الأخبار
الهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوع
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فضاءات مغايرة في قراءة قصيدة شتاء ريتا بقلم:د . كريم عبيد

تاريخ النشر : 2010-06-01
د . كريم عبيد


المقدمة :
ها يوسف جديد .. !!
والرؤيا تقوده إلى المجهول .. أحد عشر كوكباً والشمس والقمر !؟
فضاء ينفتح على اللاوعي / الحلم / الآتي / الغياب ... في تحدٍّ مباشر للواقع المسيَّج بأخوة غرباء ..
- قميص للدم , يطوي الحكاية في البئر ..
- قميص للذة , يطوي الحكاية في السجن ..
- قميص للشفاء , يعيد النور إلى عينين تنتظران ..
غياب ... غياب ... حضور ...
وها هي أندلس جديدة .. !!
أندلس الحقيقة طوتها خمسمئة عام من الغياب ..
صوت الخيول العربية , وهي تهاجر جنتها , ما زال يحفر في الوجدان
العربي , أجمل قصة عاشها العرب .. لقد انطفأ آخر الأقمار , وهيمن عليها ليل طويل ..
يوسف / الأندلس : العمر الذي سفحته المنافي على عتبات غربتها , ها هو الآن يستعيد حزنه وغيابه في فلسطين , التي تنزف على شرفات العروبة , وهزائهما المستمرة ..
ومحمود درويش يوسف جديد يقف على أطلال أندلس , ليبكي حزنه الممتدّ خمسمئة عام من الهزيمة ... والمفارقة أن العدّو له وجهان :
- عدوٌّ سافر يترقّب لحظة الضعف للانقضاض على ما بقي من الفريسة ...
- وعدوٌّ متخفٍّ بأقنعة الأخوّة والصداقة , ليأخذ حصّته مما بقي , أو ليحافظ على نفسه من جوع الآخر ...
أحد عشر كوكباً ديوان يتمرأى فيه الشعر تحت أقنعة الغياب , ليكشف غياب الحاضر الحقيقيّ , وسقوط كلّ الأقنعة المزيفة ...
يبدأ الديوان بمجموعة قصائد تندرج تحت عنوان كبير هو / أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسيّ / تتوزع على إحدى عشرة قصيدة , تمثل حالة الضياع الفلسطيني / العربي التي يعيشها الشاعر , وخيبة أمله من واقع عربيّ , سلَّم كل أسلحته , ليرزح تحت وطأة معاهدات خاسرة , تثبت واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ...
بينما نجد القسم الثاني من الديوان , يتوزّع على خمس قصائد طويلة هي :
/ خطبة الهندي الأحمر .. , حجر كنعاني في البحر الأحمر , سنختار سوفوكليس , شتاء ريتا , فرس للغريب / ..
تصور القصائد الأربع الأولى حواراً شفافاً يديره الشاعر , بين الأنا
والآخر , في عملية بحث عن الهوية , وإثبات الذات الضائعة , فهو واقع الصراع العربي الإسرائيلي , وبينما تأتي القصيدة الأخيرة رثائية حزينة لشاعر
عراقي ...
ولماذا اخترت / شتاء ريتا / ؟
• لأنها تصور حالة شعرية شديدة الإيحاء , تدور في مناخ من الحبّ
المأزوم , الذي تتناوشه غربتان :
- غربة الشاعر أمام ذاته المحترقة , حيث لا يركن إلى حضن دافئ حتى تتلقفه المنافي , وتشرّده الدروب ...
- غربة الشاعر أمام الآخر / الحبيبة اليهودية / ريتا / التي أصبحت إحدى مكونات ذاكرة الحب والصراع في تجربة محمود درويش ...
• لأنها تحمل في بنيتها ملامح مسرحية , تقوم على السرد والحوار والشخصيات والحدث والعقدة ... إلخ .
• لأنها قصيدة تكسر طابع الجمود العربي في التعامل مع الآخر /
العدو , هذا الذي أصبح واقعاً قسرياً ...

* *
تراسل حيّ بين المسرح والقصيدة :

( إنني مشبع بالرغبة في كتابة مسرحية شعرية ) محمود درويش
لعلّ هذا القول يدعونا لدراسة شعر محمود درويش , وفهمه مسرحيا ً , لأنّ أكثر شعره يحمل أصولا ً مسرحية ودرامية ..
فإذا دخلنا إلى عالم قصيدته / شتاء ريتا / نجد أن الشاعر يحاول أن يبني قصيدته على أرضية مسرحية درامية , لكي يشدّ إليها المتلقي , ويجعله يتابع حتى النهاية.
وتقوم القصيدة على مجموعة مشاهد مرئية , تتطوّر بشكل تصاعديّ متوهج يضع المتلقي في لحظات القصيدة المتأزمة , ليعيش أحداثها بشكل ملموس , ويطلق خياله للدخول إلى عالم القصيدة المتخيّل , ليصل في النهاية إلى عالم الحقيقة الواقع من خلال هذه اللذة المزدوجة , التي تتكوّن لديه نتيجة لهذا النقل المسرحي فهو يتذوق القصيدة مسرحياً بعينيه , وشعرياً بأذنيه , فيعيش بكامل كيانه تجربة حيّة مع الشعر .
تتوزّع القصيدة على ثمانية مشاهد , يقدّم لنا كلّ مشهد منها إدراكا ً جزئيا ً مرتبطا ً بالناظم العام للقصيدة , لنخلص في النتيجة بإدراك أعمق وفهم أشمل للحركة الكلية للحامل المحوري للقصيدة .
في المشهد الأول يحاول الشاعر إحالتنا على المكان , الذي تكوّنت فيه تجربة الشاعر , وهو غرفة , ولكن معالمها غير محدّدة تماما ً , وكلّ ما
نعرفه منها أنها تحتوي على سرير وكرسيّ وشباك , وهذا يوحي أن هذه الغرفة , قد تكون غرفة في فندق , على شاطئ البحر , التقى به الشاعر مع حبيبته / ريتا ... يقول :
" ريتا ترتِّب ليل غرفتنا : قليلُ
هذا النبيذُ
وهذه الأزهار أكبرُ من سريري
فافتح لها الشبَّاك كي يتعطر الليل الجميلُ " ( 7 )
ولعلّ قوله في المقطع الرابع يؤكد هذا :
" .. يأخذنا الرحيلُ ..
في ريحه ورقا ً ويرمينا أمام فنادق الغرباء
مثل رسائل قرأت على عجل .. " ( 8 )
ويسيطر على هذا المشهد صوت أحاديّ , هو صوت ريتا . ويحاول الشاعر أن يخبرنا أن اللقاء بينهما , هو لقاء جنسيّ , ولكنه ينطلق من حدود الرغبة المجردة في المتعة الجنسية إلى فضاء أوسع , هو الحبّ الكونيّ , الذي يتوضّح بقول ريتا :
" .. هل لبست سواي ؟ هل سكنتك امرأة
لتجهش كلما التفـّت على جذعي فروعك ؟
تخلفه العواصف والسيولُ
مني ومنك .. " ( 9 )
فقوله بلسان ريتا : / لتجهش كلما التفت على جذعي فروعك , وحكّ لي
قدمي .. / تعبير عن ظاهر العملية الجنسية . بينما قوله : / وحكّ دمي / تعبير عن باطن هذه العملية التي أشار إليها بقوله : / العواصف والسيول / .
ويتلاقى هذا المشهد مع المسرح بنقطة أساسية , هي أن المشهد الأول من المسرحية يقدّم لنا معالم المكان الذي تجري فيه الأحداث , وذلك على لسان راويها , أو إحدى شخصياتها , ويقودنا إلى أوّل الطريق لمعرفة الحدث الرئيسي في المسرحية ..
ولو انتقلنا إلى المشهد الثاني , حيث يبدو أكثر توهجا ً وتكثيفا ً من سابقه , ويلعب فيه السرد دورا ً أساسيا ً , ويأتي على لسان الباثّ / الشاعر , ويحاول هنا وصف العملية الجنسية بأسلوب تصويري رائع , معتمدا ً على رموز جنسية , منها ما هو صريح , ومنها ما هو خفيّ مثل :
/ حديقة جسمها , توت السياج على أظافرها , نام عصفوران تحت يدي , أشعة صدرها العاري , القميص الفستقي .. إلخ . /
وفي هذا المشهد يكمن الحدث البدائي , ويأخذ أبعاده الأولى التي سيتكئ عليها الشاعر للانتقال إلى بؤرة القصيدة ومحورها الأساسي .. ولعله في
قوله :
" .. هدأ الصهيلُ
هدأت خلايا النحل في دمنا , فهل كانت هنا
ريتا وهل كنا معا ً .. " ( 10 )
يصور بلوغ الذروة في العملية الجنسية / هدأ الصهيل , هدأت خلايا
النحل .. / ولعلّ هذا الاستفهام في قوله / فهل كانت هنا ريتا وهل كنا
معا ً ؟ / يخرج إلى معنى الاستغراب والإنكار الذي يتخذه الشاعر أساسا ً للانتقال المنطقي للمشهد التالي ..
ولعلّ الشاعر في هذا المشهد يبتعد قليلا ً عن أصول الفنّ المسرحيّ , ويقترب كثيرا ً من فنّ الرسم , لكنه هنا يستخدم أدواته الخاصة به , وهي اللغة , ويعمد إلى تراسل حيّ بين الرسم والقصيدة في هذا المشهد . فهو يدرك بدقة انعكاسات الألوان , وأبعادها فنجد مثلا ً :
/ توت السياج الأحمر , ووردة حمراء , أشعة الصدر , عتمة الذهب , الليل والقميص الفستقي ... إلخ . /
فاللوحة الشعرية عامرة بالألوان , وقد تكون هنا أجمل منها لو كانت
في لوحة , لأنها في هذا المجال كما يذهب د . فهد عكّام , تقدّم متعة مزدوجة : بصرية تأتي من مشاهدة اللوحة في القصيدة , ومتعة نفسية من قراءة الشعر . ( 11 )
فكثرة الرموز التصويرية في المشهد تذهب بنا إلى ما ذهب إليه سيجموند
فرويد , في تحليله للحلم , حيث يقول : " الحلم يستخدم الرموز من أجل تصوير أفكاره الكامنة تصويرا ً مقنعا ً " ( 12 )
فالشاعر يعيش حالة شبيهة للحلم , ولعل تساؤله في آخر المشهد يوضح هذا أكثر , فهو يستنكر ما حدث , وكأنه حلم صحا منه على خطوات ريتا الراحلة في المشهد الثالث ..
ففي المشهد الثالث تتوضح معالم الشكل الكلي للقصيدة , وبالتالي تجربة الشاعر الحيّة .. ويبدأ المشهد هنا بشكل إخباريّ : / ريتا سترحل .. / ولكن سرعان ما ينتقل إلى الحوار الحقيقي الذي يشكل هيكلا ً أساسيا ً
في بناء القصيدة , لأن الشاعر يملك من مقوماته الشيء الكثير . وهذا ما أشار إليه الناقد رجاء النقاش في دراسته المتقدمة عن محمود درويش حيث قال : " من ناحية أخرى نجد أن محمود درويش في مرحلته الفنية الجديدة , كثيرا ً ما يعتمد على الحوار , ونحن نجد في شعره في كثير من الأحيان صوتين يسيطران , لا صوتا ً واحدا ً وهذان الصوتان يكشفان دائما ً عن قدرة مسرحية " ( 13 )
ويشكل الحوار في هذا المشهد الصراع الأساسي الذي تقوم عليه القصيدة بشكل عام : الحرب / السلام , الإنسان / القنبلة , لنرَ ما تقول :
" أين سنلتقي ؟
سألت يديها , فالتفت إلى البعيد
البحر خلف الباب , والصحراء خلف البحر , قبّلني على
شفتيّ قالت – قلت يا ريتا أأرحل من جديد
ما دام لي عنب وذاكرة وتتركني الفصولُ .. " ( 14 )
فالاستفهام / أين سنلتقي ؟ / يدلّ حتما ً على أنهما مفترقان لا محالة , فماذا كان الجواب / البحر خلف الباب والصحراء خلف البحر .. / أي إن اللقاء سيصبح مستحيلا ً , ولكن صوتها يأتي متمردا ً بقولها : / قبّلني على شفتيّ
قالت .. / أي أنها تريد أن تعيش هذه اللحظة الحالمة حتى آخرها .. فريتا تدعو الشاعر لأن يتابع هذا العناق , الاتحاد / التمرد , على واقع الانفصال بين البشر , على واقع الصراع المرير الذي يتجلى في الحوار التالي , بشكل أعمق وأشدّ وضوحا ً يقول :
" لا شيء . يا ريتا أقلـّد فارسا ً في أغنية ْ ...
عن لعنة الحبّ المحاصر بالمرايا ...
- عني .. ؟
- وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان , فواحد
يستلّ سكينا ً وآخر يودع الناي الوصايا .. " ( 15 )
الحبّ يمثـّل إنسانية الشاعر , والمرايا تمثل الواقع الإشكالي والصراع الدامي بين الفلسطينيين واليهود , ويؤكد هذه الثنائية الصراعية قوله : " واحد يستلّ سكينا ً / وآخر يودع الناي الوصايا " الصراع / الحب , الحرب / السلام ..
و بالتالي فهذان الصوتان يمثلان حالة الصراع في نفس القصيدة , ولكن هذا الصراع لم ينشأ إلا لوجود صراع آخر شبيه له في الواقع الخارجي ..
غير أن هذا الصراع الخارجي لم يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً آليا ً , بل يأخذ شكلا ً انعكاسيا ً جدليا ً ديناميكيا ً .. بحيث يتجلى الواقع بصورة , عمل الشاعر على تفكيكها وإعادة بنائها , من خلال الرؤيا الإبداعية ..
إذن فالحوار في هذا المشهد , لا يأتي متمّما ً للفكرة , وإنما هو الفكرة
عينها , من خلاله تتبدّى معالمها , وتظهر حالاتها المختلفة . وهنا يقترب الشاعر كثيرا ً من الحوار المسرحي الذي يشكل ركنا ً أساسيا ً في بناء المسرحية .
ولو انتقلنا إلى المشهد الرابع , نجد أن الشاعر يضعنا في جوّ دراميّ جديد كان نتيجة للمشهد الثاني , وعليه يكون المشهد الثالث اعتراضيا ً بينهما , ونستطيع ترتيب المشاهد على النحو التالي :
إن انتهاء العملية الجنسية في المشهد الثاني , لا بد أن يعقبها فترة استراحة وقيلولة للحديث . ولنا هنا أن نشير أن التفريغ الجنسي يؤدي إلى حالة
من التوازن النفسي , كما هو معروف . لأنه يعمل على إعادة التوازن
الفيزيولوجي , بشكل يتناسب مع بقية العمليات الجسدية الأخرى , مما يتيح للعقل تفكيرا ً هادئا ً , بعيدا ً عن التوتر والانفعال ..
وهذه الاستراحة تبدّت في المشهد الرابع ولننظر إلى رموز هذا الحديث :
" .. ريتا تحتسي شاي الصباح ..
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابق
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجرائد , فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي وأنا أنا . هل أنت أنت ؟
أنا هو .. " ( 16 )
فقولـه : / شاي الصباح / تعبير واضح على انقضاء الليلة السابقة .

وقوله :
/ بعشر زنابق / إشارة إلى أصابع ريتا , وهذا يوحي بنعومة هذه الفتاة
ورقتِّها . وقد نذهب إلى وضع المعادلة التالية :
ريتا = الشارع الإسرائيلي
الزنابق = الأصابع الناعمة
الأول يمثل العدوان والجريمة , والثاني يمثل الجمال والحسن . وهذان الطرفان يتحدان هنا في تكوين واحد , هو ريتا . فنخلص في النتيجة إلى أن إسرائيل تمثل حالة الخداع الحقيقي للعالم . فهي في باطنها العدوان والجريمة , وفي ظاهرها تمثل البراءة والجمال ..
ويبدأ الحوار : / لا تقرأ .. / بلا الناهية الجازمة . الجرائد تمثل واقع الصراعات والخلافات السياسية والادعاءات الكاذبة , / الطبول هي الطبول / وتنتهي ريتا بحوارها لتؤكد أنها حالة منفردة بذاتها . وبإمكاننا ترتيب الجملة / والحرب ليست .. / بشكل آخر : / وأنا أنا والحرب ليست مهنتي هل أنت أنت ؟ /
فريتا ليست انعكاسا ً لمجتمعها , كما قد يُظنّ , لأنها تؤكد أنها تريد الخروج عليه بقولها : / أتأخذني معك ؟ / وتعيد هذه الصيغة لتؤكد رغبتها في الذهاب , ولكن إلى أين يذهبان ؟
بلا شكّ إلى الوضع الجديد , إلى الحلم المنتظر , إلى عالم المحبة والسلام . ولكن ريتا هنا بما تحمله من دلالات ورموز , تريد استيعاب الشاعر بما يمثله من دلالات ورموز / وتكون لي حيا ً وميتا ً / وهذه الحالة تمثل الوضع القائم في فلسطين منذ قيام دولة إسرائيل . والشاعر يقع هنا في حالة من التشتت حين يقول :
" ضاع يا ريتا الدليلُ ..
والحب مثل الموت وعدٌ لا يردّ ولا يزول .. " ( 17 )
ولكنه يؤكد في نهاية هذا المشهد لوجدناه يتوزّع على مستويين :
- حوار خارجي , وهو المحور الذي صاغ الشاعر حوله قصيدته , وهو المرجعية الأولى للشاعر ..
- حوار داخلي يقوم على التقابل والتكرار والتداخل ..
ومثل هذا الشكل المزدوج متوفر في الحوار المسرحي بشكل جليّ واضح , حيث يتكشف الحدث تصاعديا ً من خلالهما , ويرفدانه بالحركة والتوهج اللذين يخففان من وطأة السرد ..
أما في المشهد الخامس حيث تتأزم القصيدة , باتجاهها التصاعدي نحو
عقدتها , ويصور هذا المشهد فصلا ً تابعا ً للمشهد الثاني الذي يحاول فيه تكوين الملامح الأساسية لريتا وهي نائمة في الليل , أما هنا , فيحاول تصويرها صباحا ً , من خلال التعابير التالية :
/ حذائها العالي , غيما ً أزرقا ً للياسمينة تحت إبطها , برج العاج .. إلخ /
فهي عارية تماما ً أمامه , ولعلّ تكرار عبارة / صباح الخير يا ريتا / قد يوحي بأن المخاطب / ريتا , لا تسمعه . وقد يكون حوارا ً داخليا ً في نفس الشاعر .. فالموقف هنا يفضح رغبة الشاعر وخوفه واضطرابه لرحيل ريتا , فانكبّ يعانقها : " كلما عانقت برج العاج فرّت من يديّ حمامتان " ( 11 )
فالشرط في / كلما / يتضمن معنى التكرار . ثم يبدأ بعد هذا العناق حديث متأزم ضمن إطار القصيدة العام , ولنقف قليلا ً على دلالات هذا الجزء يقول :
" قالت : سأرجع عندما تتبدّل الأيام والأحلام , يا ريتا .. طويلُ
هذا الشتاء , ونحن نحن فلا تقولي ما أقول أنا هي
هي من رأتك معلقا ً فوق السياج فأنزلتك وضمدتك
وبدمعها غسلتك وانتشرت بسوسنها عليك ..
ومررت بين سيوف أخوتها ولعنة أمها . وأنا هي
هل أنت أنت ؟ " ( 12 )
الأيام = الواقع المعيش , واقع الصراع الدامي بين العرب واليهود .
الأحلام = الواقع المتخيّل , واقع السلام والمحبة والتعايش .
الشتاء = قد يمثل حالة الصراع بين هذين الواقعين .
الدمع والسوسن = رموز إنسانية كونية .
السيوف واللعنة = التعصب اليهودي .
فهذه الخطوط كما نرى , تقوم على التضاد , وهذا التضاد يمثل حالة الاضطراب والقلق الوجودي في نفس الشاعر .
ويتابع الشاعر في المشهد الخامس تصوير ريتا , ولكنها هنا ترتدي ثيابها لتستعدّ للرحيل ويضيف هنا صفة جديدة لهذه الفتاة , فهي بيضاء / الرخام الأنثوي / , ولها شعر طويل يمتدّ على ظهرها المنمّـش .. وفي هذه اللحظات المتأزمة , يحاول الشاعر توطيد هذه العلاقة التي تقوم بين
الأضداد ..
وتبدأ ريتا الحديث بخوف :
" أأنت لي ..؟
لك لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ , لي
ماض ٍ أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة ْ " ( 13 )
فالاستفهام / أأنتَ لي ؟ / يعبّر عن الانفصال المتوقـّع , والخوف من المجهول الآتي .. ويأتي الجواب / لكِ / ولكنه مشروط بقوله / لو تركت الباب مفتوحا ً على ماضيّ .. / ولكن ما هو هذا الماضي الذي يولد من غياب ريتا , أي غياب دلالاتها العنصرية , هذا الماضي الذي يحضر الآن , وكأنه شيء ملموس كالطاولة, بوصفها رمزا ً للحوار المفقود ..
إنه الماضي / الحلم / الثورة / الإنسان / الحرية / ماضي البعد الإنساني ..
وقد يكون ماضي الصراع العربي الإسرائيلي , وما خلفه من دماء وانكسارات ولاسيما في الجانب الفلسطيني ..
وهنا تؤكد ريتا ثورتها العارمة على مجتمعها الإسرائيلي المشبع بعقائد دموية متعصبة :
" إني ولدت لكي أحبّكْ ..
وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبكْ
ووجدت حرّاس المدينة يطعمون النار حبـّكْ ..
إني ولدت لكي أحبّكْ .. " ( 14 )
هذه اللهجة الثورية الغاضبة , تمثل توهجا ً جديدا ً , وتصاعدا ً في الحوار الشعري هنا , وتمثل نقطة تحوّل مهمة إلى جوهر القصيدة وقضيتها المحورية .
ويصل الشاعر في المشهد السادس إلى نقطة ارتكاز أخرى هي حالة توحّد إنساني وصيغة تلاقح كونيّ , حين يصبح هو البوتقة التي توضع فيها تجارب الآخرين . فالشاعر لا يريد إلا العيش الطبيعي في أرض يعمّها السلام :
" لي هذه الأرض الصغيرة غرفة في شارع
في الطابق الأرضيّ من مبنى على جبل
يطلّ على هواء البحر , لي قمر نبيذيّ ولي حجر صقيلُ
لي حصّة من مشهد الموج المسافر في الغيوم وحصة
من سفر تكوين البداية , حصة من سفر أيّوب ومن
عيد الحصاد .. " ( 15 )
هذا الانصهار الكليّ في أدقّ خصوصيات الآخر , يشكل قمّة الهرم الإنساني عند محمود درويش . فالآخر هنا , هو الآخر العدو / اليهودي . ولكنّ الانصهار لا يكون إلا في الملامح الإنسانية التي يحتويها تراث هذا العدوّ , وليس في بعده العدواني الدمويّ . ونلحظ نوعا ً من التماهي مع معطيات روائية تحاول البحث عن الجزئيات الصغيرة لأهمية دورها في البناء العام ..
" لو تعبرين النهر يا ريتا ..
وأين النهر ؟ قالت .
قلت : فيك وفيّ نهرٌ واحد ...
وأنا أسيل دما ً وذاكرة أسيلُ ... " ( 16 )
فقوله / تعبرين النهر / قد يكون إحالة على بدايات اليهودية , أو يكون النهر الحدّ الفاصل بين فكرين متناقضين , الأنا / الآخر , الفلسطيني / الإسرائيلي , فعبور النهر يؤدّي إلى حالة من التوحّد وفتح شكل من الحوار الإنساني الخلاق ..
لكن درويش يكتشف ضيق الدائرة التي يدور فيها , في نهاية هذا المشهد حيث تلتهب لغته بكل مشاعر الرفض والصراع الذي يزيد من تأزّم الموقف أكثر , فيصرخ :
" لم يقتلونا بعدُ يا ريتا ويا ريتا ثقيلُ
هذا الشتاء وبارد .. " ( 17 )
وتتمخض القصيدة في النهاية , عن نتيجة نهائية , شأنها في ذلك شأن
المسرح . حيث يكشف المشهد الأخير انفراج الأزمة ببلوغ الحدث
ذروته .. حيث تختصر ريتا بأغنية صغيرة تاريخا ً من الصراع الممتدّ إلى أجيال وعصور بعيدة :
" ريتا تغني وحدها
لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها
قرب البحيرة وحدها , تبكي طفولتي البعيدة
بعدها في كلّ أمسية تنام على ظفيرتي الصغيرة عندها
أمي كسرتُ طفولتي وخرجت امرأة تربّي نهدها
بفم الحبيب .. " ( 18 )
ونقطة التكثيف هنا تكمن في الجملة الأخيرة / تربّي نهدها بفم الحبيب / فهي تعود إلى حالة طبيعية , حالتها كأم , كامرأة . والرضاعة هنا دلالة على كسر اللامنطقي بالمنطقي , والتخلص من كلّ حالات الشذوذ بهذه الحالة الأمومية الحانية .. ويكتشف الشاعر قضيته المستحيلة في نهاية القصيدة :
" عبثا ً نغني بين هاويتين فلنرحلْ ليتضح السبيلُ
" .... "
وضعتْ مسدسها الصغير على مسوّدة القصيدة .
ورمتْ جواربها على الكرسيّ فانكسر الهديلُ
ومضتْ إلى المجهول حافية وأدركني الرحيلُ "( 19 )
فنشدان التوازن عبث لا جدوى منه , فالهاويتان تمثلان طرفي المعادلة :
الحرب / السلام , الفلسطينيين / الإسرائيليين ..
ويدلّ حرف الجرّ / على / على الاستعلاء . إذن , لقد حسمت القضية لمصلحة المسدس , وليس لمصلحة القصيدة . أي للحرب لا للسلام . فينكسر الهديل العذب , فيكون الرحيل .. وهكذا تتوضح معالم القصيدة كلها , مكوّنة حدثا ً زمنيا ً يمتدّ فترة قصيرة لا تتجاوز الليلة وبعض الليلة , وتتجاذب أطراف هذا الحدث التصاعدي التفاعلي شخصيتان أساسيتان
هما : الشاعر وحبيبته . ولكلّ منهما دلالات وخلفيات تمثل حالة من التناقض على أرض الواقع . والحدث يبدأ بالممارسة الجنسية , أي بالخاص جدا ً , لينتهي بحالة الصراع الأزلي الممتدّ , أي بالعام جدا ً ..
وفي حين تتوضّح لنا معالم الشخصية الأولى / ريتا , التي تمثل حدودا ً
معينة بذاتها , ومجتمعا ً له خصوصيته وسماته المميزة , نجد الشخصية
الثانية / الشاعر , وهو النقيض للشخصية الأولى , لا يضيق ضمن حدود واضحة المعالم . فهذه الشخصية ذات صفات مفتوحة لا نهائية , تتطور باستمرار ولا تقف عند شكل أو قالب معين , كما وجدنا في الشخصية الأولى التي اتخذت شكلا ً واحدا ً وإلى الأبد .
ونتساءل أخيرا ً في هذا القسم : هل نحن أمام نص شعري أم أمام نصّ
مسرحيّ ؟
وجوابنا يكون ما قاله محمود درويش مرة : " لعلي أحتار بين إيثاري للشعر أم للمسرح لأني مفتون بكلّ ما يتعلق بالمسرح . " ( 20 )

الحواشي :

( 7 ) – محمود درويش - ديوان محمود درويش – مج 2 – ط 1 – دار العودة – بيروت – 1994 –
ص 540
( 8 ) – محمود درويش – المصدر نفسه – 542 .
( 9 ) – المصدر السابق نفسه – ص 539
( 10 ) – المصدر السابق نفسه – ص 549
( 11 ) - - د . فهد عكام – دراسات فنية وجمالية – محاضرات في قسم الدراسات العليا – جامعة دمشق – 1997غير مطبوعة .
( 12 ) - سيجموند فرويد – تفسير الأحلام – تر . مصطفى صفوان – دار المعارف – مصر – ط 2 – 1969 – ص 359
( 13 ) - - رجاء النقاش – محمود درويش شاعر الأرض المحتلة – ط 1 - دار الهلال – مصر – 1969 – ص 140
( 14 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 541
( 15 ) - المصدر السابق نفسه .
( 16 ) - محمود درويش – ديوان محمود درويش – مج 2 – ص 542
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 543
( 11 ) - المصدر السابق نفسه .
( 12 ) - المصدر السابق نفسه – ص 544
( 13 ) - المصدر السابق نفسه .
( 14 ) - المصدر السابق نفسه – ص 545
( 15 ) - المصدر السابق نفسه – ص 546
( 16 ) - المصدر نفسه .
( 17 ) - المصدر السابق نفسه – ص 547
( 18 ) - المصدر السابق نفسه .
( 19 ) - المصدر نفسه
( 20 ) - محمود درويش – شيء عن الوطن – دار العودة – بيروت - ط 1 – 1970 – ص 284


* * *
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف