جولة في كتاب الإنسان المهدور
أ.منير عدوان
مدرسة ذكور فرعون الثانوية
ما أنسى فلن أنسى فضل أستاذنا الجامعي يوم أن أرشدنا -في محاضرة له- إلى مطالعة كتاب يتحدث عن فكر الهدر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على العموم. وكان ذلك الكتاب بعنوان (الإنسان المهدور) للدكتور مصطفى حجازي، ولقد شرعت منذ ذلك الحين بالبحث عن هذا الكتاب الذي شدني عنوانه، حتى وقعت عليه في إحدى دور النشر، فسارعت إلى اقتنائه فورا، وأكببت على قراءته مرات عديدة؛ لأن الكتاب في أسلوبه ومحتواه يحتاج لذلك، إذ من غير اليسير-على القارئ- استيعاب ما فيه من غير الرجوع إليه مرارا؛ بسبب كثافة أفكاره، و غزارة مادته ومعلوماته.
وعلى أية حال، فإن الكتاب صادر في طبعته الثانية عن المركز الثقافي العربي في كل من الدار البيضا وبيروت عام 2006م، وهو يقع في 352 صفحة من القطع المتوسط، يستهل فيه صاحبه ابتداء بمقدمة يشير فيها إلى تناغم فكر الهدر الإنساني مع الذات العربية المقهورة والمستعبدة بطريقة من طرق الهدر، أو بشكل من أشكاله، أو حالة من حالاته، وهنا تكمن أهمية الكتاب الذي جاء ليتمم دراسة سابقة أعدها المؤلف نفسه بعنوان (التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) وتطويرا لها من حيث التعمق والاستكمال.
وبالاستناد إلى تقرير التنمية العربية للعام 2002م، يمهد المؤلف لدراسته باستعراض بعض الأرقام الدالة على أن محور أية محاولة تنموية ينطلق أساسا من تحرير الإنسان قبل كل شيء، وأنه لا فائدة من خوض أية معركة تنموية قبل عتق الإنسان وتحريره، ذلك لأن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية لأي مجتمع، فبالرجوع إلى تقرير التنمية العربية نجد أن رأس المال البشري يسهم بما لا يقل عن(64%) من أداء النمو، فيما لا يشكل رأس المال والموارد الطبيعية مجتمعين سوى (36%)من هذا الإسهام، فالإنسان هو الهدف والمحور والأساس في كل تنمية، ومن أجل تمكين هذا الإنسان وبناء حالة الاقتدار لديه يجب أن يتم ذلك من خلال تحريره من الحرمان بجميع أشكاله وخصوصا الحرمان من الحرية والمعرفة. وبالتالي يجب الاعتراف بحق الإنسان بالكيان وصيانة حرمة هذا الإنسان، وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء حالة الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي نجاح أو إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية .
ولكن لست أدري لماذا يصر المثقفون في عالمنا العربي على الاستعانة من أجل حل إشكالاتنا الفكرية بما في جعاب الآخرين من أفكار رغم أن جعبتنا ملأى بها؟، فتجدهم يطرحون الديمقراطية كأحد هذه الحلول بوصفها العصا السحرية الكفيلة بمداواة جراحنا، وحل إشكالاتنا الفكرية، رغم أن الطرح الذي يقدمه المؤلف عن الديمقراطية، وربطها بالتنمية والتقدم، إنما هو ربط مشروط بمدى القدرة على تحرير الإنسان أولا.
وعلى أية حال فإن، المؤلف يطرح بديلا للحديث عن انعدام الحريات وغياب الديمقراطية بوصفها الدواء الناجع من وجهة نظره بالحديث عن مثلث الرعب والحصار، ويقصد به حكم المخابرات والبوليس السري كركن قاعدي لهذا المثلث يتممه ويعززه ركنا العصبيات والأصوليات.
لقد تقاسم هذا المثلث المرعب والخطر مهمة القضاء على حرية الإنسان من خلال قمقمة طاقاته الحية، وعبر تدجين العقول وترويضها، وحظر التفكير والتساؤل، وهل هناك من مجال في عالمنا الراهن لأي إنجاز اقتصادي أو عمراني بدون اقتدار معرفي وفاعلية ذهنية متحررة ؟ لا أظن ذلك، فإن أردتم السبب، فهو كما يقول المؤلف موضحا أدوار كل ضلع من أضلاع مثلث الرعب والحصار على النحو الذي سيتم عرضه باختصار أدناه.
إن مهمة الضلع الأول المخابرات والبوليس السري هو مطاردة الإنسان في كل موقع وفعل وقول، بهدف حماية الكراسي، ولذلك فهو يعمل على منع إنجاز أي بناء أو تحقيق أي تقدم أو نماء من خلال خصاء الطاقات الحية في كل تعبيراتها الرافضة أو المتسائلة باعتبارها تهدد الوضع القائم وتحضرني في هذا المقام لافتات أحمد مطر التي يصور في أكثر من واحدة هذه المهمة في إبداع كبير.
أما الضلعان الآخران فيتممان ويسهلان مهمة الضلع الأول (عمل المخابرات) وإن كان عن غير قصد وبشكل عفوي دونما تنسيق، فالعصبيات على اختلاف أنواعها قبلية، عشائرية، طائفية، أثنية، جهوية، حزبية ....الخ تفرض حصارا على أتباعها من خلال النظام المتمثل بثنائية الطاعة والولاء مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنيمة، وتنتشر هذه العصبيات في مؤسسسات المجتمع قاطبة، وتحولها إلى مراكز نفوذ لجني الغنائم، وبالتالي فهي تفرض الرضوخ والتبعية والانقياد الطفلي لقاء الحماية والمغانم، إنها بدورها تماما مثل المخابرات تقوم بخصاء طاقات النماء والنزوع إلى الاستقلال الراشد، وتحويل أتباعها إلى كائنات طفيلية، وبالتالي تصبح الأولوية في مختلف مؤسسات القطاع العام العربية للولاء وليس للأداء، فيكون لسان الحال:( أنت جيد ما دام ولاؤك مضمونا، عندها تنال نصيبك من الغنيمة والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئا، والويل كل الويل لمن يخرج عن الولاء مهما كان أداؤه متميزا).
وبالانتقال إلى الضلع الثالث الأصوليات، فإن تزايد انتشارها في النصف الثاني من القرن العشرين قد أدى إلى اتساع نطاق التحريم الذي تفرضه على الوجود في مختلف تجلياته...ومن هذا المنطلق تشن الأصوليات حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية، أو على السلوك وحركيته وحسب، بل وحتى على الفكر أساسا وانطلاقه ومرونته وصولا إلى مطاردة النوايا.
هذا المثلث في نظر المؤلف متحالف و متآزر في قمع الإنسان العربي وقهره، رغم ما يبدو من صراعات بين أركانه على المرجعية والنفوذ. فالركن الأول يطارد الإنسان من الخارج بينما الركنان الآخران يطاردانه من الداخل، وتزيد الأضلاع لتصبح مربعا للرعب والحصار حينما تنضاف إليها في خضم الحرب النفسية والعسكرية التي تشن على هذه الأمة (تهمة الإرهاب)، فيشرع الناس إلى دفع هذه التهمة من منطلق الشعور بالذنب، وبمحاولة إثبات البراءة من خلال الانقياد الكامل للمشروع الغربي في الهيمنة على العالم.
ولكن لست أدري مرة أخرى، لماذا شعرت حينما تحدث المؤلف عن الأصوليات أنه كان ضبابيا إلى حد ما؟ هل لأنه جمع الأصوليات كلها في سلة، ورماها عن قوس واحدة، فتحدث عنها دونما تفريق؟ أم لأنه صرف النظر عن الحديث عن أسبابها التي تحتاج إلى تحليل علمي وموضوعي بحسب قوله، ولماذا في رأيي لا تكون أسباب هذه الأصوليات التي صرف المؤلف الحديث عنها نتيجة حتمية لحالات الهدر التي عاشتها وتعيشها الأمة منذ أمد، فنهضت تلك الأصوليات في الظلام الحالك تتلمس في الأصول ما يعينها ويمكنها من طرح شعارات جديدة تعمل على رفع قيمة الإنسان، وإطلاق طاقاته الحية في سبيل نهضة الأمة من جديد.
أنا لا أحاول الدفاع عن تلك الأصوليات برمتها أمام ادعاء المؤلف عليها، بل إن بعض تلك الأصوليات قد غرق في حالات شديدة من الهدر في محاولة يائسة لتدجين الأتباع أمام فكرها الهش، ولكنني أتساءل، ألم يكن الهدر موجودا حينما لم تكن الأصوليات كذلك؟ بلى، فالأصوليات المقصودة حديثة التكوين، ومرتبطة من حيث النشأة بالقرن العشرين، وتحديدا بسقوط الخلافة العثمانية، بينما الهدر سابق على ذلك، ومتجذر في أعماق اللاوعي العربي .ثم إنني أتساءل مرة أخرى، أليس من دواعي التغيير وجود أصول تشحذ الفكر، وتشحن الهمم، وترسم خطط التغيير نحو الأفضل من خلال استلهام التجارب، واستحضار المثل، وقبل ذلك وضع الخطط الكفيلة بالخروج من مأزق التشرذم والتفكك والاستعباد.
إنني أعتقد أن الأصوليات ليست تماما ذات طبيعة واحدة أو نهج واحد، وإن كثيرا من حالات التغيير التي حصلت في المجتمعات الإنسانية، إنما جاءت من خلال قوالب أصولية في أغلب الأحيان.
إن الأطروحة المركزية للعمل الذي اشتغل عليه المؤلف هو هدر إنسانية الإنسان، وعدم الاعتراف المسبق بكيانه وقيمته وحصانته في ظل شيوع حالات عديدة للهدر في عالمنا العربي والإسلامي من مثل الهدر المالي أو هدر الموارد والتي هي أنواع شائعة عالميا وتاريخيا بمقادير متفاوتة، لكنها في عالمنا العربي تصبح قاعدة لدرجة أنها لم تعد تثير الفضائح كما هو الحال في البلاد المتقدمة حيث تلعب دورا في إسقاط عروش وتبديل حكومات (خذ فضيحة أولمرت مثالا)، كما أن الهدر قد يتخذ أشكالا كارثية من مثل الحروب التي تخاض من أجل الغلبة وفرض السيطرة، ففي حرب الخليج الأولى على سبيل المثال ( الحرب العراقية الإيرانية) قتل ما يزيد على مليون شخص من كلا الطرفين، وتم تدمير اقتصاد البلدين، حيث استهلكت الحرب احتياطات العراق المالية، وتراكمت الديون الخارجية عليه حتى بلغت قرابة 60 مليار دولار.
إن الموضوع الذي يؤكد عليه المؤلف هو هدر الإنسان تحديدا بمعنى التنكر لإنسانيته، وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه، ومن هنا يشرع بتعريف الهدر لغة ابتداء بمعنى الإبطال وإزالة الحصانة إلى التعريف الاصطلاحي بمعنى سحب القيمة والتنكر لها مما يجعل الإنسان يفقد مكانته، وهكذا يتراوح الهدر إذن ما بين الحالات الفظة الصارخة التي تتخذ طابع هدر الدم والتصفية وبين الحالات الخفية المداورة والمقنعة بمختلف التبريرات.
