
"هذه القصص والحكايات واقعية بالأسماء والأحداث والتواريخ. ولذا اقتضى التنويه."
واصل محمد البلعاوي دراسته في الجامعة وكان بين الحين والآخر يلبس بذلة الجوخ مما كان يثير تندر بعض أقرب أصدقائه، خصوصا أن ارتداء البذلة لم يكن مألوفا في الجامعات في تلك الفترة، حتى بين الأساتذة وأغلب الإداريين.
ورغم أن الجامعة أغلقت أكثر من مرة من قبل قوات لاحتلال إلا أن الدراسة كانت تتواصل عن طريق برامج تعويضية، حيث تعقد المحاضرات في منازل بعض الطلبة أو بعض الأساتذة أو بعض المؤسسات والأندية في رام الله والقرى المحيطة. مما مكن البلعاوي من التخرج في مدة قياسية وهي خمسة سنوات، رغم أن معدل سنوات التخرج في تلك الفترة كان يصل إلى 6 سنوات وربما أكثر للكثير من الطلبة بسبب الإغلاق المتكرر للجامعة أو بسبب الاعتقالات التي تقع في أوساط الطلبة بين الحين والآخر.
وتبسم القدر لمحمد فعمل مديرا لمؤسسة مالية في مدينة طولكرم القريبة، وهذا ما شجعه على استعجال الزواج من زميلة له كان يعرفها في الجامعة وتخرجت هي الأخرى وراحت تعمل مدرسة في إحدى المدارس القريبة، وبدا محمد أكثر نشاطا وحراكا من قبل رغم زواجه وعمله، ويبدو أن الزواج والعمل أمداه بطاقات جديدة فكان لا يهدأ ولا يستقر وغالبا ما يبادر إلى تشكيل مجالس السهر مع أعداد كبيرة من أصدقائه في البلدة أو في البلدات المجاورة كعنبتا وكفر رمان أو مدينة طولكرم وحتى نابلس أحيانا.
كان محمد يطمح إلى بناء منزل متواضع له بدل المنزل القديم الذي يقيم به ، وهو ملك لبعض أقربائه وكان مهجورا وآيلا للسقوط من النمط البائد إلى أن استوطنه محمد، غير أن ما ينغص عليه أنه ما يزال مضطرا لتسديد بعض الديون التي تحملتها الأسرة جراء عرسه الذي أصر على أن يكون عرسا حافلاً كبيرا جلبت فيه الأحصنة وقد امتطى العريس حصاناً وجاء الزجالون والقوالون من أصدقائه وأصدقاء أصدقائه وأقاموا حلقات الزجل في الساحات وفي الشارع وكأنه موكب المندوب السامي للبلاد، وشارك في العرس أصدقاء محمد وزملاؤه الذين جاءوا من أماكن بعيدة من الخليل وغزة جنوبا حتى جنين شمالا.
انتهى العرس وأسبوع العسل وعاد محمد إلى عمله في المؤسسة التي يديرها، وكان لم ينقض على عمله ذاك سوى اقل من عام بقليل عندما اندلعت أحداث الانتفاضة الأولى بشرارة من مخيم جباليا في قطاع غزة سرعان من اشتعلت في مخيم بلاطة قرب نابلس لتنتشر في اليوم التالي في أغلب قرى ومدن ومخيمات الأراضي الفلسطينية، فأنخرط فيها مثله مثل الشباب الآخرين.
وبعد مرور شهرين على اندلاع الانتفاضة وبتاريخ 3/2/1988 استشهد الشاب البلعاوي إبراهيم منصور حمدان وهو احد أبناء عمومة محمد ومن أصدقائه المقربين، مما زاد الموقف صعوبة في القرية ومما استدعى مواجهات يومية بين القوات الإسرائيلية و"القوات الضاربة" التي أصبح البلعاوي من أنشط قادتها الميدانيين، ومما كثف من ضغط القوات الإسرائيلية على سكان القرية والمنطقة .
كانت القوات الضاربة تعلن بعض قرى أو المناطق بين الحين والآخر كمناطق محررة ، وكانت تنظم نفسها تنظيما محكما بحيث يصعب على القوات الإسرائيلية دخولها في ساعات الليل، لذلك فقد كانت سلطة النهار للقوات الإسرائيلية وسلطة الليل للقوات الضاربة. وما هي إلا أيام بعد استشهاد إبراهيم حمدان، حتى صار البلعاوي المطلوب رقم واحد في منطقته. لذلك راحت القوات الإسرائيلية تكرر مداهمة منزله نهارا أو المؤسسة التي يعمل بها دون أن تفلح في إلقاء القبض عليه.
انتشرت حواجز جيش الاحتلال وراحت الانتفاضة تضطرم يوما بعد يوم فتعطلت الكثير من الأعمال ومنها المؤسسة التي يديرها البلعاوي في طولكرم القريبة.
وكانت فرصة له أن يتفرغ لنشاطات الانتفاضة قائدا ميدانيا وموجها ومحرضا.
وتستمر الأيام والأسابيع دون أن تلوح في الأفق أية نهاية للانتفاضة أو أية مخارج أو نتائج ملموسة رغم ارتفاع الحالة المعنوية للناس ورغم حفاظهم على الإصرار وعلى نيل الحقوق مهما طال الزمن ومهما عظمت التضحيات.
كانت زوجة محمد تواصل إدارة المنزل منفردة بكل صبر ورباطة جأش لأن زوجها نادرا ما يستطيع دخول البيت في ساعات النهار، بل كان يزورهم لماما مرة أو مرتين في الأسبوع في أواخر الليل وكان ذلك بعد تنظيم رقابة مناسبة يستطيع من خلالها محمد الانسحاب من المنزل في الوقت المناسب وقبل وصول القوات الإسرائيلية، ومما ساعده على ذلك أن معظم المحيطين بمنزله هم من أقربائه الأدنى، وكانت النساء تتولى الرقابة في محيط المنزل بينما يتولى الشبان الرقابة على مداخل القرية وفي محيطها، وفي حالة معاينة أية دوريات لجيش الاحتلال كان الشبان يطلقون صفيرا من أفواههم سرعان ما يتردد صداه في أرجاء القرية فتعلن حالة التأهب القصوى وتندلع المواجهات فور اقتراب تلك الدوريات، ولم يكن محمد هو المطلوب الوحيد بل ثمة الكثير منهم.
وضعت زوجة محمد مولودها الأول أثناء الأشهر الأولى للانتفاضة فأسموه عاصف، ومن ذلك الحين ثبت الاسم شرعيا وصار أبو عاصف ماركة مسجلة للبلعاوي.
غير ان الأمور الحياتية بدأت تسوء حيث توقف مصدر الدخل وشحت الأموال، لذلك قرر أبو عاصف أن يستجيب لعرض صديقه أبو خالد الذي يعمل "قصيرا" في المنطقة، وهي المهنة الأصعب من بين كل مهن البناء، وكانت مهمة أبا عاصف هي تحضير الطينة المجبولة ونقلها إلى المعلم أبا خالد، قبل أبو عاصف التحدي فاصطحب معه ملابس رثة للعمل وهو يمني نفسه بدخل يقيه وأسرته شر السؤال، كذلك أمل في نفسه أن يجد ملاذا في النهار يبتعد فيه عن أعين العسس وحملات الجيش الإسرائيلي التي ظلت تداهم منزله والمنازل الأخرى بين الحين والآخر خصوصا في ساعات النهار.
مضى أسبوع على البلعاوي أبا عاصف وهو يعمل في خدمة القصير أبا خالد، ولحسن الحظ، فإن العمل كان عبارة عن قصارة بئر يقع في ظاهر القرية في أرض زراعية فسيحة تحيط بها مزارع الزيتون، وكان أبو عاصف قليل النوم طوال عمره وقد اعتاد أن ينهض من مراقده المتغيرة من ساعات الصباح الأولى وقبل بزوغ الشمس، ومن هناك كان يعبر أزقة القرية الملتوية وينفذ إلى ظاهر القرية فيبادر إلى عمله بحيوية ونشاط حتى ساعات المساء حيث سيبدأ عمله الآخر، ويبدأ بممارسة سلطاته الميدانية.
وذات يوم، وصل محمد منطقة عمله ونزل في البئر وراح يحضر جبلة الطين التي سيعمل بها معلمه الذي سيأتي بعد قليل، وفعلا وصل المعلم لكنه قرر أن يشرع في تحضير الشاي قبل وصول البئر والنزول فيه، فراح يشعل بعض أعواد الحطب وهو لا يعلم أن البلعاوي في البئر، ولا يعلم أن مجموعة من عناصر الجيش الإسرائيلي كانت تكمن وراء أشجار الزيتون بانتظار قدوم البلعاوي في تلك اللحظات وفقا لتقارير رصد العملاء التي زود بها قائدهم "الكابتن نائل" ولم يكونوا على علم أن البلعاوي وصل قبلهم واختفى في البئر الضخم، وعلى حين غرة وبلا أية مقدمات، كانت أعداد كبيرة من أفراد الجيش الإسرائيلي تبزغ من بين الأشجار، وتركض صوب أبا خالد الذي ينهمك في صنع الشاي، لكن المسافة بينهم كانت كافية لإغرائه بالهرب، فأطلق ساقيه للريح، وتبين أن شبانا آخرين كانوا في المنطقة أو في منازلهم القريبة قد شاهدوا الموقف فركبوا الريح أيضا واتجهوا نحو الأودية الصعبة القريبة ملتفين بين الأشجار والصخور كالغزلان البرية التي تطاردها الذئاب الجائعة.
ظل الجنود يتابعون الهاربين بين الأودية ولكنهم عادوا وتوقفوا عن المطاردة حينما تبين لهم أن المطاردين استطاعوا قطع الأودية الصعبة والدخول إلى قرية كفر رمان القريبة. وفي تلك الأثناء كان البلعاوي قد خرج من البئر على صوت الجلبة منذ بدايتها، فانتحى جانبا وراح يرقب الجنود الذين اضطروا للتوقف عن المطاردة والالتفاف حول المنطقة إلى حيث كانوا قد أخفوا مركباتهم العسكرية، ولم يطمئن تماما إلا حين اعتلى الجنود مركباتهم وقفلوا عائدين بعيدا عن القرية.
وهنا قرر أبو عاصف أن يبادر لإنقاذ جبلة الطين قبل جفافها ، فأمسك بعدة العمل الخاصة بالمعلم أبو خالد وباشر العمل بكل عزم وإصرار محاولا إنتاج أفضل جودة ممكنة في عمله الصعب هذا، وما أن عاد المعلم أبو خالد حتى دهش لعمل البلعاوي الذي يضاهي عمل أي معلم مخضرم، فما كان منه إلا أن هنئه على مبادرته وحسن تصرفه وأعلن أنه يمنحه شهادة مهنة القصارة وهو يُدشنه منذ الآن معلما كامل المواصفات رغم أن خدمته بالكاد أكملت الأسبوع.
كذلك سر كثيرا صاحب الورشة، وأعلن عن تكريم البلعاوي والعمال الآخرين بغداء دسم من طعام المسَخنْ ( الدجاج البلدي المشبع بزيت الزيتون والبصل المفروم على الخبز) لأنه أنقذ له مبلغا لا بأس به من المال الذي اشترى به الاسمنت والرمل وخلافه.
ومنذ هذا اليوم سيصبح للبلعاوي مهنة أخرى، هي مهنة القصارة إضافة إلى وظيفته كمحاسب أو مدير حسابات سابق. لكن الأهم أنه صار المطلوب رقم واحد في منطقته حتى ذلك الحين. فإلى متى يستمر نجاحه في مراوغة القوات الإسرائيلية؟؟ خصوصا أن ( الكابتن وائل) مسئول المنطقة في جهاز الشين بيت الإسرائيلي يتوقع نقله من المنطقة ويرغب بتحقيق إنجاز ملموس قبل ذلك يسجل في ملفه الأسود.
واصل محمد البلعاوي دراسته في الجامعة وكان بين الحين والآخر يلبس بذلة الجوخ مما كان يثير تندر بعض أقرب أصدقائه، خصوصا أن ارتداء البذلة لم يكن مألوفا في الجامعات في تلك الفترة، حتى بين الأساتذة وأغلب الإداريين.
ورغم أن الجامعة أغلقت أكثر من مرة من قبل قوات لاحتلال إلا أن الدراسة كانت تتواصل عن طريق برامج تعويضية، حيث تعقد المحاضرات في منازل بعض الطلبة أو بعض الأساتذة أو بعض المؤسسات والأندية في رام الله والقرى المحيطة. مما مكن البلعاوي من التخرج في مدة قياسية وهي خمسة سنوات، رغم أن معدل سنوات التخرج في تلك الفترة كان يصل إلى 6 سنوات وربما أكثر للكثير من الطلبة بسبب الإغلاق المتكرر للجامعة أو بسبب الاعتقالات التي تقع في أوساط الطلبة بين الحين والآخر.
وتبسم القدر لمحمد فعمل مديرا لمؤسسة مالية في مدينة طولكرم القريبة، وهذا ما شجعه على استعجال الزواج من زميلة له كان يعرفها في الجامعة وتخرجت هي الأخرى وراحت تعمل مدرسة في إحدى المدارس القريبة، وبدا محمد أكثر نشاطا وحراكا من قبل رغم زواجه وعمله، ويبدو أن الزواج والعمل أمداه بطاقات جديدة فكان لا يهدأ ولا يستقر وغالبا ما يبادر إلى تشكيل مجالس السهر مع أعداد كبيرة من أصدقائه في البلدة أو في البلدات المجاورة كعنبتا وكفر رمان أو مدينة طولكرم وحتى نابلس أحيانا.
كان محمد يطمح إلى بناء منزل متواضع له بدل المنزل القديم الذي يقيم به ، وهو ملك لبعض أقربائه وكان مهجورا وآيلا للسقوط من النمط البائد إلى أن استوطنه محمد، غير أن ما ينغص عليه أنه ما يزال مضطرا لتسديد بعض الديون التي تحملتها الأسرة جراء عرسه الذي أصر على أن يكون عرسا حافلاً كبيرا جلبت فيه الأحصنة وقد امتطى العريس حصاناً وجاء الزجالون والقوالون من أصدقائه وأصدقاء أصدقائه وأقاموا حلقات الزجل في الساحات وفي الشارع وكأنه موكب المندوب السامي للبلاد، وشارك في العرس أصدقاء محمد وزملاؤه الذين جاءوا من أماكن بعيدة من الخليل وغزة جنوبا حتى جنين شمالا.
انتهى العرس وأسبوع العسل وعاد محمد إلى عمله في المؤسسة التي يديرها، وكان لم ينقض على عمله ذاك سوى اقل من عام بقليل عندما اندلعت أحداث الانتفاضة الأولى بشرارة من مخيم جباليا في قطاع غزة سرعان من اشتعلت في مخيم بلاطة قرب نابلس لتنتشر في اليوم التالي في أغلب قرى ومدن ومخيمات الأراضي الفلسطينية، فأنخرط فيها مثله مثل الشباب الآخرين.
وبعد مرور شهرين على اندلاع الانتفاضة وبتاريخ 3/2/1988 استشهد الشاب البلعاوي إبراهيم منصور حمدان وهو احد أبناء عمومة محمد ومن أصدقائه المقربين، مما زاد الموقف صعوبة في القرية ومما استدعى مواجهات يومية بين القوات الإسرائيلية و"القوات الضاربة" التي أصبح البلعاوي من أنشط قادتها الميدانيين، ومما كثف من ضغط القوات الإسرائيلية على سكان القرية والمنطقة .
كانت القوات الضاربة تعلن بعض قرى أو المناطق بين الحين والآخر كمناطق محررة ، وكانت تنظم نفسها تنظيما محكما بحيث يصعب على القوات الإسرائيلية دخولها في ساعات الليل، لذلك فقد كانت سلطة النهار للقوات الإسرائيلية وسلطة الليل للقوات الضاربة. وما هي إلا أيام بعد استشهاد إبراهيم حمدان، حتى صار البلعاوي المطلوب رقم واحد في منطقته. لذلك راحت القوات الإسرائيلية تكرر مداهمة منزله نهارا أو المؤسسة التي يعمل بها دون أن تفلح في إلقاء القبض عليه.
انتشرت حواجز جيش الاحتلال وراحت الانتفاضة تضطرم يوما بعد يوم فتعطلت الكثير من الأعمال ومنها المؤسسة التي يديرها البلعاوي في طولكرم القريبة.
وكانت فرصة له أن يتفرغ لنشاطات الانتفاضة قائدا ميدانيا وموجها ومحرضا.
وتستمر الأيام والأسابيع دون أن تلوح في الأفق أية نهاية للانتفاضة أو أية مخارج أو نتائج ملموسة رغم ارتفاع الحالة المعنوية للناس ورغم حفاظهم على الإصرار وعلى نيل الحقوق مهما طال الزمن ومهما عظمت التضحيات.
كانت زوجة محمد تواصل إدارة المنزل منفردة بكل صبر ورباطة جأش لأن زوجها نادرا ما يستطيع دخول البيت في ساعات النهار، بل كان يزورهم لماما مرة أو مرتين في الأسبوع في أواخر الليل وكان ذلك بعد تنظيم رقابة مناسبة يستطيع من خلالها محمد الانسحاب من المنزل في الوقت المناسب وقبل وصول القوات الإسرائيلية، ومما ساعده على ذلك أن معظم المحيطين بمنزله هم من أقربائه الأدنى، وكانت النساء تتولى الرقابة في محيط المنزل بينما يتولى الشبان الرقابة على مداخل القرية وفي محيطها، وفي حالة معاينة أية دوريات لجيش الاحتلال كان الشبان يطلقون صفيرا من أفواههم سرعان ما يتردد صداه في أرجاء القرية فتعلن حالة التأهب القصوى وتندلع المواجهات فور اقتراب تلك الدوريات، ولم يكن محمد هو المطلوب الوحيد بل ثمة الكثير منهم.
وضعت زوجة محمد مولودها الأول أثناء الأشهر الأولى للانتفاضة فأسموه عاصف، ومن ذلك الحين ثبت الاسم شرعيا وصار أبو عاصف ماركة مسجلة للبلعاوي.
غير ان الأمور الحياتية بدأت تسوء حيث توقف مصدر الدخل وشحت الأموال، لذلك قرر أبو عاصف أن يستجيب لعرض صديقه أبو خالد الذي يعمل "قصيرا" في المنطقة، وهي المهنة الأصعب من بين كل مهن البناء، وكانت مهمة أبا عاصف هي تحضير الطينة المجبولة ونقلها إلى المعلم أبا خالد، قبل أبو عاصف التحدي فاصطحب معه ملابس رثة للعمل وهو يمني نفسه بدخل يقيه وأسرته شر السؤال، كذلك أمل في نفسه أن يجد ملاذا في النهار يبتعد فيه عن أعين العسس وحملات الجيش الإسرائيلي التي ظلت تداهم منزله والمنازل الأخرى بين الحين والآخر خصوصا في ساعات النهار.
مضى أسبوع على البلعاوي أبا عاصف وهو يعمل في خدمة القصير أبا خالد، ولحسن الحظ، فإن العمل كان عبارة عن قصارة بئر يقع في ظاهر القرية في أرض زراعية فسيحة تحيط بها مزارع الزيتون، وكان أبو عاصف قليل النوم طوال عمره وقد اعتاد أن ينهض من مراقده المتغيرة من ساعات الصباح الأولى وقبل بزوغ الشمس، ومن هناك كان يعبر أزقة القرية الملتوية وينفذ إلى ظاهر القرية فيبادر إلى عمله بحيوية ونشاط حتى ساعات المساء حيث سيبدأ عمله الآخر، ويبدأ بممارسة سلطاته الميدانية.
وذات يوم، وصل محمد منطقة عمله ونزل في البئر وراح يحضر جبلة الطين التي سيعمل بها معلمه الذي سيأتي بعد قليل، وفعلا وصل المعلم لكنه قرر أن يشرع في تحضير الشاي قبل وصول البئر والنزول فيه، فراح يشعل بعض أعواد الحطب وهو لا يعلم أن البلعاوي في البئر، ولا يعلم أن مجموعة من عناصر الجيش الإسرائيلي كانت تكمن وراء أشجار الزيتون بانتظار قدوم البلعاوي في تلك اللحظات وفقا لتقارير رصد العملاء التي زود بها قائدهم "الكابتن نائل" ولم يكونوا على علم أن البلعاوي وصل قبلهم واختفى في البئر الضخم، وعلى حين غرة وبلا أية مقدمات، كانت أعداد كبيرة من أفراد الجيش الإسرائيلي تبزغ من بين الأشجار، وتركض صوب أبا خالد الذي ينهمك في صنع الشاي، لكن المسافة بينهم كانت كافية لإغرائه بالهرب، فأطلق ساقيه للريح، وتبين أن شبانا آخرين كانوا في المنطقة أو في منازلهم القريبة قد شاهدوا الموقف فركبوا الريح أيضا واتجهوا نحو الأودية الصعبة القريبة ملتفين بين الأشجار والصخور كالغزلان البرية التي تطاردها الذئاب الجائعة.
ظل الجنود يتابعون الهاربين بين الأودية ولكنهم عادوا وتوقفوا عن المطاردة حينما تبين لهم أن المطاردين استطاعوا قطع الأودية الصعبة والدخول إلى قرية كفر رمان القريبة. وفي تلك الأثناء كان البلعاوي قد خرج من البئر على صوت الجلبة منذ بدايتها، فانتحى جانبا وراح يرقب الجنود الذين اضطروا للتوقف عن المطاردة والالتفاف حول المنطقة إلى حيث كانوا قد أخفوا مركباتهم العسكرية، ولم يطمئن تماما إلا حين اعتلى الجنود مركباتهم وقفلوا عائدين بعيدا عن القرية.
وهنا قرر أبو عاصف أن يبادر لإنقاذ جبلة الطين قبل جفافها ، فأمسك بعدة العمل الخاصة بالمعلم أبو خالد وباشر العمل بكل عزم وإصرار محاولا إنتاج أفضل جودة ممكنة في عمله الصعب هذا، وما أن عاد المعلم أبو خالد حتى دهش لعمل البلعاوي الذي يضاهي عمل أي معلم مخضرم، فما كان منه إلا أن هنئه على مبادرته وحسن تصرفه وأعلن أنه يمنحه شهادة مهنة القصارة وهو يُدشنه منذ الآن معلما كامل المواصفات رغم أن خدمته بالكاد أكملت الأسبوع.
كذلك سر كثيرا صاحب الورشة، وأعلن عن تكريم البلعاوي والعمال الآخرين بغداء دسم من طعام المسَخنْ ( الدجاج البلدي المشبع بزيت الزيتون والبصل المفروم على الخبز) لأنه أنقذ له مبلغا لا بأس به من المال الذي اشترى به الاسمنت والرمل وخلافه.
ومنذ هذا اليوم سيصبح للبلعاوي مهنة أخرى، هي مهنة القصارة إضافة إلى وظيفته كمحاسب أو مدير حسابات سابق. لكن الأهم أنه صار المطلوب رقم واحد في منطقته حتى ذلك الحين. فإلى متى يستمر نجاحه في مراوغة القوات الإسرائيلية؟؟ خصوصا أن ( الكابتن وائل) مسئول المنطقة في جهاز الشين بيت الإسرائيلي يتوقع نقله من المنطقة ويرغب بتحقيق إنجاز ملموس قبل ذلك يسجل في ملفه الأسود.