الأخبار
(يسرائيل هيوم): هكذا حاولت حماس اختراق قاعدة سرية إسرائيلية عبر شركة تنظيفجندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينية
2025/7/7
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أم إيــــــاد بقلم:نصير أحمد الريماوي

تاريخ النشر : 2010-05-27
أم إيــــــاد بقلم:نصير أحمد الريماوي
قصة قصيرة
أم إيــــــاد

بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
26 /5/2010م
كان يجلس مساء كل يوم على سريره.. يضع الصورة امامه على كرسي- وعلى مدار سنتين- قبل خلوده للنوم.. يتأملها بعينيه الذابلتين الحزينتين، ويبدأ بالبكاء مثل الطفل الصغير على فراقها الذي آلمه كثيراً.. تتقطع قلوب أولاده حال سماعهم نحيبه.. كانوا يقدمون له الدواء في المواعيد المحددة ثم يستأذنوه بإزالة الصورة من امامه، فيتشبث بها، ويحتضنها بين يديه، ويضمها إلى صدره العليل بتضخم القلب، ويمنعهم من إبعادها من امامه حتى يرتخي جسده من الإعياء و يستسلم للنوم.. يأخذون الصورة من بين يديه ويضعونها جانباً.. يمددونه على السرير.. يغطونه ويطمئنون عليه.. يطفئون المصباح الكهربائي- الذي يعتبره خير أنيس له مع الصورة- ثم يغلقون باب غرفة الباطون، فيخيم عليه ظلام دامس، ويتوزعون إلى منازلهم المحيطة بغرفته كالسياج..
كلما اشرقت الشمس، تراه يستيقظ صباحاً كعادته.. يحضرون له طعام الفطور والدواء.. يساعدونه على ارتداء ملابسه التي يرغبها، ثم يضع كوفيته على رأسه.. يُطوّقها بعقال اسود اللون، ويطلب من أولاده احضار فرسه - سوداء اللون- التي لازمته وتقاسمت معه شقاء الحياة.. يتحسس جسدها ورأسها بيديه.. يمتطيها بمساعدة أولاده، ويخرج من المنزل متوجها نحو مقبرة البلدة التي تبعد(2) كيلومتر عن مكان سكناه لزيارة قبر زوجته "أم إياد".. حال وصوله هناك يترجل عن فرسه.. يقترب من القبر.. يجثو على ركبتيه.. يرفع كفيه إلى اعلى متضرعا إلى الله عز وجل أن يرحمها رحمة واسعة، وأن يسكنها مع الصديقين والشهداء.. يتلو على روحها آيات من القرآن الكريم.. تراه يناجي روحها.. كانت دموعه التي يذرفها بحرقة- لحظة اللقاء- تنساب على وجنتيه وتتساقط على تراب قبرها و تغوص فيه.. وبعد أن تهدأ نفسه يقوم بتعشيب القبر وما يجاوره، وبترتيب الحجارة الملتفة حوله، وزراعة نبات الميرامية في ترابه، وريها بالماء لتنبت وتزداد اخضراراً كما كانت حياتها مليئة بالخضرة...
قبل مغادرته المقبرة، يجول بنظره على جميع القبور.. يتلو سورة الفاتحة على ارواح الموتى، ويطلب لهم المغفرة، ويسلم عليهم بقوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، انتم السابقون ونحن اللاحقون.. يُشيّع قبر زوجته بنظرات مكلومة.. ينهض عن الأرض متثاقلاً.. يدير ظهره مودعاً القبر على أمل اللقاء في اليوم الذي يليه، يسحب فرسه من خلفه، ويعود إلى منزله ثانية.. وقد استمر على هذا الحال لمدة سنتين حتى وافته المنية.
لقد تركته بغير رغبتها، وهو في اشد لحظات ضعفه وحاجته إليها للاعتناء به بعدما اخذ الزمن منه مأخذاً، واحدودب ظهره، ودبَّ الشيب في رأسه، وتجعد وجهه، ونهشته الأمراض مع دخوله في العقد السادس.. كنت أراهما يعيشان حياة حافلة بالمحبة والتعاون، ودائماً يتمازحان، ويضحكان معاً في الحارة.. ويسيران معا كتفا إلى كتف أو هو يعتلي صهوة فرسه وهي من خلفه حثيثة الخطى، ويداها تمسكان بزنارها الملتف حول ثوبها الفلاحي، وهما ذاهبان إلى الخلاء في مواسم الحصاد أو قطف ثمار الزيتون.. ويحدثان بعضهما طول الطريق عما انتجته ايديهما من خيرات، وعن هموم الحياة اليومية ومتطلباتها.. يتشاركان في الرأي ويتقاسمانه .. كأنهما روحان مجبولتان في روح واحدة.
لقد كانت ظله الذي لا يفارقه اينما ذهب، وفي جميع لحظات حياتهما الحلوة والمرة.. و سنده، وعامود بيته وعقله المُدبّر.. و ترافقه إلى المشافي وترعاه بعنايتها.. لقد عزّ عليه هذا الفراق الإجباري الذي فرضته الحواجز العسكرية المميتة أثناء انتفاضة الأقصى..
