
تنويه: الأحداث والأسماء والتواريخ حقيقية.
كان محمد البلعاوي قد أفلت من الاعتقال وخيب ظن الكابتن "ألون" قبل بضعة أسابيع حينما داهمه بقوات راجلة في منطقة قصية من القرية حينما كان يعمل في أعمال البناء، لكن الكابتن ألون لم ولن ييأس من إلقاء القبض على محمد وعلى مطلوبين آخرين، وذلك ليسجل في ملفه قبل انتقاله المزمع بعد أيام أو أسابيع قليلة.
ظل محمد يزاول نشاطه المعتاد رغم أنه رزق بابنه البكر "عاصف" ومضت شهور ثلاثة على ذلك الحدث حينما قام بشراء كبش كبير قرر أن يذبحه "عقيقة" لابنه البكر. ولأجل هذا الغرض اتفق مع جزار القرية الذي وافق بلا تردد لقلة الأعمال في ذلك الوقت، لكنه طلب من محمد أن يسبقه إلى المنزل كي يتوضأ وليقضي بعض شؤونه بعد أن حمله عددا من عتاده من ساطور وسكاكين طويلة كان الدم ما يزال عالقا ببعضها.
حمل محمد الأسلحة البيضاء المعفرة بالدم وراح يتبختر بين الأزقة القديمة وعبر السوق الصغير الذي يتكون من بضعة دكاكين مظلمة وصالون للحلاقة ومحل لبيع الدجاج، وهناك التقى بصديقه ورفيقه طارق، كان طارق هو الآخر من أهم المطلوبين لقوات الاحتلال في تلك الفترة، بادره محمد وطلب منه مرافقته إلى المنزل للمساعدة في ذبح الكبش وتقطيعه، لم يمانع طارق لكنه طلب مهلة ريثما يدخل إلى صالون الحلاقة ويقص شعره الذي مضى عليه وقت طويل دون قص وترتيب ووعد محمد اللحاق به حال الانتهاء من قص الشعر خلال دقائق.
لم تمض سوى دقائق معدودة حينما غادر محمد المنطقة متوجها إلى منزله، حيث أفراد الأسرة بانتظار الحدث الكبير في حياة الأسرة. حينها كان المؤذن يرفع آذان المغرب في ذلك اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر/ تشرين أول من العام 1989 وفي الأثناء كانت سيارتان مرسيدس صغيرتان تتوقفان أمام المحل بشكل مفاجئ لينهمر منهما سيل من الرجال المسلحين بألبستهم المدنية مصوبين أسلحتهم النارية نحو كافة الشباب الواقفين هناك. وعلى الأرجح فقد جاءوا لاعتقال بعض المطلوبين بناء على معلومات عاجلة ودقيقة، ولا بد أن ذلك حدث في وقت مبكر، أو أنهم كانوا في حالة استنفار في المنطقة وتلقوا بلاغا مستعجلا فوصلوا الموقع بسرعة.
طلب الجنود "المستعربين" من الجميع رفع أيديهم والاستسلام، كان طارق ما يزال على كرسي الحلاقة ولم ينجز الحلاق سوى نصف رأسه الأيمن، حاول التملص لكن أين! لقد ألقي القبض عليه في أضعف ما يكون وضع الإنسان تقريبا، كان الكابتن "ألون" هو قائد العملية وهو يخاطر بنفسه وبجنده لينجز اعتقال بعض أهم المطلوبين قبل انتقاله إلى منطقة أخرى.
أما محمد فقد دهش لصوت الصفير المفاجئ وسط القرية التي غادرها قبل دقائق، وكانت الأسلحة البيضاء ما تزال في يده ولم يبلغ منزله بعد، عاود محمد طريقه فيما صفير الإنذار الذي يطلقه الشباب والفتيان يعلو ويزداد يتلوه صراخ ثم إطلاق صليات متتالية من الرصاص. حينها أدرك أن الحدث كبير وجلل فراح يركض إلى حيث مركز الحدث.
وصل محمد أبا عاصف مركز القرية وبانت له الصورة ناصعة، لذلك انهمك
في إدارة الحدث الآن ومشاركة الشباب والبنات والرجال والنساء ضرب الحجارة نحو الجند الأغراب المستعربين.
الحجارة كانت تنهمر على الجنود الذين ما زالوا يحاولون الانسحاب بضحيتهم دون أن يفلحوا في ذلك، وصار الوقت يمر بصعوبة وبات الموقف في غاية الخطر بعد أن تجمع الناس من حول الأغراب المعتدين، وباتت الحجارة تنهمر فوق الرؤوس كانهمار البَرد.
نجح الشباب في ضرب طوق محكم حول الأغراب المستعربين، إنها المرة الأولى التي يشاهد الشباب والناس فيها محمد أبا عاصف يحمل مثل هذه الأسلحة البيضاء الطويلة التي تقطر دما، لا بد أنه أوغل في دماء المستعربين بهذه الأسلحة، البعض همس في نفسه أو للآخرين قائلا: لا بد أنه فارس من فرسان زمان الذين سمعنا أن سيوفهم كانت تقطر دما في حومات الوغى، الدهشة تعلو وجوه بعض النساء والرجال، بعض النسوة أطلقن الزغاريد حينما شاهدن الأسلحة التي تقطر دما في يد أبا عاصف، فيما بعض النسوة الأكثر تعقلا رحن يرجونه أن يبعد هذه الأسلحة الخطيرة لأن مجرد مشاهدتها من قبل الجنود تجعلهم يطلقون النار بلا تردد، وكان البعض من الشباب يمسك بأذرعة محمد ويحاول ثنيه عن مواصلة الهجوم والقتل فيرجونه أن لا يرمي بنفسه إلى التهلكة بهذه الطريقة العنترية التي لا تفيد لأن الرصاص سيصلك قبل أن تتمكن من رفع سلاحك هذا، "وليس في كل مرة تسلم الجرة" * وستكون مذبحة في أبناء البلدة.
أدرك محمد أنه وقع في كمين محرج، ثم همس لنفسه " إلي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس"* لذلك راح يصيح: يا جماعة هذه ليست لي، هذه للجزار،،هل تعتقدونني طرزان القرية!؟. ثم ما لبث أن ركنها جانبا خلف أحد الأبنية، وراح يشمر عن ذراعيه ويضرب بالحجارة مثله مثل الآخرين.
كان الكابتن "ألون" قائد العملية قد بدأ يفقد قدرته على القيادة، لكنه ظل يتوسل التعزيزات عبر الهاتف الذي يحمله في يده. ولم يكن أمام المستعربين غير الدخول في دكان صغير ليحتموا به مع ضحيتهم طارق، ومن شق صغير في الباب راحوا يطلقون زخات متتالية مجنونة من الرصاص في اتجاهات عشوائية. وبدا الأمر وكأن مذبحة كبيرة ستقع تحت جنح الظلام. حيث استمرت الاشتباكات حتى منتصف الليل حينما وصلت التعزيزات الضخمة بواسطة الطائرات المروحية وطوقت البلدة بالجنود وأعلن منع التجوال، واستطاعت أعداد كبيرة من الجند اختراق الطوق والوصول إلى الجند المحاصرين والانسحاب بالمركبات المصفحة مع أسيرهم.
كانت القرية حينها قد منيت بعدد كبير من الجرحى جراء صليات الرصاص المجنونة من قبل الجند المحاصرين، وكان الهم الأكبر لأبنائها هو إسعاف عشرات
الجرحى إلى مستشفيات المدينة، لكن "سونيا الواوي" ابنة الثامنة عشرة كانت قد ارتقت شهيدة تلك الليلة بطلقة في الصدر.
في صباح اليوم التالي وبمبادرة من "اللجان الضاربة" انطلق أبناء القرية شيبا وشبابا ونساء ورجالا ليكسروا الطوق الذي ضرب عليهم خلال ساعات الليل، وراحوا يهتفون باسم الشهيدة سونيا حيث تجمعوا معا وسط القرية وواروا جثمانها الطاهر التراب بينما روحها ترتقي إلى أعالي السماء.
أما محمد فقد نجا مرة أخرى من الاعتقال، وكذلك نجا كبشه من الذبح، لكن إلى حين.
هوامش :
- مثل شعبي فلسطيني وربما معروف في بلدان بلاد الشام وغيرها، ويقصد به أن النجاح لا يضمن تحقيقه دائما.
- مثل يقال في فلسطين وغيرها ويقصد به أن الحقيقة هي في غير الظاهر للعيان في هذه الساعة. وأصل المثل قصة طريفة.
كان محمد البلعاوي قد أفلت من الاعتقال وخيب ظن الكابتن "ألون" قبل بضعة أسابيع حينما داهمه بقوات راجلة في منطقة قصية من القرية حينما كان يعمل في أعمال البناء، لكن الكابتن ألون لم ولن ييأس من إلقاء القبض على محمد وعلى مطلوبين آخرين، وذلك ليسجل في ملفه قبل انتقاله المزمع بعد أيام أو أسابيع قليلة.
ظل محمد يزاول نشاطه المعتاد رغم أنه رزق بابنه البكر "عاصف" ومضت شهور ثلاثة على ذلك الحدث حينما قام بشراء كبش كبير قرر أن يذبحه "عقيقة" لابنه البكر. ولأجل هذا الغرض اتفق مع جزار القرية الذي وافق بلا تردد لقلة الأعمال في ذلك الوقت، لكنه طلب من محمد أن يسبقه إلى المنزل كي يتوضأ وليقضي بعض شؤونه بعد أن حمله عددا من عتاده من ساطور وسكاكين طويلة كان الدم ما يزال عالقا ببعضها.
حمل محمد الأسلحة البيضاء المعفرة بالدم وراح يتبختر بين الأزقة القديمة وعبر السوق الصغير الذي يتكون من بضعة دكاكين مظلمة وصالون للحلاقة ومحل لبيع الدجاج، وهناك التقى بصديقه ورفيقه طارق، كان طارق هو الآخر من أهم المطلوبين لقوات الاحتلال في تلك الفترة، بادره محمد وطلب منه مرافقته إلى المنزل للمساعدة في ذبح الكبش وتقطيعه، لم يمانع طارق لكنه طلب مهلة ريثما يدخل إلى صالون الحلاقة ويقص شعره الذي مضى عليه وقت طويل دون قص وترتيب ووعد محمد اللحاق به حال الانتهاء من قص الشعر خلال دقائق.
لم تمض سوى دقائق معدودة حينما غادر محمد المنطقة متوجها إلى منزله، حيث أفراد الأسرة بانتظار الحدث الكبير في حياة الأسرة. حينها كان المؤذن يرفع آذان المغرب في ذلك اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر/ تشرين أول من العام 1989 وفي الأثناء كانت سيارتان مرسيدس صغيرتان تتوقفان أمام المحل بشكل مفاجئ لينهمر منهما سيل من الرجال المسلحين بألبستهم المدنية مصوبين أسلحتهم النارية نحو كافة الشباب الواقفين هناك. وعلى الأرجح فقد جاءوا لاعتقال بعض المطلوبين بناء على معلومات عاجلة ودقيقة، ولا بد أن ذلك حدث في وقت مبكر، أو أنهم كانوا في حالة استنفار في المنطقة وتلقوا بلاغا مستعجلا فوصلوا الموقع بسرعة.
طلب الجنود "المستعربين" من الجميع رفع أيديهم والاستسلام، كان طارق ما يزال على كرسي الحلاقة ولم ينجز الحلاق سوى نصف رأسه الأيمن، حاول التملص لكن أين! لقد ألقي القبض عليه في أضعف ما يكون وضع الإنسان تقريبا، كان الكابتن "ألون" هو قائد العملية وهو يخاطر بنفسه وبجنده لينجز اعتقال بعض أهم المطلوبين قبل انتقاله إلى منطقة أخرى.
أما محمد فقد دهش لصوت الصفير المفاجئ وسط القرية التي غادرها قبل دقائق، وكانت الأسلحة البيضاء ما تزال في يده ولم يبلغ منزله بعد، عاود محمد طريقه فيما صفير الإنذار الذي يطلقه الشباب والفتيان يعلو ويزداد يتلوه صراخ ثم إطلاق صليات متتالية من الرصاص. حينها أدرك أن الحدث كبير وجلل فراح يركض إلى حيث مركز الحدث.
وصل محمد أبا عاصف مركز القرية وبانت له الصورة ناصعة، لذلك انهمك
في إدارة الحدث الآن ومشاركة الشباب والبنات والرجال والنساء ضرب الحجارة نحو الجند الأغراب المستعربين.
الحجارة كانت تنهمر على الجنود الذين ما زالوا يحاولون الانسحاب بضحيتهم دون أن يفلحوا في ذلك، وصار الوقت يمر بصعوبة وبات الموقف في غاية الخطر بعد أن تجمع الناس من حول الأغراب المعتدين، وباتت الحجارة تنهمر فوق الرؤوس كانهمار البَرد.
نجح الشباب في ضرب طوق محكم حول الأغراب المستعربين، إنها المرة الأولى التي يشاهد الشباب والناس فيها محمد أبا عاصف يحمل مثل هذه الأسلحة البيضاء الطويلة التي تقطر دما، لا بد أنه أوغل في دماء المستعربين بهذه الأسلحة، البعض همس في نفسه أو للآخرين قائلا: لا بد أنه فارس من فرسان زمان الذين سمعنا أن سيوفهم كانت تقطر دما في حومات الوغى، الدهشة تعلو وجوه بعض النساء والرجال، بعض النسوة أطلقن الزغاريد حينما شاهدن الأسلحة التي تقطر دما في يد أبا عاصف، فيما بعض النسوة الأكثر تعقلا رحن يرجونه أن يبعد هذه الأسلحة الخطيرة لأن مجرد مشاهدتها من قبل الجنود تجعلهم يطلقون النار بلا تردد، وكان البعض من الشباب يمسك بأذرعة محمد ويحاول ثنيه عن مواصلة الهجوم والقتل فيرجونه أن لا يرمي بنفسه إلى التهلكة بهذه الطريقة العنترية التي لا تفيد لأن الرصاص سيصلك قبل أن تتمكن من رفع سلاحك هذا، "وليس في كل مرة تسلم الجرة" * وستكون مذبحة في أبناء البلدة.
أدرك محمد أنه وقع في كمين محرج، ثم همس لنفسه " إلي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس"* لذلك راح يصيح: يا جماعة هذه ليست لي، هذه للجزار،،هل تعتقدونني طرزان القرية!؟. ثم ما لبث أن ركنها جانبا خلف أحد الأبنية، وراح يشمر عن ذراعيه ويضرب بالحجارة مثله مثل الآخرين.
كان الكابتن "ألون" قائد العملية قد بدأ يفقد قدرته على القيادة، لكنه ظل يتوسل التعزيزات عبر الهاتف الذي يحمله في يده. ولم يكن أمام المستعربين غير الدخول في دكان صغير ليحتموا به مع ضحيتهم طارق، ومن شق صغير في الباب راحوا يطلقون زخات متتالية مجنونة من الرصاص في اتجاهات عشوائية. وبدا الأمر وكأن مذبحة كبيرة ستقع تحت جنح الظلام. حيث استمرت الاشتباكات حتى منتصف الليل حينما وصلت التعزيزات الضخمة بواسطة الطائرات المروحية وطوقت البلدة بالجنود وأعلن منع التجوال، واستطاعت أعداد كبيرة من الجند اختراق الطوق والوصول إلى الجند المحاصرين والانسحاب بالمركبات المصفحة مع أسيرهم.
كانت القرية حينها قد منيت بعدد كبير من الجرحى جراء صليات الرصاص المجنونة من قبل الجند المحاصرين، وكان الهم الأكبر لأبنائها هو إسعاف عشرات
الجرحى إلى مستشفيات المدينة، لكن "سونيا الواوي" ابنة الثامنة عشرة كانت قد ارتقت شهيدة تلك الليلة بطلقة في الصدر.
في صباح اليوم التالي وبمبادرة من "اللجان الضاربة" انطلق أبناء القرية شيبا وشبابا ونساء ورجالا ليكسروا الطوق الذي ضرب عليهم خلال ساعات الليل، وراحوا يهتفون باسم الشهيدة سونيا حيث تجمعوا معا وسط القرية وواروا جثمانها الطاهر التراب بينما روحها ترتقي إلى أعالي السماء.
أما محمد فقد نجا مرة أخرى من الاعتقال، وكذلك نجا كبشه من الذبح، لكن إلى حين.
هوامش :
- مثل شعبي فلسطيني وربما معروف في بلدان بلاد الشام وغيرها، ويقصد به أن النجاح لا يضمن تحقيقه دائما.
- مثل يقال في فلسطين وغيرها ويقصد به أن الحقيقة هي في غير الظاهر للعيان في هذه الساعة. وأصل المثل قصة طريفة.