قدّم مصطفى لطفي المنفلوطي في أدبه صورة صادقة عن الواقع الذي عاشه في مصر في بدايات القرن العشرين، ولم يقتصر اهتمامه على الأمة المصرية، والتعبير عن أوضاعها الاجتماعية والأخلاقية فحسب، وإنما تعدى هذا الاهتمام إلى الشرق الإسلامي كله، ومقالاته الإسلامية نحو: "دمعة على الإسلام"، و"المؤتمر الإسلامي"، و"وارحمتاه"، وغيرها خير دليل على اهتمامه بأحوال الأمة الإسلامية كلها.
وكان يلتقط معظم موضوعاته من حياة الناس اليومية، من الحادثة العابرة التي قد لا يحفل الناس بها، ولا يعيرونها أيّ اهتمام، فيستوقفهم المنفلوطي عندها، ويسلّط عليها الأضواء من نفسه، حتى يصل من خلالها إلى غرضه الأساسي وهو إصلاح المجتمع، وتهذيب النفوس، وسمو الأخلاق الفاضلة في نفوس الناس.
والجانب الذي حشد له المنفلوطي طاقاته الإبداعية، وقدراته البيانية في التعبير عن هذه الحياة الاجتماعية هو جانب النقد، سعيًا في طريق الإصلاح، والدعوة للتخلق بالفضائل، والتحذير من الوقوع في براثن الرذائل والآثام. ولقد كان المجتمع الذي عاش فيه المنفلوطي يعاني أوصاباً كثيرة؛ خُلقية واجتماعية، سادت فيه ضروب الظلم والقهر والاستبداد، وعانى منه سواد الشعب الأمرّين على مستوى الفرد والجماعة. وكان المنفلوطي يشعر شعورًا حاداً بهذا البؤس الاجتماعي، فقام يحارب هذه الأمراض والأسقام، ويوجّه نقدا لاذعاً إلى طبقة الإقطاعيين، والأغنياء الذين يستأثرون بالمال دون الفقراء، وينقد انسياق بعض الناس وراء سلبيات المدنية الغربية، والولوع بخداع الفتيات الشريفات ومراودتهن عن أنفسهن، وإلى الكثير من المظاهر السلبية في حياة المجتمع المصري آنذاك. وهو يقول في ذلك: "فكان من همّي أن أدلّ على شرور الأشرار الكامنة في نفوسهم، وأن أكشف الستر عن دخائل قلوبهم حتى يتراءوا ويتكاشفوا. فيتواقفوا ويتحاجزوا، فلا يهنأ خادع بخدعته، ولا يبكي مخدوع على نكبته، ولا يتخذ بعضهم بعضا حُمُراً يركبونها إلى أغراضهم ومطامعهم".
اعتمدت مادة كلّ من مقالات المنفلوطي، وقصصه الاجتماعية على عنصر التأمل والملاحظة في الحياة من حوله، ثم التفكير فيما يلتقطه منها، والتعبير عنها بأسلوب مليء بالانفعال العاطفي، غير عابئ برضا الناس أو سخطهم، فهو ليس في عِداد أولئك الأدباء والكتّاب الذين يجلسون ساعات طويلة إلى مناضدهم مطرقين واجمين، واضعين أكفّهم على خدودهم، مفكرين في الموضوع الذي عسى أن يكتبوا فيه. يقول المنفلوطي في ذلك: "أني ما كنت أحمل نفسي على الكتابة حملاً، ولا أجلس إلى منضدتي مُطرقاً مفكراً: ماذا أكتب اليوم، وأيّ الموضوعات أعجب وأغرب وألذّ وأشوق، وأيها أعلق بالنفوس، وألصق بالقلوب؟ بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرّة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم ولا أتطلّب رضاهم".
وإن أغلب الأدباء والكتّاب الذين يسلكون سبيل النقد الاجتماعي، ويحاولون الارتقاء والنهوض بمجتمعاتهم والعمل على رفع مستواها، وتيسير سُبل الحياة فيها، يلتقطون موضوعاتهم من الحياة حولهم، حيث يتابعون الأحداث التي تقع في المجتمع بكلّ دقّة. وقد تحدث حادثة دون أن تسترعي انتباه أحد فيمّر الناس بها دون عناية ولا اهتمام، لكنها تملك على الأدباء والمفكّرين قلوبهم فيعبّرون عنها كلٌّ حسب ثقافته وطبعه وسجيّته. يقول الدكتور محمد أبو الأنوار: "وبالطبع هذه الرؤيا التي تلتقط موضوعاتها من الحياة حولها هي أعظم وسيلة يسلكها كتّاب النقد الاجتماعي الذين يحاولون النهوض بمجتمعاتهم".
وكان هدف المنفلوطي وغايته وراء هذا النقد الذي وجهه إلى الأدواء الاجتماعية والأوصاب الخلقية، هو إصلاح المجتمع من المفاسد التي انتشرت فيه، وترقيق القلوب على البائسين والمرزوئين، وتهذيب النفوس على الأخلاق الكريمة، وانقاذ الفضيلة من مخالب الرذيلة. ولم لا؟ وقد نصب نفسه لخدمة الحقيقة ومناصرتها على الباطل، ووقف قلمه على تهذيب النفوس وترقية الأخلاق، ليعيش الناس حياة فاضلة ناجحة بعيدة عن مهاوي التردي والانحطاط.
ولقد كان نقده للأوبئة والأمراض الاجتماعية هذه مُشبعًا بالثورة على الواقع الذي حاول جاهداً تغييره إلى الأفضل والأحسن، يلمح القارئ فيه الطرفة، والفكاهة حيناً، والتهكم والسخرية حيناً آخر.
بالغ المنفلوطي في تجسيم بعض الأوبئة والآفات الاجتماعية، فمثلاً يوحي مقاله "أين الفضيلة" بأن المجتمع فاسد جملة واحدة، فقد ظهر الفساد في البرّ والبحر، وعمّ البلاء المجتمع كله، ولم تعد هناك بارقة أمل تضيء في هذا الظلام الحالك. كما اتخذ من بعض الحوادث الفردية ظاهرة عامة، كما في حديثه عن انتحار الطلبة إثر سقوطهم في الامتحانات، إذ لا يُتصور أن يكون الانتحار منتشراً وشائعاً بهذا العدد الهائل بين جماهير الطلبة كما ذكر المنفلوطي، بل ربما لا يعدو الأمر حادثة أو حادثتين.
ولكن لا يعني هذه المبالغة والتهويل في أدبه أنه كان يائسا أو متشائماً، أو أنه ما كان ينظر إلا إلى مواضع السيئآت ومواقع الزلات والسقطات، بل لعلّ سبب هذا التهويل والمبالغة هو حرص المنفلوطي الشديد على ألاّ يشاهد أيّ انحراف مهما صغر شأنه عن جادة الصواب والحق والفضيلة. ومثله في ذلك مثل المصلحين الاجتماعيين، وأصحاب الخطب والمواعظ في كل زمان ومكان في تحذير الناس من السقوط في المزالق والآثام، أو إيقاظ هممهم ونشاطهم لإحراز غرض اجتماعي ما.
هكذا كان منهج نقد المنفلوطي للمفاسد الاجتماعية التي وجدت في عصره، يحارب الفساد والانحراف، ويريد الخير للمجتمع، ويدعو إلى التسامح وعدم التعصب، والتزام الجادة والصواب، وينفر عن الزيغ والفساد، متأثرا بنشأته ودراسته وتلمذته للإمام محمد عبده.
كتبه: فرمان الله خان
وكان يلتقط معظم موضوعاته من حياة الناس اليومية، من الحادثة العابرة التي قد لا يحفل الناس بها، ولا يعيرونها أيّ اهتمام، فيستوقفهم المنفلوطي عندها، ويسلّط عليها الأضواء من نفسه، حتى يصل من خلالها إلى غرضه الأساسي وهو إصلاح المجتمع، وتهذيب النفوس، وسمو الأخلاق الفاضلة في نفوس الناس.
والجانب الذي حشد له المنفلوطي طاقاته الإبداعية، وقدراته البيانية في التعبير عن هذه الحياة الاجتماعية هو جانب النقد، سعيًا في طريق الإصلاح، والدعوة للتخلق بالفضائل، والتحذير من الوقوع في براثن الرذائل والآثام. ولقد كان المجتمع الذي عاش فيه المنفلوطي يعاني أوصاباً كثيرة؛ خُلقية واجتماعية، سادت فيه ضروب الظلم والقهر والاستبداد، وعانى منه سواد الشعب الأمرّين على مستوى الفرد والجماعة. وكان المنفلوطي يشعر شعورًا حاداً بهذا البؤس الاجتماعي، فقام يحارب هذه الأمراض والأسقام، ويوجّه نقدا لاذعاً إلى طبقة الإقطاعيين، والأغنياء الذين يستأثرون بالمال دون الفقراء، وينقد انسياق بعض الناس وراء سلبيات المدنية الغربية، والولوع بخداع الفتيات الشريفات ومراودتهن عن أنفسهن، وإلى الكثير من المظاهر السلبية في حياة المجتمع المصري آنذاك. وهو يقول في ذلك: "فكان من همّي أن أدلّ على شرور الأشرار الكامنة في نفوسهم، وأن أكشف الستر عن دخائل قلوبهم حتى يتراءوا ويتكاشفوا. فيتواقفوا ويتحاجزوا، فلا يهنأ خادع بخدعته، ولا يبكي مخدوع على نكبته، ولا يتخذ بعضهم بعضا حُمُراً يركبونها إلى أغراضهم ومطامعهم".
اعتمدت مادة كلّ من مقالات المنفلوطي، وقصصه الاجتماعية على عنصر التأمل والملاحظة في الحياة من حوله، ثم التفكير فيما يلتقطه منها، والتعبير عنها بأسلوب مليء بالانفعال العاطفي، غير عابئ برضا الناس أو سخطهم، فهو ليس في عِداد أولئك الأدباء والكتّاب الذين يجلسون ساعات طويلة إلى مناضدهم مطرقين واجمين، واضعين أكفّهم على خدودهم، مفكرين في الموضوع الذي عسى أن يكتبوا فيه. يقول المنفلوطي في ذلك: "أني ما كنت أحمل نفسي على الكتابة حملاً، ولا أجلس إلى منضدتي مُطرقاً مفكراً: ماذا أكتب اليوم، وأيّ الموضوعات أعجب وأغرب وألذّ وأشوق، وأيها أعلق بالنفوس، وألصق بالقلوب؟ بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرّة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم ولا أتطلّب رضاهم".
وإن أغلب الأدباء والكتّاب الذين يسلكون سبيل النقد الاجتماعي، ويحاولون الارتقاء والنهوض بمجتمعاتهم والعمل على رفع مستواها، وتيسير سُبل الحياة فيها، يلتقطون موضوعاتهم من الحياة حولهم، حيث يتابعون الأحداث التي تقع في المجتمع بكلّ دقّة. وقد تحدث حادثة دون أن تسترعي انتباه أحد فيمّر الناس بها دون عناية ولا اهتمام، لكنها تملك على الأدباء والمفكّرين قلوبهم فيعبّرون عنها كلٌّ حسب ثقافته وطبعه وسجيّته. يقول الدكتور محمد أبو الأنوار: "وبالطبع هذه الرؤيا التي تلتقط موضوعاتها من الحياة حولها هي أعظم وسيلة يسلكها كتّاب النقد الاجتماعي الذين يحاولون النهوض بمجتمعاتهم".
وكان هدف المنفلوطي وغايته وراء هذا النقد الذي وجهه إلى الأدواء الاجتماعية والأوصاب الخلقية، هو إصلاح المجتمع من المفاسد التي انتشرت فيه، وترقيق القلوب على البائسين والمرزوئين، وتهذيب النفوس على الأخلاق الكريمة، وانقاذ الفضيلة من مخالب الرذيلة. ولم لا؟ وقد نصب نفسه لخدمة الحقيقة ومناصرتها على الباطل، ووقف قلمه على تهذيب النفوس وترقية الأخلاق، ليعيش الناس حياة فاضلة ناجحة بعيدة عن مهاوي التردي والانحطاط.
ولقد كان نقده للأوبئة والأمراض الاجتماعية هذه مُشبعًا بالثورة على الواقع الذي حاول جاهداً تغييره إلى الأفضل والأحسن، يلمح القارئ فيه الطرفة، والفكاهة حيناً، والتهكم والسخرية حيناً آخر.
بالغ المنفلوطي في تجسيم بعض الأوبئة والآفات الاجتماعية، فمثلاً يوحي مقاله "أين الفضيلة" بأن المجتمع فاسد جملة واحدة، فقد ظهر الفساد في البرّ والبحر، وعمّ البلاء المجتمع كله، ولم تعد هناك بارقة أمل تضيء في هذا الظلام الحالك. كما اتخذ من بعض الحوادث الفردية ظاهرة عامة، كما في حديثه عن انتحار الطلبة إثر سقوطهم في الامتحانات، إذ لا يُتصور أن يكون الانتحار منتشراً وشائعاً بهذا العدد الهائل بين جماهير الطلبة كما ذكر المنفلوطي، بل ربما لا يعدو الأمر حادثة أو حادثتين.
ولكن لا يعني هذه المبالغة والتهويل في أدبه أنه كان يائسا أو متشائماً، أو أنه ما كان ينظر إلا إلى مواضع السيئآت ومواقع الزلات والسقطات، بل لعلّ سبب هذا التهويل والمبالغة هو حرص المنفلوطي الشديد على ألاّ يشاهد أيّ انحراف مهما صغر شأنه عن جادة الصواب والحق والفضيلة. ومثله في ذلك مثل المصلحين الاجتماعيين، وأصحاب الخطب والمواعظ في كل زمان ومكان في تحذير الناس من السقوط في المزالق والآثام، أو إيقاظ هممهم ونشاطهم لإحراز غرض اجتماعي ما.
هكذا كان منهج نقد المنفلوطي للمفاسد الاجتماعية التي وجدت في عصره، يحارب الفساد والانحراف، ويريد الخير للمجتمع، ويدعو إلى التسامح وعدم التعصب، والتزام الجادة والصواب، وينفر عن الزيغ والفساد، متأثرا بنشأته ودراسته وتلمذته للإمام محمد عبده.
كتبه: فرمان الله خان