للكاتب / محمد نصار
كان الأسبوع الأول بالغ الأثر في نفسها ، خصوصا حين لامست التحول الذي أصابها وانعكس على نظرتها للحياة من حولها وقد كانت تحسبها قد توقفت لحظة أن غادرتها مكرهة، لتمضي ثلاث سنوات حبيسة الجدران والأسئلة ، ثلاث سنوات كان بمقدورها أن تفعل فيها الشيء الكثير ولكنها ذهبت هباء ، ثلاث سنوات ستجعل منها وقود مشوارها الجديد في الحياة و منارة درب تعينها على استكشاف الطريق ، فلربما تستطيع من خلال هذا العزم أن تستعيد بعض ما سلبته السنون منها .
استهوتها الفكرة .. فأصرت على تنفيذها .. أرادت أن تعيش حياتها .. أن تجد ذاتها ، فالكل من حولها يبحثون عن ذواتهم .. أنا ومن بعدي الطوفان شعار المرحلة .
لم تتبين نظرات أمها المذهولة وهي تودعها إلى الباب وربما لم تسمعها حين تمتمت بصوت مسموع : مكياج وزوجها في السجن ! ..
غمرتها النشوة إثر الإرباك الذى أوقعته فى نفس أمها وتغززت قناعتها بصحة أفعالها ، فلم تأبه للنظرات التى راحت تلاحقها على طول الطريق إلى الموقف ولا السائق الذى ما كف عن تحريك المرآة الداخلية حتى تبقى مسلطة عليها , فظلت على ابتسامتها وكأن الأمر لا يخصها .
قبل أن ترن جرس الباب جذبت المنديل عن رأسها وتركته يطوق عنقها ، ضغطت على الزر فطالعها وجه الرجل .
- صباح الخير يا عم إبراهيم .
- صباح النور يابنتى . ، رد الرجل متلعثما ولمع فى عينية ذلك البريق الذى فى عين أمها , لم تلتفت خلفها.. تركته يداري ارتباكه واتجهت نحو مكتبها .
كان زمليها المحاسب قد سبقها فى الوصول، ألقت التحية فرفع رأسه ليرد ، فأبت الكلمات أن تخرج من فمه ، ظل يحدق فيها إلى أن جلست وراء مكتبها , ففطن للفوضى التى أصابته .. تملكه الحرج حينها ورد بتلعثم : أهلا صباح النور.
تناولت إحدى الصحف ، راحت تقلب أورقها ، أقبل الساعى بقهوة الصباح ووضع الفنجان أمامها ... ارتشفت رشفه وأعادته إلى مكانه .
أحست به يختلس النظر إليها ، فأخفت وجهها بين أوراق الصحيفة مدعية الانشغال بالقراءة .. نظرت إليه خلسة، فرأته يفعل ذلك رغم ادعائه بالانهماك في العمل .
رن جرس الباب مرة أخرى , فرد الساعى من المطبخ مستمهلا الطارق , ثم تريث قليلا حتى فارت القهوة فعاد الرنين من جديد و بوتيرة أطول مما سبق , وضع الوعاء جانبا واتجه إلى الباب يعتريه الضيق : هيه .. يا أخي قلنا لحظة .
فتح الباب فتجمدت الكلمات فى حلقه ، إذ لم يخطر بباله أن يكون الطارق .. ترى ما الذى أتى به فى هذه الساعة المبكرة ؟ . ، تساءل مستغربا .
- ساعة .. يا.. ؟ .
- أسف يا باشا أسف .
أزاحه من طريقة محاولا مداراة غضبة , سار باتجاه المكتب دون أن يلتفت إلى أى من العاملين فى المكان و تاركا ظلالا من الدهشة تكسو الوجه .
نظرت إلى ساعتها فكانت تشير إلى الثامنة والربع , فحمدت الله فى نفسها أن وصلت فى الوقت المحدد لدوامها ، لكنها فشلت فى الإجابة على تساؤل راح يدور فى خلدها : ما سر وصوله المبكر ؟ .
, التفتت جهة زمليها , فلمحت الشىء ذاته فى عينيه , فأدركت بأنهم لم يعتادوا هذا الأمر من قبل ، بدليل أن السكرتيرة لم تصل بعد ، مما أثار وساوسها وجعلها تظن الأمر مقصودا لكى تتسنى له معرفة الموظفة الجديدة ومدى انضباطها .
- آنسة أحلام .
- نعم يا عمى إبراهيم .
- المدير .
اكتفى بالإشاراة وانصرف يحادث نفسه ، تركته وأسرعت إلى غرفة المدير , طرقت الباب ، رفع رأسه عن الأوراق التى أمامه .. نظر إليها ، فلمع بريق فى عينيه .. حاول مدراته عنها , ولكن الأمر كان أصعب مما اعتقد .
- تفضلي يا أحلام .
لمحت الأثر الذى أوقعته فى نفسة رغم التدارك الذى أبداه ، إلا أنها لمست ذلك بكل وضوح .
- هل أنتهيت من ترجمة الرسائل ؟ .
- نعم ماعدا واحدة أعدتها لهناء لكى تصحح بعض الأخطاء المطبعية .
- إذن أنجزيها حتى نرسلها اليوم .
- بعدها ما و صلت .
- أيش ؟ . , صاح كا لملدوغ .. ما وصلت ، الساعة تسعة وما وصلت... ابراهيم .... ابرهيم .
- نعم ياباشا . , أقبل الرجل مهرولا .
- ابعث لى هناء فور وصولها .... فاهم .
- حاضر ياباشا . حاضر .
- وأنت تفضلى على مكتبك .
لملمت أذيالها وانسلت بصمت تحاصرها ملامح وجهه المحتدة وتطالعها العيون من حولها بيريق يحاول استكشاف ما حدث , فتجاهلتها وانصرفت إلى مكتبها تقلب ذات الصحيفة مبدية عدم اكتراثها بالنظرات التى مافتئت تتسلل إليها .. تلامس وحهها .. تبحث بين تعابيره عن تفسير يشبع فضولها .
رن جرس الباب فرفعت رأسها عن الصحيفة لتنظر من القادم ، صدق حدسها ... تلاقت النظرات .. تبدلت ملامح الفتاة .. حاولت مداراة انفعالاتها .. أحرزت بعض التقدم، لكنها فشلت فى كبت ردة الفعل الأولى .
لمست أحلام ما يراودها ، فعمدت إلى أغاظتها ، أخرجت مرآه صغيرة من حقبية يدها أخدت تنظر فيها بتأمل وصمت , كأنها لاترى أحدا سواها .. راحت تمسد خصلات شعرها , كأنما تعيد تصفيفها من جديد وبين الحين والآخر ترمقها من طرف خفي ، فتختبىء الفتا ة خلف انشغالها المصطنع بالبحث في أدراج المكتب .
- آنسة هناء .
- نعم يا عم إبراهيم .
- المدير في انتظارك .
شحب لونها ودارت عيناها تستقرئ الوجوه من حولها طمعا في نظرة أو كلمة تنير لها معالم الطريق ، إلا أن أملها قد خاب فيهم ولم تحظى بغير نظرات باهتة لا حياة فيها ، فوقفت تداري ارتبكاها وبصوت لا يخلو من توتر سألته مستفسرة : متى وصل ؟ .
- قبل نص ساعة .
نظرت إليهم نظرة تحدي، ثم اندفعت باتجاه الغرفة وما صفقت الباب خلفها حتى وصلت إلى مسامعهم شظايا عبارات المدير التي انفجرت في وجهها كبركان هادر .
كتمت غيظها وانصرفت .. أغلقت الباب خلفها ، تريثت لتمسح دموعها ، فانتكأ الجرح رغما عنها .. هرولت باتجاه الحمام خشية أن يرى دموعها أحد من الموظفين ، فتحت الصنبور بأقصى طاقته فعلا خرير الماء مداريا نحيبها ، أفرغت شحنات انفعالها فشعرت بتحسن ما ، نظرت في المرآة ومسحت وجهها بحذر خشية أن يزول المكياج ، فتلاشى وجهها في المرآة وطالعها وجه المدير .. أغمضت عينيها .. لعنت حظها العاثر .. لامت نفسها ، لكن هواجسها أوهمتها بأن الأمر مدبر وإلا لماذا جاء اليوم مبكرا ؟ ، وما سر الهياج الذي أصابه على هذا التقصير البسيط ؟.، لابد من محرض وإن كان الأمر كذلك فلا مصلحة لأحد في ذلك سواها .
اتسمت الأيام التالية بنشاط غير اعتيادي ، زبائن ومراجعين .. مراسلات تأتي وأخرى تروح ،الأمر الذي استدعى جهدا مضاعفا من قبل الجميع في المكتب ، اضطرهم في بعض الأحيان إلى البقاء بعد انتهاء الدوام لساعات طوال وأجبرهم على العمل بروح الفريق الواحد، رغم بعض المشاحنات التي تسببها مثل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر .
فلم تف الفتاة بالوعود التي قطعتها على نفسها ، بل حاولت قدر المستطاع أن تظهر بمظهر الزميلة والصديقة وقد بات واضحا لها أن أي مواجهة مع أحلام غير مأمونة العواقب بعد القرب الذي أحدثته والحظوة التي نالتها عند المدير .
إلا أنها كانت تفقد السيطرة على مشاعرها في بعض الأحيان، فتند عنها حركة تفضح ما تبطن في نفسها ، لكن ذلك كله لم يكن ليؤثر على أحلام بعد المكانة التي اكتسبتها في العمل والحظوة التي تزداد يوما بعد يوم عند المدير ، لدرجة أنه بات يكلفها ببعض المهام التي لا يطلع عليها أحدا غيرها في المكتب .
- اليوم راح نقابل وفد أجنبي . ، وجه الحديث إليها منتظرا الإجابة .
- بالتوفيق . ، ردت ببرود .
- راح تكوني معي .
- أنا ! .
- نعم أنت .
صعدت إلى جواره وجلست بصمت ، أدار المحرك وانطلقت العربة تشق طريقها بصعوبة وبطء جراء الزحام ، نظر إلى ساعته بتوتر جعلها تسأله بلطف : هل تأخرنا ؟ .
- إن بقينا على هذا الحال فلن نصل في الموعد .
- أي وفد سنقابل ؟ .
- عن شركة أمريكية .
اجتازت العربة مركز شرطة العباس واقتربت من المنعطف الأخير في الشارع ، فدغدغت أهدابها نسائم البحر ، ثم ظهرت أمامها صفحة الماء الزرقاء وهي تلامس بطن السماء عند خط الأفق البعيد ، بهرها المنظر .. شدها بشكل كامل ، فما شعرت بنظراته المتسللة إلى وجهها تتفحصه .. تتحسسه وهي مؤخوذة بالمشهد ، تتابع قوارب الصيادين وهي تمخر في عرض البحر .. تلاحقها بنظراتها حتى تبدو كنقطة على السطح ثم تختفي .
انحرفت العربة يسارا، ثم واصلت سيرها على الطريق المحاذي للساحل ، اهتزت اللوحة أمامها .. تشوشت تداخلت فيها الصور .. الفنادق والواجهات الجميلة .. الباحات الأمامية، حيث توقفت العربة في إحداها ، نظر إلى ساعته والتفت نحوها قائلا : لقد وصلنا في الوقت المحدد .
أغلق الباب واتجه مسرعا إلى الصالة ، تبعته تفصلها مسافة قصيرة عنه ، وقف ليسأل موظف الاستقبال ، فهز الرجل رأسه وأشار بيده إلى طاولة في الركن ، فجلس في الركن الذي يقابل الموظف ، أخرج علبة سجائره وأشعل لفافة منها ، ثم دفع العلبة تجاهها فردتها بلطف وقالت ممازحة : لا أغير سجائري .
- صحيح !! ، فغر فاهه مصعوقا .
- لا .. كنت أمزح .
تردد صدى ضحكاتها في المكان .. شد الأنظار إليها ، فتملكها الحرج .. طأطأت رأسها ، ثم قالت بحياء لمع في عينيها : لا أدخن ولكني مزحت معك .
فتح باب المصعد كاشفا عن شخوص ثلاثة ، رجلان وامرأة ، أحدهما في الخمسين من عمره ، طويل بعض الشيء والثاني يميل إلى السمنة ويصغره ببضع سنين ، أما الفتاة فربما كانت في عقدها الثالث ، تتمتع بجمال عادي وقوام جسده بنطال الجينز والقميص الذي لا يستر شيئا تحته .
اقتربوا منهما فوقفا مرحبين ، أقبل على الفتاة فبديا لها متعارفين .. عرفت زميليها عليه وهو بدوره عرفهم على أحلام التي تفاجأت بتمكنه من اللغة التي ادعى بأنه لا يعرف منها إلا القليل وأنه بحاجة لوجودها حتى تسهل المهمة عليه .
ضرب المقود بيده وصاح منتشيا : ضربة العمر .. مليون دولار .. عارفة أيش يعني مليون دولار .. وجهك حلو علي .
هربت بوجهها تداري خجلا راح يكسوه بحمرة غامرة .. تواري وهجا ينبعث من وجنتيها .. تختبئ من نظراته المتقدة فتمسك بها في لحظة ضعف ، تداعب وجنتيها .. تمسد خصلات شعرها .. عنقها ، ثم تحط على كتفها .. تتسلل إلى الخاصرة .. تطوقها .. تعتصرها .. تتملص منها بعناء .. تنظر إلى ساعتها وتصيح باضطراب مفتعل : يا إلهي الثالثة والنصف .
- راح أوصلك للبيت .
- ما تتعب حالك .. أنزل في الساحة وأواصل من هناك .
- هذا أقل الواجب .
- ما عملت غير واجبي .
- عملتي الكثير وتستحقي مكافأة كمان .
- شكرا على تعاطفك معي .
- هذا حقك .
كان الأسبوع الأول بالغ الأثر في نفسها ، خصوصا حين لامست التحول الذي أصابها وانعكس على نظرتها للحياة من حولها وقد كانت تحسبها قد توقفت لحظة أن غادرتها مكرهة، لتمضي ثلاث سنوات حبيسة الجدران والأسئلة ، ثلاث سنوات كان بمقدورها أن تفعل فيها الشيء الكثير ولكنها ذهبت هباء ، ثلاث سنوات ستجعل منها وقود مشوارها الجديد في الحياة و منارة درب تعينها على استكشاف الطريق ، فلربما تستطيع من خلال هذا العزم أن تستعيد بعض ما سلبته السنون منها .
استهوتها الفكرة .. فأصرت على تنفيذها .. أرادت أن تعيش حياتها .. أن تجد ذاتها ، فالكل من حولها يبحثون عن ذواتهم .. أنا ومن بعدي الطوفان شعار المرحلة .
لم تتبين نظرات أمها المذهولة وهي تودعها إلى الباب وربما لم تسمعها حين تمتمت بصوت مسموع : مكياج وزوجها في السجن ! ..
غمرتها النشوة إثر الإرباك الذى أوقعته فى نفس أمها وتغززت قناعتها بصحة أفعالها ، فلم تأبه للنظرات التى راحت تلاحقها على طول الطريق إلى الموقف ولا السائق الذى ما كف عن تحريك المرآة الداخلية حتى تبقى مسلطة عليها , فظلت على ابتسامتها وكأن الأمر لا يخصها .
قبل أن ترن جرس الباب جذبت المنديل عن رأسها وتركته يطوق عنقها ، ضغطت على الزر فطالعها وجه الرجل .
- صباح الخير يا عم إبراهيم .
- صباح النور يابنتى . ، رد الرجل متلعثما ولمع فى عينية ذلك البريق الذى فى عين أمها , لم تلتفت خلفها.. تركته يداري ارتباكه واتجهت نحو مكتبها .
كان زمليها المحاسب قد سبقها فى الوصول، ألقت التحية فرفع رأسه ليرد ، فأبت الكلمات أن تخرج من فمه ، ظل يحدق فيها إلى أن جلست وراء مكتبها , ففطن للفوضى التى أصابته .. تملكه الحرج حينها ورد بتلعثم : أهلا صباح النور.
تناولت إحدى الصحف ، راحت تقلب أورقها ، أقبل الساعى بقهوة الصباح ووضع الفنجان أمامها ... ارتشفت رشفه وأعادته إلى مكانه .
أحست به يختلس النظر إليها ، فأخفت وجهها بين أوراق الصحيفة مدعية الانشغال بالقراءة .. نظرت إليه خلسة، فرأته يفعل ذلك رغم ادعائه بالانهماك في العمل .
رن جرس الباب مرة أخرى , فرد الساعى من المطبخ مستمهلا الطارق , ثم تريث قليلا حتى فارت القهوة فعاد الرنين من جديد و بوتيرة أطول مما سبق , وضع الوعاء جانبا واتجه إلى الباب يعتريه الضيق : هيه .. يا أخي قلنا لحظة .
فتح الباب فتجمدت الكلمات فى حلقه ، إذ لم يخطر بباله أن يكون الطارق .. ترى ما الذى أتى به فى هذه الساعة المبكرة ؟ . ، تساءل مستغربا .
- ساعة .. يا.. ؟ .
- أسف يا باشا أسف .
أزاحه من طريقة محاولا مداراة غضبة , سار باتجاه المكتب دون أن يلتفت إلى أى من العاملين فى المكان و تاركا ظلالا من الدهشة تكسو الوجه .
نظرت إلى ساعتها فكانت تشير إلى الثامنة والربع , فحمدت الله فى نفسها أن وصلت فى الوقت المحدد لدوامها ، لكنها فشلت فى الإجابة على تساؤل راح يدور فى خلدها : ما سر وصوله المبكر ؟ .
, التفتت جهة زمليها , فلمحت الشىء ذاته فى عينيه , فأدركت بأنهم لم يعتادوا هذا الأمر من قبل ، بدليل أن السكرتيرة لم تصل بعد ، مما أثار وساوسها وجعلها تظن الأمر مقصودا لكى تتسنى له معرفة الموظفة الجديدة ومدى انضباطها .
- آنسة أحلام .
- نعم يا عمى إبراهيم .
- المدير .
اكتفى بالإشاراة وانصرف يحادث نفسه ، تركته وأسرعت إلى غرفة المدير , طرقت الباب ، رفع رأسه عن الأوراق التى أمامه .. نظر إليها ، فلمع بريق فى عينيه .. حاول مدراته عنها , ولكن الأمر كان أصعب مما اعتقد .
- تفضلي يا أحلام .
لمحت الأثر الذى أوقعته فى نفسة رغم التدارك الذى أبداه ، إلا أنها لمست ذلك بكل وضوح .
- هل أنتهيت من ترجمة الرسائل ؟ .
- نعم ماعدا واحدة أعدتها لهناء لكى تصحح بعض الأخطاء المطبعية .
- إذن أنجزيها حتى نرسلها اليوم .
- بعدها ما و صلت .
- أيش ؟ . , صاح كا لملدوغ .. ما وصلت ، الساعة تسعة وما وصلت... ابراهيم .... ابرهيم .
- نعم ياباشا . , أقبل الرجل مهرولا .
- ابعث لى هناء فور وصولها .... فاهم .
- حاضر ياباشا . حاضر .
- وأنت تفضلى على مكتبك .
لملمت أذيالها وانسلت بصمت تحاصرها ملامح وجهه المحتدة وتطالعها العيون من حولها بيريق يحاول استكشاف ما حدث , فتجاهلتها وانصرفت إلى مكتبها تقلب ذات الصحيفة مبدية عدم اكتراثها بالنظرات التى مافتئت تتسلل إليها .. تلامس وحهها .. تبحث بين تعابيره عن تفسير يشبع فضولها .
رن جرس الباب فرفعت رأسها عن الصحيفة لتنظر من القادم ، صدق حدسها ... تلاقت النظرات .. تبدلت ملامح الفتاة .. حاولت مداراة انفعالاتها .. أحرزت بعض التقدم، لكنها فشلت فى كبت ردة الفعل الأولى .
لمست أحلام ما يراودها ، فعمدت إلى أغاظتها ، أخرجت مرآه صغيرة من حقبية يدها أخدت تنظر فيها بتأمل وصمت , كأنها لاترى أحدا سواها .. راحت تمسد خصلات شعرها , كأنما تعيد تصفيفها من جديد وبين الحين والآخر ترمقها من طرف خفي ، فتختبىء الفتا ة خلف انشغالها المصطنع بالبحث في أدراج المكتب .
- آنسة هناء .
- نعم يا عم إبراهيم .
- المدير في انتظارك .
شحب لونها ودارت عيناها تستقرئ الوجوه من حولها طمعا في نظرة أو كلمة تنير لها معالم الطريق ، إلا أن أملها قد خاب فيهم ولم تحظى بغير نظرات باهتة لا حياة فيها ، فوقفت تداري ارتبكاها وبصوت لا يخلو من توتر سألته مستفسرة : متى وصل ؟ .
- قبل نص ساعة .
نظرت إليهم نظرة تحدي، ثم اندفعت باتجاه الغرفة وما صفقت الباب خلفها حتى وصلت إلى مسامعهم شظايا عبارات المدير التي انفجرت في وجهها كبركان هادر .
كتمت غيظها وانصرفت .. أغلقت الباب خلفها ، تريثت لتمسح دموعها ، فانتكأ الجرح رغما عنها .. هرولت باتجاه الحمام خشية أن يرى دموعها أحد من الموظفين ، فتحت الصنبور بأقصى طاقته فعلا خرير الماء مداريا نحيبها ، أفرغت شحنات انفعالها فشعرت بتحسن ما ، نظرت في المرآة ومسحت وجهها بحذر خشية أن يزول المكياج ، فتلاشى وجهها في المرآة وطالعها وجه المدير .. أغمضت عينيها .. لعنت حظها العاثر .. لامت نفسها ، لكن هواجسها أوهمتها بأن الأمر مدبر وإلا لماذا جاء اليوم مبكرا ؟ ، وما سر الهياج الذي أصابه على هذا التقصير البسيط ؟.، لابد من محرض وإن كان الأمر كذلك فلا مصلحة لأحد في ذلك سواها .
اتسمت الأيام التالية بنشاط غير اعتيادي ، زبائن ومراجعين .. مراسلات تأتي وأخرى تروح ،الأمر الذي استدعى جهدا مضاعفا من قبل الجميع في المكتب ، اضطرهم في بعض الأحيان إلى البقاء بعد انتهاء الدوام لساعات طوال وأجبرهم على العمل بروح الفريق الواحد، رغم بعض المشاحنات التي تسببها مثل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر .
فلم تف الفتاة بالوعود التي قطعتها على نفسها ، بل حاولت قدر المستطاع أن تظهر بمظهر الزميلة والصديقة وقد بات واضحا لها أن أي مواجهة مع أحلام غير مأمونة العواقب بعد القرب الذي أحدثته والحظوة التي نالتها عند المدير .
إلا أنها كانت تفقد السيطرة على مشاعرها في بعض الأحيان، فتند عنها حركة تفضح ما تبطن في نفسها ، لكن ذلك كله لم يكن ليؤثر على أحلام بعد المكانة التي اكتسبتها في العمل والحظوة التي تزداد يوما بعد يوم عند المدير ، لدرجة أنه بات يكلفها ببعض المهام التي لا يطلع عليها أحدا غيرها في المكتب .
- اليوم راح نقابل وفد أجنبي . ، وجه الحديث إليها منتظرا الإجابة .
- بالتوفيق . ، ردت ببرود .
- راح تكوني معي .
- أنا ! .
- نعم أنت .
صعدت إلى جواره وجلست بصمت ، أدار المحرك وانطلقت العربة تشق طريقها بصعوبة وبطء جراء الزحام ، نظر إلى ساعته بتوتر جعلها تسأله بلطف : هل تأخرنا ؟ .
- إن بقينا على هذا الحال فلن نصل في الموعد .
- أي وفد سنقابل ؟ .
- عن شركة أمريكية .
اجتازت العربة مركز شرطة العباس واقتربت من المنعطف الأخير في الشارع ، فدغدغت أهدابها نسائم البحر ، ثم ظهرت أمامها صفحة الماء الزرقاء وهي تلامس بطن السماء عند خط الأفق البعيد ، بهرها المنظر .. شدها بشكل كامل ، فما شعرت بنظراته المتسللة إلى وجهها تتفحصه .. تتحسسه وهي مؤخوذة بالمشهد ، تتابع قوارب الصيادين وهي تمخر في عرض البحر .. تلاحقها بنظراتها حتى تبدو كنقطة على السطح ثم تختفي .
انحرفت العربة يسارا، ثم واصلت سيرها على الطريق المحاذي للساحل ، اهتزت اللوحة أمامها .. تشوشت تداخلت فيها الصور .. الفنادق والواجهات الجميلة .. الباحات الأمامية، حيث توقفت العربة في إحداها ، نظر إلى ساعته والتفت نحوها قائلا : لقد وصلنا في الوقت المحدد .
أغلق الباب واتجه مسرعا إلى الصالة ، تبعته تفصلها مسافة قصيرة عنه ، وقف ليسأل موظف الاستقبال ، فهز الرجل رأسه وأشار بيده إلى طاولة في الركن ، فجلس في الركن الذي يقابل الموظف ، أخرج علبة سجائره وأشعل لفافة منها ، ثم دفع العلبة تجاهها فردتها بلطف وقالت ممازحة : لا أغير سجائري .
- صحيح !! ، فغر فاهه مصعوقا .
- لا .. كنت أمزح .
تردد صدى ضحكاتها في المكان .. شد الأنظار إليها ، فتملكها الحرج .. طأطأت رأسها ، ثم قالت بحياء لمع في عينيها : لا أدخن ولكني مزحت معك .
فتح باب المصعد كاشفا عن شخوص ثلاثة ، رجلان وامرأة ، أحدهما في الخمسين من عمره ، طويل بعض الشيء والثاني يميل إلى السمنة ويصغره ببضع سنين ، أما الفتاة فربما كانت في عقدها الثالث ، تتمتع بجمال عادي وقوام جسده بنطال الجينز والقميص الذي لا يستر شيئا تحته .
اقتربوا منهما فوقفا مرحبين ، أقبل على الفتاة فبديا لها متعارفين .. عرفت زميليها عليه وهو بدوره عرفهم على أحلام التي تفاجأت بتمكنه من اللغة التي ادعى بأنه لا يعرف منها إلا القليل وأنه بحاجة لوجودها حتى تسهل المهمة عليه .
ضرب المقود بيده وصاح منتشيا : ضربة العمر .. مليون دولار .. عارفة أيش يعني مليون دولار .. وجهك حلو علي .
هربت بوجهها تداري خجلا راح يكسوه بحمرة غامرة .. تواري وهجا ينبعث من وجنتيها .. تختبئ من نظراته المتقدة فتمسك بها في لحظة ضعف ، تداعب وجنتيها .. تمسد خصلات شعرها .. عنقها ، ثم تحط على كتفها .. تتسلل إلى الخاصرة .. تطوقها .. تعتصرها .. تتملص منها بعناء .. تنظر إلى ساعتها وتصيح باضطراب مفتعل : يا إلهي الثالثة والنصف .
- راح أوصلك للبيت .
- ما تتعب حالك .. أنزل في الساحة وأواصل من هناك .
- هذا أقل الواجب .
- ما عملت غير واجبي .
- عملتي الكثير وتستحقي مكافأة كمان .
- شكرا على تعاطفك معي .
- هذا حقك .