لكن، هذه المرة كانت مرافقتها لزوجها إلى المستشفى غير المرات السابقة.. الحواجز العسكرية تغلق الشوارع الرئيسية المؤدية إلى رام الله، ومن ضمنها مدخل بلدة بيت ريما وتمنع المسافرين من المرور عبرها.. اضطر المواطنون إلى السفر إلى المدينة من خلال سلوك طرق ترابية وعرة، خطرة، وغير معبدة في الجبال والوديان، وتهدر أوقاتهم، كما لا يتوانى جنود الاحتلال عن مطاردة هذه المركبات إذا صادفوها تسير حتى في هذه الطرق الوعرة..
اشتد وضع "ابو إياد" الصحي سوءاً بعد صلاة صباح يوم الأربعاء.. بدأ أنينه يتصاعد شيئا فشيئاً.. خافت "أم إياد" عليه من الموت.. ايقظت ابنها "زياد" بسرعة من نومه.. غيرت ملابسها بسرعة وهي تولول، وتقول باللغة العامية:" راح أبو إياد.. راح أبو إياد.. يا ويلي عليك.. يالله ياما بسرعة ".. ركض "زياد" شغل ماتور السيارة.. وضعت يد أبو إياد اليمنى على كتفها، واسندت جسده إلى جسدها وهي متشبثة بخاصرته وساعدته على الوقوف، والمشي على قدميه إلى السيارة..أدخلته إلى المقعد الخلفي.. أجلسته بمساعدة نجلها، وجلست بجواره ملاصقة له.. طلبت قليلاً من الماء البارد من ابنها.. بدأت تبلل منديلها بالماء البارد و تمسح به العرق الذي كان يتصبب من وجهه بين الفينة والأخرى.. وتطلب من ابنها أن يسوق السيارة بسرعة إلى المشفى.. كأنها تريد من السيارة أن تصبح طيارة.. تراقب وجهه وعينيه.. تهدهده كالطفل، وهو يتلوى من الألم.. وإمارات الموت بادية عليه.. صارت تهدئ من روعه، وأحياناً تترقرق الدموع في مقلتيها.. لا تعرف ماذا تعمل سوى حثّ ابنها على الإسراع، وتقول: ادعس على دواسة البنزين.. إدعس.. إدعس ياما..
زياد: ياما خليني اعرف اسوق، بلاش نتدهور ونموت الثلاثة!!
عجلات السيارة تدور بأقصى ما عندها، وتنهش أرض الشارع الرئيس الواصل ما بين بيت ريما ومفرق النبي صالح.. وصلت السيارة إلى الحاجز.. كان جنود الاحتلال مدججين بالسلاح، ويغلقون المخرج بسواتر إسمنتية، وأسلاك شائكة، وحاجز حديدي به مسامير مدببة وحادة على أرض الشارع لتفجير إطارات أية سيارة تحاول المرور عليه بدون رغبتهم.. أجبروا السيارة على التوقف وهم يصوبون أسلحتهم تجاهها..
الجنود بلكنتهم العبرية المخلوطة بالعربية: "بروخ من هون.. أسور (ممنوع المرور).. منطقة غسكرية مغلقة!!"(يلفظون حرف الـ عين بـ غين)..
زياد: أبي مريض جداً وبحاجة إلى علاج فوري، وإلا بيموت.. أرجوكم اسمحوا لنا بالمرور..
الجنود: ممنوع.. بزجرة حادة..
خاف زياد على أنفسهم من خطر إطلاق الرصاص نحوهم.. لفّ "زياد" مقود السيارة، ورجع إلى الخلف عنوة.. سلك طرقاً ترابية وعرة مكافحاً لايصال والده إلى المشفى مهما كلف الأمر.. غبار الطريق الترابي يتصاعد من احتكاك العجلات .. واحيانا تتطاير الحجارة الصغيرة من تحت عجلات السيارة وتصطدم بمن يسير خلفها.. و تتمايل السيارة يمينا وشمالاً بين الحين والآخير من كثرة الحفر والمطبات وحجارة الوادي.. غبار الأتربة غطى زجاج وهيكل السيارة.. يُشغّل "زياد" مسّاحات الزجاج الأمامي لرؤية الطريق.. وكلما هبطت السيارة في حفرة وصعدت منها، ترتفع "أم إياد وابو إياد" إلى أعلى وتصطدم رأساهما بسقف السيارة ثم يهبطان على المقعد ثانية.. الطريق اصبح طويلاً ومُتعِباً ويحتاج إلى ساعات، بينما تستغرق المسافة البالغة(28) كيلومترا من بيت ريما إلى رام الله (20) دقيقة للوصول إليها في الأيام العادية.. انقضت ساعات في صراعه مع الطرق الوعرة حتى تمكن أخيرا من النجاح بعد القهر من الوصول عند الثامنة صباحا إلى مشفى "الرعاية الصحية" برام الله.. انزلاه بسرعة.. صعدوا ثلاثتهم بالمصعد الكهرباء إلى داخل المشفى..
أم إياد: يا دكتور.. يا دكتور.. زوجي يا دكتور.. أرجوك أن تسعفه بسرعة، الله يحفظ لك أولادك..
الدكتور رمقها بنظرة فاحصة، وقال لها: أنا شايف أنكِ أنتِ المريضة وليس زوجك!!
لقد رسم الإعياء على محياها علامات أثارت شكوك الطبيب حول حقيقة صحتها المرهقة من المطاردة مع زوجها..
أم إياد: لا تخف عليّ يا دكتور، المهم عندي أن تفحص زوجي أولا لأطمئن عليه...
لقد قام الطبيب بفحص زوجها الذي يعاني من تضخم في قلبه وأعطاه الأدوية اللازمة وطمأنها عن صحته.. شكرته أم إياد.. خرجوا ثلاثتهم من المشفى قاصدين العودة إلى البلدة.. اقترح عليها ابنها "زياد" أن يبيتوا في ذلك اليوم عند خالته برام الله ليرتاحوا من شقاء الحواجز والطرق، والعودة إلى البلدة في اليوم التالي..
أم إياد: الأفضل أن نعود إلى البلدة، وخلي اللي بيموت يموت في منزله، أحسن له!!، كانت تقصد بذلك زوجها، ولم تعرف ماذا كان يخبئ لها القدر.. وأن لحظات حياتها الأخيرة اقتربت؟؟..
استقلوا السيارة ثانية عند الساعة التاسعة صباحاً، وخاضوا معركة العودة ثانية مع الحواجز المنتشرة.. جربوا المحاولة من عدة طرق، إلا أنهم كلما كانوا يسيرون في طريق يجدونه- بعد مسافة من السير- مغلقاً، إما بالكتل الصخرية، أو بالأكوام الترابية، أو بحفر الطريق بالجرافات، أو بالعربات العسكرية..الخ.. يعودون إلى رام الله ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة دون جدوى.. أخيرا، بعد غروب الشمس، عثروا على طريق يمر عبر الواديان، وبين الأشجار الحرجية، وبساتين الزيتون من ناحية قرية المزرعة الغربية باتجاه عدة قرى: رأس كركر، ودير عمار، و بيت اللو، ودير نظام ، وعابود، انتهاءً ببيت ريما.. وكانت السيارات كالشلال تقطر خلف بعضها البعض وتسير ببطء وحذر شديد على حجارة الواديان، وكلما علقت سيارة أو تعطلت يخرج الركاب من المركبات الأخرى للمساعدة.. يدفعونها.. ويخلصونها، ويستمرون في السير متحدين القهر، ومصممون على كسر الحواجز.. وترى المركبات تتفرق كل واحدة باتجاه قريتها بعد الخروج من الوديان.. والركاب يرددون: الحمد لله على السلامة..
وصلت أم إياد, وأبو إياد المنزل عند الساعة الواحدة إلا ربعاً بعد منتصف الليل(فجر يوم الخميس) وهم في صراع منذ ساعات فجر يوم الأربعاء.. وكان من طبع أم إياد أنها تصوم النوافل(اثنين، وخميس)..
فقالت: طالما وصلنا بعد منتصف الليل، خليني أنا أتسحر لصوم اليوم، وأنتما تتناولان طعام العشاء..
تسحرت أم إياد.. ومن كثرة التعب والإرهاق لاذت إلى فراشها للنوم.. مع اقتراب موعد صلاة الفجر.. بدأت تشعر بألم شديد ألَمّ بصدرها.. تشهق.. تحاول التنفس بصعوبة.. ساء وضعها الصحي فجأة لدرجة غير معقولة.. استيقظ ابنها الثاني "اشرف" على نزاعها الأخير.. نقلها إلى السيارة وبسرعة إلى أحد أطباء البلدة الذي نصحه بنقلها فوراً إلى مستشفى رام الله بعدما أيقن أنها علامات ذبحة صدرية!!، وبحاجة ماسة إلى إنقاذ حياتها.. توجه بها إلى رام الله.. لكن الحاجز العسكري اللعين على مدخل البلدة- الذي منعهم في المرة الأولى- كان لهما بالمرصاد.. منعهما من الاستمرار.. انتظرا على الحاجز لمدة ثلث ساعة على أمل أن يرفقوا بوضعها الميؤوس منه، ويسمحوا لهما.. لكن ما هي إلا ثوان حتى أغمضت " أم إياد" عينيها.. مودعة ابنها بكلمة ممطوطة مع نفسها الأخير المتحشرج: خاطرك يا أماه!! حاولت أن تعانقه العناق الأخير فلم تستطع.. ارتخى جسدها.. سكنت روحها الطاهرة.. توقف نبضها عن العمل.. وسلمت روحها الطاهرة إلى خالقها.. أدار ابنها مقدمة السيارة إلى البلدة وعاد بها جثة هامدة والأسى يعتصر نفسه، ويبكي عليها وعلى حالنا.. هذه قصة "أم إياد".. ذهبت لتعالج زوجها خوفا عليه من الموت، فماتت هي! سبحان الله.. وتركت لأبي إياد ذكراها الجميلة مع عدد من الأولاد والبنات؟..
ـــــــــــ
[email protected]
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف