قصة قصيرة - أحذية مقدسة وأخرى ....!
بقلم : طلال أبو شاويش
عيونهم شاخصة نحو المقعد الشاعر ... لا يجرؤ أيٌّ منهم على الاقتراب منه ... كان لكلٍّ منهم سببه الخاص ! ...
قدم آذن المدرسة بسجل الحضور والغياب ... همهمة ثقيلة تسري داخل الفصل ... أردت أن تسألهم عن الطلبة المتغيبين ... السؤال يلتصق بشوك الحلق و يغور داخلك ... وجدت نفسك تحدق في وجوههم ببلاهة ...
- ضياء ! انفلت الاسم كنمرٍ فرّ من عقاله ..
- ماذا أسجله ؟!
- غياب ؟! كان حضوره أقوى منا جميعاً , ولعله كان الحاضر الوحيد بيننا في الفصل !
اكتفيت بتوقيع مبهمٍ وناولت السجل للآذن بسرعةٍ وكأنك تتخلص من طوق يشنقك !
- هل سيشطب اسمه ؟ سأل أحد الطلاب بشيءٍ من السذاجة التي امتزجت باستنكارٍ بريء !
- سيشطب !
أجبت وفضاء المقعد يمتلئ أولاً بظلال مشوشةٍ ثم يتضح تدريجياً ليملأه جسد " ضياء " الذي غاب فجأة !
ظل المخيم لأيامٍ يلوك قصة غيابه بحزن .. كان زملاؤه يضيفون بعض التفاصيل الجديدة من خيالاتهم بين حينٍ و آخر ... تفاصيل غارقة في الدم ... وصور تزدحم بآلاف علامات الاستفهام البريئة !... أف ... لماذا يصرّ تفكيرك على الجموح بعيداً والإغراق في تأمل المشهد ؟؟؟ ألم يصبح ذلك عادياً في زمننا غير العادي هذا ؟! درّب نفسك على طقوس النسيان كغيرك ... ألقِ بما في دماغك المنهك من يقين مزعوم في وجوه تلاميذك وغادر بسرعة !
أحشُ أدمغتهم الصغيرة بما بين طيات الكتاب المدرسي الكريه وحثهم على الاستعداد للامتحانات ... لكنهم يحبونك لأنك مختلف عن زملائك ... تستطيع ملامسة حاجاتهم الدفينة ... خيالاتهم ... رغباتهم ... يحبونك لأنك تترك للطفل داخلك أن يصادقهم ... كل منّا يسكنه طفل يرفض أن يكبر ... لكن البشر سرعان ما يقتلوه !!
ليست المرة الأولى التي يُغيّبُ فيها الموت أحد طلاب الفصول التي تدرسها ... حصل هذا أكثر من مرة وفي أكثر من مدرسة ... كنت تصدم الساعات وربما الأيام ثم تعود إلى طبيعتك ... لكن الأمر مختلف هذه المرة ... غيابه المثير طرح آلاف الأسئلة ... طقوس تأبينه تداعت إلى الناس بتأنٍ موجع ... وجعلت من الحسرة أحساساً دائما ...
شيعت إحدى العائلات اثنين من أبنائها معاً ... كان مشهد أشلاء الشهيدين مخيفاً ... كأن وحشاً مجنوناً عبث بأجساد الأطفال فمزقها وترك لأهلها مهمة لملمتها ... الأطباء في المستشفيات يبذلون جهوداً مضنيةً لإعادتها إلى ما يشبه جسد الإنسان ... كانت مجزرةً حقيقيةً على اطراف غزه المثخنة بالجراح ... حفلة للقتل وحدائق للدم أنشأتها قذائف الاحتلال , وغاب " ضياء " !!
عشرون يوماً والكل يسأل ... الجميع أفاد بأنه كان مع عددٍ من الأطفال الذين مزقتهم إحدى القذائف الإسرائيلية ... لكن جثته تاهت بين الأشلاء ...
أحد المزارعين –صدفة- عثر قرب المكان على ساقٍ لأحد الشهداء !
الخيال الشعبي للاجيئ المخيم أفاد بأن المزارع قد التقط الساق وهي تنبض بالحياة و تقطر دماً بعد هذه الأيام الطويلة !
تعرفت عائلة الشهيدين على الحذاء الذي لازال يضم القدم الدامية ... ولكن كيف ؟!
لقد دفنت الجثتان بكافة أشلائها ... كانت مكتملة إلى حدٍ ما ... اتفق معهم والد " ضياء " على أن ينبشوا قبري الشهيدين ... كان يفتش عن إجابةٍ عن سؤاله الكبير حتى وإن كانت في قبر !
ما إن رأى الحذاء في قدم الجثة حتى أشاح بوجهه بعيداً وتنهد بوجعٍ , ثم دخل في موجة بكاءٍ طويلة ... إنه " ضياء " ... لقد اشترى له الحذاء بنفسه قبل أيامٍ قليلة ... استعاد هدوءه , وغرق في طمأنينةٍ حزينة ثم غادر ليبدأ مراسيم العزاء تاركاً عائلة الشهيدين في حيرةٍ قاتلة ... أين بقايا أشلاء الشهيد الثاني إن كان هذا المدفون منذ أسابيعٍ .. ضياء ؟!
مرّ كل شيءٍ في مخيلتك بسرعة ... أفقت على نفسك محدقاً في المقعد الشاغر .. حكاية صاحبه تعمق الإحساس بالقهر .. إلى هذا الحد ؟!
نموت بكل هذه البشاعة ... بكل هذه القسوة دون أن يحرك أحدٌ ساكن ؟!
أيّ حربٍ خاليةٍ من أيّة فروسية هذه التي نواجه ؟!
وأيّ عالمٍ غبيّ هدا الذي نَحيا فيه ؟!
استدرت نحو السبورة ... عاد الصمت ليلف المكان ... كتبت تاريخ غياب ضياء ... وبخطٍ جميلٍ كتبت اسمه في منتصف السبورة ... ثم بدأت معهم حديثاً موتوراً عن الحياة و ... الأحذية !
أحذية .. نتعرف منها على هوايا الشهداء و أخرى يداس بها البشر كأنهم حشرات وضيعة .. آآآه ... عاش حذائك يا منتظر الزبيدي ...
كم نتوق لشتاءاتٍ من أحذيتك المقدسة !!!
- تمت -
بقلم : طلال أبو شاويش
عيونهم شاخصة نحو المقعد الشاعر ... لا يجرؤ أيٌّ منهم على الاقتراب منه ... كان لكلٍّ منهم سببه الخاص ! ...
قدم آذن المدرسة بسجل الحضور والغياب ... همهمة ثقيلة تسري داخل الفصل ... أردت أن تسألهم عن الطلبة المتغيبين ... السؤال يلتصق بشوك الحلق و يغور داخلك ... وجدت نفسك تحدق في وجوههم ببلاهة ...
- ضياء ! انفلت الاسم كنمرٍ فرّ من عقاله ..
- ماذا أسجله ؟!
- غياب ؟! كان حضوره أقوى منا جميعاً , ولعله كان الحاضر الوحيد بيننا في الفصل !
اكتفيت بتوقيع مبهمٍ وناولت السجل للآذن بسرعةٍ وكأنك تتخلص من طوق يشنقك !
- هل سيشطب اسمه ؟ سأل أحد الطلاب بشيءٍ من السذاجة التي امتزجت باستنكارٍ بريء !
- سيشطب !
أجبت وفضاء المقعد يمتلئ أولاً بظلال مشوشةٍ ثم يتضح تدريجياً ليملأه جسد " ضياء " الذي غاب فجأة !
ظل المخيم لأيامٍ يلوك قصة غيابه بحزن .. كان زملاؤه يضيفون بعض التفاصيل الجديدة من خيالاتهم بين حينٍ و آخر ... تفاصيل غارقة في الدم ... وصور تزدحم بآلاف علامات الاستفهام البريئة !... أف ... لماذا يصرّ تفكيرك على الجموح بعيداً والإغراق في تأمل المشهد ؟؟؟ ألم يصبح ذلك عادياً في زمننا غير العادي هذا ؟! درّب نفسك على طقوس النسيان كغيرك ... ألقِ بما في دماغك المنهك من يقين مزعوم في وجوه تلاميذك وغادر بسرعة !
أحشُ أدمغتهم الصغيرة بما بين طيات الكتاب المدرسي الكريه وحثهم على الاستعداد للامتحانات ... لكنهم يحبونك لأنك مختلف عن زملائك ... تستطيع ملامسة حاجاتهم الدفينة ... خيالاتهم ... رغباتهم ... يحبونك لأنك تترك للطفل داخلك أن يصادقهم ... كل منّا يسكنه طفل يرفض أن يكبر ... لكن البشر سرعان ما يقتلوه !!
ليست المرة الأولى التي يُغيّبُ فيها الموت أحد طلاب الفصول التي تدرسها ... حصل هذا أكثر من مرة وفي أكثر من مدرسة ... كنت تصدم الساعات وربما الأيام ثم تعود إلى طبيعتك ... لكن الأمر مختلف هذه المرة ... غيابه المثير طرح آلاف الأسئلة ... طقوس تأبينه تداعت إلى الناس بتأنٍ موجع ... وجعلت من الحسرة أحساساً دائما ...
شيعت إحدى العائلات اثنين من أبنائها معاً ... كان مشهد أشلاء الشهيدين مخيفاً ... كأن وحشاً مجنوناً عبث بأجساد الأطفال فمزقها وترك لأهلها مهمة لملمتها ... الأطباء في المستشفيات يبذلون جهوداً مضنيةً لإعادتها إلى ما يشبه جسد الإنسان ... كانت مجزرةً حقيقيةً على اطراف غزه المثخنة بالجراح ... حفلة للقتل وحدائق للدم أنشأتها قذائف الاحتلال , وغاب " ضياء " !!
عشرون يوماً والكل يسأل ... الجميع أفاد بأنه كان مع عددٍ من الأطفال الذين مزقتهم إحدى القذائف الإسرائيلية ... لكن جثته تاهت بين الأشلاء ...
أحد المزارعين –صدفة- عثر قرب المكان على ساقٍ لأحد الشهداء !
الخيال الشعبي للاجيئ المخيم أفاد بأن المزارع قد التقط الساق وهي تنبض بالحياة و تقطر دماً بعد هذه الأيام الطويلة !
تعرفت عائلة الشهيدين على الحذاء الذي لازال يضم القدم الدامية ... ولكن كيف ؟!
لقد دفنت الجثتان بكافة أشلائها ... كانت مكتملة إلى حدٍ ما ... اتفق معهم والد " ضياء " على أن ينبشوا قبري الشهيدين ... كان يفتش عن إجابةٍ عن سؤاله الكبير حتى وإن كانت في قبر !
ما إن رأى الحذاء في قدم الجثة حتى أشاح بوجهه بعيداً وتنهد بوجعٍ , ثم دخل في موجة بكاءٍ طويلة ... إنه " ضياء " ... لقد اشترى له الحذاء بنفسه قبل أيامٍ قليلة ... استعاد هدوءه , وغرق في طمأنينةٍ حزينة ثم غادر ليبدأ مراسيم العزاء تاركاً عائلة الشهيدين في حيرةٍ قاتلة ... أين بقايا أشلاء الشهيد الثاني إن كان هذا المدفون منذ أسابيعٍ .. ضياء ؟!
مرّ كل شيءٍ في مخيلتك بسرعة ... أفقت على نفسك محدقاً في المقعد الشاغر .. حكاية صاحبه تعمق الإحساس بالقهر .. إلى هذا الحد ؟!
نموت بكل هذه البشاعة ... بكل هذه القسوة دون أن يحرك أحدٌ ساكن ؟!
أيّ حربٍ خاليةٍ من أيّة فروسية هذه التي نواجه ؟!
وأيّ عالمٍ غبيّ هدا الذي نَحيا فيه ؟!
استدرت نحو السبورة ... عاد الصمت ليلف المكان ... كتبت تاريخ غياب ضياء ... وبخطٍ جميلٍ كتبت اسمه في منتصف السبورة ... ثم بدأت معهم حديثاً موتوراً عن الحياة و ... الأحذية !
أحذية .. نتعرف منها على هوايا الشهداء و أخرى يداس بها البشر كأنهم حشرات وضيعة .. آآآه ... عاش حذائك يا منتظر الزبيدي ...
كم نتوق لشتاءاتٍ من أحذيتك المقدسة !!!
- تمت -