تتعدد ألوان الهدر بمعنى انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان، وتتخذ أشكالا ومستويات وحالات متفاوتة يصعب على المتتبع الإحاطة بها في مثل هكذا مقالة، ولكن على وجه العموم يمكن الحديث عن نوعين من الهدر هما: الهدر العام والهدر الخاص. أما الهدر العام فهو الذي يطال شرائح كبرى من الناس أو حتى مجتمعات بأكملها، ويدخل في نطاق هذا النوع من الهدر حالات الطغيان والاستبداد الذي تمارسه المخابرات والعصبيات والأصوليات المتطرفة، ومن ضمن هذا الهدر أيضا يأتي نهب القلة للثروات والخيرات، وحرمان الغالبية منها، ودفعها إلى المستوى النباتي (توفير لقمة العيش)، وبالتالي يدفع هذا النمط من الهدر بالجماعة وأفرادها من مستوى خط الفقر إلى ما دون خط البشر وجوديا وكيانيا، ويندرج أيضا تحت الهدر العام هدر الطاقات، وهدر الوعي، وهدر الفكر، وكلها تولد مآزق وجودية كبرى يصعب على الإنسان تحملها إذ ليس من اليسير عليه تحمل جحيم أن لا يكون.
وتأتي العولمة لتلعب لعبتها في عملية الهدر هذه، حيث تختزل القيمة الكيانية، وقيمة الانتماء إلى عقيدة وثقافة ووطن في رقم حساب، وبطاقة ائتمان، ومظاهر رفاه العيش، وإثاراته التي يتفنن إعلام العولمة بتزيينها للناس والشباب تحديدا.
أما الهدر الخاص، فهو ذلك الذي يصيب على الأغلب المرأة والشباب والطفولة، فيرسم لكل منهم صورة نمطية لا يمكن للمجتمع تجاوزها، فالمرأة تختزل إلى أداة إنجاب ومصاهرة ،وتتحول إلى ملكية العشيرة والأسرة من خلال ملكية الأب والأخ للبنت، ومن بعده الزوج لزوجته، كما يهدر كيانها حينما تتحول إلى أسطورة الضعف والعار، وغير ذلك من الصور النمطية .
والطفولة تتعرض في عالمنا العربي إلى أسلوب تنشئة قمعي في إطار خطة مبرمجة يتآزر فيها البيت مع المدرسة في محاولة قمقمة الطاقات الإبداعية والعفوية للطفل، فإذا به حين يقترب من الدخول إلى المدرسة قد تم تدجينه وترويضه وقمقمة طاقاته وإبداعاته في قوالب جامدة وسلوكات امتثال.
أما الشباب، وما أدراك ما الشباب؟ فإنها في نظر الأنظمة الحاكمة طاقات فائضة عن اللزوم، وبالتالي فهي عبء يجب التخلص منه بدلا من إعدادها لتكون طاقة صناعة المستقبل، وتستكمل العولمة هدر الشباب من خلال الإلهاء ورضاعة التسلية، والإغراق في الإثارة المادية في استراتيجية مدروسة جيدا لإبعاده عن المشاركة في صناعة المصير.
ونختم جولتنا هذه بالحديث عن أكثر علاقات الهدر شيوعا في الحياة العادية، وهو القبول المشروط، بمعنى: (أنا أقبلك واعترف بك ما دمت تخضع لإرادتي، وتكون أداة لرغباتي ومخططاتي)، وتنتشر حالة القبول المشروط في مختلف أنواع العلاقات الزوجية والأبوية وعلاقات الرؤساء بالمرؤوسين في العمل والعلاقات العشائرية والعصبية والأصولية.
وفي الختام، فإن ما سبق يمثل جولة في الفصل الأول من الكتاب المذكور سويتها بقصد لفت الانتباه له و تنبيه المثقفين إليه ، ولست أدعي فيها أنني أحطت بكل ما استقصاه المؤلف، وإنما هي محاولة متواضعة لقراءة أولية، على أمل أن تشفعها جولات أخرى تتناول جوانب مختلفة من ذلك الكتاب القيم الذي أنصح جميع المثقفين بقراءته بله اقتنائه وحيازته، ليحتل رفا على مكتبة كل من يرغب في أن يكتسب مناعة ذاتية ضد ثقافة الهدر الشائعة في أوطاننا ومجتمعاتنا.
أ.منير عدوان
مدرسة ذكور فرعون الثانوية
ما أنسى فلن أنسى فضل أستاذنا الجامعي يوم أن أرشدنا -في محاضرة له- إلى مطالعة كتاب يتحدث عن فكر الهدر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على العموم. وكان ذلك الكتاب بعنوان (الإنسان المهدور) للدكتور مصطفى حجازي، ولقد شرعت منذ ذلك الحين بالبحث عن هذا الكتاب الذي شدني عنوانه، حتى وقعت عليه في إحدى دور النشر، فسارعت إلى اقتنائه فورا، وأكببت على قراءته مرات عديدة؛ لأن الكتاب في أسلوبه ومحتواه يحتاج لذلك، إذ من غير اليسير-على القارئ- استيعاب ما فيه من غير الرجوع إليه مرارا؛ بسبب كثافة أفكاره، و غزارة مادته ومعلوماته.
وعلى أية حال، فإن الكتاب صادر في طبعته الثانية عن المركز الثقافي العربي في كل من الدار البيضا وبيروت عام 2006م، وهو يقع في 352 صفحة من القطع المتوسط، يستهل فيه صاحبه ابتداء بمقدمة يشير فيها إلى تناغم فكر الهدر الإنساني مع الذات العربية المقهورة والمستعبدة بطريقة من طرق الهدر، أو بشكل من أشكاله، أو حالة من حالاته، وهنا تكمن أهمية الكتاب الذي جاء ليتمم دراسة سابقة أعدها المؤلف نفسه بعنوان (التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) وتطويرا لها من حيث التعمق والاستكمال.
وبالاستناد إلى تقرير التنمية العربية للعام 2002م، يمهد المؤلف لدراسته باستعراض بعض الأرقام الدالة على أن محور أية محاولة تنموية ينطلق أساسا من تحرير الإنسان قبل كل شيء، وأنه لا فائدة من خوض أية معركة تنموية قبل عتق الإنسان وتحريره، ذلك لأن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية لأي مجتمع، فبالرجوع إلى تقرير التنمية العربية نجد أن رأس المال البشري يسهم بما لا يقل عن(64%) من أداء النمو، فيما لا يشكل رأس المال والموارد الطبيعية مجتمعين سوى (36%)من هذا الإسهام، فالإنسان هو الهدف والمحور والأساس في كل تنمية، ومن أجل تمكين هذا الإنسان وبناء حالة الاقتدار لديه يجب أن يتم ذلك من خلال تحريره من الحرمان بجميع أشكاله وخصوصا الحرمان من الحرية والمعرفة. وبالتالي يجب الاعتراف بحق الإنسان بالكيان وصيانة حرمة هذا الإنسان، وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء حالة الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي نجاح أو إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية .
ولكن لست أدري لماذا يصر المثقفون في عالمنا العربي على الاستعانة من أجل حل إشكالاتنا الفكرية بما في جعاب الآخرين من أفكار رغم أن جعبتنا ملأى بها؟، فتجدهم يطرحون الديمقراطية كأحد هذه الحلول بوصفها العصا السحرية الكفيلة بمداواة جراحنا، وحل إشكالاتنا الفكرية، رغم أن الطرح الذي يقدمه المؤلف عن الديمقراطية، وربطها بالتنمية والتقدم، إنما هو ربط مشروط بمدى القدرة على تحرير الإنسان أولا.
وعلى أية حال فإن، المؤلف يطرح بديلا للحديث عن انعدام الحريات وغياب الديمقراطية بوصفها الدواء الناجع من وجهة نظره بالحديث عن مثلث الرعب والحصار، ويقصد به حكم المخابرات والبوليس السري كركن قاعدي لهذا المثلث يتممه ويعززه ركنا العصبيات والأصوليات.
لقد تقاسم هذا المثلث المرعب والخطر مهمة القضاء على حرية الإنسان من خلال قمقمة طاقاته الحية، وعبر تدجين العقول وترويضها، وحظر التفكير والتساؤل، وهل هناك من مجال في عالمنا الراهن لأي إنجاز اقتصادي أو عمراني بدون اقتدار معرفي وفاعلية ذهنية متحررة ؟ لا أظن ذلك، فإن أردتم السبب، فهو كما يقول المؤلف موضحا أدوار كل ضلع من أضلاع مثلث الرعب والحصار على النحو الذي سيتم عرضه باختصار أدناه.
إن مهمة الضلع الأول المخابرات والبوليس السري هو مطاردة الإنسان في كل موقع وفعل وقول، بهدف حماية الكراسي، ولذلك فهو يعمل على منع إنجاز أي بناء أو تحقيق أي تقدم أو نماء من خلال خصاء الطاقات الحية في كل تعبيراتها الرافضة أو المتسائلة باعتبارها تهدد الوضع القائم وتحضرني في هذا المقام لافتات أحمد مطر التي يصور في أكثر من واحدة هذه المهمة في إبداع كبير.
أما الضلعان الآخران فيتممان ويسهلان مهمة الضلع الأول (عمل المخابرات) وإن كان عن غير قصد وبشكل عفوي دونما تنسيق، فالعصبيات على اختلاف أنواعها قبلية، عشائرية، طائفية، أثنية، جهوية، حزبية ....الخ تفرض حصارا على أتباعها من خلال النظام المتمثل بثنائية الطاعة والولاء مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنيمة، وتنتشر هذه العصبيات في مؤسسسات المجتمع قاطبة، وتحولها إلى مراكز نفوذ لجني الغنائم، وبالتالي فهي تفرض الرضوخ والتبعية والانقياد الطفلي لقاء الحماية والمغانم، إنها بدورها تماما مثل المخابرات تقوم بخصاء طاقات النماء والنزوع إلى الاستقلال الراشد، وتحويل أتباعها إلى كائنات طفيلية، وبالتالي تصبح الأولوية في مختلف مؤسسات القطاع العام العربية للولاء وليس للأداء، فيكون لسان الحال:( أنت جيد ما دام ولاؤك مضمونا، عندها تنال نصيبك من الغنيمة والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئا، والويل كل الويل لمن يخرج عن الولاء مهما كان أداؤه متميزا).
وبالانتقال إلى الضلع الثالث الأصوليات، فإن تزايد انتشارها في النصف الثاني من القرن العشرين قد أدى إلى اتساع نطاق التحريم الذي تفرضه على الوجود في مختلف تجلياته...ومن هذا المنطلق تشن الأصوليات حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية، أو على السلوك وحركيته وحسب، بل وحتى على الفكر أساسا وانطلاقه ومرونته وصولا إلى مطاردة النوايا.
هذا المثلث في نظر المؤلف متحالف و متآزر في قمع الإنسان العربي وقهره، رغم ما يبدو من صراعات بين أركانه على المرجعية والنفوذ. فالركن الأول يطارد الإنسان من الخارج بينما الركنان الآخران يطاردانه من الداخل، وتزيد الأضلاع لتصبح مربعا للرعب والحصار حينما تنضاف إليها في خضم الحرب النفسية والعسكرية التي تشن على هذه الأمة (تهمة الإرهاب)، فيشرع الناس إلى دفع هذه التهمة من منطلق الشعور بالذنب، وبمحاولة إثبات البراءة من خلال الانقياد الكامل للمشروع الغربي في الهيمنة على العالم.
ولكن لست أدري مرة أخرى، لماذا شعرت حينما تحدث المؤلف عن الأصوليات أنه كان ضبابيا إلى حد ما؟ هل لأنه جمع الأصوليات كلها في سلة، ورماها عن قوس واحدة، فتحدث عنها دونما تفريق؟ أم لأنه صرف النظر عن الحديث عن أسبابها التي تحتاج إلى تحليل علمي وموضوعي بحسب قوله، ولماذا في رأيي لا تكون أسباب هذه الأصوليات التي صرف المؤلف الحديث عنها نتيجة حتمية لحالات الهدر التي عاشتها وتعيشها الأمة منذ أمد، فنهضت تلك الأصوليات في الظلام الحالك تتلمس في الأصول ما يعينها ويمكنها من طرح شعارات جديدة تعمل على رفع قيمة الإنسان، وإطلاق طاقاته الحية في سبيل نهضة الأمة من جديد.
أنا لا أحاول الدفاع عن تلك الأصوليات برمتها أمام ادعاء المؤلف عليها، بل إن بعض تلك الأصوليات قد غرق في حالات شديدة من الهدر في محاولة يائسة لتدجين الأتباع أمام فكرها الهش، ولكنني أتساءل، ألم يكن الهدر موجودا حينما لم تكن الأصوليات كذلك؟ بلى، فالأصوليات المقصودة حديثة التكوين، ومرتبطة من حيث النشأة بالقرن العشرين، وتحديدا بسقوط الخلافة العثمانية، بينما الهدر سابق على ذلك، ومتجذر في أعماق اللاوعي العربي .ثم إنني أتساءل مرة أخرى، أليس من دواعي التغيير وجود أصول تشحذ الفكر، وتشحن الهمم، وترسم خطط التغيير نحو الأفضل من خلال استلهام التجارب، واستحضار المثل، وقبل ذلك وضع الخطط الكفيلة بالخروج من مأزق التشرذم والتفكك والاستعباد.
إنني أعتقد أن الأصوليات ليست تماما ذات طبيعة واحدة أو نهج واحد، وإن كثيرا من حالات التغيير التي حصلت في المجتمعات الإنسانية، إنما جاءت من خلال قوالب أصولية في أغلب الأحيان.
إن الأطروحة المركزية للعمل الذي اشتغل عليه المؤلف هو هدر إنسانية الإنسان، وعدم الاعتراف المسبق بكيانه وقيمته وحصانته في ظل شيوع حالات عديدة للهدر في عالمنا العربي والإسلامي من مثل الهدر المالي أو هدر الموارد والتي هي أنواع شائعة عالميا وتاريخيا بمقادير متفاوتة، لكنها في عالمنا العربي تصبح قاعدة لدرجة أنها لم تعد تثير الفضائح كما هو الحال في البلاد المتقدمة حيث تلعب دورا في إسقاط عروش وتبديل حكومات (خذ فضيحة أولمرت مثالا)، كما أن الهدر قد يتخذ أشكالا كارثية من مثل الحروب التي تخاض من أجل الغلبة وفرض السيطرة، ففي حرب الخليج الأولى على سبيل المثال ( الحرب العراقية الإيرانية) قتل ما يزيد على مليون شخص من كلا الطرفين، وتم تدمير اقتصاد البلدين، حيث استهلكت الحرب احتياطات العراق المالية، وتراكمت الديون الخارجية عليه حتى بلغت قرابة 60 مليار دولار.
إن الموضوع الذي يؤكد عليه المؤلف هو هدر الإنسان تحديدا بمعنى التنكر لإنسانيته، وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه، ومن هنا يشرع بتعريف الهدر لغة ابتداء بمعنى الإبطال وإزالة الحصانة إلى التعريف الاصطلاحي بمعنى سحب القيمة والتنكر لها مما يجعل الإنسان يفقد مكانته، وهكذا يتراوح الهدر إذن ما بين الحالات الفظة الصارخة التي تتخذ طابع هدر الدم والتصفية وبين الحالات الخفية المداورة والمقنعة بمختلف التبريرات.
تتعدد ألوان الهدر بمعنى انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان، وتتخذ أشكالا ومستويات وحالات متفاوتة يصعب على المتتبع الإحاطة بها في مثل هكذا مقالة، ولكن على وجه العموم يمكن الحديث عن نوعين من الهدر هما: الهدر العام والهدر الخاص. أما الهدر العام فهو الذي يطال شرائح كبرى من الناس أو حتى مجتمعات بأكملها، ويدخل في نطاق هذا النوع من الهدر حالات الطغيان والاستبداد الذي تمارسه المخابرات والعصبيات والأصوليات المتطرفة، ومن ضمن هذا الهدر أيضا يأتي نهب القلة للثروات والخيرات، وحرمان الغالبية منها، ودفعها إلى المستوى النباتي (توفير لقمة العيش)، وبالتالي يدفع هذا النمط من الهدر بالجماعة وأفرادها من مستوى خط الفقر إلى ما دون خط البشر وجوديا وكيانيا، ويندرج أيضا تحت الهدر العام هدر الطاقات، وهدر الوعي، وهدر الفكر، وكلها تولد مآزق وجودية كبرى يصعب على الإنسان تحملها إذ ليس من اليسير عليه تحمل جحيم أن لا يكون.
وتأتي العولمة لتلعب لعبتها في عملية الهدر هذه، حيث تختزل القيمة الكيانية، وقيمة الانتماء إلى عقيدة وثقافة ووطن في رقم حساب، وبطاقة ائتمان، ومظاهر رفاه العيش، وإثاراته التي يتفنن إعلام العولمة بتزيينها للناس والشباب تحديدا.
أما الهدر الخاص، فهو ذلك الذي يصيب على الأغلب المرأة والشباب والطفولة، فيرسم لكل منهم صورة نمطية لا يمكن للمجتمع تجاوزها، فالمرأة تختزل إلى أداة إنجاب ومصاهرة ،وتتحول إلى ملكية العشيرة والأسرة من خلال ملكية الأب والأخ للبنت، ومن بعده الزوج لزوجته، كما يهدر كيانها حينما تتحول إلى أسطورة الضعف والعار، وغير ذلك من الصور النمطية .
والطفولة تتعرض في عالمنا العربي إلى أسلوب تنشئة قمعي في إطار خطة مبرمجة يتآزر فيها البيت مع المدرسة في محاولة قمقمة الطاقات الإبداعية والعفوية للطفل، فإذا به حين يقترب من الدخول إلى المدرسة قد تم تدجينه وترويضه وقمقمة طاقاته وإبداعاته في قوالب جامدة وسلوكات امتثال.
أما الشباب، وما أدراك ما الشباب؟ فإنها في نظر الأنظمة الحاكمة طاقات فائضة عن اللزوم، وبالتالي فهي عبء يجب التخلص منه بدلا من إعدادها لتكون طاقة صناعة المستقبل، وتستكمل العولمة هدر الشباب من خلال الإلهاء ورضاعة التسلية، والإغراق في الإثارة المادية في استراتيجية مدروسة جيدا لإبعاده عن المشاركة في صناعة المصير.
ونختم جولتنا هذه بالحديث عن أكثر علاقات الهدر شيوعا في الحياة العادية، وهو القبول المشروط، بمعنى: (أنا أقبلك واعترف بك ما دمت تخضع لإرادتي، وتكون أداة لرغباتي ومخططاتي)، وتنتشر حالة القبول المشروط في مختلف أنواع العلاقات الزوجية والأبوية وعلاقات الرؤساء بالمرؤوسين في العمل والعلاقات العشائرية والعصبية والأصولية.
وفي الختام، فإن ما سبق يمثل جولة في الفصل الأول من الكتاب المذكور سويتها بقصد لفت الانتباه له و تنبيه المثقفين إليه ، ولست أدعي فيها أنني أحطت بكل ما استقصاه المؤلف، وإنما هي محاولة متواضعة لقراءة أولية، على أمل أن تشفعها جولات أخرى تتناول جوانب مختلفة من ذلك الكتاب القيم الذي أنصح جميع المثقفين بقراءته بله اقتنائه وحيازته، ليحتل رفا على مكتبة كل من يرغب في أن يكتسب مناعة ذاتية ضد ثقافة الهدر الشائعة في أوطاننا ومجتمعاتنا.