يستيقظ سالم ضحى كعادته كل يوم، يفتح عينه المتحررة من ضغط الوسادة ليقع بصره على زركشة السجاد الذي يغطي أرضية قاعة الجلوس حيث يطيب له دائما أن يقضي الليل لرحابتها فضلا عن انقطاعها عن باقي أرجاء المنزل. لم تتعود عيناه بعد على ألوان السجاد الذي كان قد اقتني حديثا، حيث أن أمه اعتادت أن تغير في أثاث المنزل كلما قل اهتمامها به، فلطالما رددت في ثرثراتها أنها تحب رائحة الجديد ولون الجديد وملمس الجديد. لم تلبث عيناه طويلا في التجول بين النسيج المزين للسجاد حتى خلع الغطاء ونهض. اتجه بخطوات ثقيلة نحو الحمام، غسل وجهه بالماء والصابون مثنى وثلاث كمن يخلع قناعا ويتحضر لوضع آخر. كان يحرص على القيام بذلك قبل أن يقابل احد، يفرك أسنانه و يمشط الشعر القليل على رأسه ثم ينظر إلى المرآة ويبتسم كمن يقول لنفسه صباح الخير يا سالم، اليوم يوم آخر.
بخطى نشيطة لكن متأنية يقصد سالم غرفة الجلوس حيث اعتاد هو و أمه و زوجة أخيه تناول طعام الإفطار. قبل أن يصل إلى الغرفة تصل إليه رائحة حساء الشعير الساخن مما
يبث الحماس في عروقه فتسرع خطاه للوصول. عندما يطل على الغرفة – كمن يشاهد المنظر لأول مرة– تتجول عيناه في الغرفة مخفيتان بهجة عارمة تعتريه رغم انه نفس المشهد كل يوم، مائدة الإفطار البسيطة عليها لبن و خبز و زيت، والحساء تضعه أمه أمامها و تقلبه حتى يبرد. أما زوجة أخيه فتحافظ دائما على مسافة كافية تامن عبرها من عدم رضا الأم الذي لا ينتهي عند حد. أخيرا يستقر نظره على مكانه الشاغر حيث سيقوم بصنع الشاي الذي لا يطيب طعام في مجتمع الصحراء من دونه. يضع نصف ظهره على وسادة تاركا رأسه الكبيرة في الفراغ ثم يشرع في تغيير المحطات على التلفاز مستعذبا بطء جريان الدم في عروقه. تتكلم أمه كثيرا كعادتها معلقة على كل ما يلفت انتباهها إن كان عرضا على التلفاز أو كان صوت الجيران أو حتى كانت الكلمات المقتضبة التي تكسر من خلالها زوجة أخيه صمتها والتي تعاني كثيرا في إخراجها إذ تعتبرها السبيل الوحيد حتى لا يرى الآخرون انكسارها. أما سالم فلا يتحدث إلا إذا سئل عن شيء ويكون بعباراته القليلة المتأنية الواثقة كمن اجبر على الحديث
بعد أن تكون جرعة النشاط قد بلغت الأصابع بفضل مفعول الشاي الأخضر وقبل أن يمل من استلقائه بعد أن يكون النساء قد انصرفن إلى شؤونهن يرن الهاتف وبعد تبين الرقم يجيب كمن لا يزال في فراشه يصارع الكسل و ذلك لفرط ما اعتاد على تلقي هذا النوع من المكالمات و على طول النهار و الليل.
"ألوا حبيبي" بأنفاس تحاكي بهجة العصافير في مستهل الربيع "هل استيقظت؟" "امممه" بصوت خشن كمن لا رغبة له في الحديث.
كيف لي أن اقبل على الحياة بهذا الحماس لولا الألوان التي علمتني أن أراها، كيف لي أن أحظى بكل هذا القبول لولا الكلمات التي استوحيها عندما استحضر صورتك التي لا تفارقني، صباح الخير يا حياتي.
ألا تملين.
و هل أمل من التحليق؟ هل سأراك اليوم؟
بلى، ولكن أمهليني إلى ما بعد الظهر لأنه لدي ما أقوم به.
كان يحزنها انه يجيب كل الدعوات إلا دعوتها حيث كان إما يرفض أو يماطل حتى و إن كان يتوق إلى رؤيتها.
علي أن ازور أختي و لكن قد لا افعل إذا لم أجد... ماذا؟ هل تحتاج إلى شيء؟
لا لا لا لاشيء فقط تعلمين الصغار
لا تأجل زيارتك لدي ما يحتاجه الأطفال مر علي الآن و أأكد لك سيسرون لرؤيتك و لكن هل سأراك بعد ذلك؟
ابتسم سالم ليس بسبب الهدايا التي لم يعد يراها إلا كقربان و إنما لأنه سيخرج إلى العالم ثم أجاب بهدوئه الجاف سأجيبك بعد الظهر.
بعد أن اقفل الخط استغرقت مريم في تفكير عميق يجعلها تحس بأنها تدور في حلقة مغلقة حولها دوامة من المخاوف و التنبؤات إلى أن تحس بالاختناق و بان قلبها سيثب خارج صدرها. كان التفكير هو كل ما هي عاكفة عليه لاسيما بعد أن كان سالم قد اختار اللحظة التي سينهي فيها الحلم، الحلم الذي كانت تعيش فيه و من أجله. يبدو انه قرر أن يمضي كعادته و كما اعتادت أمه أن تفعل كلما أحست بأن الأثاث فقد أثره البراق في عينيها. فقد كان مطاردا للحظات في كل مكان حاصدا لها و راميا إياها ورائه بعد امتصاص رحيقها.
تقضي اليوم مريم كل وقتها على هذا الحال شاردة الذهن، مستغرقة في تفكير يصيبها بحرقة في البطن، هواجس لا تستطيب معها لحظة كما لا تبارحها و لو للحظة. تقضي الوقت كله منزوية بعيدة عن كل أهلها و أصدقائها رغم كونهم لا يغادروها و لا تغادرهم فهم يسبحون في بحر حبها الذي يفيض به قلبها و الذي ظلت على طول السنين الخمس التي خلت تعتقد أنها تستمده من حبيبها، فالشعور الذي كانت تكنه له لم تكن تسميه حبا لأنه لم يجد ما يقابله في أي من قصص الحب التي شاهدتها أو قرأت عنها أو حتى سمعت عنها.
مريم الآن لا هي في السماء كما تعودت أن تشعر و هو بجانبها و لا هي على الأرض كما هي حال بقية الناس. الألوان من حولها لا حياة فيها كلون الظلمة في ليلة غاب عنها القمر. يمر الناس عليها، يخاطبونها فلا تستطيع مخاطبتهم كأن الدم توقف في عروقها. بدأت أطرافها تتجمد لفرط ما لازمت مكانها و امتنعت عن الحركة. فجأة، رفعت مريم عيناها فوقعتا على المرآة، عادت عيناها إلى الشرود الذي كانتا فيه قبل أن تحس بأنها اشتاقت إلى رؤية وجهها و هي تتذكر عذوبة اللحظات التي كانت تفضيها أمام المرآة كلما كانت على موعد معه.
جلست أمام المرآة.أخذت طرف شعرها و شدته إلى الأمام ثم شرعت تمشطه. فعلت ذلك بحركات بطيئة لا حماسة فيها كما لا هدف منها سوى أنها تحقق لها ذلك الشعور الجميل الذي كان يعتريها كلما كانت على موعد معه، أيام كانت لا تعرف السكون أبدا، فلقد كانت إبان التحضير لملاقاته تكاد لا تجلس، تكاد لا تلبث للحظة في مكان واحد، الموسيقى تجعلها تطير و رائحة العطر تحول الأشياء من حولها إلى جنة غناء، الزمن حين التحضير للقائه قصير لكنها تتمنى لو تستطيع أن تطويه طيا لاستعجال قدومه من اجل الذوبان على صدر غطرسته و الاستمتاع بنغمات كذباته. قبل الجلوس إلى المرآة التي لم تكن تطيق الجلوس أمامها لشدة جريان الدم في عروقها كان عليها أن تحضر الحلوى و المشروبات، أشياء كان يفرحه أن يراها لكنه لا يلقي بالا إلى محاولة جلبها معه؛ حتى الهدية كان يبخل بها لأنه كان يعلم بأنه اكبر هدية بالنسبة إليها.
من بين أصابعها وقع المشط. عادت مريم من الإبحار في ذاكرتها، تنفست بعمق كأنها كانت تركض في أغوار الماضي ملاحقة اللحظات الحلوة، لم تقم بأية ردة فعل حيال سقوط المشط لشدة الوهن و الارتخاء الذي تحسه في أطرافها و حواسها جراء الركض عكس عقارب الساعة، لكنها انتبهت وهي تستعيد وعيها إلى أنها تنظر إلى عينيها في المرآة.
صعقت حين لاحظت أن بريق عينيها كان قد أفل دون أن تدري. هي تعرف جيدا ذلك البريق ، لقد كان بريق الطفولة، بريق الذكاء و الطموح و إرادة الحياة، انه البريق الذي تميزت به و خبرت كيف تميز بين الآخرين بمقدار ما يشع ذلك البريق في أعينهم، تملكها ضيق شديد زاد منه أن سقط نظرها على غضون طفيفة أسفل عينيها. أحست بهواء ساخن يملأ صدرها فزعا و غضبا و حسرة. ثم بعد ذلك و كأن الشمس أضاءت جانبا من فؤادها ظل مظلما لسنوات، بدت و كأنها تبصر من جديد كما اعتادت أن تفعل قبل أن تسلم روحها.
رن جرس الباب لكنها ظلت ثابتة في مكانها، ثم رن هاتفها، إنها رنته، لكن كأن لم تسمعها ظلت مصوبة انتباهها على عينيها في المرآة تساءل نفسها كيف و لماذا أصبحت مجرد شيء في يد سالم؟ لماذا سخيت له بروحي؟ ألست أنا من اختارت؟ هل يعقل أنني الآن ادفع الثمن و أنا اعتقد أني اجني الثمار؟ ماذا أعطاني إذ أعطيته وجودي؟ اهو ظله الذي يغمرني كلما وجد فسحة فراغ في ساعته؟ كيف رضيت أن أعيش تحت الظل؟ ثم رفعت رأسها. لكن هل فات الأوان؟ هل استحق أن أعيش حياة أفضل؟ ألست أنا من يصنع السعادة؟
مريم الآن منهكة من التفكير لكن شعورها بأنها تستعيد روحها و تحيا من جديد جعل الشجاعة تدب في أوصالها، كأن طبقة من الشمع كانت قد تكدست عبر سنين تذوب و تتلاشى لتطالع مريم على المرآة وجها كان قد فارقها منذ زمن و نظرات كانت قد غابت حتى عن ذاكرتها، نظرات كلها شموخ و كبرياء و تحدي وما يرافق ذلك من حب و عطاء و هي إذ تعطي لا تسعى وراء مقابل و إنما تستثمر لتجني.
نهضت مريم من كرسيها وهي تحس بطاقة تدفعها هي تدري جيدا مصدرها، اتجهت صوب الباب، كان سالم قد توقف عن القرع لكنه لم يذهب لأنه موقن بأنها لا تجرؤ على خلف موعده. فتحت فإذا به واقفا مستندا على إطار الباب وينظر من شدة عدم الاكتراث إلى حيث تضع قدميها وكان باد عليه انه لم يبذل جهدا في اختيار ملابسه. عند دخوله تنبه إلى غياب أي مظهر من المظاهر التي اعتادها في استقباله. نظر إليها ليفاجأ بأنها هي الأخرى لا تضع أي زينة كما لا تلبس ثوبا يليق باستقباله ثم قال لها:
هل كنت نائمة؟
لا! لماذا ؟
ظننتك تتجهزين، ماذا كنت تفعلين كل هذا الوقت؟
كنت أفكر.
لماذا؟ هل حصل شيء؟
هل يجب أن يحصل شيء أم انك عهدتني امرأة لا تفكر؟
ثم وبعصبيته المعهودة والتي كانت دائما تجعلها ترتعب وتستكين مخافة أن يغضب ويهجرها:
ماذا دهاك اليوم .. ناوليني هدية الأطفال فانا في عجلة من أمري.
أرادت أن تصرخ في وجهه لكنها تمالكت نفسها ثم قالت:
اجبني أولا هل تحبني؟
بالله عليك لماذا تسألينني هذا السؤال الآن؟
أحس بالنزق، أراد أن يقوم بأي شيء عدا أن يجيبها عن سؤالها، جلس على كرسي بجانبه ثم أشعل سيجارة، كان يحتاج إلى ذلك الوقت لكي يحاول فهم الأمر ففي كلامها نبرة أربكته إذ ذكرته بأيام كان يحاول الإيقاع بها، قوية وجريئة ومنطلقة كحصان جامح.
لا تزال مريم تتحداه بصمتها أن يجيب ولا يزال هو جالس وعلامات التوتر بادية على الدخان المنبعث من فمه وانفه. عندما قال سالم انه ينوي إنهاء العلاقة مدعيا ودون أن يطلب رأيها انه لا يستطيع الزواج،
ولأنه لا يريد أن يظلمها معه، قرر وبمفرده انه من الأفضل لهما أن يفترقا علها تحظى بفرصة أفضل. لكنه لم يكن يعني ما قال فقد تعود حبك هذا النوع من الحكايات، إنما كانت تلك وسيلته لكي يحكم سيطرته عليها حتى تظل كما أرادها دائما طيعة. في الحقيقة هو لا يحبها لان قلبه لا يعرف الحب رغم انه يتقن البوح بحبه لها، لكنه كان يحتاج إليها، إذ معها فقط أحس برجولة كاملة فقد كانت قوية وجميلة ولا ترى في الكون سواه.
اجل أنا احبك وأنت تعلمين ذلك وتعلمين انه لولا ذلك ما قضيت معك كل تلك السنين وتعلمين أيضا انه لأني احبك ارغب لك الخير و أريد مصلحتك..
حسبك! دعني أوفر عليك أدائك السخيف لهذا الدور الرخيص. أنت لا تحبني ولا أرى في عينيك سوى مكر الثعالب وانحناءة الجبناء. أما أنا فقلبي لا ينبض إلا بحبك بيد أني كرهت الآن كل لحظة قضيتها في التفكير بك، كرهت كل لحظة عشتها في حب قناص جاهل يقضي يومه في ملاحقة اللحظات الملاح، كرهت اللحظات التي قضيتها في التفيء تحت ظلك استمع إلى مواعظك في العشق التي تلقنني إياها وأنت في حل منها. لو كنت تحبني ما تفوهت قط بكلمة الفراق حتى ولو كانت كما تدعي في مصلحتي فلا مصلحة لإنسان في فراق من يحب. أحببتك ومنحتك كل شيء وعزمت أن اجعل منك إنسانا يحبني و يحرص علي، يشاركني حياتي ويضيء أيامي لكن يقتلني الآن أني رضيت منك احترافك لإذلالي. بيد انك أخطأت إذ خلتني جثة لا تستجيب سوى لرغباتك الأولية فقد أكون أحببتك دونما اختيار مني لكني سأمضي عنك الآن اختيارا. اخرج من حياتي.
بخطى نشيطة لكن متأنية يقصد سالم غرفة الجلوس حيث اعتاد هو و أمه و زوجة أخيه تناول طعام الإفطار. قبل أن يصل إلى الغرفة تصل إليه رائحة حساء الشعير الساخن مما
يبث الحماس في عروقه فتسرع خطاه للوصول. عندما يطل على الغرفة – كمن يشاهد المنظر لأول مرة– تتجول عيناه في الغرفة مخفيتان بهجة عارمة تعتريه رغم انه نفس المشهد كل يوم، مائدة الإفطار البسيطة عليها لبن و خبز و زيت، والحساء تضعه أمه أمامها و تقلبه حتى يبرد. أما زوجة أخيه فتحافظ دائما على مسافة كافية تامن عبرها من عدم رضا الأم الذي لا ينتهي عند حد. أخيرا يستقر نظره على مكانه الشاغر حيث سيقوم بصنع الشاي الذي لا يطيب طعام في مجتمع الصحراء من دونه. يضع نصف ظهره على وسادة تاركا رأسه الكبيرة في الفراغ ثم يشرع في تغيير المحطات على التلفاز مستعذبا بطء جريان الدم في عروقه. تتكلم أمه كثيرا كعادتها معلقة على كل ما يلفت انتباهها إن كان عرضا على التلفاز أو كان صوت الجيران أو حتى كانت الكلمات المقتضبة التي تكسر من خلالها زوجة أخيه صمتها والتي تعاني كثيرا في إخراجها إذ تعتبرها السبيل الوحيد حتى لا يرى الآخرون انكسارها. أما سالم فلا يتحدث إلا إذا سئل عن شيء ويكون بعباراته القليلة المتأنية الواثقة كمن اجبر على الحديث
بعد أن تكون جرعة النشاط قد بلغت الأصابع بفضل مفعول الشاي الأخضر وقبل أن يمل من استلقائه بعد أن يكون النساء قد انصرفن إلى شؤونهن يرن الهاتف وبعد تبين الرقم يجيب كمن لا يزال في فراشه يصارع الكسل و ذلك لفرط ما اعتاد على تلقي هذا النوع من المكالمات و على طول النهار و الليل.
"ألوا حبيبي" بأنفاس تحاكي بهجة العصافير في مستهل الربيع "هل استيقظت؟" "امممه" بصوت خشن كمن لا رغبة له في الحديث.
كيف لي أن اقبل على الحياة بهذا الحماس لولا الألوان التي علمتني أن أراها، كيف لي أن أحظى بكل هذا القبول لولا الكلمات التي استوحيها عندما استحضر صورتك التي لا تفارقني، صباح الخير يا حياتي.
ألا تملين.
و هل أمل من التحليق؟ هل سأراك اليوم؟
بلى، ولكن أمهليني إلى ما بعد الظهر لأنه لدي ما أقوم به.
كان يحزنها انه يجيب كل الدعوات إلا دعوتها حيث كان إما يرفض أو يماطل حتى و إن كان يتوق إلى رؤيتها.
علي أن ازور أختي و لكن قد لا افعل إذا لم أجد... ماذا؟ هل تحتاج إلى شيء؟
لا لا لا لاشيء فقط تعلمين الصغار
لا تأجل زيارتك لدي ما يحتاجه الأطفال مر علي الآن و أأكد لك سيسرون لرؤيتك و لكن هل سأراك بعد ذلك؟
ابتسم سالم ليس بسبب الهدايا التي لم يعد يراها إلا كقربان و إنما لأنه سيخرج إلى العالم ثم أجاب بهدوئه الجاف سأجيبك بعد الظهر.
بعد أن اقفل الخط استغرقت مريم في تفكير عميق يجعلها تحس بأنها تدور في حلقة مغلقة حولها دوامة من المخاوف و التنبؤات إلى أن تحس بالاختناق و بان قلبها سيثب خارج صدرها. كان التفكير هو كل ما هي عاكفة عليه لاسيما بعد أن كان سالم قد اختار اللحظة التي سينهي فيها الحلم، الحلم الذي كانت تعيش فيه و من أجله. يبدو انه قرر أن يمضي كعادته و كما اعتادت أمه أن تفعل كلما أحست بأن الأثاث فقد أثره البراق في عينيها. فقد كان مطاردا للحظات في كل مكان حاصدا لها و راميا إياها ورائه بعد امتصاص رحيقها.
تقضي اليوم مريم كل وقتها على هذا الحال شاردة الذهن، مستغرقة في تفكير يصيبها بحرقة في البطن، هواجس لا تستطيب معها لحظة كما لا تبارحها و لو للحظة. تقضي الوقت كله منزوية بعيدة عن كل أهلها و أصدقائها رغم كونهم لا يغادروها و لا تغادرهم فهم يسبحون في بحر حبها الذي يفيض به قلبها و الذي ظلت على طول السنين الخمس التي خلت تعتقد أنها تستمده من حبيبها، فالشعور الذي كانت تكنه له لم تكن تسميه حبا لأنه لم يجد ما يقابله في أي من قصص الحب التي شاهدتها أو قرأت عنها أو حتى سمعت عنها.
مريم الآن لا هي في السماء كما تعودت أن تشعر و هو بجانبها و لا هي على الأرض كما هي حال بقية الناس. الألوان من حولها لا حياة فيها كلون الظلمة في ليلة غاب عنها القمر. يمر الناس عليها، يخاطبونها فلا تستطيع مخاطبتهم كأن الدم توقف في عروقها. بدأت أطرافها تتجمد لفرط ما لازمت مكانها و امتنعت عن الحركة. فجأة، رفعت مريم عيناها فوقعتا على المرآة، عادت عيناها إلى الشرود الذي كانتا فيه قبل أن تحس بأنها اشتاقت إلى رؤية وجهها و هي تتذكر عذوبة اللحظات التي كانت تفضيها أمام المرآة كلما كانت على موعد معه.
جلست أمام المرآة.أخذت طرف شعرها و شدته إلى الأمام ثم شرعت تمشطه. فعلت ذلك بحركات بطيئة لا حماسة فيها كما لا هدف منها سوى أنها تحقق لها ذلك الشعور الجميل الذي كان يعتريها كلما كانت على موعد معه، أيام كانت لا تعرف السكون أبدا، فلقد كانت إبان التحضير لملاقاته تكاد لا تجلس، تكاد لا تلبث للحظة في مكان واحد، الموسيقى تجعلها تطير و رائحة العطر تحول الأشياء من حولها إلى جنة غناء، الزمن حين التحضير للقائه قصير لكنها تتمنى لو تستطيع أن تطويه طيا لاستعجال قدومه من اجل الذوبان على صدر غطرسته و الاستمتاع بنغمات كذباته. قبل الجلوس إلى المرآة التي لم تكن تطيق الجلوس أمامها لشدة جريان الدم في عروقها كان عليها أن تحضر الحلوى و المشروبات، أشياء كان يفرحه أن يراها لكنه لا يلقي بالا إلى محاولة جلبها معه؛ حتى الهدية كان يبخل بها لأنه كان يعلم بأنه اكبر هدية بالنسبة إليها.
من بين أصابعها وقع المشط. عادت مريم من الإبحار في ذاكرتها، تنفست بعمق كأنها كانت تركض في أغوار الماضي ملاحقة اللحظات الحلوة، لم تقم بأية ردة فعل حيال سقوط المشط لشدة الوهن و الارتخاء الذي تحسه في أطرافها و حواسها جراء الركض عكس عقارب الساعة، لكنها انتبهت وهي تستعيد وعيها إلى أنها تنظر إلى عينيها في المرآة.
صعقت حين لاحظت أن بريق عينيها كان قد أفل دون أن تدري. هي تعرف جيدا ذلك البريق ، لقد كان بريق الطفولة، بريق الذكاء و الطموح و إرادة الحياة، انه البريق الذي تميزت به و خبرت كيف تميز بين الآخرين بمقدار ما يشع ذلك البريق في أعينهم، تملكها ضيق شديد زاد منه أن سقط نظرها على غضون طفيفة أسفل عينيها. أحست بهواء ساخن يملأ صدرها فزعا و غضبا و حسرة. ثم بعد ذلك و كأن الشمس أضاءت جانبا من فؤادها ظل مظلما لسنوات، بدت و كأنها تبصر من جديد كما اعتادت أن تفعل قبل أن تسلم روحها.
رن جرس الباب لكنها ظلت ثابتة في مكانها، ثم رن هاتفها، إنها رنته، لكن كأن لم تسمعها ظلت مصوبة انتباهها على عينيها في المرآة تساءل نفسها كيف و لماذا أصبحت مجرد شيء في يد سالم؟ لماذا سخيت له بروحي؟ ألست أنا من اختارت؟ هل يعقل أنني الآن ادفع الثمن و أنا اعتقد أني اجني الثمار؟ ماذا أعطاني إذ أعطيته وجودي؟ اهو ظله الذي يغمرني كلما وجد فسحة فراغ في ساعته؟ كيف رضيت أن أعيش تحت الظل؟ ثم رفعت رأسها. لكن هل فات الأوان؟ هل استحق أن أعيش حياة أفضل؟ ألست أنا من يصنع السعادة؟
مريم الآن منهكة من التفكير لكن شعورها بأنها تستعيد روحها و تحيا من جديد جعل الشجاعة تدب في أوصالها، كأن طبقة من الشمع كانت قد تكدست عبر سنين تذوب و تتلاشى لتطالع مريم على المرآة وجها كان قد فارقها منذ زمن و نظرات كانت قد غابت حتى عن ذاكرتها، نظرات كلها شموخ و كبرياء و تحدي وما يرافق ذلك من حب و عطاء و هي إذ تعطي لا تسعى وراء مقابل و إنما تستثمر لتجني.
نهضت مريم من كرسيها وهي تحس بطاقة تدفعها هي تدري جيدا مصدرها، اتجهت صوب الباب، كان سالم قد توقف عن القرع لكنه لم يذهب لأنه موقن بأنها لا تجرؤ على خلف موعده. فتحت فإذا به واقفا مستندا على إطار الباب وينظر من شدة عدم الاكتراث إلى حيث تضع قدميها وكان باد عليه انه لم يبذل جهدا في اختيار ملابسه. عند دخوله تنبه إلى غياب أي مظهر من المظاهر التي اعتادها في استقباله. نظر إليها ليفاجأ بأنها هي الأخرى لا تضع أي زينة كما لا تلبس ثوبا يليق باستقباله ثم قال لها:
هل كنت نائمة؟
لا! لماذا ؟
ظننتك تتجهزين، ماذا كنت تفعلين كل هذا الوقت؟
كنت أفكر.
لماذا؟ هل حصل شيء؟
هل يجب أن يحصل شيء أم انك عهدتني امرأة لا تفكر؟
ثم وبعصبيته المعهودة والتي كانت دائما تجعلها ترتعب وتستكين مخافة أن يغضب ويهجرها:
ماذا دهاك اليوم .. ناوليني هدية الأطفال فانا في عجلة من أمري.
أرادت أن تصرخ في وجهه لكنها تمالكت نفسها ثم قالت:
اجبني أولا هل تحبني؟
بالله عليك لماذا تسألينني هذا السؤال الآن؟
أحس بالنزق، أراد أن يقوم بأي شيء عدا أن يجيبها عن سؤالها، جلس على كرسي بجانبه ثم أشعل سيجارة، كان يحتاج إلى ذلك الوقت لكي يحاول فهم الأمر ففي كلامها نبرة أربكته إذ ذكرته بأيام كان يحاول الإيقاع بها، قوية وجريئة ومنطلقة كحصان جامح.
لا تزال مريم تتحداه بصمتها أن يجيب ولا يزال هو جالس وعلامات التوتر بادية على الدخان المنبعث من فمه وانفه. عندما قال سالم انه ينوي إنهاء العلاقة مدعيا ودون أن يطلب رأيها انه لا يستطيع الزواج،
ولأنه لا يريد أن يظلمها معه، قرر وبمفرده انه من الأفضل لهما أن يفترقا علها تحظى بفرصة أفضل. لكنه لم يكن يعني ما قال فقد تعود حبك هذا النوع من الحكايات، إنما كانت تلك وسيلته لكي يحكم سيطرته عليها حتى تظل كما أرادها دائما طيعة. في الحقيقة هو لا يحبها لان قلبه لا يعرف الحب رغم انه يتقن البوح بحبه لها، لكنه كان يحتاج إليها، إذ معها فقط أحس برجولة كاملة فقد كانت قوية وجميلة ولا ترى في الكون سواه.
اجل أنا احبك وأنت تعلمين ذلك وتعلمين انه لولا ذلك ما قضيت معك كل تلك السنين وتعلمين أيضا انه لأني احبك ارغب لك الخير و أريد مصلحتك..
حسبك! دعني أوفر عليك أدائك السخيف لهذا الدور الرخيص. أنت لا تحبني ولا أرى في عينيك سوى مكر الثعالب وانحناءة الجبناء. أما أنا فقلبي لا ينبض إلا بحبك بيد أني كرهت الآن كل لحظة قضيتها في التفكير بك، كرهت كل لحظة عشتها في حب قناص جاهل يقضي يومه في ملاحقة اللحظات الملاح، كرهت اللحظات التي قضيتها في التفيء تحت ظلك استمع إلى مواعظك في العشق التي تلقنني إياها وأنت في حل منها. لو كنت تحبني ما تفوهت قط بكلمة الفراق حتى ولو كانت كما تدعي في مصلحتي فلا مصلحة لإنسان في فراق من يحب. أحببتك ومنحتك كل شيء وعزمت أن اجعل منك إنسانا يحبني و يحرص علي، يشاركني حياتي ويضيء أيامي لكن يقتلني الآن أني رضيت منك احترافك لإذلالي. بيد انك أخطأت إذ خلتني جثة لا تستجيب سوى لرغباتك الأولية فقد أكون أحببتك دونما اختيار مني لكني سأمضي عنك الآن اختيارا. اخرج من حياتي.