د . كريم عبيد
المقدمة :
ها يوسف جديد .. !!
والرؤيا تقوده إلى المجهول .. أحد عشر كوكباً والشمس والقمر !؟
فضاء ينفتح على اللاوعي / الحلم / الآتي / الغياب ... في تحدٍّ مباشر للواقع المسيَّج بأخوة غرباء ..
- قميص للدم , يطوي الحكاية في البئر ..
- قميص للذة , يطوي الحكاية في السجن ..
- قميص للشفاء , يعيد النور إلى عينين تنتظران ..
غياب ... غياب ... حضور ...
وها هي أندلس جديدة .. !!
أندلس الحقيقة طوتها خمسمئة عام من الغياب ..
صوت الخيول العربية , وهي تهاجر جنتها , ما زال يحفر في الوجدان
العربي , أجمل قصة عاشها العرب .. لقد انطفأ آخر الأقمار , وهيمن عليها ليل طويل ..
يوسف / الأندلس : العمر الذي سفحته المنافي على عتبات غربتها , ها هو الآن يستعيد حزنه وغيابه في فلسطين , التي تنزف على شرفات العروبة , وهزائهما المستمرة ..
ومحمود درويش يوسف جديد يقف على أطلال أندلس , ليبكي حزنه الممتدّ خمسمئة عام من الهزيمة ... والمفارقة أن العدّو له وجهان :
- عدوٌّ سافر يترقّب لحظة الضعف للانقضاض على ما بقي من الفريسة ...
- وعدوٌّ متخفٍّ بأقنعة الأخوّة والصداقة , ليأخذ حصّته مما بقي , أو ليحافظ على نفسه من جوع الآخر ...
أحد عشر كوكباً ديوان يتمرأى فيه الشعر تحت أقنعة الغياب , ليكشف غياب الحاضر الحقيقيّ , وسقوط كلّ الأقنعة المزيفة ...
يبدأ الديوان بمجموعة قصائد تندرج تحت عنوان كبير هو / أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسيّ / تتوزع على إحدى عشرة قصيدة , تمثل حالة الضياع الفلسطيني / العربي التي يعيشها الشاعر , وخيبة أمله من واقع عربيّ , سلَّم كل أسلحته , ليرزح تحت وطأة معاهدات خاسرة , تثبت واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ...
بينما نجد القسم الثاني من الديوان , يتوزّع على خمس قصائد طويلة هي :
/ خطبة الهندي الأحمر .. , حجر كنعاني في البحر الأحمر , سنختار سوفوكليس , شتاء ريتا , فرس للغريب / ..
تصور القصائد الأربع الأولى حواراً شفافاً يديره الشاعر , بين الأنا
والآخر , في عملية بحث عن الهوية , وإثبات الذات الضائعة , فهو واقع الصراع العربي الإسرائيلي , وبينما تأتي القصيدة الأخيرة رثائية حزينة لشاعر
عراقي ...
ولماذا اخترت / شتاء ريتا / ؟
• لأنها تصور حالة شعرية شديدة الإيحاء , تدور في مناخ من الحبّ
المأزوم , الذي تتناوشه غربتان :
- غربة الشاعر أمام ذاته المحترقة , حيث لا يركن إلى حضن دافئ حتى تتلقفه المنافي , وتشرّده الدروب ...
- غربة الشاعر أمام الآخر / الحبيبة اليهودية / ريتا / التي أصبحت إحدى مكونات ذاكرة الحب والصراع في تجربة محمود درويش ...
• لأنها تحمل في بنيتها ملامح مسرحية , تقوم على السرد والحوار والشخصيات والحدث والعقدة ... إلخ .
• لأنها قصيدة تكسر طابع الجمود العربي في التعامل مع الآخر /
العدو , هذا الذي أصبح واقعاً قسرياً ...
* *
تراسل حيّ بين المسرح والقصيدة :
( إنني مشبع بالرغبة في كتابة مسرحية شعرية ) محمود درويش
لعلّ هذا القول يدعونا لدراسة شعر محمود درويش , وفهمه مسرحيا ً , لأنّ أكثر شعره يحمل أصولا ً مسرحية ودرامية ..
فإذا دخلنا إلى عالم قصيدته / شتاء ريتا / نجد أن الشاعر يحاول أن يبني قصيدته على أرضية مسرحية درامية , لكي يشدّ إليها المتلقي , ويجعله يتابع حتى النهاية.
وتقوم القصيدة على مجموعة مشاهد مرئية , تتطوّر بشكل تصاعديّ متوهج يضع المتلقي في لحظات القصيدة المتأزمة , ليعيش أحداثها بشكل ملموس , ويطلق خياله للدخول إلى عالم القصيدة المتخيّل , ليصل في النهاية إلى عالم الحقيقة الواقع من خلال هذه اللذة المزدوجة , التي تتكوّن لديه نتيجة لهذا النقل المسرحي فهو يتذوق القصيدة مسرحياً بعينيه , وشعرياً بأذنيه , فيعيش بكامل كيانه تجربة حيّة مع الشعر .
تتوزّع القصيدة على ثمانية مشاهد , يقدّم لنا كلّ مشهد منها إدراكا ً جزئيا ً مرتبطا ً بالناظم العام للقصيدة , لنخلص في النتيجة بإدراك أعمق وفهم أشمل للحركة الكلية للحامل المحوري للقصيدة .
في المشهد الأول يحاول الشاعر إحالتنا على المكان , الذي تكوّنت فيه تجربة الشاعر , وهو غرفة , ولكن معالمها غير محدّدة تماما ً , وكلّ ما
نعرفه منها أنها تحتوي على سرير وكرسيّ وشباك , وهذا يوحي أن هذه الغرفة , قد تكون غرفة في فندق , على شاطئ البحر , التقى به الشاعر مع حبيبته / ريتا ... يقول :
" ريتا ترتِّب ليل غرفتنا : قليلُ
هذا النبيذُ
وهذه الأزهار أكبرُ من سريري
فافتح لها الشبَّاك كي يتعطر الليل الجميلُ " ( 7 )
ولعلّ قوله في المقطع الرابع يؤكد هذا :
" .. يأخذنا الرحيلُ ..
في ريحه ورقا ً ويرمينا أمام فنادق الغرباء
مثل رسائل قرأت على عجل .. " ( 8 )
ويسيطر على هذا المشهد صوت أحاديّ , هو صوت ريتا . ويحاول الشاعر أن يخبرنا أن اللقاء بينهما , هو لقاء جنسيّ , ولكنه ينطلق من حدود الرغبة المجردة في المتعة الجنسية إلى فضاء أوسع , هو الحبّ الكونيّ , الذي يتوضّح بقول ريتا :
" .. هل لبست سواي ؟ هل سكنتك امرأة
لتجهش كلما التفـّت على جذعي فروعك ؟
تخلفه العواصف والسيولُ
مني ومنك .. " ( 9 )
فقوله بلسان ريتا : / لتجهش كلما التفت على جذعي فروعك , وحكّ لي
قدمي .. / تعبير عن ظاهر العملية الجنسية . بينما قوله : / وحكّ دمي / تعبير عن باطن هذه العملية التي أشار إليها بقوله : / العواصف والسيول / .
ويتلاقى هذا المشهد مع المسرح بنقطة أساسية , هي أن المشهد الأول من المسرحية يقدّم لنا معالم المكان الذي تجري فيه الأحداث , وذلك على لسان راويها , أو إحدى شخصياتها , ويقودنا إلى أوّل الطريق لمعرفة الحدث الرئيسي في المسرحية ..
ولو انتقلنا إلى المشهد الثاني , حيث يبدو أكثر توهجا ً وتكثيفا ً من سابقه , ويلعب فيه السرد دورا ً أساسيا ً , ويأتي على لسان الباثّ / الشاعر , ويحاول هنا وصف العملية الجنسية بأسلوب تصويري رائع , معتمدا ً على رموز جنسية , منها ما هو صريح , ومنها ما هو خفيّ مثل :
/ حديقة جسمها , توت السياج على أظافرها , نام عصفوران تحت يدي , أشعة صدرها العاري , القميص الفستقي .. إلخ . /
وفي هذا المشهد يكمن الحدث البدائي , ويأخذ أبعاده الأولى التي سيتكئ عليها الشاعر للانتقال إلى بؤرة القصيدة ومحورها الأساسي .. ولعله في
قوله :
" .. هدأ الصهيلُ
هدأت خلايا النحل في دمنا , فهل كانت هنا
ريتا وهل كنا معا ً .. " ( 10 )
يصور بلوغ الذروة في العملية الجنسية / هدأ الصهيل , هدأت خلايا
النحل .. / ولعلّ هذا الاستفهام في قوله / فهل كانت هنا ريتا وهل كنا
معا ً ؟ / يخرج إلى معنى الاستغراب والإنكار الذي يتخذه الشاعر أساسا ً للانتقال المنطقي للمشهد التالي ..
ولعلّ الشاعر في هذا المشهد يبتعد قليلا ً عن أصول الفنّ المسرحيّ , ويقترب كثيرا ً من فنّ الرسم , لكنه هنا يستخدم أدواته الخاصة به , وهي اللغة , ويعمد إلى تراسل حيّ بين الرسم والقصيدة في هذا المشهد . فهو يدرك بدقة انعكاسات الألوان , وأبعادها فنجد مثلا ً :
/ توت السياج الأحمر , ووردة حمراء , أشعة الصدر , عتمة الذهب , الليل والقميص الفستقي ... إلخ . /
فاللوحة الشعرية عامرة بالألوان , وقد تكون هنا أجمل منها لو كانت
في لوحة , لأنها في هذا المجال كما يذهب د . فهد عكّام , تقدّم متعة مزدوجة : بصرية تأتي من مشاهدة اللوحة في القصيدة , ومتعة نفسية من قراءة الشعر . ( 11 )
فكثرة الرموز التصويرية في المشهد تذهب بنا إلى ما ذهب إليه سيجموند
فرويد , في تحليله للحلم , حيث يقول : " الحلم يستخدم الرموز من أجل تصوير أفكاره الكامنة تصويرا ً مقنعا ً " ( 12 )
فالشاعر يعيش حالة شبيهة للحلم , ولعل تساؤله في آخر المشهد يوضح هذا أكثر , فهو يستنكر ما حدث , وكأنه حلم صحا منه على خطوات ريتا الراحلة في المشهد الثالث ..
ففي المشهد الثالث تتوضح معالم الشكل الكلي للقصيدة , وبالتالي تجربة الشاعر الحيّة .. ويبدأ المشهد هنا بشكل إخباريّ : / ريتا سترحل .. / ولكن سرعان ما ينتقل إلى الحوار الحقيقي الذي يشكل هيكلا ً أساسيا ً
في بناء القصيدة , لأن الشاعر يملك من مقوماته الشيء الكثير . وهذا ما أشار إليه الناقد رجاء النقاش في دراسته المتقدمة عن محمود درويش حيث قال : " من ناحية أخرى نجد أن محمود درويش في مرحلته الفنية الجديدة , كثيرا ً ما يعتمد على الحوار , ونحن نجد في شعره في كثير من الأحيان صوتين يسيطران , لا صوتا ً واحدا ً وهذان الصوتان يكشفان دائما ً عن قدرة مسرحية " ( 13 )
ويشكل الحوار في هذا المشهد الصراع الأساسي الذي تقوم عليه القصيدة بشكل عام : الحرب / السلام , الإنسان / القنبلة , لنرَ ما تقول :
" أين سنلتقي ؟
سألت يديها , فالتفت إلى البعيد
البحر خلف الباب , والصحراء خلف البحر , قبّلني على
شفتيّ قالت – قلت يا ريتا أأرحل من جديد
ما دام لي عنب وذاكرة وتتركني الفصولُ .. " ( 14 )
فالاستفهام / أين سنلتقي ؟ / يدلّ حتما ً على أنهما مفترقان لا محالة , فماذا كان الجواب / البحر خلف الباب والصحراء خلف البحر .. / أي إن اللقاء سيصبح مستحيلا ً , ولكن صوتها يأتي متمردا ً بقولها : / قبّلني على شفتيّ
قالت .. / أي أنها تريد أن تعيش هذه اللحظة الحالمة حتى آخرها .. فريتا تدعو الشاعر لأن يتابع هذا العناق , الاتحاد / التمرد , على واقع الانفصال بين البشر , على واقع الصراع المرير الذي يتجلى في الحوار التالي , بشكل أعمق وأشدّ وضوحا ً يقول :
" لا شيء . يا ريتا أقلـّد فارسا ً في أغنية ْ ...
عن لعنة الحبّ المحاصر بالمرايا ...
- عني .. ؟
- وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان , فواحد
يستلّ سكينا ً وآخر يودع الناي الوصايا .. " ( 15 )
الحبّ يمثـّل إنسانية الشاعر , والمرايا تمثل الواقع الإشكالي والصراع الدامي بين الفلسطينيين واليهود , ويؤكد هذه الثنائية الصراعية قوله : " واحد يستلّ سكينا ً / وآخر يودع الناي الوصايا " الصراع / الحب , الحرب / السلام ..
و بالتالي فهذان الصوتان يمثلان حالة الصراع في نفس القصيدة , ولكن هذا الصراع لم ينشأ إلا لوجود صراع آخر شبيه له في الواقع الخارجي ..
غير أن هذا الصراع الخارجي لم يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً آليا ً , بل يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً جدليا ً ديناميكيا ً .. بحيث يتجلى الواقع بصورة , عمل الشاعر على تفكيكها وإعادة بنائها , من خلال الرؤيا الإبداعية ..
إذن فالحوار في هذا المشهد , لا يأتي متمّما ً للفكرة , وإنما هو الفكرة
عينها , من خلاله تتبدّى معالمها , وتظهر حالاتها المختلفة . وهنا يقترب الشاعر كثيرا ً من الحوار المسرحي الذي يشكل ركنا ً أساسيا ً في بناء المسرحية .
ولو انتقلنا إلى المشهد الرابع , نجد أن الشاعر يضعنا في جوّ دراميّ جديد كان نتيجة للمشهد الثاني , وعليه يكون المشهد الثالث اعتراضيا ً بينهما , ونستطيع ترتيب المشاهد على النحو التالي :
إن انتهاء العملية الجنسية في المشهد الثاني , لا بد أن يعقبها فترة استراحة وقيلولة للحديث . ولنا هنا أن نشير أن التفريغ الجنسي يؤدي إلى حالة
من التوازن النفسي , كما هو معروف . لأنه يعمل على إعادة التوازن
الفيزيولوجي , بشكل يتناسب مع بقية العمليات الجسدية الأخرى , مما يتيح للعقل تفكيرا ً هادئا ً , بعيدا ً عن التوتر والانفعال ..
وهذه الاستراحة تبدّت في المشهد الرابع ولننظر إلى رموز هذا الحديث :
" .. ريتا تحتسي شاي الصباح ..
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابق
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجرائد , فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي وأنا أنا . هل أنت أنت ؟
أنا هو .. " ( 16 )
فقولـه : / شاي الصباح / تعبير واضح على انقضاء الليلة السابقة .
وقوله :
/ بعشر زنابق / إشارة إلى أصابع ريتا , وهذا يوحي بنعومة هذه الفتاة
ورقتِّها . وقد نذهب إلى وضع المعادلة التالية :
ريتا = الشارع الإسرائيلي
الزنابق = الأصابع الناعمة
الأول يمثل العدوان والجريمة , والثاني يمثل الجمال والحسن . وهذان الطرفان يتحدان هنا في تكوين واحد , هو ريتا . فنخلص في النتيجة إلى أن إسرائيل تمثل حالة الخداع الحقيقي للعالم . فهي في باطنها العدوان والجريمة , وفي ظاهرها تمثل البراءة والجمال ..
ويبدأ الحوار : / لا تقرأ .. / بلا الناهية الجازمة . الجرائد تمثل واقع الصراعات والخلافات السياسية والادعاءات الكاذبة , / الطبول هي الطبول / وتنتهي ريتا بحوارها لتؤكد أنها حالة منفردة بذاتها . وبإمكاننا ترتيب الجملة / والحرب ليست .. / بشكل آخر : / وأنا أنا والحرب ليست مهنتي هل أنت أنت ؟ /
فريتا ليست انعكاسا ً لمجتمعها , كما قد يُظنّ , لأنها تؤكد أنها تريد الخروج عليه بقولها : / أتأخذني معك ؟ / وتعيد هذه الصيغة لتؤكد رغبتها في الذهاب , ولكن إلى أين يذهبان ؟
بلا شكّ إلى الوضع الجديد , إلى الحلم المنتظر , إلى عالم المحبة والسلام . ولكن ريتا هنا بما تحمله من دلالات ورموز , تريد استيعاب الشاعر بما يمثله من دلالات ورموز / وتكون لي حيا ً وميتا ً / وهذه الحالة تمثل الوضع القائم في فلسطين منذ قيام دولة إسرائيل . والشاعر يقع هنا في حالة من التشتت حين يقول :
" ضاع يا ريتا الدليلُ ..
والحب مثل الموت وعدٌ لا يردّ ولا يزول .. " ( 17 )
ولكنه يؤكد في نهاية هذا المشهد لوجدناه يتوزّع على مستويين :
- حوار خارجي , وهو المحور الذي صاغ الشاعر حوله قصيدته , وهو المرجعية الأولى للشاعر ..
- حوار داخلي يقوم على التقابل والتكرار والتداخل ..
ومثل هذا الشكل المزدوج متوفر في الحوار المسرحي بشكل جليّ واضح , حيث يتكشف الحدث تصاعديا ً من خلالهما , ويرفدانه بالحركة والتوهج اللذين يخففان من وطأة السرد ..
أما في المشهد الخامس حيث تتأزم القصيدة , باتجاهها التصاعدي نحو
عقدتها , ويصور هذا المشهد فصلا ً تابعا ً للمشهد الثاني الذي يحاول فيه تكوين الملامح الأساسية لريتا وهي نائمة في الليل , أما هنا , فيحاول تصويرها صباحا ً , من خلال التعابير التالية :
/ حذائها العالي , غيما ً أزرقا ً للياسمينة تحت إبطها , برج العاج .. إلخ /
فهي عارية تماما ً أمامه , ولعلّ تكرار عبارة / صباح الخير يا ريتا / قد يوحي بأن المخاطب / ريتا , لا تسمعه . وقد يكون حوارا ً داخليا ً في نفس الشاعر .. فالموقف هنا يفضح رغبة الشاعر وخوفه واضطرابه لرحيل ريتا , فانكبّ يعانقها : " كلما عانقت برج العاج فرّت من يديّ حمامتان " ( 11 )
فالشرط في / كلما / يتضمن معنى التكرار . ثم يبدأ بعد هذا العناق حديث متأزم ضمن إطار القصيدة العام , ولنقف قليلا ً على دلالات هذا الجزء يقول :
" قالت : سأرجع عندما تتبدّل الأيام والأحلام , يا ريتا .. طويلُ
هذا الشتاء , ونحن نحن فلا تقولي ما أقول أنا هي
هي من رأتك معلقا ً فوق السياج فأنزلتك وضمدتك
وبدمعها غسلتك وانتشرت بسوسنها عليك ..
ومررت بين سيوف أخوتها ولعنة أمها . وأنا هي
هل أنت أنت ؟ " ( 12 )
الأيام = الواقع المعيش , واقع الصراع الدامي بين العرب واليهود .
الأحلام = الواقع المتخيّل , واقع السلام والمحبة والتعايش .
الشتاء = قد يمثل حالة الصراع بين هذين الواقعين .
الدمع والسوسن = رموز إنسانية كونية .
السيوف واللعنة = التعصب اليهودي .
فهذه الخطوط كما نرى , تقوم على التضاد , وهذا التضاد يمثل حالة الاضطراب والقلق الوجودي في نفس الشاعر .
ويتابع الشاعر في المشهد الخامس تصوير ريتا , ولكنها هنا ترتدي ثيابها لتستعدّ للرحيل ويضيف هنا صفة جديدة لهذه الفتاة , فهي بيضاء / الرخام الأنثوي / , ولها شعر طويل يمتدّ على ظهرها المنمّـش .. وفي هذه اللحظات المتأزمة , يحاول الشاعر توطيد هذه العلاقة التي تقوم بين
الأضداد ..
وتبدأ ريتا الحديث بخوف :
" أأنت لي ..؟
لك لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ , لي
ماض ٍ أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة ْ " ( 13 )
فالاستفهام / أأنتَ لي ؟ / يعبّر عن الانفصال المتوقـّع , والخوف من المجهول الآتي .. ويأتي الجواب / لكِ / ولكنه مشروط بقوله / لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ .. / ولكن ما هو هذا الماضي الذي يولد من غياب ريتا , أي غياب دلالاتها العنصرية , هذا الماضي الذي يحضر الآن , وكأنه شيء ملموس كالطاولة, بوصفها رمزا ً للحوار المفقود ..
إنه الماضي / الحلم / الثورة / الإنسان / الحرية / ماضي البعد الإنساني ..
وقد يكون ماضي الصراع العربي الإسرائيلي , وما خلفه من دماء وانكسارات ولاسيما في الجانب الفلسطيني ..
وهنا تؤكد ريتا ثورتها العارمة على مجتمعها الإسرائيلي المشبع بعقائد دموية متعصبة :
" إني ولدت لكي أحبّكْ ..
وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبكْ
ووجدت حرّاس المدينة يطعمون النار حبـّكْ ..
إني ولدت لكي أحبّكْ .. " ( 14 )
هذه اللهجة الثورية الغاضبة , تمثل توهجا ً جديدا ً , وتصاعدا ً في الحوار الشعري هنا , وتمثل نقطة تحوّل مهمة إلى جوهر القصيدة وقضيتها المحورية .
ويصل الشاعر في المشهد السادس إلى نقطة ارتكاز أخرى هي حالة توحّد إنساني وصيغة تلاقح كونيّ , حين يصبح هو البوتقة التي توضع فيها تجارب الآخرين . فالشاعر لا يريد إلا العيش الطبيعي في أرض يعمّها السلام :
" لي هذه الأرض الصغيرة غرفة في شارع
في الطابق الأرضيّ من مبنى على جبل
يطلّ على هواء البحر , لي قمر نبيذيّ ولي حجر صقيلُ
لي حصّة من مشهد الموج المسافر في الغيوم وحصة
من سفر تكوين البداية , حصة من سفر أيّوب ومن
عيد الحصاد .. " ( 15 )
هذا الانصهار الكليّ في أدقّ خصوصيات الآخر , يشكل قمّة الهرم الإنساني عند محمود درويش . فالآخر هنا , هو الآخر العدو / اليهودي . ولكنّ الانصهار لا يكون إلا في الملامح الإنسانية التي يحتويها تراث هذا العدوّ , وليس في بعده العدواني الدمويّ . ونلحظ نوعا ً من التماهي مع معطيات روائية تحاول البحث عن الجزئيات الصغيرة لأهمية دورها في البناء العام ..
" لو تعبرين النهر يا ريتا ..
وأين النهر ؟ قالت .
قلت : فيك وفيّ نهرٌ واحد ...
وأنا أسيل دما ً وذاكرة أسيلُ ... " ( 16 )
فقوله / تعبرين النهر / قد يكون إحالة على بدايات اليهودية , أو يكون النهر الحدّ الفاصل بين فكرين متناقضين , الأنا / الآخر , الفلسطيني / الإسرائيلي , فعبور النهر يؤدّي إلى حالة من التوحّد وفتح شكل من الحوار الإنساني الخلاق ..
لكن درويش يكتشف ضيق الدائرة التي يدور فيها , في نهاية هذا المشهد حيث تلتهب لغته بكل مشاعر الرفض والصراع الذي يزيد من تأزّم الموقف أكثر , فيصرخ :
" لم يقتلونا بعدُ يا ريتا ويا ريتا ثقيلُ
هذا الشتاء وبارد .. " ( 17 )
وتتمخض القصيدة في النهاية , عن نتيجة نهائية , شأنها في ذلك شأن
المسرح . حيث يكشف المشهد الأخير انفراج الأزمة ببلوغ الحدث
ذروته .. حيث تختصر ريتا بأغنية صغيرة تاريخا ً من الصراع الممتدّ إلى أجيال وعصور بعيدة :
" ريتا تغني وحدها
لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها
قرب البحيرة وحدها , تبكي طفولتي البعيدة
بعدها في كلّ أمسية تنام على ظفيرتي الصغيرة عندها
أمي كسرتُ طفولتي وخرجت امرأة تربّي نهدها
بفم الحبيب .. " ( 18 )
ونقطة التكثيف هنا تكمن في الجملة الأخيرة / تربّي نهدها بفم الحبيب / فهي تعود إلى حالة طبيعية , حالتها كأم , كامرأة . والرضاعة هنا دلالة على كسر اللامنطقي بالمنطقي , والتخلص من كلّ حالات الشذوذ بهذه الحالة الأمومية الحانية .. ويكتشف الشاعر قضيته المستحيلة في نهاية القصيدة :
" عبثا ً نغني بين هاويتين فلنرحلْ ليتضح السبيلُ
" .... "
وضعتْ مسدسها الصغير على مسوّدة القصيدة .
ورمتْ جواربها على الكرسيّ فانكسر الهديلُ
ومضتْ إلى المجهول حافية وأدركني الرحيلُ "( 19 )
فنشدان التوازن عبث لا جدوى منه , فالهاويتان تمثلان طرفي المعادلة :
الحرب / السلام , الفلسطينيين / الإسرائيليين ..
ويدلّ حرف الجرّ / على / على الاستعلاء . إذن , لقد حسمت القضية لمصلحة المسدس , وليس لمصلحة القصيدة . أي للحرب لا للسلام . فينكسر الهديل العذب , فيكون الرحيل .. وهكذا تتوضح معالم القصيدة كلها , مكوّنة حدثا ً زمنيا ً يمتدّ فترة قصيرة لا تتجاوز الليلة وبعض الليلة , وتتجاذب أطراف هذا الحدث التصاعدي التفاعلي شخصيتان أساسيتان
هما : الشاعر وحبيبته . ولكلّ منهما دلالات وخلفيات تمثل حالة من التناقض على أرض الواقع . والحدث يبدأ بالممارسة الجنسية , أي بالخاص جدا ً , لينتهي بحالة الصراع الأزلي الممتدّ , أي بالعام جدا ً ..
وفي حين تتوضّح لنا معالم الشخصية الأولى / ريتا , التي تمثل حدودا ً
معينة بذاتها , ومجتمعا ً له خصوصيته وسماته المميزة , نجد الشخصية
الثانية / الشاعر , وهو النقيض للشخصية الأولى , لا يضيق ضمن حدود واضحة المعالم . فهذه الشخصية ذات صفات مفتوحة لا نهائية , تتطور باستمرار ولا تقف عند شكل أو قالب معين , كما وجدنا في الشخصية الأولى التي اتخذت شكلا ً واحدا ً وإلى الأبد .
ونتساءل أخيرا ً في هذا القسم : هل نحن أمام نص شعري أم أمام نصّ
مسرحيّ ؟
وجوابنا يكون ما قاله محمود درويش مرة : " لعلي أحتار بين إيثاري للشعر أم للمسرح لأني مفتون بكلّ ما يتعلق بالمسرح . " ( 20 )
الحواشي :
( 7 ) – محمود درويش - ديوان محمود درويش – مج 2 – ط 1 – دار العودة – بيروت – 1994 –
ص 540
( 8 ) – محمود درويش – المصدر نفسه – 542 .
( 9 ) – المصدر السابق نفسه – ص 539
( 10 ) – المصدر السابق نفسه – ص 549
( 11 ) - - د . فهد عكام – دراسات فنية وجمالية – محاضرات في قسم الدراسات العليا – جامعة دمشق – 1997غير مطبوعة .
( 12 ) - سيجموند فرويد – تفسير الأحلام – تر . مصطفى صفوان – دار المعارف – مصر – ط 2 – 1969 – ص 359
( 13 ) - - رجاء النقاش – محمود درويش شاعر الأرض المحتلة – ط 1 - دار الهلال – مصر – 1969 – ص 140
( 14 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 541
( 15 ) - المصدر السابق نفسه .
( 16 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 542
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 543
( 11 ) - المصدر السابق نفسه .
( 12 ) - المصدر السابق نفسه – ص 544
( 13 ) - المصدر السابق نفسه .
( 14 ) - المصدر السابق نفسه – ص 545
( 15 ) - المصدر السابق نفسه – ص 546
( 16 ) - المصدر نفسه .
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 547
( 18 ) - المصدر السابق نفسه .
( 19 ) - المصدر نفسه
( 20 ) - محمود درويش – شيء عن الوطن – دار العودة – بيروت - ط 1 – 1970 – ص 284
* * *
المقدمة :
ها يوسف جديد .. !!
والرؤيا تقوده إلى المجهول .. أحد عشر كوكباً والشمس والقمر !؟
فضاء ينفتح على اللاوعي / الحلم / الآتي / الغياب ... في تحدٍّ مباشر للواقع المسيَّج بأخوة غرباء ..
- قميص للدم , يطوي الحكاية في البئر ..
- قميص للذة , يطوي الحكاية في السجن ..
- قميص للشفاء , يعيد النور إلى عينين تنتظران ..
غياب ... غياب ... حضور ...
وها هي أندلس جديدة .. !!
أندلس الحقيقة طوتها خمسمئة عام من الغياب ..
صوت الخيول العربية , وهي تهاجر جنتها , ما زال يحفر في الوجدان
العربي , أجمل قصة عاشها العرب .. لقد انطفأ آخر الأقمار , وهيمن عليها ليل طويل ..
يوسف / الأندلس : العمر الذي سفحته المنافي على عتبات غربتها , ها هو الآن يستعيد حزنه وغيابه في فلسطين , التي تنزف على شرفات العروبة , وهزائهما المستمرة ..
ومحمود درويش يوسف جديد يقف على أطلال أندلس , ليبكي حزنه الممتدّ خمسمئة عام من الهزيمة ... والمفارقة أن العدّو له وجهان :
- عدوٌّ سافر يترقّب لحظة الضعف للانقضاض على ما بقي من الفريسة ...
- وعدوٌّ متخفٍّ بأقنعة الأخوّة والصداقة , ليأخذ حصّته مما بقي , أو ليحافظ على نفسه من جوع الآخر ...
أحد عشر كوكباً ديوان يتمرأى فيه الشعر تحت أقنعة الغياب , ليكشف غياب الحاضر الحقيقيّ , وسقوط كلّ الأقنعة المزيفة ...
يبدأ الديوان بمجموعة قصائد تندرج تحت عنوان كبير هو / أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسيّ / تتوزع على إحدى عشرة قصيدة , تمثل حالة الضياع الفلسطيني / العربي التي يعيشها الشاعر , وخيبة أمله من واقع عربيّ , سلَّم كل أسلحته , ليرزح تحت وطأة معاهدات خاسرة , تثبت واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ...
بينما نجد القسم الثاني من الديوان , يتوزّع على خمس قصائد طويلة هي :
/ خطبة الهندي الأحمر .. , حجر كنعاني في البحر الأحمر , سنختار سوفوكليس , شتاء ريتا , فرس للغريب / ..
تصور القصائد الأربع الأولى حواراً شفافاً يديره الشاعر , بين الأنا
والآخر , في عملية بحث عن الهوية , وإثبات الذات الضائعة , فهو واقع الصراع العربي الإسرائيلي , وبينما تأتي القصيدة الأخيرة رثائية حزينة لشاعر
عراقي ...
ولماذا اخترت / شتاء ريتا / ؟
• لأنها تصور حالة شعرية شديدة الإيحاء , تدور في مناخ من الحبّ
المأزوم , الذي تتناوشه غربتان :
- غربة الشاعر أمام ذاته المحترقة , حيث لا يركن إلى حضن دافئ حتى تتلقفه المنافي , وتشرّده الدروب ...
- غربة الشاعر أمام الآخر / الحبيبة اليهودية / ريتا / التي أصبحت إحدى مكونات ذاكرة الحب والصراع في تجربة محمود درويش ...
• لأنها تحمل في بنيتها ملامح مسرحية , تقوم على السرد والحوار والشخصيات والحدث والعقدة ... إلخ .
• لأنها قصيدة تكسر طابع الجمود العربي في التعامل مع الآخر /
العدو , هذا الذي أصبح واقعاً قسرياً ...
* *
تراسل حيّ بين المسرح والقصيدة :
( إنني مشبع بالرغبة في كتابة مسرحية شعرية ) محمود درويش
لعلّ هذا القول يدعونا لدراسة شعر محمود درويش , وفهمه مسرحيا ً , لأنّ أكثر شعره يحمل أصولا ً مسرحية ودرامية ..
فإذا دخلنا إلى عالم قصيدته / شتاء ريتا / نجد أن الشاعر يحاول أن يبني قصيدته على أرضية مسرحية درامية , لكي يشدّ إليها المتلقي , ويجعله يتابع حتى النهاية.
وتقوم القصيدة على مجموعة مشاهد مرئية , تتطوّر بشكل تصاعديّ متوهج يضع المتلقي في لحظات القصيدة المتأزمة , ليعيش أحداثها بشكل ملموس , ويطلق خياله للدخول إلى عالم القصيدة المتخيّل , ليصل في النهاية إلى عالم الحقيقة الواقع من خلال هذه اللذة المزدوجة , التي تتكوّن لديه نتيجة لهذا النقل المسرحي فهو يتذوق القصيدة مسرحياً بعينيه , وشعرياً بأذنيه , فيعيش بكامل كيانه تجربة حيّة مع الشعر .
تتوزّع القصيدة على ثمانية مشاهد , يقدّم لنا كلّ مشهد منها إدراكا ً جزئيا ً مرتبطا ً بالناظم العام للقصيدة , لنخلص في النتيجة بإدراك أعمق وفهم أشمل للحركة الكلية للحامل المحوري للقصيدة .
في المشهد الأول يحاول الشاعر إحالتنا على المكان , الذي تكوّنت فيه تجربة الشاعر , وهو غرفة , ولكن معالمها غير محدّدة تماما ً , وكلّ ما
نعرفه منها أنها تحتوي على سرير وكرسيّ وشباك , وهذا يوحي أن هذه الغرفة , قد تكون غرفة في فندق , على شاطئ البحر , التقى به الشاعر مع حبيبته / ريتا ... يقول :
" ريتا ترتِّب ليل غرفتنا : قليلُ
هذا النبيذُ
وهذه الأزهار أكبرُ من سريري
فافتح لها الشبَّاك كي يتعطر الليل الجميلُ " ( 7 )
ولعلّ قوله في المقطع الرابع يؤكد هذا :
" .. يأخذنا الرحيلُ ..
في ريحه ورقا ً ويرمينا أمام فنادق الغرباء
مثل رسائل قرأت على عجل .. " ( 8 )
ويسيطر على هذا المشهد صوت أحاديّ , هو صوت ريتا . ويحاول الشاعر أن يخبرنا أن اللقاء بينهما , هو لقاء جنسيّ , ولكنه ينطلق من حدود الرغبة المجردة في المتعة الجنسية إلى فضاء أوسع , هو الحبّ الكونيّ , الذي يتوضّح بقول ريتا :
" .. هل لبست سواي ؟ هل سكنتك امرأة
لتجهش كلما التفـّت على جذعي فروعك ؟
تخلفه العواصف والسيولُ
مني ومنك .. " ( 9 )
فقوله بلسان ريتا : / لتجهش كلما التفت على جذعي فروعك , وحكّ لي
قدمي .. / تعبير عن ظاهر العملية الجنسية . بينما قوله : / وحكّ دمي / تعبير عن باطن هذه العملية التي أشار إليها بقوله : / العواصف والسيول / .
ويتلاقى هذا المشهد مع المسرح بنقطة أساسية , هي أن المشهد الأول من المسرحية يقدّم لنا معالم المكان الذي تجري فيه الأحداث , وذلك على لسان راويها , أو إحدى شخصياتها , ويقودنا إلى أوّل الطريق لمعرفة الحدث الرئيسي في المسرحية ..
ولو انتقلنا إلى المشهد الثاني , حيث يبدو أكثر توهجا ً وتكثيفا ً من سابقه , ويلعب فيه السرد دورا ً أساسيا ً , ويأتي على لسان الباثّ / الشاعر , ويحاول هنا وصف العملية الجنسية بأسلوب تصويري رائع , معتمدا ً على رموز جنسية , منها ما هو صريح , ومنها ما هو خفيّ مثل :
/ حديقة جسمها , توت السياج على أظافرها , نام عصفوران تحت يدي , أشعة صدرها العاري , القميص الفستقي .. إلخ . /
وفي هذا المشهد يكمن الحدث البدائي , ويأخذ أبعاده الأولى التي سيتكئ عليها الشاعر للانتقال إلى بؤرة القصيدة ومحورها الأساسي .. ولعله في
قوله :
" .. هدأ الصهيلُ
هدأت خلايا النحل في دمنا , فهل كانت هنا
ريتا وهل كنا معا ً .. " ( 10 )
يصور بلوغ الذروة في العملية الجنسية / هدأ الصهيل , هدأت خلايا
النحل .. / ولعلّ هذا الاستفهام في قوله / فهل كانت هنا ريتا وهل كنا
معا ً ؟ / يخرج إلى معنى الاستغراب والإنكار الذي يتخذه الشاعر أساسا ً للانتقال المنطقي للمشهد التالي ..
ولعلّ الشاعر في هذا المشهد يبتعد قليلا ً عن أصول الفنّ المسرحيّ , ويقترب كثيرا ً من فنّ الرسم , لكنه هنا يستخدم أدواته الخاصة به , وهي اللغة , ويعمد إلى تراسل حيّ بين الرسم والقصيدة في هذا المشهد . فهو يدرك بدقة انعكاسات الألوان , وأبعادها فنجد مثلا ً :
/ توت السياج الأحمر , ووردة حمراء , أشعة الصدر , عتمة الذهب , الليل والقميص الفستقي ... إلخ . /
فاللوحة الشعرية عامرة بالألوان , وقد تكون هنا أجمل منها لو كانت
في لوحة , لأنها في هذا المجال كما يذهب د . فهد عكّام , تقدّم متعة مزدوجة : بصرية تأتي من مشاهدة اللوحة في القصيدة , ومتعة نفسية من قراءة الشعر . ( 11 )
فكثرة الرموز التصويرية في المشهد تذهب بنا إلى ما ذهب إليه سيجموند
فرويد , في تحليله للحلم , حيث يقول : " الحلم يستخدم الرموز من أجل تصوير أفكاره الكامنة تصويرا ً مقنعا ً " ( 12 )
فالشاعر يعيش حالة شبيهة للحلم , ولعل تساؤله في آخر المشهد يوضح هذا أكثر , فهو يستنكر ما حدث , وكأنه حلم صحا منه على خطوات ريتا الراحلة في المشهد الثالث ..
ففي المشهد الثالث تتوضح معالم الشكل الكلي للقصيدة , وبالتالي تجربة الشاعر الحيّة .. ويبدأ المشهد هنا بشكل إخباريّ : / ريتا سترحل .. / ولكن سرعان ما ينتقل إلى الحوار الحقيقي الذي يشكل هيكلا ً أساسيا ً
في بناء القصيدة , لأن الشاعر يملك من مقوماته الشيء الكثير . وهذا ما أشار إليه الناقد رجاء النقاش في دراسته المتقدمة عن محمود درويش حيث قال : " من ناحية أخرى نجد أن محمود درويش في مرحلته الفنية الجديدة , كثيرا ً ما يعتمد على الحوار , ونحن نجد في شعره في كثير من الأحيان صوتين يسيطران , لا صوتا ً واحدا ً وهذان الصوتان يكشفان دائما ً عن قدرة مسرحية " ( 13 )
ويشكل الحوار في هذا المشهد الصراع الأساسي الذي تقوم عليه القصيدة بشكل عام : الحرب / السلام , الإنسان / القنبلة , لنرَ ما تقول :
" أين سنلتقي ؟
سألت يديها , فالتفت إلى البعيد
البحر خلف الباب , والصحراء خلف البحر , قبّلني على
شفتيّ قالت – قلت يا ريتا أأرحل من جديد
ما دام لي عنب وذاكرة وتتركني الفصولُ .. " ( 14 )
فالاستفهام / أين سنلتقي ؟ / يدلّ حتما ً على أنهما مفترقان لا محالة , فماذا كان الجواب / البحر خلف الباب والصحراء خلف البحر .. / أي إن اللقاء سيصبح مستحيلا ً , ولكن صوتها يأتي متمردا ً بقولها : / قبّلني على شفتيّ
قالت .. / أي أنها تريد أن تعيش هذه اللحظة الحالمة حتى آخرها .. فريتا تدعو الشاعر لأن يتابع هذا العناق , الاتحاد / التمرد , على واقع الانفصال بين البشر , على واقع الصراع المرير الذي يتجلى في الحوار التالي , بشكل أعمق وأشدّ وضوحا ً يقول :
" لا شيء . يا ريتا أقلـّد فارسا ً في أغنية ْ ...
عن لعنة الحبّ المحاصر بالمرايا ...
- عني .. ؟
- وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان , فواحد
يستلّ سكينا ً وآخر يودع الناي الوصايا .. " ( 15 )
الحبّ يمثـّل إنسانية الشاعر , والمرايا تمثل الواقع الإشكالي والصراع الدامي بين الفلسطينيين واليهود , ويؤكد هذه الثنائية الصراعية قوله : " واحد يستلّ سكينا ً / وآخر يودع الناي الوصايا " الصراع / الحب , الحرب / السلام ..
و بالتالي فهذان الصوتان يمثلان حالة الصراع في نفس القصيدة , ولكن هذا الصراع لم ينشأ إلا لوجود صراع آخر شبيه له في الواقع الخارجي ..
غير أن هذا الصراع الخارجي لم يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً آليا ً , بل يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً جدليا ً ديناميكيا ً .. بحيث يتجلى الواقع بصورة , عمل الشاعر على تفكيكها وإعادة بنائها , من خلال الرؤيا الإبداعية ..
إذن فالحوار في هذا المشهد , لا يأتي متمّما ً للفكرة , وإنما هو الفكرة
عينها , من خلاله تتبدّى معالمها , وتظهر حالاتها المختلفة . وهنا يقترب الشاعر كثيرا ً من الحوار المسرحي الذي يشكل ركنا ً أساسيا ً في بناء المسرحية .
ولو انتقلنا إلى المشهد الرابع , نجد أن الشاعر يضعنا في جوّ دراميّ جديد كان نتيجة للمشهد الثاني , وعليه يكون المشهد الثالث اعتراضيا ً بينهما , ونستطيع ترتيب المشاهد على النحو التالي :
إن انتهاء العملية الجنسية في المشهد الثاني , لا بد أن يعقبها فترة استراحة وقيلولة للحديث . ولنا هنا أن نشير أن التفريغ الجنسي يؤدي إلى حالة
من التوازن النفسي , كما هو معروف . لأنه يعمل على إعادة التوازن
الفيزيولوجي , بشكل يتناسب مع بقية العمليات الجسدية الأخرى , مما يتيح للعقل تفكيرا ً هادئا ً , بعيدا ً عن التوتر والانفعال ..
وهذه الاستراحة تبدّت في المشهد الرابع ولننظر إلى رموز هذا الحديث :
" .. ريتا تحتسي شاي الصباح ..
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابق
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجرائد , فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي وأنا أنا . هل أنت أنت ؟
أنا هو .. " ( 16 )
فقولـه : / شاي الصباح / تعبير واضح على انقضاء الليلة السابقة .
وقوله :
/ بعشر زنابق / إشارة إلى أصابع ريتا , وهذا يوحي بنعومة هذه الفتاة
ورقتِّها . وقد نذهب إلى وضع المعادلة التالية :
ريتا = الشارع الإسرائيلي
الزنابق = الأصابع الناعمة
الأول يمثل العدوان والجريمة , والثاني يمثل الجمال والحسن . وهذان الطرفان يتحدان هنا في تكوين واحد , هو ريتا . فنخلص في النتيجة إلى أن إسرائيل تمثل حالة الخداع الحقيقي للعالم . فهي في باطنها العدوان والجريمة , وفي ظاهرها تمثل البراءة والجمال ..
ويبدأ الحوار : / لا تقرأ .. / بلا الناهية الجازمة . الجرائد تمثل واقع الصراعات والخلافات السياسية والادعاءات الكاذبة , / الطبول هي الطبول / وتنتهي ريتا بحوارها لتؤكد أنها حالة منفردة بذاتها . وبإمكاننا ترتيب الجملة / والحرب ليست .. / بشكل آخر : / وأنا أنا والحرب ليست مهنتي هل أنت أنت ؟ /
فريتا ليست انعكاسا ً لمجتمعها , كما قد يُظنّ , لأنها تؤكد أنها تريد الخروج عليه بقولها : / أتأخذني معك ؟ / وتعيد هذه الصيغة لتؤكد رغبتها في الذهاب , ولكن إلى أين يذهبان ؟
بلا شكّ إلى الوضع الجديد , إلى الحلم المنتظر , إلى عالم المحبة والسلام . ولكن ريتا هنا بما تحمله من دلالات ورموز , تريد استيعاب الشاعر بما يمثله من دلالات ورموز / وتكون لي حيا ً وميتا ً / وهذه الحالة تمثل الوضع القائم في فلسطين منذ قيام دولة إسرائيل . والشاعر يقع هنا في حالة من التشتت حين يقول :
" ضاع يا ريتا الدليلُ ..
والحب مثل الموت وعدٌ لا يردّ ولا يزول .. " ( 17 )
ولكنه يؤكد في نهاية هذا المشهد لوجدناه يتوزّع على مستويين :
- حوار خارجي , وهو المحور الذي صاغ الشاعر حوله قصيدته , وهو المرجعية الأولى للشاعر ..
- حوار داخلي يقوم على التقابل والتكرار والتداخل ..
ومثل هذا الشكل المزدوج متوفر في الحوار المسرحي بشكل جليّ واضح , حيث يتكشف الحدث تصاعديا ً من خلالهما , ويرفدانه بالحركة والتوهج اللذين يخففان من وطأة السرد ..
أما في المشهد الخامس حيث تتأزم القصيدة , باتجاهها التصاعدي نحو
عقدتها , ويصور هذا المشهد فصلا ً تابعا ً للمشهد الثاني الذي يحاول فيه تكوين الملامح الأساسية لريتا وهي نائمة في الليل , أما هنا , فيحاول تصويرها صباحا ً , من خلال التعابير التالية :
/ حذائها العالي , غيما ً أزرقا ً للياسمينة تحت إبطها , برج العاج .. إلخ /
فهي عارية تماما ً أمامه , ولعلّ تكرار عبارة / صباح الخير يا ريتا / قد يوحي بأن المخاطب / ريتا , لا تسمعه . وقد يكون حوارا ً داخليا ً في نفس الشاعر .. فالموقف هنا يفضح رغبة الشاعر وخوفه واضطرابه لرحيل ريتا , فانكبّ يعانقها : " كلما عانقت برج العاج فرّت من يديّ حمامتان " ( 11 )
فالشرط في / كلما / يتضمن معنى التكرار . ثم يبدأ بعد هذا العناق حديث متأزم ضمن إطار القصيدة العام , ولنقف قليلا ً على دلالات هذا الجزء يقول :
" قالت : سأرجع عندما تتبدّل الأيام والأحلام , يا ريتا .. طويلُ
هذا الشتاء , ونحن نحن فلا تقولي ما أقول أنا هي
هي من رأتك معلقا ً فوق السياج فأنزلتك وضمدتك
وبدمعها غسلتك وانتشرت بسوسنها عليك ..
ومررت بين سيوف أخوتها ولعنة أمها . وأنا هي
هل أنت أنت ؟ " ( 12 )
الأيام = الواقع المعيش , واقع الصراع الدامي بين العرب واليهود .
الأحلام = الواقع المتخيّل , واقع السلام والمحبة والتعايش .
الشتاء = قد يمثل حالة الصراع بين هذين الواقعين .
الدمع والسوسن = رموز إنسانية كونية .
السيوف واللعنة = التعصب اليهودي .
فهذه الخطوط كما نرى , تقوم على التضاد , وهذا التضاد يمثل حالة الاضطراب والقلق الوجودي في نفس الشاعر .
ويتابع الشاعر في المشهد الخامس تصوير ريتا , ولكنها هنا ترتدي ثيابها لتستعدّ للرحيل ويضيف هنا صفة جديدة لهذه الفتاة , فهي بيضاء / الرخام الأنثوي / , ولها شعر طويل يمتدّ على ظهرها المنمّـش .. وفي هذه اللحظات المتأزمة , يحاول الشاعر توطيد هذه العلاقة التي تقوم بين
الأضداد ..
وتبدأ ريتا الحديث بخوف :
" أأنت لي ..؟
لك لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ , لي
ماض ٍ أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة ْ " ( 13 )
فالاستفهام / أأنتَ لي ؟ / يعبّر عن الانفصال المتوقـّع , والخوف من المجهول الآتي .. ويأتي الجواب / لكِ / ولكنه مشروط بقوله / لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ .. / ولكن ما هو هذا الماضي الذي يولد من غياب ريتا , أي غياب دلالاتها العنصرية , هذا الماضي الذي يحضر الآن , وكأنه شيء ملموس كالطاولة, بوصفها رمزا ً للحوار المفقود ..
إنه الماضي / الحلم / الثورة / الإنسان / الحرية / ماضي البعد الإنساني ..
وقد يكون ماضي الصراع العربي الإسرائيلي , وما خلفه من دماء وانكسارات ولاسيما في الجانب الفلسطيني ..
وهنا تؤكد ريتا ثورتها العارمة على مجتمعها الإسرائيلي المشبع بعقائد دموية متعصبة :
" إني ولدت لكي أحبّكْ ..
وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبكْ
ووجدت حرّاس المدينة يطعمون النار حبـّكْ ..
إني ولدت لكي أحبّكْ .. " ( 14 )
هذه اللهجة الثورية الغاضبة , تمثل توهجا ً جديدا ً , وتصاعدا ً في الحوار الشعري هنا , وتمثل نقطة تحوّل مهمة إلى جوهر القصيدة وقضيتها المحورية .
ويصل الشاعر في المشهد السادس إلى نقطة ارتكاز أخرى هي حالة توحّد إنساني وصيغة تلاقح كونيّ , حين يصبح هو البوتقة التي توضع فيها تجارب الآخرين . فالشاعر لا يريد إلا العيش الطبيعي في أرض يعمّها السلام :
" لي هذه الأرض الصغيرة غرفة في شارع
في الطابق الأرضيّ من مبنى على جبل
يطلّ على هواء البحر , لي قمر نبيذيّ ولي حجر صقيلُ
لي حصّة من مشهد الموج المسافر في الغيوم وحصة
من سفر تكوين البداية , حصة من سفر أيّوب ومن
عيد الحصاد .. " ( 15 )
هذا الانصهار الكليّ في أدقّ خصوصيات الآخر , يشكل قمّة الهرم الإنساني عند محمود درويش . فالآخر هنا , هو الآخر العدو / اليهودي . ولكنّ الانصهار لا يكون إلا في الملامح الإنسانية التي يحتويها تراث هذا العدوّ , وليس في بعده العدواني الدمويّ . ونلحظ نوعا ً من التماهي مع معطيات روائية تحاول البحث عن الجزئيات الصغيرة لأهمية دورها في البناء العام ..
" لو تعبرين النهر يا ريتا ..
وأين النهر ؟ قالت .
قلت : فيك وفيّ نهرٌ واحد ...
وأنا أسيل دما ً وذاكرة أسيلُ ... " ( 16 )
فقوله / تعبرين النهر / قد يكون إحالة على بدايات اليهودية , أو يكون النهر الحدّ الفاصل بين فكرين متناقضين , الأنا / الآخر , الفلسطيني / الإسرائيلي , فعبور النهر يؤدّي إلى حالة من التوحّد وفتح شكل من الحوار الإنساني الخلاق ..
لكن درويش يكتشف ضيق الدائرة التي يدور فيها , في نهاية هذا المشهد حيث تلتهب لغته بكل مشاعر الرفض والصراع الذي يزيد من تأزّم الموقف أكثر , فيصرخ :
" لم يقتلونا بعدُ يا ريتا ويا ريتا ثقيلُ
هذا الشتاء وبارد .. " ( 17 )
وتتمخض القصيدة في النهاية , عن نتيجة نهائية , شأنها في ذلك شأن
المسرح . حيث يكشف المشهد الأخير انفراج الأزمة ببلوغ الحدث
ذروته .. حيث تختصر ريتا بأغنية صغيرة تاريخا ً من الصراع الممتدّ إلى أجيال وعصور بعيدة :
" ريتا تغني وحدها
لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها
قرب البحيرة وحدها , تبكي طفولتي البعيدة
بعدها في كلّ أمسية تنام على ظفيرتي الصغيرة عندها
أمي كسرتُ طفولتي وخرجت امرأة تربّي نهدها
بفم الحبيب .. " ( 18 )
ونقطة التكثيف هنا تكمن في الجملة الأخيرة / تربّي نهدها بفم الحبيب / فهي تعود إلى حالة طبيعية , حالتها كأم , كامرأة . والرضاعة هنا دلالة على كسر اللامنطقي بالمنطقي , والتخلص من كلّ حالات الشذوذ بهذه الحالة الأمومية الحانية .. ويكتشف الشاعر قضيته المستحيلة في نهاية القصيدة :
" عبثا ً نغني بين هاويتين فلنرحلْ ليتضح السبيلُ
" .... "
وضعتْ مسدسها الصغير على مسوّدة القصيدة .
ورمتْ جواربها على الكرسيّ فانكسر الهديلُ
ومضتْ إلى المجهول حافية وأدركني الرحيلُ "( 19 )
فنشدان التوازن عبث لا جدوى منه , فالهاويتان تمثلان طرفي المعادلة :
الحرب / السلام , الفلسطينيين / الإسرائيليين ..
ويدلّ حرف الجرّ / على / على الاستعلاء . إذن , لقد حسمت القضية لمصلحة المسدس , وليس لمصلحة القصيدة . أي للحرب لا للسلام . فينكسر الهديل العذب , فيكون الرحيل .. وهكذا تتوضح معالم القصيدة كلها , مكوّنة حدثا ً زمنيا ً يمتدّ فترة قصيرة لا تتجاوز الليلة وبعض الليلة , وتتجاذب أطراف هذا الحدث التصاعدي التفاعلي شخصيتان أساسيتان
هما : الشاعر وحبيبته . ولكلّ منهما دلالات وخلفيات تمثل حالة من التناقض على أرض الواقع . والحدث يبدأ بالممارسة الجنسية , أي بالخاص جدا ً , لينتهي بحالة الصراع الأزلي الممتدّ , أي بالعام جدا ً ..
وفي حين تتوضّح لنا معالم الشخصية الأولى / ريتا , التي تمثل حدودا ً
معينة بذاتها , ومجتمعا ً له خصوصيته وسماته المميزة , نجد الشخصية
الثانية / الشاعر , وهو النقيض للشخصية الأولى , لا يضيق ضمن حدود واضحة المعالم . فهذه الشخصية ذات صفات مفتوحة لا نهائية , تتطور باستمرار ولا تقف عند شكل أو قالب معين , كما وجدنا في الشخصية الأولى التي اتخذت شكلا ً واحدا ً وإلى الأبد .
ونتساءل أخيرا ً في هذا القسم : هل نحن أمام نص شعري أم أمام نصّ
مسرحيّ ؟
وجوابنا يكون ما قاله محمود درويش مرة : " لعلي أحتار بين إيثاري للشعر أم للمسرح لأني مفتون بكلّ ما يتعلق بالمسرح . " ( 20 )
الحواشي :
( 7 ) – محمود درويش - ديوان محمود درويش – مج 2 – ط 1 – دار العودة – بيروت – 1994 –
ص 540
( 8 ) – محمود درويش – المصدر نفسه – 542 .
( 9 ) – المصدر السابق نفسه – ص 539
( 10 ) – المصدر السابق نفسه – ص 549
( 11 ) - - د . فهد عكام – دراسات فنية وجمالية – محاضرات في قسم الدراسات العليا – جامعة دمشق – 1997غير مطبوعة .
( 12 ) - سيجموند فرويد – تفسير الأحلام – تر . مصطفى صفوان – دار المعارف – مصر – ط 2 – 1969 – ص 359
( 13 ) - - رجاء النقاش – محمود درويش شاعر الأرض المحتلة – ط 1 - دار الهلال – مصر – 1969 – ص 140
( 14 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 541
( 15 ) - المصدر السابق نفسه .
( 16 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 542
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 543
( 11 ) - المصدر السابق نفسه .
( 12 ) - المصدر السابق نفسه – ص 544
( 13 ) - المصدر السابق نفسه .
( 14 ) - المصدر السابق نفسه – ص 545
( 15 ) - المصدر السابق نفسه – ص 546
( 16 ) - المصدر نفسه .
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 547
( 18 ) - المصدر السابق نفسه .
( 19 ) - المصدر نفسه
( 20 ) - محمود درويش – شيء عن الوطن – دار العودة – بيروت - ط 1 – 1970 – ص 284
* * *