الأخبار
جندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلال
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

خير الدين التونسي ومشروعة النهضوي بقلم:عبدالرزاق خلف محمدالطائي

تاريخ النشر : 2010-05-21
خير الدين التونسي ومشروعة النهضوي بقلم:عبدالرزاق خلف محمدالطائي
مقدمة :

تميز خيرالدين التونسي عن غيره من رجالات النهضة في القرن التاسع عشر في انه جمع بين شخصية المفكر ورجل السياسة ، الأمر الذي جعله صاحب تجربة فريدة بين مختلف التجارب التي خاضها غيره من رجال الإصلاح في الوطن العربي و العالم الإسلامي .
كان للمواقع السياسية التي تقلب فيها مكنته من ان يحقق بعضاً من افكاره الاصلاحية التي جمعها في كتابه (( اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك))
يحاول هذه البحث تسليط الضوء على خيرالدين التونسي و جهوده الإصلاحية التي طبقها جزء منها في تونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع العشر ومدى تأثره وتاثيره في عصره الذي كان حلقة من حلقات تطور المجتمع التونسي في العصر الحديث والمعاصر .
يتكون البحث من ثلاث مباحث وخاتمة اشتملت على أهم النتائج والتوصيات التي توصل أليها البحث ،و المباحث فهي كالأتي :
المبحث الأول : نشأته تدرجه في المناصب الرسمية:
أ_الولادة والنشأة :
ولد سنة 1820 في قرية بجبال القوقاز وكل ما يعرفه عن نفسه أنه عبد مملوك ينتمي إلى قبيلة " أباظه " ببلاد الشركس بالجنوب الشرقي من جبال القوقاز وأن والده توفي في إحدى الوقائع العثمانية ضد روسيا، فأسر وهو طفل على اثر غارة، ثم بيع في سوق العبيد بإسطنبول، فتربى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك، وانتهى به المطاف إلى قصر باي تونس عندما اشتراه رجال الباي من سيده، وجيء بخير الدين إلى تونس وهو في السابعة عشر من عمره سنة 1837،
وأصبح مملوكا لأحمد باشا باي) 1837_1855)الذي قربه وحرص على تربيته وتعليمه. اذ تلقى تربية دينية وعصرية معاً، وتعلم اللغة الفرنسية، فضلا عن العربية . وعندما أنهى درسه ، دخل الجيش حيث أكسبته مواهبه عطف احمد باي فعهد اليه بادارة المدرسة العسكرية فترة من الزمن

ب_تدرجه في المناصب الرسمية :

عين مشرفاً على مكتب العلوم الحربية. اتضحت خصاله الحربية جلية وفاز بالمراتب العسكرية عن جدارة فولاه أحمد باي أميرا للواء الخيالة سنة 1849.
سافر خير الدين التونسي إلى باريس سنة (1269هـ = 1853م) بتكليف من "أحمد الباي" لمقاضاة ملتزم الضرائب السابق "محمود بن عياد" الذي اختلس أموال الدولة، وفَرَّ بها إلى فرنسا، وحصل على الجنسية الفرنسية، وقد طالت إقامته هناك حتى بلغت أربع سنوات نجح في أثنائها في استعادة 24 مليون برنك وردها إلى خزانة الدولة، وفي 1854 أرسله أحمد باشا باي إلى فرنسا لبيع مجوهرات لصرف ثمنها لإعانة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا. ، ثم رجع إلى تونس حين عُيِّن في كانون الثاني 1857م وزيرًا للبحرية في عهد محمد الباي (1855_1859)الذي خلف ابن عمه "الباي" السابق بعد وفاته . بعد انعم عليه برتبة فريق . وظل خيرالدين في هذا المنصب مدى سبع سنوات متواصلة من العام 1856 الى العام 1862 اجرى خلالها المزيد من الإصلاحات ، من أهمها تحسين ميناء حلق الوادي وتنظيم إدارة الوزارة وإصلاح لباس الجيش البحري وضبط اتفاقيات وقوانين مع الأجانب لحفظ الأراضي التونسية. كما قام بعدة إصلاحات، منها انشائه مصنعاً بخارياً لبناءالسفن واصلاحها ، وشق الطرق بحيث ربط بين سائر الجهات التونسية . الا ان الاهم من ذلك هو اتجاه خيرالدين الى التحديث ، والى الشروع ببناء الدولة المتطورة والمجتمع الراقي ، بعد ان شاهد ما وصلت اليه فرنسا من تمدن ورقي ، اذ مكث خيرالدين في باريس خمس سنوات متواصلة (1852_1856) عرف ما كان قد بلغه الفرنسيون من تقدم في سائر الاتجاهات
كان خير الدين محبًا للإصلاح مناصرًا له؛ فأيد "محمد الباي" حين أصدر "عهد الأمان" الذي ضمن لجميع سكان تونس المساواة في الحقوق، ووقف إلى جانب "الصادق باي" الذي خلف أخاه "محمد الباي" حين أصدر الدستور في (17 رجب 1277هـ = 29 يناير 1861م) وساهم في وضع قوانين مجلس الشورى الذي أصبح رئيسا له سنة1861.وأنشئ بمقتضاه مجلس استشاري مكوَّن من ستين عضوًا، سُمي "المجلس الأكبر"، وعُيِّنَ "خير الدين" رئيسًا له.

ج_الاستقالة من منصبه

نشب خلاف بين "خير الدين" وبين الوزير "مصطفى الخزندار" على الرغم من صلة النسب التي جمعت بينهما؛ فقد كان "خير الدين" زوجًا لابنة الوزير الكبير، وكان سبب الخلاف رفض "خير الدين" لممارسات الوزير المالية حول أمر الاستدانة من المُرَابين الأوروبيين، فآثر الاستقالة من منصبيه في آخر (كانون الأول 1862م).
وأمام ازدياد فساد الوضع السياسي في البلاد نتيجة سوء تصرف المسؤولين وسرقاتهم قدم خير الدين استقالته من جميع وظائفه سنة 1862، واستغرقت فترة انقطاعه سبع سنوات، من سنة 1862 إلى سنة 1869.
ظل خيرالدين بعيدا من الحكم على مدى سبع سنوات متواصلة ، لم تمنعه الاستقالة من القيام بالسفر إلى أوروبا وإستانبول، كما كان يحضر اجتماعات المجلس الخاص الذي كان "الباي" يستشيره في بعض الأمور ،كما انه ظل على مقربة من القضايا الدقيقة التي لها علاقة بتونس وسياستها الخارجية وكان في خلال هذه المدة الطويلة قد اكتسب خبرة في السياسة الخارجية وفي الظروف الدولية القائمة آنذاك . وكان ذلك من جملة الأسباب حملت الباي على إرساله موفداً من قبله الى كل من فرنسا وانكلترا وألمانيا والنمسا وايطاليا وهولندا والسويد والدنمارك وبلجيكا . والى المهمات الخاصة التي اضطلع بها خيرالدين في كل ً من هذه البلدان ( ).عكف على دراسة أحوالها والتعرف الى نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وقد ادى عكوفة على دراسة ما هو قائم في الغرب الى تأليفه لكتاب هام عنوانه(( أقوم المسالك في معرفة أحول الممالك)) ( ).وتبرز في هذا الكتاب الذي سنعود اليه في المبحث الثالث من هذا البحث النزعة الخلدونية عند خير الدين التونسي (نسبة الى ابن خلدون ) حيث انه وضع مقدمة شرحت أوضاع المسلمين وحاجتهم الى الإصلاح واتبعها بـ(تاريخ) أسهب فيه شرحاً لأوضاع البلدان الأوربية ، وما هي عليه من تقدم ورقي .

د_العودة الى الوزارة :

كان من نتيجة انتهاج تونس لسياسة متخبطة أن تدهورت أحوالها المالية، وآلت إلى الإفلاس، وفرض الدائنون الأوروبيون سنة (1286 هـ= 1869م) لجنة مراقبة مالية، واختير "خير الدين" رئيسًا لها، ثم أُسند إليه منصب الوزير المباشر سنة (1288هـ=1871م)، وبعد عامين تولى منصب الوزير الأكبر خلفًا لمصطفى خزندار الذي ثبت اختلاسه لبعض الأموال الديون، وذلك في (شعبان 1290هـ= أكتوبر 1877م)، ودامت فترة وزارته الكبرى نحو أربعة أعوام، نهض خلالها بمسؤوليته، ونهض بالبلاد، وبعث فيها روحًا جديدة وثَّابة، وأصلح كثيرًا من شؤونها.

المبحث الثاني: إصلاحات خيرالدين التونسي عند توليه رئاسة الوزراء .

حين عين خيرالدين التونسي لمنصب الوزير الأكبر (رئيس الوزراء) في 1873 وحانت الفرصة لخيرالدين كي ينفذ منهاجه الذي ضبطه في كتابه (( أقوم المسالك)) وكي يفيد بلاده من تجربته التي اكتسبها في أوربا من خلال اطلاعه إلى وسائل التطور وأسباب الترقي فاقبل على إجراء الإصلاحات التنظيمية في مجالات السياسية والإدارة والاجتماع والقضاء والاقتصاد والثقافة والتعليم وفي ما يلي ذكر هذه المجالات بشيء من التفصيل..

_الجانب الثقافي والتعليمي :

هتم خير الدين التونسي بالجانب الثقافي والعليمي وذلك من خلال انشاء المدرسة الصادقية وتنظيم التعليم في جامع الزيتوني وانشاء المكتبة العبدلية فضلا عن تشجيع الطباعة والصحافة والنشر.
فالمدرسة الصادقية أنشئت عام 1874 بعد ان تشكلت لجنة لتحرير قانونها وسن مناهج التعليم فيها وبرامجه ، وكانت تلك اللجنة مؤلفة من علماء من جامع الزيتونة ، تحت رئاسة خير الدين نفسه
سميت بالصادقية نسبة إلى "الباي محمد الصادق" الحاكم حينئذ بتونس، وكانت هذه المدرسة أول مدرسة تونسية على الطراز الحديث تدرس فيها العلوم العربية والشرعية بالإضافة إلى الثقافة العصرية، مع تعليم اللغات الفرنسية والايطالية والتركية.والرياضيات والطبيعيات والاجتماعيات ، لعموم الصفوف ، وعتبر التعليم فيها ذا درجتين أولية وثنوية.وفي الوقت نفسه استعان برجال من العلماء في إعادة تنظيم الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة فوجه له عنايته لتنظيم دروسه وتعديل برامجه ومناهجه . وترتيبها على درجات تتحكم فيها الامتحانات في التنقل ومنح الشهادات مع جعل كل درجة مشتملة لزما على مواد الرياضيات والطبيعيات مقتصدين بذلك لتوسيع المجال للعلوم الشرعية ووسائلها ، وتنظيم طريقة اختيار الاساتذة بواسطة المناظرات ، وضمن ذلك القانون ذي 67 فصلا الصادر في عام 1292هـ/1876م( ).
اما المكتبة " العبدلية " فهي مكتبة حديثة أنشأ خيرالدين تحت اسم المكتبة " العبدلية " على نمط المكتبات الحديثة،وضم إليها شتات المخطوطات ونضمها تنظيما عصريا على نحو ما معرف اليوم .من حيث ترتيب الكتب ووضع فهارسها ومحتوياتها وطريقة تداولها بين القراء واهتم بمطبعة الدولة واستقدم بعض المصريين واللبنانيين للعمل فيهما،وأوكل أليها نشر الكتب العلمية والأدبية . وأول ما طبع من ذلك مجموعة قوانين دولية وبعدها العديد من الكتب في شتى المجالات
كما اتصلت جهود النشر التونسي بمركزي النشر الهامتين في البلاد العربية في ذلك الحين وهما بيروت والقاهرة ،وكثرت المراسلات والمبادلات وتسع جلب الكتب المطبوعة في الشرق وترويجها بتونس
كان لتونس صحيفة رسمية هي صحيفة الرائد ولم تكن تصدر قبل خيرالدين التونسي بانتظام وكانت مقصورة على نشر قرارات الحكومة وبعض الإخبار والمقالات المنقولة ، فسعى خير الدين الى أدخل فنونًا جديدة بها.وإصلاح إدارتها والتشجيع على نشر المقالات بها فأصبحت صحيفة الرائد تصدر في مواعيدها بانتظام دون ان تتخلف واجبر الموظفين على قراءتها لأنها كانت معرضا لأرائه السياسية ومنهجه في الإصلاح

_الجانب الاقتصادي :
قسم الأراضي الزراعية الى مناطق وتحرى في اختيار الأمناء والأعوان ، وشدد على معاقبة الجباة المختلسين. فألغى الضرائب السابقة التي تراكمت على الناس وصارت ديونًا تُثقل كاهلهم وخفض قيمة الضرائب وبطل الحملات العسكرية التي كانت تتوخى العنف في جمع الضرائب.مما احدث انتعاش ملحوظ اذ انه حض على استثمار الأرض ، وزرعها ، وغرسها بأنواع معينة من الأشجار المثمرة وخاصة النخيل والزيتون ، واصدر قانونا ينص على ان زراعة هذين النوعين معفاة من الضرائب على مدى عشرين عاماً . ومما يذكر في هذا المجال ان الأراضي المزروعة بلغت مساحتها يوم ترك خير الدين الحكم مليون هكتار( ). على حين كانت مساحتها عند تسلمه لا تتجاوز الستين الف هكتار
اعادة تنظيم الضرائب على الاستيراد والتصدير وتحديد ضريبة الاستيراد بـ5% خمسةبالمئة فقط وتخفيف ضريبة التصدير. ورفع الوردات ، وانشاء المخافر لمنع التهريب

_الجانب الاجتماعي :
تحديد الضريبة المفروضة على رؤوس المواطنين منعا لطمع وجشع الذين كان يترك لهم امر تحديد هذه الضريبة بطريقة تعسفية جاهرة ومتحيزة في اكثر الحالات .وألغى الحملات العسكرية التي كانت تتكلف أموالا باهظة لجمع الضرائب من القبائل الرُّحَّل التي اعتادت ألا تدفع الضرائب المفروضة عليها إلا عَنوة.

_الجانب الإداري :
اهتم بالوظائف الحكومية فحدد مرتباتها ومرتبات القصرووضع الأسس السليمة لميزانية الدولة.على الطراز الحديث مخصصاً قسماً منه لرفع فوائض الديون والقسم الثاني لضروريات الحكومة( ).وضبط المكاتبات الدولية وإنشاء السجلات الخاصة بالصادرات والواردات ليسهل الرجوع إليها .
نظم الأوقاف وكانت فوض البيع والشراء ( ).فأعاد للأوقاف العامة دورها الديني والاجتماعي، وأنشأ لهذا الغرض جمعية الأوقاف، يساعده مجلس خاص بتنظيمها وأسند رئاستها إلى "محمد بيرم الخامس". كان من تصريف القدر أن زاد الخصب في العامين الأولين من وزارته، فساعد ذلك على ازدهار الزراعة والصناعة، والوفاء بالتزامات الديون؛ فعرفت تونس أعوامًا من الطمأنينة والهدوء.

_الجانب القضائي :
كانت النواحي التشريعية والقضائية مضطربة في بسبب اختلاف مذهب رجال القضاء وترددهم في إحكامهم بين المذهبين المالكي والحنفي ، وكان الأجانب لا يخضعون لقانون البلد اذ ليس فيها قانون مضبوط لذلك عهد خير الدين التونسي الى جماعة من المختصين لدراسة القوانين المعمول بها في كل من الأستانة ومصر وفي أوربا بقصد استخراج قانون يتناسب وظروف القطر التونسي( ).على ان لا يتصادم والتشريع الإسلامي وعوائد البلاد ليحمى مصلحة السكان على اختلاف العناصر( ).

_الجانب السياسي :
اما السياسة الخارجية التي اتبعها خير الدين التونسي فكانت قائمة على الحزم مع القناصل والوضوح في ان واحد ، وكانت فرنسا تتحين الفرص لبسط نفوذها على تونس . وكانت ايطاليا تسارع الى مزاحمة فرنسا ، بالدسائس ، والإيعاز الى محرري الصحف لنشر أخبار في فائدتها. فكانت سياسة خيرالدين البحث عن سبيل النجاة من هذه وتلك ورأى لذلك توثيق الصلات مع الدولة العثمانية ، ونجح في إقناع اسطنبول بتوثيق صلاتها مع تونس ، واصدار فرمان يقرر ان تونس ولاية عثمانية على ان لحاكمها سيادة داخلية
كره القناصل الدول الأجنبية لخيرالدين التونسي في تونس وذلك لسد أبواب تسرب نفوذهم الى البلاد وكان قنصل فرنسا اشدهم وأنشطهم في الدس لدى ، واشتدت الوشايات به الى الباي في نقد تحمسه لاعانة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأعرض عنه "الباي" بتأثير بعض المقربين له، فاضطُر "خير الدين" إلى تقديم استقالته في (10 رجب 1294 هـ = 21 يوليو 1877م).وعاش في قصره بعيدًا عن المشاركة في الحياة العامة
ثم طلبه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للاستفادة من جهوده في الإصلاح، فسافر إلى إستانبول في (ذي القعدة 1295هـ= سبتمبر 1878م)، وأُسندت إليه رئاسة لجنة تقوم بمراجعة الوضع المالي للدولة العثمانية، ( ).ثم لم يلبث أن عيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني "صدرًا أعظم" في (9 ذي الحجة 1295 هـ = 4 ديسمبر 1878م)، ولم تكن الظروف مواتية للعمل المثمر بعد أن تكالب الأعداء على الدولة، وخرجت من حربها مع روسيا تَئِنُّ من جراحها وهزائمها القاسية، فعمل "خير الدين" في ظروف بالغة الحرج،
ونجح في إجلاء الجيوش الروسية، وساهم في خلع الخديوي إسماعيل من ولاية مصر؛ لأن سياسته كانت تؤدي إلى إضعاف ارتباط مصر بالدول العثمانية، وجعلها عرضة للمطامع الأوروبية، وكانت سياسة "خير الدين" التي آمن بها هي توطيد الروابط بين الدولة العثمانية وولاياتها، ولما أخفق "خير الدين" في إقناع السلطان عبد الحميد بإصلاح نظام الحكم قدم استقالته من منصبه في 28 تموز 1879م، وبقي على اتصال ببلاط السلطان، وأصبح عضوًا في مجلس الأعيان حتى وافته منيته هناك في 30 كانون الثاني 1890م. في مارس 1968 استقبلت تونس المستقلة رفاة خير الدين باشا.

المبحث الثالث :أفكار خيرالدين التونسي الإصلاحية من خلال كتابه أقوم المسالك :

لم يكن "خير الدين" إداريًا ومصلحًا فحسب، وإنما كان مفكرًا إصلاحيًا دوَّن أفكاره في كتابه "أقوم المسالك"، وهو يتألف من مقدمة طويلة، وجزأيْن؛
يحوي الجزء الأول عشرين بابًا، كل باب مخصص لبلد من البلاد فقد تحدث الباب الاول عن الدولة العثمانية، اما البواب الأخرى التي تناولت البلاد الأوربية وقد جاءت البلاد حسب تسلسل الأبواب في الكتاب كالأتي (الدولة العثمانية ،فرنسا ، انكلترا، النمسا ، روسيا،جرمانية(المانيا)، ايطاليا ،اسبانيا ،السويد والنرويج ،هولندا ،الدنيمارك ، مملكة باواريا ، بلجيكا ،البرتغال ،سويسرا ، مملكة البابا ، مملكة النورتنبرغ ، إمارة بادن الكبير في مملكة الإغريق)، تناولت الابوب فصولا تتضمن الحديث عن تاريخ البلد، وجغرافيته، وموقعه، ومساحته، وأهم ملوكه، وتنظيماته الإدارية والسياسية والعسكرية.
أما الجزء الثاني فيحتوي على ستة أبواب؛ خمسة منها في جغرافية القارات الخمس، وخصص الباب السادس للبحار.
غير أن أهم ما في كتابه هو مقدمته التي تجاوز الاهتمام بها سائر الكتاب، وأصبحت الإشارة إلى كتاب "أقوم المسالك" تعني الإشارة إلى المقدمة وحدها، والتي تقع في وثنان وثمانين صفحة ومقسمة الى واحد وثلاثين مطلب فضلا عن ذكر السبب الذي دفعه للتأليف .
يقول خير الدين التونسي : " ان الباعث الأصلي على ذلك أمران آيلان إلى مقصد واحد : احدهما : إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم ، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصولة الى أحسن حال الأمة الإسلامية ، وتنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان ، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة وتريح سائر الصناعات ونفي أسباب البطالة ...." اما المقصد الثاني : " تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سير الغير ، الموافقة لشرعنا،........، فان الأمر اذا كان صادرا من غيرنا وكان صوابا موافقا للأدلة ، لا سميا اذا كلنا عليه وأخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله ......."
علماً أن المقدمة هي تلخص تجربة "خير الدين" كلها التي تركز على مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها، والتمسك بالجامعة الإسلامية لدعم هذه المقاومة، ومحاولة إصلاح الولايات الإسلامية المختلفة وبثّ روح اليقظة والنهوض فيها.

تقوم الحركة الإصلاحية عند خيرالدين على دعامتين رئيسيتين

الأولى: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية، وعدم قصرها على ما ورد فيه نصٌّ من كتاب الله وسنة رسوله، وذكرهم بمناهج السلف في هذا المجال الذين جعلوا نطاق السياسية الشرعية يتسع ليشمل كل ما لا يخالف الكتاب والسنة وإن لم يرد نص فيه؛ لأن في ذلك تحقيقَ مقصد من مقاصد الشريعة.

الثانية: ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على دعامتيْ الحرية والعدل، فإن هاتين الدعامتين تُعدان أصليتيْن في الشريعة الإسلامية، وليستا غريبتين عن المجتمعات التي ينادي بإصلاحها "خير الدين".

كان "خير الدين" داعية إلى الإصلاح الشامل الذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والتعسف عن كاهله، واحترام حقوقه الإنسانية، ولن يتحقق هذا إلا من خلال نظام حكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة في تصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق في مقابل ذلك اشترط أن تكون الأمة واعية مستنيرة تدرك مسؤولياتها، وتحسن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بما لها من حقوق .


الخاتمة

مع ان المدة التي قضاها خيرالدين التونسي في رئاسة الوزراء قصيرة الا ان منجزاته الإصلاحية كانت كبيرة فلقد حقق لبلدة الكثير مما كان يهدف اليه واعتبار انجازه اساس النهضة التونسية الحديثة والدرع الذي حمى المجتمع التونسي من حملات الفرنسية ولوان إصلاح خيرالدين كان مبكرا وسابقاً لهذا التاريخ لما ألت تونس الى عالت اليه .
ولكن الإصلاحات جاءت متأخرة في وقت أصبحت فيه تونس تحت الهيمة الفرنسية مباشرة.
على الرغم من ذلك لاستطيع نص تأثير حركة خيرالدين الإصلاحية في المشرق العربي وبلاد الإسلام عامة ويكفي الدارس ان يراجع صحافة ذلك العصر خارج تونس يتبى صدى كتاب (اقوام المسالك ) الذي هو نبراس حركة خيرالدين الإصلاحية في تونس .
علما ان المقدمة ترجمت الى الفرنسية وطبعت بباريس قبل ان يطبع الكتاب بالعربية ، مما جعل الطباعة تسرع الى طبعة خوفاً من انتشار الفرع قبل الأصل في تونس



المصادر والمراجع
_ أمين ، أحمد ، زعماء الإصلاح في العصر الحديث ،(القاهرة-1965).
_التونسي ، خيرالدين ، أقوم المسالك في معرفة الممالك"، المطبعة الرسمية (تونس ،1284 هـ=1868م).
_الجندي، انور ، الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا ، الدار القومية للطباعة والنشر ،(القاهرة ،1965)
_ابوحمدان،سمير،موسوعة عصر النهضة خيرالدين التونسي ،دار الكتاب العالمي،)بيروت_1993)
_حوراني ،البرت ، الفكر العربي في عصر النهضة ، ترجمة كريم عزقول دار النهار للنشر بيروت ط3 1977
_الزركلي ، خيرالدين ، الاعلام ، ج2 ط4 دار العلم للملايين ، بيروت -)ص 327
_زيادة ، معن ، خيرالدين التونسي وكتابه اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك، ط2 المؤسسة الجامعية(بيروت_1985).
_الشملي ،المنجي ، خيرالدين باشا ، الدار التونسية للنشر ، ط2،(تونس،1973)
_ابن عاشور ، محمد الفاضل ، الحركة الأدبية والفكرية في تونس، الدار التونسية للنشر(تونس
_العامري ، محمد الهادي ، تاريخ المغرب العربي في سبعة قرون بين الازدهار والذبول من القرن السابع الهجري الى ختام القرن الثالث عشر ، الشركة التونسية للتوزيع ،(تونس،1974)،
_الغزي ، الهادي حمودة ، الأدب التونسي في العهد الحسيني، الدر التونسية للنشر،(تونس-1972)
_وادي ، خيرية عبدالصاحب ، الفكر القومي العربي في المغرب العربي نشوؤه وتطوره من 1830 الى 1962،(بغداد-1982).

غالي شكري ،" النهضة العربية في تونس الارض والتاريخ "، مجلة دراسات عربية العدد 8 حزيران /يونيو
1985
خيرالدين الزركلي ، دار العلم للملايين ج2 ط4 1989
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف