الأخبار
جندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلال
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مخاتلة الشكل وانبثاق العمق قصيدة النثر العربية بقلم كريم عبيد

تاريخ النشر : 2010-05-30
- بقلم كريم عبيد / دمشق


( إن كل عقيدة جديدة تحطم ما سبقها من أصنام )
محمود عباس العقاد

قصيدة النثر ..
إشكالية تبدأ من العنوان ..
الشعر .. النثر ..
هاويتان تختصران القمم , وتعيدان ترتيب الكتابة ..
قصيدة النثر .. المذكر المؤنث في صيغة واحدة ..
لقد اقتحمت قصيدة النثر حرم المقدّس , لتهدم الحصن الذي شرّعت أبوابه قصيدة التفعيلة يوما ً ما , ولما تستطع أن تفعل أكثر من فتح الأبواب .. بينما جاءت هذه المتمردة على كل الأصول والحدود , كأنها ابتكار جديد لشخوص الملاحم الإغريقية , حيث يتجسد فيها الإله العلويّ بالإنسان الأرضيّ .. لا فرق بين الآلهة والبشر .. لا فرق بين الشعر والنثر ..
قد يجمعهما تكوين واحد .. النص خارج ذاته ..
إحدى أساطير الخلق تقول : إنّ حوّاء / النفس تخفـّى في هيئة امرأة ليحفظ جوهره / الهيولى , وبقي على هذه الهيئة إلى الأبد ..
الوطن الأم .. ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي La patri materiel لم يكن مقصودا ً لذاته , غير أنه جاء بأجمل تعبير إسناديّ تندمج فيه الذكورة بالأنوثة ..
حوّاء مرة أخرى ..
خروج آخر على الأنموذج / القانون .. غير أنه خروج الفاتحين المجانين , الذين لا يأبهون بالنتائج , لأن رغبة الفتح أشدّ في نفوسهم من الفتح نفسه .. لقد جاءت قصيدة النثر الضربة القاصمة للصنم التقليدي , الضربة التي زعزعت الثقة بالهرم الراسخ خمسة عشر قرنا ً من الزمان , ولا سيما بعد أن تحوّل هذا الهرم من آبدة حقيقية للفن الكتابي الهندسيّ , الذي ابتدع نفسه بنفسه , وفق إيقاعات الروح المتواترة لطبيعة الحياة التي عاشها أصحابها آنذاك , تحوّل
إلى مجرد وثن مستنسخ عن الأصل , وثن فقدَ حقيقته الأولى , باعتباره انبثاقا ً عن حياة
زاخرة , وسموّا ً للغة متوهّجة , تحوّلت بدورها لتدخل في غياب طويل طويل , غياب ٍ لا يحمل
حضورا ً في المعنى, ولا تأجيلا ً في الدلالة , بل غيابا ً لا يحمل غير الغياب ..
وكلّ ما مرّت به القصيدة العموديّة من : ( مجزوء البحر , المقطعات , المخمسات ,
الموشحات ..إلخ ) لم يكن إلا تنويعات داخل الأنموذج , دون أن تعمل على كسر الحاجز
الأكبر , حاجز الشكل الأحادي ..
لقد استطاعت القصيدة العمودية , بوصفها سابقة للأنموذج الديني / القرآن والحديث / ومرتبطة به , ومستمرّة بعده , وحاملة للغته , مدعّمة له , أن تمارس سلطتها بقوة , ولا سيما في نماذجها العظيمة , التي عملت على تحييد المتلقي و تهميشه, والأمر , كما يبدو , له علاقة ببنية الشكل العمودي الصارم , وبما تفرضه بقوة حضورها , وكليتها المطلقة , التي لا تترك فضاء
أو هامشا ً , يسمح للمتلقي بالدخول إليها عبر ذاته هو , بل يدخلها عبر ذاتها هي .. إنها الجمال الذي يمحو لذة المتلقي بمتعته بنفسه في قراءتها , ولا يترك إلا لذة التمتـّع بها هي / القصيدة ..
بينما انبثقت قصيدة التفعيلة , من قلب الأنموذج العمودي , محطمة حدود الشكل والمضمون , مفتتة كلّ الأنساق الفكرية القديمة , ممثلة بالتفعيلات السكونية المنتظمة , ولا سيما بعد شرخ معرفي وفكري وحضاري طويل , بين النماذج العليا للقصيدة العمودية وما وصلت إليه ..
لقد فهم المبدعون الحقيقيون , من شعراء القصيدة العمودية , اللعبة الفنية داخل حدود الشكل , متأثرين في هذا , ببنية التفكير الإسلامي العربي , الذي انطبع بالرؤية الأحادية للكون
والأشياء , في إطار لغة اتخذت صيغتها النهائية , التي يعتبر الخروج على سكونيّتها خروجا ً على المقدّس الأبديّ , الذي تمثله هذه اللغة ..
ومن هنا جاءت قصيدة التفعيلة استجابة طبيعية و قسرية في الآن ذاته :
- طبيعية : لأنها نتيجة نوعية لمجموعة من التراكمات الممتدّة في الزمان والمكان , مجموعة من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ , عربيا ً وعالميا ً .. كان تأثيرها جذريا ً في هزّ الوجدان العربي , وخلق حساسية جديدة في فهم العالم ..
- قسريّة : لأنها تمثـّل حالة انفجار حقيقي , وكسرا ً لمفهوم الجمال التقليدي ..
إن الخروج على سلطة الشكل , استدعت خروجا ً على سلطة الأداء الشعريّ والحساسيّة
الشعريّة , في التعامل مع مستجدّات الواقع , وظروفه المختلفة ..
بينما جاءت قصيدة النثر هامشا ً للشكل اللا منتهي , القادم من رفض كل شكل خارجه , ليؤسس للاشيء في الشكل , وكل شيء في ذاته / موضوعه , اللذين يتحولان ليصبحا بنية واحدة ,
البنيويّون قتلوا المؤلف وألقوه في حفرة النقد .. التفكيكيّون ألقوا فوقه التراب بعد أن ألقوا النص تحته , ورفعوا شاهدة كتبوا عليها : أنا القارئ ..
قصيدة النثر احتضنت الحداثة الشعرية , وتحوّلت مع الزمن لتصبح تفكيكيّة جديدة للقارئ الذي أنتجته عصور الحداثة وما بعدها ..
ودعوات التكفير لقصيدة النثر وشعرائها , من الأصوليين و أنصار عمود الشعر , لم تكن خوفا ً على الشعر .. كانت خوفا ً على السلطة , على التاريخ , على النبوّة .. على الله ..
صورة الثابت , الكونيّ , المقدّس , العقليّ المنطقيّ , تلقت صفعة قاسية على يد شعراء التفعيلة , هذه الصفعة التي أصبحت في قصيدة النثر , انهيارا ً للمقدّس أمام الإنسانيّ , واندحارا ً للوهم أمام حلم الواقع .. إنها تعرية لكلّ الجماليات الزائدة في اللغة , وإسقاطها لصالح الكلمة ..
هذا الكائن الأسطوريّ .. وذلك بأجمل صورة للحوّار الخلاق , بين الكلمة واللغة , بين الكلمة
وذاتها .. وذلك بحالة تفكيك تامّ لكلّ سلطويّ , وقمعيّ ممارس في عميلة الكتابة ..
الانزياح و تهويم المصطلح :
إن الإشكالية التي قدّمت قصيدة النثر نفسها , إشكالية تبدأ من المصطلح المبهم , الملتبس , الذي لا يقلّ التباسا ً عن طبيعة هذه القصيدة , وهذا عائد إلى عميلة الجمع بين نسقين مختلفين للقول : الشعر والنثر ..
فاللغة الإيحائية المكثفة , واللغة الإخبارية الواسعة , ها هما ينجمعان تحت مصطلح
واحد / قصيدة النثر poem prose في المصطلح الإنكليزي , أو poem en prose في المصطلح الفرنسي ..
ولا شكّ أن هذا الجمع أثار إشكالية كبيرة عند أصحابها الأوائل / الإنكليز والفرنسيين , على خلاف ما ذهب إليه الناقد الدكتور عبد القادر القط في أن المتلقين في الغرب لم يجدوا " بأسا ً من نسبة النصّ النثريّ إلى القصيدة " ( 1 )
إن النسبة التي يتحدث عنها , هي نسبة القصيدة إلى النثر وليس العكس , كما أن الساحة النقدية الغربية , شهدت خلافات عاصفة حول طبيعة هذا المصطلح , وقد انتقلت إلينا , هذه الخلافات مع الترجمات الأولى .. ومما زاد الأمر سوءا ً , عند معارضي قصيدة النثر , الإهانة التي وجّهت للشعر / للقصيدة , بنسبتها للنثر , الذي لم يكن له المكانة نفسها , التي احتلها الشعر في الوجدان العربي ..
ويمكن القول إن الإشكالية التي يتحدّث عنها معارضو هذا المصطلح , في الجمع بين حدّين شبه متنافرين في الأصول , ليست إلا نوعا ً من الإزاحة المفهومية , التي تخلق ما لم يكن مخلوقا ً من قبل , وهذا شأن الإبداع في الخلق , حيث يجمع بين المتناقضات , دون كبير اعتبار للحدود الفاصلة بينها .. لعلّ هذا ما عناه أبو الطيب المتنبي يوما ً بقوله :
وما الجمع بين الماء والنار في يدي بأصعب من أن أجمع الجدّ والفهما
ولأن الإبداع الحقيقي هو الذهاب إلى أقصى حالات : ( التخطي و التجاوز و الاختلاف
والمغايرة ) مصطلحات تبنتها قصيدة النثر في ابتداع حداثتها الشعرية ..
يقول كوليردج : " ( النثر : الكلمات في أفضل نَسَق ؛ والشعر : أفضلُ الكلمات في أفضل
نَسَق ) " ( 2 )
إن هذا التعريف المبسط لكلّ من الشعر والنثر , قد يفسّر طبيعة التداخل والتباين اللغويّ , الذي تحمله قصيدة النثر .. وهذا يقودنا إلى تعريف مهمّ لقصيدة النثر , كما رأتها موسوعة برنستن
للشعر والشعريات ، التي وضعت توصيفا ً مفصّلا ً لطبيعة قصيدة النّثر كما عرفها الشعر
الغربي , على النحو التالي " قصيدة النثر تكوينٌ قابلٌ لاحتواء كلّ سمات القصيدة الغنائية أو بعضها، غير أنّها تـُكتب كما يُكتب النثر على الورق . تختلفُ عن النثر الشعريّ بأنّها قصيرة ٌ ومُحْـكمَة ٌ، وعن الشعر الحُرّ بافتقارها إلى التشطير، وعن فقرة النثر القصيرة بإيقاعاتها اللفظيّة المتواترة، بوقعها الرّنان، بمجازاتها، وبكثافة تعبيرها. وقد تشتمل علي إيقاع ٍ داخليّ مُنتظم وتعاقبات موزونة. غالبا ً ما يمتدُّ طولها من نصف صفحة ( فقرة أو اثنتين ) إلى ثلاث أو أربع صفحات ( معدّل القصيدة الغنائيّة) ، فإذا ما صارت أطول ، فقدتِ الصدمة ُ والتوتراتُ أثرهما، وصارتْ ـ وبغضّ النظرّ عن شعريّتها ـ نثرا ً. لقد أطلق مصطلح قصيدة النثر ، بلا إدراك ، على أيّ قطعة من الإنجيل حتى روايات فوكنر، والذي من المفترض أن يدلّ على شكلّ فنيّ مُدْرَك تماما ً ( وأحيانا ً بذاتٍ واعية ) . " ( 3 )
من الواضح في هذا التعريف أن موسوعة برنستن رأت في قصيدة النثر استيعابا ً وتطويرا ً لكلّ ألوان الكتابة الأدبية ( القصيدة الغنائية , النثر الشعري , الشعر الحرّ , فقرة النثر القصيرة .. ) أي أنها انبثاق نوعيّ , أحرق كلّ ما قبله , وابتكر من الرماد صيغة جديدة للنار .. هذه التي أشعلت أكبر الحرائق النقدية على المستوى العالمي ..
ومن الضروري الانتباه إلى أن التعريف أشار إلى الالتباس عند المتلقي الغربي , الذي , وبلا إدراك , جعل أي قطعة من الإنجيل أو من روايات فوكنر قصيدة نثر ..
إن كلّ جديد , إن لم يثر حوله إشكاليات وردود أفعال متضاربة , ليس جديدا ً ..
وبما أن قصيدة النثر استطاعت أن تنمو بقوة حضورها , منذ عام 1840 في الغرب حتى الآن , ورغم عمرها القصير عربيا ً / نهاية الأربعينيات من القرن العشرين , فلا بدّ من التعامل معها , بفعالية الحضور , لا الغياب .. بمبدأ الحوار , لا الصدام ..
وحتى الآن لم يثبت مصطلح آخر في توصيف هذه القصيدة , كما ثبت مصطلح/ قصيدة
النثر / ( ) حتى عند معارضيها , فلا غضاضة من قبوله , باعتباره انزياحا ً تركيبيا ً , وهذا من جماليات اللغة , يفتح فيها بابا ً جديدا ً للحوار الخلاق ..
المرجعيات والنص الخارجيّ :
لقد اختلف النقاد الغربيون حول ريادة قصيدة النثر , إلا أن خلافهم يكاد ينحصر تقريبا ًفي شاعرين هما : والت ويتمان , وبودلير .. بينما اتسعت دائرة الخلاف العربية .. فمن النقاد من رأى في أمين الريحاني الرائد الأول ( 4 ) ومنهم من ينسبها إلى توفيق صايغ، ومنهم من يرى في جبرا إبراهيم جبرا رائداً لهذا النوع من الشعر .. ( 5 ) ومنهم من يردّها إلى أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا ( 6 ) وهكذا ..
ولعلّ مثل هذا الخلاف ليس مهمّا ً , لأنه نوع من البحث في الهوامش بعيدا ً عن المتن , ووقوف على استنهاض تاريخي , قد لا يقدّم لدارس الأدب , سوى معطيات بدائية متشكلة خارج النص , لذلك فإن التحديد النقدي لقصيدة النثر , قد يكون أكثر جدوى , وأكثر إمعانا ً في طبيعة العوامل التي أنتجت قصيدة النثر ..
ومما لا شكّ فيه أن كتاب سوزان برنار / قصيدة النثر من بودلير إلى الآن / 1958 , شكـّل أول مرجعية نقديّة وتنظرية موسّعة لقصيدة النثر الفرنسية خصوصا.. وعن هذا الكتاب نقل منظـّرو قصيدة النثر ..
فعلى المستوى العربي كانت مقالة أدونيس عام 1960 عن قصيدة النثر , أول مقالة نقدية تتحدّث بجرأة لا مثيل لها , عن قصيدة النثر وخصائصها , وتأتي بعدها مقدمة أنسي الحاج المتميّزة لمجموعته الشعرية النثرية / لن - 1960 / حيث يقول : " نحن لا نهرب من قوالب جاهزة لنجهّز قوالب أخرى ، ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. وما صفة التدمير التي تلاحق قصيدة النثر , ك‍لعنة جميلة , إلا الإطار الحرّ والخلاق الذي نحبّ أن ندرج فيه كل محاولة جديدة لشعرنة النثر وكتابة قصيدة فيه. نقول التدمير ، نعم ، تدمير الشكل وتدمير العالم ، بهدف خلق أشكال وعوالم هي نفسها ستكون عرضة للتدمير، لا استتبابا ً لحقيقة نهائية . " ( 7 )
وهكذا توالت المقالات والدراسات النقدية , التي تتفاوت في أهميتها .. وسوف ندرج في نهاية هذه الدراسة كشافا ً بأهم الدراسات النقدية التي تناولت قصيدة النثر ..
ومن الواضح أن أدونيس وأنسي الحاج قد اعتمدا بشكل ما على كتاب سوزان برنار , وهذا واضح من خلال المفاهيم والمصطلحات التي نقلها كل منهما , ولكن مع إضافات كثيرة , لم تقف عند حدود الأفكار التي طرحتها برنار .. ولا سيما عند أنسي الحاج ومصطلح التدمير , الذي استقدمه من الفلسفة التأويلية عند هايدجر خصوصا ً , والذي شكـّل في مرحلة لاحقة الأساس الذي قامت عليه / استراتيجية التفكيك عند جاك دريدا ..
ومن المقارنة بين أسباب ظهور قصيدة النثر الأوربية ومثيلتها العربية , يمكن أن نجد الكثير من التقاطعات التي تعود إلى الإحساس بالمرارة والانفصام وتفاهة الواقع وسقوط القيم والهزيمة على مختلف المستويات : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ... إلخ .. فضلا ً عن الدوافع الإبداعية الكامنة عند أصحابها , الذي ترسخت في نفوسهم بذور الحداثة الشعرية ولا سيما في لبنان وسوريا وفلسطين .. فكانت قصيدة النثر ..
كما يمكن للقارئ العربي أن يقف على مرجعيات مختلفة لقصيدة النثر منها : النماذج الرائعة لسجع الكهان وللكتابات الصوفية في تراثنا العربي , ولا سيما مواقف النفـّري , وجلال الدين الرومي والحلاج .. وسواهم .. وكتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ..
ولكن تبقى هذه المرجعيات في بنيتها العميقة نثرا ً فنيا ً متميزا ً , يختلف عن قصيدة النثر اختلافا ً شاسعا ً , بيد أنه أشبه بالبذور الأولى التي قذفتها رياح التغيير إلى أرض الإبداع ..
لقد كانت مجلة شعر 1957 / منبر اللغة الجديدة : هدفها كما تجلى من كتابات مبدعيها : إلغاء المكان والحفر في الزمان , إلغاء الشكل أمام التشكل , والطور أمام التطور .. ولا سيما أن أكثر مبدعيها من النقاد والشعراء الكبار , المزودين بثقافة زاخرة ثرّة بوجهيها : التراثي العربي , والحداثي الغربي ..



انهدام القراءة / انهيار المقدّس

الحداثة أمّ التغيير , والتدمير والتفكيك , وانبثاق الحي من الميت .. وقصيدة النثر تكاد تكون الابنة الشرعية , والأكثر جاذبية للحداثة .. فالخروج من سلطة الذاكرة , ممثلة بالأنموذج اللغوي الأعلى المرتبط ارتباطا ً كليا ً بالأنموذج الديني , حيث انعكس على طبيعة التفكير العربي في التعامل مع مفردات الكون .. فلا إبداع خارج النص / الديني طبعا ً .. وذلك يعني لا إبداع في اللغة التي انضوت وكادت تمحّي تحت ثقل هيكل هذا النص ..
ومن هنا يمكن تعريف الحداثة الشعرية بأنها : تدمير النص , تدمير اللغة داخل النص ..
وهذا ما يؤكده الشاعر الناقد محمد بنـّيس بقوله : " إن على الكتابة كيما تتعمد بماء الحداثة وتنخرط في معمان المواجهة والتأسيس أن تقوم بسلسلة من الأفعال التدميرية وهي : آن لنا أن نخرب الذاكرة كآلة متسلطة وتدمير القوانين العامة وسلطة اللغة والنحوية داخل النص وتدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص " ( 8 )
وبهذا ارتبطت قصيدة النثر بالفعل الحداثي التدميري لكلّ سلطة ماضوية , تؤسس لذاكرة ماضوية هي الأخرى , تضيق داخل حدود لغة النص الديني وتمثلاته المختلفة ..
وضمن مفهوم الحداثة هذا " لا تعود اللغة وسيلة للتعبير كما هو متعارف عليه وإنما تصبح
هدفا للخلق وتجليا ً له ، وفي هذه اللغة تبلغ الكثافة حدودها القصية ، حيث ينهض صوت الكلمة بدور في تجسيد الدلالة ، وتغدو الكلمة شكلا ً صوتيا ً للمعنى . كما أن صورتها الحسية ، أو وجودها الفيزيائي يصبح ، بما فيه من بعثرة أو اكتظاظ أو استطالة ، صورة مرئية لما تريد التعبير عنه " ( 9 )
اللغة .. اللغة .. هذا الكائن الحرّ ..
كلما كان منخلقا ً في ذاته , أنتج ما سيكون بدوره مفككا ً لذاته , خارج الأنموذج الثابت ,
وبعيدا ً عن الرسوخ الأبديّ .. ومن هنا يرى أدونيس أن قصيدة النثر العربية تنطلق من ظاهرة " إخضاع اللغة وقواعدها وأساليبها لمتطلبات جديدة ، بحيث تثير من جديد في تراثنا العربي معنى الشعر بالذات … حين نوحّد بين الشعر والعروض الخليلي لا يعود ثمة مجال في التراث العربي لبحث قصيدة النثر ، بل لبحث الشعر الجديد كله … وأن الشعر لا يكمن في أي شكل مفروض أو محدد تحديدا ً مسبقا ً. ثم إن فن النظم شيء والشعر شيء آخر . فهناك شعر جميل ليس منظوما ً ، وهناك نظم جميل لا شعر فيه " ( 9 )
إن عملية الإخضاع التي يتحدّث عنها أدونيس هنا , تعني إخراج اللغة الشعرية من سلطة البنية الثابتة , التي قهرها ذات يوم الأنموذج الخليلي بسياج من الذهب .
وقد ارتبط تدمير اللغة هذا بتدمير آخر , يبدو أشدّ قسوة على القصيدة التقليدية , وأكثر إيلاما ً لبنية الفكر العربي , وهو تدمير الشكل , بما في ذلك النظام والعروض , وهذا يعني وضع العقل العربي والفكر العربي بجميع تجلياته , أمام النهر المتدّفق بمياه التغيير والحركة , أمام مواجهة حقيقية , لا تقف أبدا ً عند حدود معطى تاريخي , لا يتغيّر ولا يتبدّل , كما أراد له أنصاره ..
وقد بدأت قصيدة التفعيلة مشروع التغيير , ولكنها سقطت هي الأخرى في , وإن كان بشكل أقلّ وطأة من الأنموذج العمودي , في بؤرة النمذجة .. ومن هنا جاءت قصيدة النثر لتعطي الكتابة طابعا ً أكثر جرأة في التمرّد على كل البنى والمفهومات والمعطيات السابقة عن الشكل الشعري , وبالتالي عن الشعر عموما ً .. " فالكتابة الإبداعية هي التي تمارس تهديما ً شاملا ً للنظام السائد وعلاقاته - أعني نظام الأفكار " وهذا ما استطاعته قصيدة النثر من خلال إحلال لغة الخلق محلّ لغة التعبير , وتقديم بنية شكلية لم يعهدها المتلقي العربي سابقا ً .. كما يعبّر أدونيس ( 10 )
إن تاريخا ً من القمع الفكري المتخفي خلف تسميات متعددة : النص الديني , الفقه , النحو , العروض .. إلخ , وتمظهراتها المتعددة أيضا ً : الفكر الغيبي , الإبداع العقيم , الكتابة النصيّة / المرسّخة للنص الديني , الشعر بكلّ نماذجه القاهرة .. إلخ , أنتج رغبة جامحة في النزوع إلى الذات , وكسر كلّ الحدود والتابوات التي رسّخها هذا التراث العتيد .. ومن هنا كانت قصيدة النثر كما يرى د . عبد الواحد لؤلؤة " رغبة عميقة في التحرر من تقاليد اللغة ، والتمرد على قوالب العروض ، ووضع حد لطغيانها الذي كان يحدد بمفرده شعرية النص ، لذلك حاول الشعراء تحرير الشعر أولا من ارتباطه بقيد خارجي ، هو فن نظم الشعر ، والبحث ثانيا ً عن عناصر شعر جديدة داخل النثر " ( 11 )
ومثل هذا البحث ولـّد , عند شعراء قصيدة النثر , رغبة دائمة في البحث عن الجديد , من خلال بحث شعري , في عمق السرديّ مما يكشف عن المكبوت السرديّ لدى الشاعر العربي .
ولهذا انفتح النص الشعريّ في قصيدة النثر , ليأخذ شكلا ً هلاميا ً , لم يدّع لنفسه الثبات أو النمذجة , أو النهائية , كما ادّعاه الأنموذج الخليلي ..
التأويل وكيفية القراءة "

كيف نقرأ قصيدة النثر ؟؟
لقد استطاعت القصيدة العربية العمودية عبر تاريخ يمتد إلى أكثر من ألف وخمسمائة عام , أن ترسخ أقدامها في الذاكرة العربية , وأن تؤسس لنفسها ذائقة , ما زالت آثارها تظهر بعمق في النقد السلفي المعاصر , الذي يحمل حملة شعواء على قصيدة النثر وأصحابها , بعد أن رفع لواء الحرب على قصيدة التفعيلة وأصحابها من قبل ..
وسوف نذكر لاحقا ً بتوسع أسباب هذه الحملة .. أما الآن نكتفي بذكر سبب مباشر أدّى إلى رفض قصيدة النثر , وهو صعوبة قراءتها وفهمها غالبا ً.. فالمتلقي العربي الذي انبنى تفكيره على فكر غيبي نقلي من جهة , وقمعي أحاديّ من جهة أخرى , جعلته يسوّغ رفضه وعدم فهمه لقصيدة النثر .. ويلقي باللائمة في كل هذا على قصيدة النثر وبنيتها الخارجة على كلّ أعراف الشعر, دون أن يفكر مرة واحدة , أن الموضوع قد يكون خارجا ً على الذات , وأن الذات قد تكون عاجزة عن فهم موضوعها ..
وتكمن صعوبة قراءة قصيدة النثر ( ) فيما ابتدعته من سياق تناصيّ , يلغي النظام التقليدي للقصيدة , ويبشّر بفوضى الرؤيا , الرؤيا التي ستبتدع لنفسها أنظمة لا حصر لها , ويستبدل المعنى بمعنى المعنى , ويفتح الدلالة على لا نهائيتها , ويكسر الشكل باللا شكل , فكلّ قصيدة تخلق شكلها وتجترح فضاءها , دون كبير اعتبار لما سبقها , وتتخذ لذاتها كلية نصيّة , لا تتنازل عن التفاصيل , إلا بما يخدم كليتها هذه ..
كما رسّخ هذه الصعوبة ما سمّاه أصحاب قصيدة النثر بالإيقاع الداخلي , بعد أن عملوا على تحطيم نظام العروض الخليلي أيما تحطيم .. ولا شكّ أن مصطلح الإيقاع الداخلي , لا يخلو من تعتيم اصطلاحي , قد يُشكل على الناقد المختص , فكيف بالمتلقي العادي ؟! ..
ويمكن لنا هنا , أن نضع بعض المداخل البسيطة , أو نقدّم مفاتيح نقدية للدخول إلى بنية قصيدة النثر , تساعد في قراءتها وفهمها وتأويلها , ومن ثمّ , الوصول إليها ..
لقد حدّدت سوزان برنار في كتابها / قصيدة النثر من بودلير إلى الآن / بعض المفاتيح الأولية لقراءة قصيدة النثر , تتعلق ببنية الجملة .تقول :
" حسب تعريف الشاعر نفسه ، نتوقع أن نجد في نثره تنوعا بالغا ً للحركات ، يستجيب لجميع الحركات الداخلية لروح حديثة ومعقدة. وتتوافق ثلاثة أنماط من الجملة مع الحالات الثلاث التي يشير إليها وسأسردها في ترتيب معاكس لما يتبناه ، بحيث أعبر من النثرية الإرادية إلى التحليق الغنائي:
1 - نمط الجملة المتنافرة ، التي تتجاوب بوسائل مختلفة ( كسر الإيقاع ، إيجاز التعبير، انقطاع النغمة أو التنافر الصوتي ) مع " انتفاضات الوعي" وبالتالي - غالبا ً- مع نغمة سخرية أو
تهكم ما ..
2 - نمط الجملة " المتموجة" إذا صح التعبير، أي الجملة الطويلة المتعرجة، التي تقدم نفس تعرجات أحلام اليقظة.
3 - نمط الجملة الغنائية، المتصاعدة والدينامية ، التي تتوافق مع المشاعر الحادة ، والاندفاعات السعيدة أو الأليم .. " وترى أن النوع الأول , لم يمنحه بودلير وجودا ً أسلوبيا ً , وهو
الجملة المتنافرة , التي سيمنحها رامبو حقّ المواطنة في الشعر , والتي تقدم إيقاعا ً بالغ
الخصوصية .. ( 12 )
إذن , تبدأ قراءة القصيدة النثرية من الجملة , أول الأنساق البنيوية في النص .. ففي حين تمثل الجملة المتنافرة تفجيرا ً لبنية القصيدة القديمة , من خلال كسر الإيقاع بالخروج على النظام العروضي الرياضي , والوزن والقافية , باعتبارها إيقاعا ً خارجيا ً ثابتا ً .. كذلك من خلال الانزياح اللغوي بأعلى مستوياته في إيجاز التعبير , والتنافر الصوتي الذي يتعلق كما يبدو بالمتواليات الصوتية الضديّة التي يستدعيها اللا وعي في مواجهة الجمود العقلي في القصيدة الكلاسيكية .. بينما تمثـّل الجملة المتموجة , أي الطويلة المتعرجة , شكلا ً من أشكال كسر رتابة الحركة والإيقاع العروضي بالجملة السردية والتوصيف الاستفزازي ببنى الانزياح ..
وتأتي الجملة الغنائية المتصاعدة بؤرة للقصيدة , بحيث تشدّ إليها جميع الأجزاء الأخرى , وتبث فيها روح الشاعر المتمردة ..
كما أن قصيدة النثر استطاعت أن تؤسس لنفسها بنية سرديّة متميزة , لذلك " يستلزم فحص نصوص قصيدة النثر مفارقة َ الخطاب السائد ؛ سواء على مستوى كتابتها أو تلقيها نقديا ً ؛ فقراءة نماذجها تتطلب معاينة خاصة ، نابعة من استعانتها الأساسية بالسرد وتأثيث القصيدة بعناصره : على مستوى ضمائر السرد التي تساهم في العثور على مفاتيح قراءة تحدد انضباط السرد وجريانه ، وهو أمر يجب ملاحظته على مستوى الكتابة , من الشاعر نفسه, والقراءة
أيضا ً ، وعلى مستوى الدلالة التي هي توسيع وتمدد للمعنى ، وتعويض عن غياب عناصر الإيقاع التقليدية ، وعلى مستوى البناء حيث تقترن الفوضى الظاهرية لقصيدة النثر بنظام دقيق ينبث في أجزائها ، ويتنامى عبر متنها، وعلى مستوى الإيقاع حيث يغيب الوزن تماما ً ، وتنبذ التقفية ، فتنوب عن ذلك أنواع من التوازيات والتقاطعات والتكرارات ( التي تشكل لازمة
دورية , قد يستخدمها الشاعر في تكوين نظام خاص لكل قصيدة ) , وغيرها من جوانب الإيقاع الداخلي ، وعلى المستوى الخطي حيث يكون للهيئة الخطية التي تنكتب بها القصيدة أثر في قراءتها ؛ بدءا ً من العتبات النصية كالعنوان وما يوحي به أو يثيره في القارئ، ويوجه قراءته من خلاله ، وكذا التناصات بأشكالها المختلفة تضمينا ً ومفارقة وإشارة وتوسيعا ً وتعديلا ً ، والانتباه إلى فراغاتها وأساليب القطع والوصل والبناء الجملي ، … وأرى أن الانتباه إلى هذه المكونات بالدراسة والتحليل النصي سيرينا تنوعا ً أسلوبيا ً واضحا ً ، تغدو معه قصائد أدونيس النثرية ذات أسلوبية خاصة ، تختلف تماما ً عن نصوص أنسي الحاج مثلا ً ، ( ونصوص الماغوط عن نصوص سليم بركات ) ونصوص سركون بولص عن نصوص أمجد ناصر ، وعباس بيضون عن نصوص سيف الرحبي وشعر كمال سبتي عن قصائد طالب عبد العزيز وهكذا …. " ( 13 ) كما يمكن الوقوف طويلا ً عند المفردات المنتقاة في قصيدة النثر , من
حيث : طبيعة الحروف : همسية أو طرقية أو حلقية .. إلخ , فضلا ً عن الساكن والمتحرك
فيها , و معرفة نظام النبر المكوّن للخطاب الشعريّ , وكيفية توظيفه في البناء السردي ...
قد نجد بعض هذه البنى في قصيدة التفعيلة , غير أن الأمر هنا يختلف تماما ً , إذ تحتاج قصيدة النثر إلى فهم نقديّ أعمق , لطبيعة هذه البنى المتشكلة في إطار مستوى البنية السردية الجديدة , للوصول إلى معرفة التشكيل العميق لها ..
إشكالية التأويل / وانهدام القراءة :
ونعود لطرح السؤال السابق : لماذا لم تترسّخ قصيدة النثر العربية , بوصفها جنسا ً أدبيا ً شعريا ً مستقلا ً , حتى الآن ؟ ولماذا لم تستطع تكوين ذائقة عامة لدى المتلقي العربي ؟ أين يكمن الخلل ؟ في المتلقي ؟ في النص ؟ أم في كليهما ؟
ذهب الشاعر الناقد شاكر لعيبي إلى أن " نسق العقلية العربية يظل أبويا في جوهره. أبويا ليس بالمعنى النمساوي مثلا وإنما القبيليّ العربي . إنه يلتقي بمبرراته الإيديولوجية في تاريخ نظام العشيرة الطويل ، المستحكم ، وفي نسق التراتبات العائلية كما في الأواليات الدينية : بالنسبة للسُنة ثمة أربعة خلفاء راشدين، لا ينظر لمن جاء بعدهم بذات العين ، وبالنسبة للشيعة الإمامية ثمة 12 إماما معصوما لا يقبل ما سواهم، وبالنسبة لكتب الشعر العربي القديم ثمة " الطبقات " المتراتبة على هيئة التراتب القبلي نفسه بالضبط ، حيث ينظر للأولى ، الضاربة بالشيخوخة ، بإجلال شبه ديني ، سيتناقص كلما هبطنا إلى الطبقة التالية….. دواليك . لم يختلف النسق ، اليوم إلا قليلا. ثمة ثلة من الشعراء الكبار لا غير ، أفرادا ً أجلة مبجلين . هم من يمنح الشعري شعريته والأنساق تراتباتها.. " ( 14 )
إذن تبدأ المشكلة بنسق العقلية العربية , القائمة على سلطة ذكورية قبلية .. تنطلق من مبدأ سلفي أصوليّ , يتعامل مع الأشياء من المنظار الديني , الذي أعطى الكون شكلا ً نهائيا ً وكليا ً بجميع مفرداته .. فربط لغة الشعر بالنص القرآني , والسائد في تلك الفترة , كان الأنموذج الخليلي , وبالتالي كان كلّ خروج على هذا الأنموذج خروجا ً على النص القرآني .. ومن هنا يمكن أن نفهم سبب المعارك الأدبية إبان العصر العباسي الأول , بين أنصار عمود الشعر والمحدثين , على الرغم أن تجديد المحدثين كان ضمن إطار أوزان الخليل .. وقد استمرت هذه المعارك لتطال كلّ خروج على الأنموذج الأول .. " إن ربطَ الشعر بالأصل الدينيّ كان من تجلياته السلبية اعتبار أي تجديد في شكل ومضمون القصيدة لونا ً من خدش اللغة القرآنية. و من هذا يمكننا أن نفهم سبب صمود عمود الشعر على حاله طوال هذه المدّة (الفلكيّة) بحيث عاصر قيامَ ممالك ، وانهيارَ حضارات ، وحروبًا كونية ، وعصورا ً و تحولات ، بل و شهِدَ تبدّلا ً وتغيّرا ً في شكل الكوكب ذاته جغرافيا وجيولوجيا وكوزمولوجيا، في حين ظلَّ هو - العمود الخليليّ – مقاوما ً ومتحديّا ً للزمن كأنه هرَمٌ صلدٌ يحيا خارج الزمن – بتعبير عبد الصبور- و بالرغمِ من الزمن . فبدا الثابتَ الأوحد ضمن المتحولات ، ولم يستجب للبعد الرابع الذي انحنى له الثابت التاريخي الأشهر وهو الضوء وسرعته , بعد أن انتشله أنشتاين أخيرا ً من فرادة المطلق إلى شمولية النسبيّ ، ليحتل مكانه في المطلق هذا العمود العنيد ليغدو مطلقا ً سرمديا ً لا مجرد أحد الأشكال أو الاقتراحات للون من الفنون . " إن ثبات النص القرآني أدّى إلى ثبات عمود الشعر , وبالتالي إلى جمود الفكر
العربي .. فلا سلطة إلا للنص , ولا معرفة خارجه وهكذا ..
" وليست هذه الأزمة سوى المأزق الوجودي الذي كان يعيشه الإنسان العربي على جميع الأصعدة والمستويات : سياسيا ً وثقافيا ً واقتصاديا ً واجتماعيا ً ، لذلك لم يكن العائق مجرد التخلص من الرواسب البلاغية التراثية المتجذرة في القصيدة العربية ، ولا كذلك التمرد على شكل البحور الخليلية وأسلوبيتها، وليس كذلك انزياحية النظرية الشعرية من موقعها التراثي إلى موقعها الحداثي ، بل كان الإشكال الأهم في تصوري أو لنقل الحقيقة المغيبة عند البعض والغائبة عند البعض الآخر هي أن التحولات الكمية والنوعية الذي طالت تاريخ الشعر الغربي لم تكن فقط بفعل الحضارة الغربية وتداعياتها المعرفية والحياتية ، إنما الأهم هو كون هذه التحولات جاءت نتيجة وليس سببا ً، بمعنى أنها جاءت كردة فعل مضادة على عنف الزمن الحداثي التي تتسم به الحضارة الغربية ، وهذه مفارقة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار : كلما كانت الحضارة الغربية تتقدم كان نتاجها الشعري والأدبي أكثر التصاقا ً بتراثه اليوناني الإغريقي المسيحي!.
من هذه المفارقة أردنا أن نوضح إشكالية التراث وعلاقته بالتنظير للقصيدة العربية المعاصرة من جهة ، وبالتجديد من جهة أخرى إذ يبدو للباحث من منظور هذين العلاقتين حقيقة مفادها : أنه على الرغم من المقاربات المعرفية المهمة التي قام بها بعض الشعراء للتراث- أدونيس على سبيل المثال- إلا أنها لم تحدث خلخلة على مستوى بنية الوعي الشعري العربي ، لقد ظلت الحياة العربية في لحظتها الراهنة بمنأى عن كل ما يعيد وصلها بالتاريخ من المنظور الأكثر وعيا ً بالشعر وعلاقته بالإنسان الراهن ، والنتيجة افتقار هذه الحياة إلى المادة الأساسية التي يقف عليها الشعر العربي الحديث في مجرى تحولاته الوجودية , تلك المادة التي تتغذى على التجربة الروحية وإنتاج المعنى من جهة , وعلى التحولات الجسدية وما يستتبعه من إيقاعات حياتية من جهة أخرى . بهذا المعنى لم تفلت قصيدة النثر من أسر هذه الإشكاليات .. " لأن طرح قضية قصيدة النثر العربية بجرأة نقدية فكرية , سيفتح أبواب الأسئلة المحرمة , والتاريخ المغيّب .. سيضع التراث العربي بكل معطياته , ولا سيما الفكرية منها , على شفير الهاوية ..
فالمسألة التي يتخفى خلفها السلفيّون , وأعداء قصيدة النثر , ليست مسألة نصّ شعري , ينتمي إلى هذا الجنس أو ذاك , خالف أوزان الخليل أو وافقها .. لأنهم يعرفون ضمنا ً , أن مثل هذه المواجهة ستقودهم إلى نبش تراث ٍ , طالما اعتزوا بصموده واستمراره الأزلي .. ومن هنا نرى أن ثمة تواطؤا ً معلنا ً أحيانا ً , وخفيّا ً أحيانا ً أخرى , يقوم به هؤلاء ضدّ قصيدة النثر , سلاحهم في ذلك الصمت والتجاهل والهجوم .. إلخ ..
يقول أحد المعترضين على قصيدة النثر الكاتب مظهر الحجي : " نستطيع القول إن قصيدة التفعيلة كانت لونا ً من ألوان المثاقفة مع الغرب ، فقد تأثر الشعراء العرب بالشعر الغربي ولكنهم لم ينسخلوا عن شعرهم التراثي ومكوناته الفنية بل وجدوا مخرجا ً لهم من خلال التشكيل بأصغر بنية موسيقية في العروض العربي وهي التفعيلة مع المحافظة على ألوان التعبير العربية الفصيحة وأساليب التصوير ، و إغنائها بالرمز والأسطورة العربية والإنسانية ، وتطوير الشكل الفني ليصل إلى الوحدة العضوية مع إغنائه بأساليب تكوين الأجناس الأدبية الأخرى كالسرد والقص والبناء الدرامي والحوار ، أما قصيدة النثر فإنها لا تنضوي تحت عنوان المثاقفة بل تحت عنوان الانسلاخ والتبعية المطلقة للقصيدة الغربية ، ولا تملك من مرجعية عربية سوى اللغة الفصحى التي حاول بعض رواد هذه القصيدة نسفها " ( 15 )
إن هذا التعميم الذي يطلقه الناقد , قد يكون محرجا ً للنقد , إذا ما وقف أمام التجارب المتميزة لقصيدة النثر ( أدونيس , أنسي الحاج , محمد الماغوط وسواهم .. ) لما يمثله هؤلاء من انغراس في فهم الثقافة العربية , وجهودهم الرائدة في بعث اللغة العربية , وتفجير ينابيعها , بحيث يعود إليها وجهها المشرق , لتستطيع الاندماج في عصر سريع الخطا , بعد أن كانت حتى وقت
قريب , لغة أقرب ما تكون إلى اللغات البائدة , التي تعيش في المعاجم والكتب الصفراء , بعيدا ً عن النور .. ونقرأ هجوما ً آخر , لا يقلّ شراسة عن سابقه للدكتور نجيب العوفي الذي يرى أن الشاعر " يكتب ليحقق ويرضي الحداثة لا الشعرية ، ويغدو نصه لذلك تمرينا ً في الحداثة أكثر منه إبحارا ً شعريا ً . أصبح الشاعر الحداثي في أكثر حالاته يصغي بأذن إلى وجدانه ،
ويصغي بأذن أخرى إلى تعاليم ووصايا الحداثة وفي تناوحه بين القطبين ضيع الحداثة وضيع
الشعر " ( 16 )
إن الفصل الذي يقدّمه الناقد هنا , بين الحداثة والشعر , فصل ساذج .. لأن الحداثة لا تنافي الشعرية على الإطلاق , إلا إذا كانت هذه الشعرية التي يقصدها هي أوزان الخليل .. حيث لا يمكن لأحد أيا ً كان , أن يشكك في شعرية أدونيس أو الماغوط مثلا ً ..
ومن الطريف أن نقرأ هجوما ً مضحكا ً على قصيدة النثر للشاعر جهاد فاضل حيث يقول : " إن قصيدة النثر، كالدولة العبرية ، ولدت في الحروب , ولا تعيش إلا في مناخات الحروب. فكما أن إسرائيل غير قابلة للحياة في مناخات السلم، ولا يبقيها على قيد الحياة سوى برامج التسلح الدائمة وسياسة العدوان والاغتصاب وكراهية الآخر العربي أو المسلم، فإن قصيدة النثر غير قابلة للحياة إلا بإثارة الحروب الدائمة حولها سواء من أنصارها أو من خصومها.. " ( 17 )
ومن الغريب في الأمر أن يتورط نقاد كبار , في الحكم الشكلي , البعيد عن روح النقد وصوابه مثل يوسف سامي اليوسف الذي يقول : " إن ما يسمى عادة بقصيدة النثر ليس شعرا ً ولا ينبغي أن تدرس إلا بمعزل عن مسار حركة الشعر العربي المعاصر، وإلا لكان نصف النثر العربي القديم والحديث شعرا ً بشكل أو بآخر " ( 18 )
إن الإشكالية التي يقع فيها هؤلاء النقاد وأمثالهم , أنهم يتعاملون مع قصيدة النثر من خلال السياق اللغوي , دون أن يجهدوا أنفسهم عناء البحث عن المفاتيح الحقيقية , لفهم السياق النصّي , والبنى المكوّنة له , بعيدا ً عن الضوضاء النقدية التي أثارها أعداء قصيدة النثر حولها ..
هذا ولا نعدم وجود نقاد تعاملوا مع قصيدة النثر بموضوعية نقدية تسجّل لهم .. حيث يرى الدكتور حاتم الصكر أن كلّ ما سقطت به قصيدة النثر من إشكاليات فنية , لم يكن كافيا ً لهدر دمها " والتغافل عن دراستها سواء في المدرسة العربية ، أو فعاليات النقد الأدبي ، ولا يبرر الاكتفاء بما يشبه التصويت بـ (نعم) أو (لا) ، و (مع) أو (ضد) دون الخوض في قوانينها الداخلية وإيقاعاتها ومزاياها الفنية ، ولكن ذلك لا يعني طمس جهود نقاد عرب اقتربوا منها في السنوات الأخيرة بالدرس والتحليل ومحاولة تنميط نماذجها ، ومقاربتها نصيا ً ، ومناقشة مشكلاتها سواء الفنية منها أو التوصيلية ، وهو جهد أفلح في جذب القارئ إلى منطقتها ، والتأمل في ذرائعها وفحص نماذجها ، ووصول ذلك إلى شرعية مناسبة تقبل وجود قصيدة النثر في المحافل والمنابر والنشر .. " ( 19 )
إن النقد الغيبي كارثة على الناقد والمنقود .. توصل الأول إلى أحكام تعسفيّة ضحلة , تداور حول النص دون أن تلجه , ترمي عليه ما تراكم من أحكام وأفكار سابقة , لا علاقة لها بالنص
المعطى , الذي يتحوّل بيد النقد الجائر إلى مجرد نصّ مشوّه فارغ ..
وهذا ما ذهب إليه الدكتور جابر عصفور , حيث رأى " أن المعركة حول النثر توجد أو لا توجد معركة بلا معنى ، لأن قصيدة النثر موجودة فعلا ً، وعندما يوجد نوع أدبي ويصبح شائعا ً
وقويا ً ومسيطرا ً فلا ينبغي أن نعيد سؤالا ً سبق طرحه ، بل يمكن أن نفكر في أسئلة
أخرى : كيف يمكن أن نقلل من نسبة الرديء ؟ كيف يمكن أن نؤكد الإبداع المتميز في هذه القصيدة ؟ كيف يمكن أن ندرس التمايزات بين أجيال مختلفة فيها ؟ ما نوع الشعرية التي تقوم عليها ؟ وغيرها من الأسئلة "
إذن , إن آلية الكشف هي النقد الحقيقي , الذي يقوم على رؤية موضوعية , تتعامل مع النص من مبدأ الكشف والمعرفة والتأويل , وليس من مبدأ التعالي والاستغراق في الغيبية والرفض والتجاهل .. فالنقد في ذلك , شأنه شأن كلّ عملية منطقية تنبني على الاستنطاق , والتحليل والتركيب , في عملية متعاكسة الاتجاه : تنطلق من الجزء لمعرفة خصائص الكلّ , لتستعيد معرفة خصائص الجزء في الكلّ , ومن ثمّ , خصائص الكل من خلال الأجزاء المكوّنة له .. وصولا ً إلى تقييم , ينأى بنفسه عن الآراء المسبقة الصنع ..
فقصيدة النثر أصبحت , كما لا يشتهي أعداؤها , جنسا ً أدبيا ً له حضوره الفعّال في الساحة الأدبية العربية , وله أسماؤه الكبيرة من الشعراء , وبطبيعة الحال , أن تتمايز التجارب وتتنوع وتتفاوت في أهميتها , فقد نجد الشعراء الحقيقيين والمتشاعرين والأدعياء , كما في كلّ فنّ من الفنون .. وقد يكون الحديث عن أجيال لقصيدة النثر , لا طائل من ورائه .. لأنه , كما يبدو , حديث تعسفيّ . فلو أخذنا على سبيل المثال جيل الرواد كما يحلو لبعض النقاد تسميته :
أدونيس , أنسي الحاج , محمد الماغوط وتوفيق صايغ وقاسم حداد وشاكر لعيبي إلخ ..
هل نستطيع أن نقول إن لتجارب هؤلاء سماتٍ واحدة ً أو تقاطعات تجعلنا نقدّم حكما ً يجمعهم معا ً ..؟
إن الجواب على هذا السؤال , قد لا يخفى على قارئ جيد لشعر هؤلاء .. فثمة انفصام شبه كليّ , وتباعد واضح بين هذه التجارب : لغة وبناء وأسلوبا ً ورؤيا .. كما أن أكثرهم ما زال يكتب .. فكيف يمكن التعامل مع كتاباتهم الجديدة وفق هذا المنظار .. ؟؟
وعلى الرغم من ذلك يحلو لبعض النقاد أن يقسّم قصيدة النثر إلى أجيال عدّة : جيل الرواد أو جيل القصيدة الكونية , وجيل السبعينيات / جيل الشك والذاتي , وجيل الثمانينيات / جيل التغريب والإدهاش , وجيل التسعينيات , جيل القصيدة اليومية الحميمية التي تصل إلى حدّ
البورنوغرافيا ..
إن مثل هذه التقسيمات وغيرها , قد يضرّ كثيرا ً بقصيدة النثر , التي جاءت أصلا ً لتلغي كل شكل جامد , وتقييم مسبق لروح الشعر .. وإذا كان الحديث عن شكل واحد لقصيدة النثر , فإن الحديث عن واحد قد يكون أكثر إشكالية في النقد .. لأن انفتاح قصيدة النثر على السرد , أمدّها بنوع من التشكـّل اللا نهائي لكلّ الأنساق فيها .. بحيث تحوّلت إلى حقل تجريبيّ , تندغم فيها المتناقضات " وتتقاطع فيها النصوص الطويلة والقصيرة ، البسيطة والمركبة ، ويتداخل فيها الغنائي والسردي ، والدرامي والتشكيلي والزمني واللا زمني ويتشابك فيها الذاتي والإنساني ، اليومي والواقعي ، الصوفي والمأساوي ، الفوضى والنظام ، الوحدة والتشظي ، الانسجام
واللا نسجام ، وهي ذا مستويات شعرية متفاوتة " تبدأ من النماذج الأسلوبية العليا , بما تحمله من فيض شعريّ وتدفـّق لغويّ ثرّ , لتنحدر إلى الضحل المبتذل , الذي لا يرتقي ليكون نثرا ً عاديا ً , فكيف يكون قصيدة نثر .. ؟! ويبدو أن حظ قصيدة النثر من هذا المبتذل الساقط كبير
جدا ً , لأسباب باتت معروفة للجميع , منها : الجهل والاستسهال ورغبة خفية في التشاعر , دون امتلاك أدنى وسائل الكتابة .. إلخ .
وهنا يأتي دور الناقد الفعّال , في المواجهة النقدية التي تضع النصوص والتجارب في مكانها الصحيح , واستنباط مفاهيم ومصطلحات واضحة , لا تزيد الأمر سوءا ً , بل تكون بمثابة مفاتيح لفهم قصيدة النثر والاستمتاع بها ..
وبعد .. ماذا يمكن القول ..
- هل يمكن أن تعيش قصيدة النثر دون وجود نظيرتيها : التفعيلة والعمودية ؟؟ هل ينتفي سبب وجودها في الاختلاف والمشاكلة ؟؟ هل تستطيع التأسيس في أرض خاوية ؟ هل يمكن أن تؤسس لشكل واضح ؟ هل يمكن تطبيق آليات النقد السردي الروائي والقصصي في فهمها وقراءتها ؟ وهل تفي آليات نقد الشعر بهذا الأمر ؟ أين يكمن الخلل : في القصيدة , في الشاعر , في
المتلقي , في سياق الثقافة التي تحتضن هؤلاء جميعا ً ؟ كيف يمكن لثقافة متخلفة أن تنتج نصا ً متقدّما ً ؟ هل الأزمة أزمة جنس أدبي متمرد , أم أزمة ثقافة ؟ إلى أيّ مدى يصبح التاريخ لعنة الحاضر , والحاضر لعنة المستقبل ؟ هل استطاعت قصيدة النثر أن تخلل بنية الذائقة العربية المتكوّنة ؟ وأن تهزّ حرم الذكورة المتأصلة في الشعور و اللا شعور العربي , وأن تعلن رفضها لكلّ نظام سلطويّ قمعيّ , يحاول أن يقدّم نفسه قانونا ً أبديا ً لكلّ متغيّر , ولكلّ طارئ على الحياة .. ؟؟
كريم عبيد
ربيع / 2004
دمشق

* * * *
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف