا الوقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- متحف ضد الرصاص : القصة الفائزة في مسابقة ( راشد بن حميد الثقافية ) ، في مجال : القصة القصيرة ، عام : ( 1999 م ) .
- هذيان !؟ أنا أهذي !؟ أنا مجنونة ... الجنون أمر خيالي ، و الحقيقة أنني ميتة ..... أنا جثة و هذه آثار الرصاص في بدني كله .
- أنت أذن شبح لضحية مقتولة ....... يا الله ... أن حديث الأموات يفزعني ، لطالما
قرأت في خرافات العرب عن أشباح القتلى التي تخرج من القبور طالبة الثأر !!!
يا الله ... هل تتكلم الأشباح ؟! أنا .. أنا لست قاتلك ... أنا أخاف حتى أن أقتل نملة ... صدقيني بالله عليك !
- لا ترتجف يا رجل ... أنت لست قاتلي فعلا ... أتدري من قتلني ؟ !
- من ... من قتلك ؟
رأته أمامها – عبر منظار الذاكرة – عملاقا يرتدي الغلظة ، و يلتحي القسوة ، فانزوت بمشاعرها في أحد الجحور كفأر صغير ، انطلقت ضحكات هستيرية من جوفها ، و رفعت صوتها مقلدة صوت رجل :
- أنا ابن الأكابر ، لا أصاهر ، إلا ابن أكابر ، ابنتي قمر لا يكافئها إلا نجم ، و لم يتبق في السماء نجوم .
هتفت و نبرة الحزن تصاحب صوتها :
- أين أنت الآن يا بن الأكابر سكنت التراب ... و تركتني في هذا القبر الدنيوي .
- ما الذي تهذين به ! أشعر بغموض يلفك كظلام هذه الليلة ، أنت و دارك الموحشة ترعبانني .
- و هل هذه الليلة مظلمة ؟ لقد رأيت ليالي أشد و أحلك ظلاما ، ثم أنك لا تعرف ما الرعب ، لا بد أنك مجرد شاب مدلل ضل الطريق أثناء ذهابه للتسلية في مدينة الملاهي .
تأملها جيدا ، هي لا بد أنسية ، في نحو الخمسين ، يغطيها السواد من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها ، تتحرك حركات بطيئة محسوبة ، بين عدة أدوات أثرية : مرش ، و مدخن ، و دلة قهوة ، و صقر محنط ، و سيف صدئ قد اهترى غمده ، خلفها حائط في وسطه شرخ عظيم ، مشوه بثقوب هائلة مخيفة كأنها آثار طلقات للرصاص .
رفعت يديها ماسحة دمعة ، فظهرت خروق في ثوبها الأسود ، و اتضحت معالم وجهها الذي تغزوه التجاعيد المخيفة .
- أنك إنسانة حية ، و لست بجنية أو شبح ميت ، كما أنك لست بمجنونة ، فما الذي يبقيك في هذه الدار المتداعية الباردة ؟ أنها أشد برودة من الخارج حيث هواء الشتاء القارس ، و ما هذه الأشياء التي تحوطك ؟
- ألا تراها !! هي تحف من بقايا أوتاد الأرض ... من بقايا الأكابر ، أنا جزء منها ، و أنا أيضا من بقاياهم ، جزء من تراثهم العريق .
- تقصدين تحفة .
- بالضبط و مكاني في هذا المتحف التراثي العظيم !
- لا أصدق ما أرى .... أحسب نفسي دخلت دارا غير مأهولة ، لا ... لا ... ليس هذا هو المتحف ، للمتحف حراس و باب ضخم .
تأمل عينيها المنطفئتين ، كأنهما فحمتان خامدتان ، وسط الظلام الحالك ، الذي يجثم على المكان ، و ردد كالمهووس :
- إذا كنت لا أتحدث مع جني ، أو شبح ، أو سيدة مجنونة ، فبالله من أنت ؟
- ألا تفهم ما قلت لك أنا تحفة أثرية ، منذ ما يقرب الخمسين عاما ، وضعوني هنا لأبقى تحفة للدار ، و رمزا لبقاء الآثار ،كتبوا على لوح وضعوه عند أقدامي : ممنوع اللمس .. ممتلكات خاصة .
ثم ذهبوا ، و هم يؤكدون أنني لابد أن أظل الزينة الأبدية للمتحف العريق ، و أن أقاوم التبدل و التغير و عوامل الزمن .
- و أين الذين دفنوك ؟
- غادر أبي منذ عشرة أعوام ، و شيعت نعشه بدعائي عليه : ( لا سامحك الله على ما حنطني ) .
- و أخوتك ؟
- غادر بعضهم إلى التراب ، و بعضهم إلى القصور المجاورة ، و هم ما يزالون مصرين على أن أدفن هنا في موضع ولادتي .
- و لم لا تعيشين معهم في قصورهم ؟
- و لمن أترك المتحف الأثري .... لقد أرادوني هنا ... و لا بد أن أبقى هنا ...... فأنا باسم العتاقة و الشرف تحفة .
- ذنبهم عظيم .
- ذنبهم ... و هل يذنبون ؟ أنا ذنبهم الوحيد ، و لهذا استحققت الدفن هنا .
- طريقة تفكيرهم متخلفة ... ستهدمك ، بل ستقتلك .
- تقصد قتلتني و انتهى الأمر ، مرت السنون الماضيات ، و أنا أتمنى قلب أسد ،و لكني لم أجد أحدا ، و لم أجد قلب أسد قوي يحميني رصاص الزيف و أوهام العرق الأصيل ، صدقوا أكذوبة صنعوها ، و خافوا من السيف الجاهلي فحنطوني هنا ، أذرف الدموع ليل نهار ، و يرفرف قلبي كجناحي طير ذبيح ، و يزداد النحيب ، فأموت ألما و يأسا ، و أبقى مجرد شبح ميت لتحفة ذابلة تهذي كالمجنونة ، لا .... لم يحنطوني ، بل قتلوني .... نعم قتلوني ...... برصاص متعصب ... وما تزال آثار الجريمة المشروعة باقية في نفسي و ثوبي و متحفي ، جسدي و نفسي حطام ،و عفن الجاهلية يملأ المتحف البغيض بالرائحة النتنة .
غرقت في مقاطع حزينة من البكاء ، و هي تسترجع كل ما مر بها ، تطلع حوله .... أخذته فجأة نوبة من الغضب لحالها ، و حال المكان البائس الذي تعيش فيه ... فأخذ يدفع كل ما يجده أمامه بغضب ، و كسر الأشياء القديمة ، أخرج قداحة قديمة من جيبه و أشعلها .
كانت آهاتها تتقطع ، و هي تحاول التوقف عن البكاء ، صرخ :
- لقد بكيت كثيرا ، و حان الوقت الآن لتكفي ... إن متحفك : ليس ضد الرصاص .
- ليس بمتحفي .
- متحف أهلك ليس ضد الرصاص .
- ليس بمتحفهم .
- متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص .
و افقته مرددة بهدوء :
- متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص .
أخذ عودين فأشعلهما ، و قدم لها أحدهما ، و هو يقول :
- خذي أن سنن الله في كونه مليئة بالحلول الطيبة .
- النور يؤلم عيني .
- ستعتادينه .
أضرم النار في الأدوات القديمة ، و الدار المتهالكة .
- ما الذي تفعله ؟
- سأحرق بقايا الجاهلية ، سنن الله و قوانينه فوق كل تعصب .
- و لكنك إذا أحرقتها ، أحرقتني معها ، أنا تحفة رسمية للأصول العريقة ، و الدماء الشريفة .
- و من ينقص مقدارك ، إلا هذا الحديث الفارغ .
صرخ فيها ، و هو يرى النيران تحرق المكان :
- أخرجي من هذا المكان ؟
تحركت بوجل نحو الباب ، ترددت ، و عاودت الدخول :
- لكن مطر الشتاء سيطفئ شعلتي .
صرخ بقوة أكبر :
- أخرجي من هنا ، و إلا ستأكلك النيران .
وقفا بعيدين ، يراقبان المتحف البائس تأكله النيران ، و قال :
- ستشرق الشمس بعد قليل ، سنة الله باقية في أرضه ، هو العدل لا يرضى بالظلم ، أضاء برقه ، و اشتد مطره ، ليجئ بي إلى متحفك المزيف ، فانتشلك منه ........
متحف الجاهلية و التعصب ليس ضد الرصاص.