للكاتب / محمد نصار
ما إن دخلت الشقة حتى اندفع الطفل نحوها مهللا ، لم تلتفت إليه .. تركته يتجرع الإهانة وانصرفت إلى غرفتها ، ارتمت على السرير جسدا بلا حراك .
تشنج في مكانه مفجوعا . . راح يرميها بنظرات غاضبة .. عاتبة ، ثم انفجر في البكاء ، فهرعت إليه جدته .. ضمته إلى صدرها وأخذت تطيب خاطره ، أرادت أن تخرج به إلى الصالة ، فزاد من صراخه ، عادت به مرة أخرى وجلست على حافة السرير، نزل الصغير وزحف إلى جوار أمه .. ووزع نظراته بين المرأتين محاولا فهم ما يدور من حوله .
- سلامتك من الشر يا ما . ، همست المرأة بشفاه ترتجف .
- الله يسلمك . ، ردت بصوت ضعيف منهك .
- خرجت الصبح في أحسن حال !.
- مش عارفة شو اللي صابني ؟ . ، ثم اختنق صوتها بالبكاء .
- شر ويزول يا حبيبتي . ، وأشاحت تداري دموعها .
- إن شاء الله .
- ياريت تستحمي .. جسمك كله عرق .
- مش قادرة أقف .
- يا رب استر يا رب . تمتمت المرأة بصوت مخنوق .
نظرت إلى نفسها في المرآة، ثم همست قائلة : ياإلهي كم أنا مجرمة ! ، ألا يستحق مني هذا الجسد بعض الاهتمام . ، ثم أمسكت بعلبة مكياجها .. همت بفتحها ، فتذكرت أنها لم تبدل ملابسها ، وضعتها جانبا وبدأت تفك أزرار فستانها واحدا تلو الآخر ، ليسقط كاشفا مفاتن لا يسترها سوى قميص شفاف .
نظرت بذهول إلى جسدها ، ظنته للوهلة الأولى عائد لامرأة غيرها .. تحسسته بانتشاء بدا واضحا على شفتيها المنفرجتين ، اتجهت إلى الدولاب لتختار فستانا آخر ، فوقع بصرها عليه ، كان يتلصص من شق الباب المورب بعض الشيء ، لم تبد اهتماما ، بل تظاهرت بالبحث عن فستان آخر، مانحة إياه فرصة ظن أنه اقتنصها في غفلة منها .
ارتدت الفستان بتمهل غير آبهة بسؤال يدور في رأسها:إلام يطمح ذلك الشقي الصغير؟ .
التقطت حقيبة يدها وخرجت ، فوجدته في انتظارها ، سد طريقها لبعض الوقت ، راح يحدق في تفاصيلها .. يلهب جسدها بنظرات تنفذ إلى أعماقها ، ثم تراجع بصمت مفسحا لها الطريق .
كان ينتظرها عند الباب .. صعدت إلى جواره .. مال بوجهه نحوها .. طبع قبلة على خدها ، ثم أدار المحرك وانطلقت العربة مخلفة ورائها زوبعة من الغبار .
عند مدخل العمارة تأخر عنها لبعض الوقت، حتى لا يلاحظ العاملون دخولهما معا ،جلست خلف مكتبها تقلب الأوراق بكدر وملل ، أرادت طرد إحساس لا يكف عن إزعاجها ، بل كانت تظن وبقوة أنها معراة أمامهم وأن كل نظرة تتفحصها وكل همسة تنالها .
رن جرس الهاتف ، رفعت السماعة ، فكان على الطرف الآخر ، ردت بصوت أرادت إيصاله إلى الجميع : ملف رقم ( 6 ) لم أنجزه بعد .. حاضر .
قلبت الملفات .. التقطت واحدا منها وقصدت مكتبه تتبعها أعين الزملاء ، فصفقت الباب خلفها بغضب أثار استغرابه .
كفى..كفى فأنا لن أحتمل أكثر من ذلك . ، صاحت بانفعال كاد يتردد صداه خارج الغرفة .
أقبل عليها بفزع محاولا تدارك الموقف ، وضع يده برفق على فمها ، فلم تتمالك نفسها وانخرطت في البكاء .. ضمها إلى صدره بحنو وراح يربت على ظهرها حتى هدأت .
- مش قادرة أعيش في الظلام .. لابد من إشهار الزواج .
- المهم ألا تعلم زوجتي بشيء .
- والحل .
- شقة جديدة وبعيدة عن عيون الناس .
- وتجيني يوم في الأسبوع ؟ .
- لازم نصبر .
أطرقت بصمت .. مد يده يتحسس وجهها .. شفتيها ، فارتجفتا متعطشتين ، أحس بما فيهما من ظمئ .. مال نحوهما .. فاستسلمت بسهولة ويسر .. عبثت أصابعه بأزرار القميص ، فالتهب الجسد .. اشتعلت به النيران .. تصاعدت ألسنة اللهب .. طرقات بالباب .. أشباح تدور في كل جانب .. رجال .. نساء ، خالد بين الجموع .. مالذي جاء به إلى هنا .. زوجة المدير الهائجة .. ما الذي أتى بها في هذه اللحظة ؟.. لابد أن أحدا ما قد وشى لها بما يجري في المكان ، لعله خالد .. أرى ذلك في عينيه .
اندفعت نحوها المرأة بحرقة وغيظ .. صفعتها.. صرخت في وجهها على مسمع من الجميع : يا خائنة . ، شدت شعرها بقوة .. جرتها على الأرض .. حاولت التخلص منها لكنها فشلت ، فشلت أمام أيد أخرى تصفعها من كل جانب .
تستغيث .. تصرخ ، فيتردد الصدى من حولها .. تهب مرعوبة من هول الصراخ الذي يحاصرها ،فترى الطفل إلى جوارها يكاد يتشنج من كثرة البكاء وأخوها يحاول جاهدا إيقاظها ، بينما أمها تردد بذعر : رحمتك يارب .
- يا إلهي .. ، رددتها بفزع .
- لاتخافي .. يبدو أنها الحمى . ، قال أخوها محاولا تفسير ما يجرى .
- أي كابوس هذا !.
- ربنا يلطف فينا . ، قالت الأم وهي تداري دمعها .
أسبوع شابه التوتر، جسد يصطلي بالحمى .. شفاه ترتجف .. تهمس بأشياء مبهمة وأيد تبتهل بالدعاء من حولها ، صغار وكبار ، كلهم جاءوا لعيادة أختهم ، حتى الطبيب الذي كان زميل يوسف في السجن، جاء ليبدي مشورته في الحالة التي استعصت على مستوصف الحي ، راح يتأمل نوبات الحمى التي تغزو جسدها .. يتابع تشنجاته ويحث النسوة على تبديل كمادات الماء البارد على فترات متقاربة وينشغل هو في إعداد حقنة سرى مفعولها في الجسد كالسحر بعد فترة وجيزة من وخزها .
أيام توالت على هذا المنوال .. ظلال كئيبة تخيم على الوجوه ونوبات مرعبة تتجدد بين حين وآخر، مستهزئة بكل ما صنع الطبيب ، لدرجة أن فكر بنقلها إلى مستشفى المدينة ، لكنه عدل عن ذلك وقرر أن يضاعف من جهده معها .
في اليوم الرابع ظهرت بوادر تحسن .. نظرت في الوجوه من حولها باستغراب ودهشة ، نادت بصوت خافت على أمها ، فجاءت وجلست بجوارها .. مسدت بلطف شعرها وقالت يغالبها البكاء : الحمد لله على السلامة .
- أيش اللي صار ؟ . ، سألت بشيء من الذهول .
- شر ربنا زاحه . ، قال الطبيب معقبا .
نظرت إليه متفحصة .. لم تشاهده من قبل .. نظرت في الوجوه من حولها عسى أن يسعفها أحد بجواب ، فابتسم في وجهها يوسف وقال معرفا : صديقي من أيام السجن د. يونس .
هزت رأسها وابتسمت قائلة : تشرفنا
يومان أخران ومضى كل إلى سبيلة , لم تعد حاجة لبقائهم معها , ظلت الأم و قد أصبح بقاؤها ضرورة ملحة , خصوصا بعد أن وقعت حماتها طريحة الفراش , و قد كانتا من قبل تتناوبان في المبيت عندها , في حين اكتفى أخوها بالمرور كلما واتته الفرص .وفي بعض الأحيان يصطحب الطبيب معه .
لكن بقاءها طريحة الفراش أسبوع بأكمله، جعلها تشعر بالإختناق و عزز لديها الرغبة في الخروج ، رغم تعليمات الطبيب التي حثتها على عدم التفكير في ذلك قبل مضي أسبوع آخر وزاد من تلك الرغبة، الخبر الذي زفه أخوها عن قبولها للعمل في الشركة، فهرعت إلى دولاب ملابسها .. سألها مستهجنا : لوين ؟
- بدي أشكر المرأة اللي خدمتني .
- الوقت متأخر .
- كيف ؟ ..، قالت مستغربة .
- روحت قبل يومين .
- وكيف ألم بالتفاصيل ؟
- هاك عنوان الشركة وموعد إجراء المقابلة .التقطت الورقة بشغف , تأملتها لبعض الوقت , أطبقت عليها بقوة .. ضمتها إلى صدرها .. ارتمت على السرير .. راحت تحدق في السقف .. ترسم صورا لها في الشركة .. المكتب الذي ستجلس عليه .. العمل الذي ستمارسه ..العاملون هناك .. هل هم مسنون عجزة ؟ كما تشاهدهم في الأفلام .. أم شبان في مثل سنها .. هل بينهم فتيات ؟ أم هي الوحيدة بينهم .. المدير وعلاقته معها .., توقفت عند هذه النقطة .. تبدلت ملامح و جهها .. تذكرت الحلم .. لم ترغب في عودته , لكنه أتى رغما عنها .
أحس بها .. قال ممازحا: نحن هنا .
رنت إليه مبتسمة .. أعادت النظر إلى الورقة .. رفعت رأسها و سألته : ما الداعي لأن تكون المقابلة , بعد أسبوع ؟ .
- حتى يكون استلامك للعمل من بداية الشهر .
- أنا قلقة .
- لا داعي للقلق , ولا نسيتي من الواسطة ؟
- يا إلهي حاسة أنه أطول أسبوع في حياتي .
نظر إليها مستغربا ... أحست بما يراوده .. فلم تعطه فرصة للتعليق ، تمتمت قائلة : اليوم شعرت أني سجينة .
بدا التأثر واضحا عليه , راح ينظر إليها متتبعا خلجات وجهها وهى تحكى عذابات سنين أمضتها بين الجدران وآلام ليال لم تشرق شمسها ، أطبق الصمت على الغرفة، تاه كل في عالمه ، لم تشعر به فى البداية وحين أحست بنظراته أدركت خطأ تداركته على عجل .
- تعال نخرج .. نزور حماتى ؟ .
- مش راح نتمكن اليوم .
- تعال بكرا .
- إن شاء الله .
وقفت مشدوهة فركت عينها ..مرة .. اثنيتن .. ثلاثة ... صاحت بذهول : أبى ! ،ابتسم فى وجهها .. ضمها إليه .. أحست بالأمان.. أغمضت عينيها.. بكت على صدره .. رفعت رأسها ... تراجعت إلي الوراء قليلا . . أخدت تتأمله من رأسه حتى أخمص قدميه .. بدا سليما معافا بل أكثر شبابا مما عهدته , لفت نظرها شكل الحلة التى يرتديها، لم تشاهدها من قبل ، فلم تعهده ارتدى حله فى يوم من الأيام .. ارتمت فى أحضاته مرة أخرى .. رفعها برفق .. مسح دموعها ثم سألها : أين أمك؟ .
كانت قد نسيتها فى ذروة الانفعال.. تذكرتها حين نطق باسمها .. انطلقت تزف البشرى .. وجدتها واقفة أمام المرآة بكامل هندامها .. تضع اللمسات الأخيرة على وجهها ، صاحت بفرح طفولى : أمى .. أمى تعالى انظري أبى .,
التفتت المرأة .. بدت أصغر بعشرين عاما ، جحظت فيها مبهورة بحسنها وجمالها ، فتغاضت المرأة عن نطراتها وردت بشكل آثار بداخلها التساؤلات : هل وصل ؟ .
- إذن هى تعلم بقدومه.. لماذا لم تخبرنى من قبل.. لم أخفت عنى ذلك ؟، أم أرادت مفاجاتى .. ربما ؟
اللتقيا فى الصالة ، لم يبد عليهما أدنى انفعال ، الأمر الذي أثار عجبها وأحال حواسها إلى عيون تتابع ما يدور دون أن تدركه أو تعيه وجعل الأم تنظر إليها مستغربة و كأن لسان حالها يقول : ما الغريب فى الأمر؟ .
إلا أن الأشارة لم تصل بالمعنى الذى أرادت وظلتا تحدقان كل منهما في الأخرى بدهشة وعجب ، مما حدا بالأب الواقف بباب الشقة إلى الرجوع حيث تقف المرأتان وسأل بنبرة لا تخلو من كدر : ألاتنويان المغادرة ؟ .
- بلى ولكن ليس قبل أن تكف بنتك عن هذه النطرات البلهاء وتتبعنا .
أحست بالحرج .. تصنعت الابتسامة وسألت مستفسرة : ألا أعرف إلى أين نحن ذاهبو ن ؟ .
- إلى حماتك فى المستشفى . , قالت ألام بكدر وضيق .
- ولكن أين يوسف ؟ .. لقد تواعدنا على الذهاب معا . ،سألت أحلام بنبرة يعتربها القلق .
- ذهب لقضاء بعض مشاغلة وسأنوب عنه هذه المرة . ، رد الأب مطمئنا .
نزلوا السلم يتقدمهم الأب ، كان يقفز الدرجات كشاب فى العشرين من عمره ، تتبعه الأم بنفس النشاط والحيوية ، بينما هى فى المؤخرة تكاد لاتصدق ماترى .
وصلوا باب العمارة حيث تقف أمامه عربة سوداء ، ترجل منها السائق ، كان يرتدى أيضا حلة سوداء ويغطى رأسه بقبعة من نفس القماش .. فتح الباب الخلفي ، صعد أبوها ثم أمها ، أرادت اللحاق بهم فقفل الباب وانحنى أمامها بلطف طالبا أن تتبعه ، فتح الباب المجاور ، وضعت قدمها داخل العربة .. نظرت إليه وصاحت بانفعال : أحمد! .
ضمته إلى صدرها .. أطبقت عليه بكلتا يديها وانخرطت في البكاء .
ظل صامتا إلى حد البرود ، فتراجعت إلى الوراء قليلا .. جففت دمعها وراحت تنظرفي عينيه .. فكانتا جامدتين لا حياة فيهما ، شعرت بانقباض فسارعت بتجاهله ، لم ترد لشيء أن يعكر عليها فرحة اللقاء به.
- كيف جئت ومتى ؟ . ، سألته مستفسرة .
- جئت لأرى أمي .
أزاح يدها عن كتفه برفق ، ثم أدار محرك العربة التي انطلقت تشق طريقها في جو يلفه الصمت وبرود أطفأ لهيب الشوق المستعر بداخلها ، أسئلة كثيرة دارت بخلدها فآثرت أن تتركها بلا إجابات .
جاء صوت أبيها من الخلف قاطعا الصمت ، أراد منه الوقوف عند أول حانوت يصادفه ، فنظر إليه في المرآة التي أمامه وهز رأسه موافقا .
وقفت العربة بجوار الرصيف .. ترجل أبوها قاصدا الحانوت الواقع على الطرف الآخر من الشارع ، فلاحقته بنظراتها وعلى شفتيها ابتسامة إعجاب .
غاب داخل المحل ، فراحت تتأمل الوجوه من حولها ، وجوه كثيرة تمر بجوارها .. رجال .. نساء .. الشارع مكتظ عن آخره ، بعضهم أشار بيده نحوها ، حاولت التعرف عليهم ، فكانت ملامحهم مبهمة .. شبهت على بعضهم .. هذه مصيونة .. هذا الشيخ حسين ، ماذا يفعلون هنا ؟ .. ربما جاءوا للزيارة ايضا .
فجأة علا صفير بوق .. تلته فرملة أثارت الرعب في الشارع .. دوت صرخة اهتزوا على إثرها جميعا .. نظرت إلى حيث يجري الناس ثم صرخت بملء فيها : أبي .
انخرطت على الأرض .. هبت مذعورة تتسارع أنفاسها .. تهذي بذعر : أبي .. أبي ،نظرت حولها فلم تجد سوى الصمت ووقع أقدام أمها التي أقبلت مهرولة على صوت الارتطام .
حاولت رفعها .. اتكأت عليها .. جلست تنظر حولها .. دفنت رأسها في حضن أمها وأجهشت بالبكاء .
الصلاة خير من النوم ، جاء الصوت من بعيد، فأشاع بداخلها طمأنينة طالما سعت لنيلها ولكن بلا جدوى .
- شو مالك يا بنتي ؟ . ، سألت الأم من بين دموعها .
- أبوي .. أبوي يا ما .
- أبوك بخير .
- ياريت . ، ياريت نروح لعنده ونطمئن عليه .
- الصباح رباح يابنيتي .
- قلبي واكلني عليه . . شفته في المنام .. ، ثم أجهشت بالبكاء .
- لا تشغلي بالك ووكلي أمرك لله . . كلها ساعتين ويطلع النهار .
مرت الساعات كأنها دهر ومع كل دقيقة تمر من دون أن يرن فيها جرس الباب يزداد القلق والتوترالذي يعصف بها إلى الحد الذي جعلها تسأل أمها بشيء من الحدة : متأكدة أنه جاي؟ .
- حسب ما قال .
- طب ليش تأخر ؟ .
- الغايب حجته معه .
- الساعة قاربت على العاشرة .
- لعله خير .. خذي كوب الحليب هذا ما دمت لا ترغبين في الطعام .
تناولت الكوب .. رشفت منه رشفتين .. رن جرس الباب فهرعت باتجاهه .. فتحته .. دخل واجما .. نظرت إليه .. انتظرت أن يقول شيئا ، لكنه راح يوزع نظراته بينهما بصمت ، ثم قال بعد فترة من الترقب : البقية في حياتكم .
- أبوي . ، صرخت أحلام .
- لا . ،قال يوسف . ، فانكتمت الصرخة في جوف أحلام وران الصمت .
- حماتك .
راحت تحدق في الأفق .. تلاحق الحلم .. تحاول الإمساك به .. تمتمت من وسط الدموع : كانت هي المقصودة إذن .
- لازم نكون هناك .. واجب نقف مع الناس . ، قال يوسف حاثا إيهما .
- دفنوها ؟ . ، سألت أحلام مستفسرة .
- لا .. بعدها ما وصلت الجثة .
- يلا بينا .
جلبة في الساحة المطلة على البيت ، جموع تتحرك في المكان .. شباب .. شيوخ .. أطفال جاءوا يستطلعون .. عربات كارو جاءت محملة بكافة اللوازم ..كراسي . .شوادر .. حطب .. بكارج قهوة .. صبابات ، أقبل عليها الشباب ، راحوا يفرغون أحمالها .. يوزعون العمل بينهم ، فريق بدأ بإعداد السرادق وفريق أخذ على عاتقه مهمة إعداد القهوة ، فكانوا الأشقى ، إذ تحوط حولهم عدد من المسنين وراحوا يقذفونهم بالأوامر تباعا على اعتبار أنهم أصحاب خبرة يفتقر إليها الشباب ، حتى فاض بأحدهم الكيل وكاد أن يطرد واحدا منهم : يا أخي روح عند جماعتك واتركنا .
- والله ما فيكم غير الحكي والزنطره . ، قال العجوز وانقلب إلى أقرانه .
- ولك شو اللي سويته ؟ . ، سأل يوسف مستهجنا فعلته .
- ما أنت شايف بعينك .. طلعوا دينا ع المقبرة .. احفر منيح .. وسع شوي .. غمق كمان فتر . وجاين هان ليطلعوا رواحنا .
دارت الفناجين على الجالسين تباعا وعاد معها صوت البكاء عاليا من داخل البيت ، صرخت إحداهن : يا حبيبتي يا خالتي . ، فصاح شيخ يجلس بين الرجال : اذكروا الله .
- لا إله إلا الله .
علا هديرعربات آتيه من طرف الشارع .. جالت الأبصار مستكشفة .. همس أحدهم باستهجان : شرطة !.
وقفت العربتان قريبا من السرادق .. ترجل من إحداها ضابط برتبة رائد ومن خلفه المختار وإلى جواره أحمد ، أقبل الحضور يعزونه بوفاة أمه .. تعانق مع والده .. بكى وزاد بكاؤه حين علم بأنه وصل متأخرا ، هم بالعودة من جديد إلى العربة فلمح زوجته مقبلة عليه ، همس في أذن الشرطي الذي يرافقه : زوجتي .
أومأ الأخير برأسه وانسحب إلى الوراء قليلا ، تقدمت نحوه .. رأت الدموع في عينيه .. ارتمت في حضنه .. ضمها إليه وبكى .. بكيا حتى علا نحيبهما ، ثم رفعها برفق وأقبل على ولده يقبله بحرارة وشوق ، نظر إليها معاتبا ثم مضى ، فتحركت العربات مخلفة وراءها عيونا تتابع حتى انزوت في نهاية المنعطف المؤدي إلى الطريق الرئيس .
اصطدم من شدة اندفاعه بالباب ، فأحدث الأخير ضجيجا لفت الأنظار إليه ، توقف في وسط الحوش يلتقط أنفاسه المتلاحقة ، نظر في الوجوه من حوله ، فأدرك بأنه جاء بعد فوات الأوان .. تشنج في مكانه .. ظل يحدق في الوجوه مصعوقا وظلت تبادله الشيء ذاته .
لحظات كأنها خارج الزمن .. تراخت يده عن حقيبته المدرسية .. حاول أن يتكئ على شيء ما .. تشبث بذرات الهواء ، ثم تهاوى صارخا : يا ما .
مادت الأرض ودب الذعر في المكان ..هرعن باتجاهه وسط صيحات الهلع ، كانت الأسبق إليه .. أسندت رأسه على ذراعها .. صاحت بالنسوة : ماء .. أعطوني ماء .
- ليه ما جابوه من المدرسة يودع أمه ؟ . ، قالت واحدة منهن بلوعة وأسى .
- يمكن ما فطنوا لهيك شغلة . ، ردت أخرى مبررة .
اندفع عدد من الرجال على أثر الصراخ , تقدم أحدهم من الفتى ، تحسس وجهه ثم راح يصفعه بلطف ، تململ .. فتح عينيه .. بدا الذهول فيهما .. أسنده برفق .. أراد ان يصحبه خارج البيت فلم تطاوعه قدماه ، عاد ينظر إلى الوجوه من حوله نظرات ملؤها الألم والعتاب وقع بصره عليها ، كانت تحاول حبس دموعها ، ففشلت ، شىء فى نظراته يلومها .. يحملها مسئولية حرمانه من وداع أمه ، فكادت تنهار تحت ذلك الاحساس ، إلا أن قوة ما أجبرتها على التماسك ، ربما رأفة بحاله .
اقتربت منه .. ربتت على كتفه.. حثته على اتباع الرجل .. طاطأ راسه متحاشيا النظر إلى عينيها ، فبدرت عنه همهمات حاول كتمها فانفجرت نحيبا زعزع النفوس من حوله ، ضمته إليها.. علا نحيبها ..امتزجت دموعهما مصحوبة بهمهمات تتعالى على مقربة مهددة بانقلاب الوضع من جديد ، مما حدا بالرجل إلى التدخل واصطحاب الفتى إلى الخارج .
خيم الآسى على الوجوه .. ألقى بظلاله الكالحة عليها ، فبدت حزينه .. واجمة ، تنزلق على مساحاتها عبرات ، تطل حينا وتختفى حينا آخر .
جلسن فى أماكنهن .. كان الصمت سيد الموقف لا ينازعه شيء سوى نظرات تائهة .. شاردة تبحث عن ثغر تنفد من خلاله ، أملا فى كسر الطوق المفروض على المكان
- الرجال لا تبكي .
اخترقت العبارة آذان النساء .. جاءتهن من خارج البيت ، فحركت فى النفوس أشجانا دارت لها العيون .
- ياحسرتى عليك يا ولدى . ، قالت أم أحلام ضاربة كفا بكف .
- الله يكون فى عونه . ، غمغمت أحلام بصوت مخنوق .
الله يرحم أمه إللى ماتت وقلبها عليه . ، قالت الحاجة مصيونه ، ثم تابعت: والله ما شافت يوم تبكي علية .. ياحسرتى عليها .. عاشت تعبانة وماتت تعبانة ، من أيام ملبس وأحنا قاسمين الشقى بينا .. تتذكري يا مريم ؟ . وجهت سؤالها إلى أم أحلام .
- مثل الحلم يا حاجة .. كنت في عمر هذه البنت . ، وأشارت إلى طفلة لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات ، كانت تجوب الساحة محتضنة بعض الخرق تهدهدها حينا وتناغي لها حينا، دون أن تلتفت للعيون التي ترمقها أو ترى البسمة التي لمعت للحظة ثم اختفت .
- كان هذا قبل 36 ولا بعدها ؟ . ، سألت أحلام مستفسرة .-
- مش فاكرة قبل ولا بعد ، لكن اللي فاكرته منيح نزوحنا عن البلد عام 48 وقعودنا في جباليا لحد ما انسحب اليهود منها .
- شفتي شو صار فينا ! ، قالت مصيونة معقبة عليها .
- هو اللي صار بينتسى .
ما إن دخلت الشقة حتى اندفع الطفل نحوها مهللا ، لم تلتفت إليه .. تركته يتجرع الإهانة وانصرفت إلى غرفتها ، ارتمت على السرير جسدا بلا حراك .
تشنج في مكانه مفجوعا . . راح يرميها بنظرات غاضبة .. عاتبة ، ثم انفجر في البكاء ، فهرعت إليه جدته .. ضمته إلى صدرها وأخذت تطيب خاطره ، أرادت أن تخرج به إلى الصالة ، فزاد من صراخه ، عادت به مرة أخرى وجلست على حافة السرير، نزل الصغير وزحف إلى جوار أمه .. ووزع نظراته بين المرأتين محاولا فهم ما يدور من حوله .
- سلامتك من الشر يا ما . ، همست المرأة بشفاه ترتجف .
- الله يسلمك . ، ردت بصوت ضعيف منهك .
- خرجت الصبح في أحسن حال !.
- مش عارفة شو اللي صابني ؟ . ، ثم اختنق صوتها بالبكاء .
- شر ويزول يا حبيبتي . ، وأشاحت تداري دموعها .
- إن شاء الله .
- ياريت تستحمي .. جسمك كله عرق .
- مش قادرة أقف .
- يا رب استر يا رب . تمتمت المرأة بصوت مخنوق .
نظرت إلى نفسها في المرآة، ثم همست قائلة : ياإلهي كم أنا مجرمة ! ، ألا يستحق مني هذا الجسد بعض الاهتمام . ، ثم أمسكت بعلبة مكياجها .. همت بفتحها ، فتذكرت أنها لم تبدل ملابسها ، وضعتها جانبا وبدأت تفك أزرار فستانها واحدا تلو الآخر ، ليسقط كاشفا مفاتن لا يسترها سوى قميص شفاف .
نظرت بذهول إلى جسدها ، ظنته للوهلة الأولى عائد لامرأة غيرها .. تحسسته بانتشاء بدا واضحا على شفتيها المنفرجتين ، اتجهت إلى الدولاب لتختار فستانا آخر ، فوقع بصرها عليه ، كان يتلصص من شق الباب المورب بعض الشيء ، لم تبد اهتماما ، بل تظاهرت بالبحث عن فستان آخر، مانحة إياه فرصة ظن أنه اقتنصها في غفلة منها .
ارتدت الفستان بتمهل غير آبهة بسؤال يدور في رأسها:إلام يطمح ذلك الشقي الصغير؟ .
التقطت حقيبة يدها وخرجت ، فوجدته في انتظارها ، سد طريقها لبعض الوقت ، راح يحدق في تفاصيلها .. يلهب جسدها بنظرات تنفذ إلى أعماقها ، ثم تراجع بصمت مفسحا لها الطريق .
كان ينتظرها عند الباب .. صعدت إلى جواره .. مال بوجهه نحوها .. طبع قبلة على خدها ، ثم أدار المحرك وانطلقت العربة مخلفة ورائها زوبعة من الغبار .
عند مدخل العمارة تأخر عنها لبعض الوقت، حتى لا يلاحظ العاملون دخولهما معا ،جلست خلف مكتبها تقلب الأوراق بكدر وملل ، أرادت طرد إحساس لا يكف عن إزعاجها ، بل كانت تظن وبقوة أنها معراة أمامهم وأن كل نظرة تتفحصها وكل همسة تنالها .
رن جرس الهاتف ، رفعت السماعة ، فكان على الطرف الآخر ، ردت بصوت أرادت إيصاله إلى الجميع : ملف رقم ( 6 ) لم أنجزه بعد .. حاضر .
قلبت الملفات .. التقطت واحدا منها وقصدت مكتبه تتبعها أعين الزملاء ، فصفقت الباب خلفها بغضب أثار استغرابه .
كفى..كفى فأنا لن أحتمل أكثر من ذلك . ، صاحت بانفعال كاد يتردد صداه خارج الغرفة .
أقبل عليها بفزع محاولا تدارك الموقف ، وضع يده برفق على فمها ، فلم تتمالك نفسها وانخرطت في البكاء .. ضمها إلى صدره بحنو وراح يربت على ظهرها حتى هدأت .
- مش قادرة أعيش في الظلام .. لابد من إشهار الزواج .
- المهم ألا تعلم زوجتي بشيء .
- والحل .
- شقة جديدة وبعيدة عن عيون الناس .
- وتجيني يوم في الأسبوع ؟ .
- لازم نصبر .
أطرقت بصمت .. مد يده يتحسس وجهها .. شفتيها ، فارتجفتا متعطشتين ، أحس بما فيهما من ظمئ .. مال نحوهما .. فاستسلمت بسهولة ويسر .. عبثت أصابعه بأزرار القميص ، فالتهب الجسد .. اشتعلت به النيران .. تصاعدت ألسنة اللهب .. طرقات بالباب .. أشباح تدور في كل جانب .. رجال .. نساء ، خالد بين الجموع .. مالذي جاء به إلى هنا .. زوجة المدير الهائجة .. ما الذي أتى بها في هذه اللحظة ؟.. لابد أن أحدا ما قد وشى لها بما يجري في المكان ، لعله خالد .. أرى ذلك في عينيه .
اندفعت نحوها المرأة بحرقة وغيظ .. صفعتها.. صرخت في وجهها على مسمع من الجميع : يا خائنة . ، شدت شعرها بقوة .. جرتها على الأرض .. حاولت التخلص منها لكنها فشلت ، فشلت أمام أيد أخرى تصفعها من كل جانب .
تستغيث .. تصرخ ، فيتردد الصدى من حولها .. تهب مرعوبة من هول الصراخ الذي يحاصرها ،فترى الطفل إلى جوارها يكاد يتشنج من كثرة البكاء وأخوها يحاول جاهدا إيقاظها ، بينما أمها تردد بذعر : رحمتك يارب .
- يا إلهي .. ، رددتها بفزع .
- لاتخافي .. يبدو أنها الحمى . ، قال أخوها محاولا تفسير ما يجرى .
- أي كابوس هذا !.
- ربنا يلطف فينا . ، قالت الأم وهي تداري دمعها .
أسبوع شابه التوتر، جسد يصطلي بالحمى .. شفاه ترتجف .. تهمس بأشياء مبهمة وأيد تبتهل بالدعاء من حولها ، صغار وكبار ، كلهم جاءوا لعيادة أختهم ، حتى الطبيب الذي كان زميل يوسف في السجن، جاء ليبدي مشورته في الحالة التي استعصت على مستوصف الحي ، راح يتأمل نوبات الحمى التي تغزو جسدها .. يتابع تشنجاته ويحث النسوة على تبديل كمادات الماء البارد على فترات متقاربة وينشغل هو في إعداد حقنة سرى مفعولها في الجسد كالسحر بعد فترة وجيزة من وخزها .
أيام توالت على هذا المنوال .. ظلال كئيبة تخيم على الوجوه ونوبات مرعبة تتجدد بين حين وآخر، مستهزئة بكل ما صنع الطبيب ، لدرجة أن فكر بنقلها إلى مستشفى المدينة ، لكنه عدل عن ذلك وقرر أن يضاعف من جهده معها .
في اليوم الرابع ظهرت بوادر تحسن .. نظرت في الوجوه من حولها باستغراب ودهشة ، نادت بصوت خافت على أمها ، فجاءت وجلست بجوارها .. مسدت بلطف شعرها وقالت يغالبها البكاء : الحمد لله على السلامة .
- أيش اللي صار ؟ . ، سألت بشيء من الذهول .
- شر ربنا زاحه . ، قال الطبيب معقبا .
نظرت إليه متفحصة .. لم تشاهده من قبل .. نظرت في الوجوه من حولها عسى أن يسعفها أحد بجواب ، فابتسم في وجهها يوسف وقال معرفا : صديقي من أيام السجن د. يونس .
هزت رأسها وابتسمت قائلة : تشرفنا
يومان أخران ومضى كل إلى سبيلة , لم تعد حاجة لبقائهم معها , ظلت الأم و قد أصبح بقاؤها ضرورة ملحة , خصوصا بعد أن وقعت حماتها طريحة الفراش , و قد كانتا من قبل تتناوبان في المبيت عندها , في حين اكتفى أخوها بالمرور كلما واتته الفرص .وفي بعض الأحيان يصطحب الطبيب معه .
لكن بقاءها طريحة الفراش أسبوع بأكمله، جعلها تشعر بالإختناق و عزز لديها الرغبة في الخروج ، رغم تعليمات الطبيب التي حثتها على عدم التفكير في ذلك قبل مضي أسبوع آخر وزاد من تلك الرغبة، الخبر الذي زفه أخوها عن قبولها للعمل في الشركة، فهرعت إلى دولاب ملابسها .. سألها مستهجنا : لوين ؟
- بدي أشكر المرأة اللي خدمتني .
- الوقت متأخر .
- كيف ؟ ..، قالت مستغربة .
- روحت قبل يومين .
- وكيف ألم بالتفاصيل ؟
- هاك عنوان الشركة وموعد إجراء المقابلة .التقطت الورقة بشغف , تأملتها لبعض الوقت , أطبقت عليها بقوة .. ضمتها إلى صدرها .. ارتمت على السرير .. راحت تحدق في السقف .. ترسم صورا لها في الشركة .. المكتب الذي ستجلس عليه .. العمل الذي ستمارسه ..العاملون هناك .. هل هم مسنون عجزة ؟ كما تشاهدهم في الأفلام .. أم شبان في مثل سنها .. هل بينهم فتيات ؟ أم هي الوحيدة بينهم .. المدير وعلاقته معها .., توقفت عند هذه النقطة .. تبدلت ملامح و جهها .. تذكرت الحلم .. لم ترغب في عودته , لكنه أتى رغما عنها .
أحس بها .. قال ممازحا: نحن هنا .
رنت إليه مبتسمة .. أعادت النظر إلى الورقة .. رفعت رأسها و سألته : ما الداعي لأن تكون المقابلة , بعد أسبوع ؟ .
- حتى يكون استلامك للعمل من بداية الشهر .
- أنا قلقة .
- لا داعي للقلق , ولا نسيتي من الواسطة ؟
- يا إلهي حاسة أنه أطول أسبوع في حياتي .
نظر إليها مستغربا ... أحست بما يراوده .. فلم تعطه فرصة للتعليق ، تمتمت قائلة : اليوم شعرت أني سجينة .
بدا التأثر واضحا عليه , راح ينظر إليها متتبعا خلجات وجهها وهى تحكى عذابات سنين أمضتها بين الجدران وآلام ليال لم تشرق شمسها ، أطبق الصمت على الغرفة، تاه كل في عالمه ، لم تشعر به فى البداية وحين أحست بنظراته أدركت خطأ تداركته على عجل .
- تعال نخرج .. نزور حماتى ؟ .
- مش راح نتمكن اليوم .
- تعال بكرا .
- إن شاء الله .
وقفت مشدوهة فركت عينها ..مرة .. اثنيتن .. ثلاثة ... صاحت بذهول : أبى ! ،ابتسم فى وجهها .. ضمها إليه .. أحست بالأمان.. أغمضت عينيها.. بكت على صدره .. رفعت رأسها ... تراجعت إلي الوراء قليلا . . أخدت تتأمله من رأسه حتى أخمص قدميه .. بدا سليما معافا بل أكثر شبابا مما عهدته , لفت نظرها شكل الحلة التى يرتديها، لم تشاهدها من قبل ، فلم تعهده ارتدى حله فى يوم من الأيام .. ارتمت فى أحضاته مرة أخرى .. رفعها برفق .. مسح دموعها ثم سألها : أين أمك؟ .
كانت قد نسيتها فى ذروة الانفعال.. تذكرتها حين نطق باسمها .. انطلقت تزف البشرى .. وجدتها واقفة أمام المرآة بكامل هندامها .. تضع اللمسات الأخيرة على وجهها ، صاحت بفرح طفولى : أمى .. أمى تعالى انظري أبى .,
التفتت المرأة .. بدت أصغر بعشرين عاما ، جحظت فيها مبهورة بحسنها وجمالها ، فتغاضت المرأة عن نطراتها وردت بشكل آثار بداخلها التساؤلات : هل وصل ؟ .
- إذن هى تعلم بقدومه.. لماذا لم تخبرنى من قبل.. لم أخفت عنى ذلك ؟، أم أرادت مفاجاتى .. ربما ؟
اللتقيا فى الصالة ، لم يبد عليهما أدنى انفعال ، الأمر الذي أثار عجبها وأحال حواسها إلى عيون تتابع ما يدور دون أن تدركه أو تعيه وجعل الأم تنظر إليها مستغربة و كأن لسان حالها يقول : ما الغريب فى الأمر؟ .
إلا أن الأشارة لم تصل بالمعنى الذى أرادت وظلتا تحدقان كل منهما في الأخرى بدهشة وعجب ، مما حدا بالأب الواقف بباب الشقة إلى الرجوع حيث تقف المرأتان وسأل بنبرة لا تخلو من كدر : ألاتنويان المغادرة ؟ .
- بلى ولكن ليس قبل أن تكف بنتك عن هذه النطرات البلهاء وتتبعنا .
أحست بالحرج .. تصنعت الابتسامة وسألت مستفسرة : ألا أعرف إلى أين نحن ذاهبو ن ؟ .
- إلى حماتك فى المستشفى . , قالت ألام بكدر وضيق .
- ولكن أين يوسف ؟ .. لقد تواعدنا على الذهاب معا . ،سألت أحلام بنبرة يعتربها القلق .
- ذهب لقضاء بعض مشاغلة وسأنوب عنه هذه المرة . ، رد الأب مطمئنا .
نزلوا السلم يتقدمهم الأب ، كان يقفز الدرجات كشاب فى العشرين من عمره ، تتبعه الأم بنفس النشاط والحيوية ، بينما هى فى المؤخرة تكاد لاتصدق ماترى .
وصلوا باب العمارة حيث تقف أمامه عربة سوداء ، ترجل منها السائق ، كان يرتدى أيضا حلة سوداء ويغطى رأسه بقبعة من نفس القماش .. فتح الباب الخلفي ، صعد أبوها ثم أمها ، أرادت اللحاق بهم فقفل الباب وانحنى أمامها بلطف طالبا أن تتبعه ، فتح الباب المجاور ، وضعت قدمها داخل العربة .. نظرت إليه وصاحت بانفعال : أحمد! .
ضمته إلى صدرها .. أطبقت عليه بكلتا يديها وانخرطت في البكاء .
ظل صامتا إلى حد البرود ، فتراجعت إلى الوراء قليلا .. جففت دمعها وراحت تنظرفي عينيه .. فكانتا جامدتين لا حياة فيهما ، شعرت بانقباض فسارعت بتجاهله ، لم ترد لشيء أن يعكر عليها فرحة اللقاء به.
- كيف جئت ومتى ؟ . ، سألته مستفسرة .
- جئت لأرى أمي .
أزاح يدها عن كتفه برفق ، ثم أدار محرك العربة التي انطلقت تشق طريقها في جو يلفه الصمت وبرود أطفأ لهيب الشوق المستعر بداخلها ، أسئلة كثيرة دارت بخلدها فآثرت أن تتركها بلا إجابات .
جاء صوت أبيها من الخلف قاطعا الصمت ، أراد منه الوقوف عند أول حانوت يصادفه ، فنظر إليه في المرآة التي أمامه وهز رأسه موافقا .
وقفت العربة بجوار الرصيف .. ترجل أبوها قاصدا الحانوت الواقع على الطرف الآخر من الشارع ، فلاحقته بنظراتها وعلى شفتيها ابتسامة إعجاب .
غاب داخل المحل ، فراحت تتأمل الوجوه من حولها ، وجوه كثيرة تمر بجوارها .. رجال .. نساء .. الشارع مكتظ عن آخره ، بعضهم أشار بيده نحوها ، حاولت التعرف عليهم ، فكانت ملامحهم مبهمة .. شبهت على بعضهم .. هذه مصيونة .. هذا الشيخ حسين ، ماذا يفعلون هنا ؟ .. ربما جاءوا للزيارة ايضا .
فجأة علا صفير بوق .. تلته فرملة أثارت الرعب في الشارع .. دوت صرخة اهتزوا على إثرها جميعا .. نظرت إلى حيث يجري الناس ثم صرخت بملء فيها : أبي .
انخرطت على الأرض .. هبت مذعورة تتسارع أنفاسها .. تهذي بذعر : أبي .. أبي ،نظرت حولها فلم تجد سوى الصمت ووقع أقدام أمها التي أقبلت مهرولة على صوت الارتطام .
حاولت رفعها .. اتكأت عليها .. جلست تنظر حولها .. دفنت رأسها في حضن أمها وأجهشت بالبكاء .
الصلاة خير من النوم ، جاء الصوت من بعيد، فأشاع بداخلها طمأنينة طالما سعت لنيلها ولكن بلا جدوى .
- شو مالك يا بنتي ؟ . ، سألت الأم من بين دموعها .
- أبوي .. أبوي يا ما .
- أبوك بخير .
- ياريت . ، ياريت نروح لعنده ونطمئن عليه .
- الصباح رباح يابنيتي .
- قلبي واكلني عليه . . شفته في المنام .. ، ثم أجهشت بالبكاء .
- لا تشغلي بالك ووكلي أمرك لله . . كلها ساعتين ويطلع النهار .
مرت الساعات كأنها دهر ومع كل دقيقة تمر من دون أن يرن فيها جرس الباب يزداد القلق والتوترالذي يعصف بها إلى الحد الذي جعلها تسأل أمها بشيء من الحدة : متأكدة أنه جاي؟ .
- حسب ما قال .
- طب ليش تأخر ؟ .
- الغايب حجته معه .
- الساعة قاربت على العاشرة .
- لعله خير .. خذي كوب الحليب هذا ما دمت لا ترغبين في الطعام .
تناولت الكوب .. رشفت منه رشفتين .. رن جرس الباب فهرعت باتجاهه .. فتحته .. دخل واجما .. نظرت إليه .. انتظرت أن يقول شيئا ، لكنه راح يوزع نظراته بينهما بصمت ، ثم قال بعد فترة من الترقب : البقية في حياتكم .
- أبوي . ، صرخت أحلام .
- لا . ،قال يوسف . ، فانكتمت الصرخة في جوف أحلام وران الصمت .
- حماتك .
راحت تحدق في الأفق .. تلاحق الحلم .. تحاول الإمساك به .. تمتمت من وسط الدموع : كانت هي المقصودة إذن .
- لازم نكون هناك .. واجب نقف مع الناس . ، قال يوسف حاثا إيهما .
- دفنوها ؟ . ، سألت أحلام مستفسرة .
- لا .. بعدها ما وصلت الجثة .
- يلا بينا .
جلبة في الساحة المطلة على البيت ، جموع تتحرك في المكان .. شباب .. شيوخ .. أطفال جاءوا يستطلعون .. عربات كارو جاءت محملة بكافة اللوازم ..كراسي . .شوادر .. حطب .. بكارج قهوة .. صبابات ، أقبل عليها الشباب ، راحوا يفرغون أحمالها .. يوزعون العمل بينهم ، فريق بدأ بإعداد السرادق وفريق أخذ على عاتقه مهمة إعداد القهوة ، فكانوا الأشقى ، إذ تحوط حولهم عدد من المسنين وراحوا يقذفونهم بالأوامر تباعا على اعتبار أنهم أصحاب خبرة يفتقر إليها الشباب ، حتى فاض بأحدهم الكيل وكاد أن يطرد واحدا منهم : يا أخي روح عند جماعتك واتركنا .
- والله ما فيكم غير الحكي والزنطره . ، قال العجوز وانقلب إلى أقرانه .
- ولك شو اللي سويته ؟ . ، سأل يوسف مستهجنا فعلته .
- ما أنت شايف بعينك .. طلعوا دينا ع المقبرة .. احفر منيح .. وسع شوي .. غمق كمان فتر . وجاين هان ليطلعوا رواحنا .
دارت الفناجين على الجالسين تباعا وعاد معها صوت البكاء عاليا من داخل البيت ، صرخت إحداهن : يا حبيبتي يا خالتي . ، فصاح شيخ يجلس بين الرجال : اذكروا الله .
- لا إله إلا الله .
علا هديرعربات آتيه من طرف الشارع .. جالت الأبصار مستكشفة .. همس أحدهم باستهجان : شرطة !.
وقفت العربتان قريبا من السرادق .. ترجل من إحداها ضابط برتبة رائد ومن خلفه المختار وإلى جواره أحمد ، أقبل الحضور يعزونه بوفاة أمه .. تعانق مع والده .. بكى وزاد بكاؤه حين علم بأنه وصل متأخرا ، هم بالعودة من جديد إلى العربة فلمح زوجته مقبلة عليه ، همس في أذن الشرطي الذي يرافقه : زوجتي .
أومأ الأخير برأسه وانسحب إلى الوراء قليلا ، تقدمت نحوه .. رأت الدموع في عينيه .. ارتمت في حضنه .. ضمها إليه وبكى .. بكيا حتى علا نحيبهما ، ثم رفعها برفق وأقبل على ولده يقبله بحرارة وشوق ، نظر إليها معاتبا ثم مضى ، فتحركت العربات مخلفة وراءها عيونا تتابع حتى انزوت في نهاية المنعطف المؤدي إلى الطريق الرئيس .
اصطدم من شدة اندفاعه بالباب ، فأحدث الأخير ضجيجا لفت الأنظار إليه ، توقف في وسط الحوش يلتقط أنفاسه المتلاحقة ، نظر في الوجوه من حوله ، فأدرك بأنه جاء بعد فوات الأوان .. تشنج في مكانه .. ظل يحدق في الوجوه مصعوقا وظلت تبادله الشيء ذاته .
لحظات كأنها خارج الزمن .. تراخت يده عن حقيبته المدرسية .. حاول أن يتكئ على شيء ما .. تشبث بذرات الهواء ، ثم تهاوى صارخا : يا ما .
مادت الأرض ودب الذعر في المكان ..هرعن باتجاهه وسط صيحات الهلع ، كانت الأسبق إليه .. أسندت رأسه على ذراعها .. صاحت بالنسوة : ماء .. أعطوني ماء .
- ليه ما جابوه من المدرسة يودع أمه ؟ . ، قالت واحدة منهن بلوعة وأسى .
- يمكن ما فطنوا لهيك شغلة . ، ردت أخرى مبررة .
اندفع عدد من الرجال على أثر الصراخ , تقدم أحدهم من الفتى ، تحسس وجهه ثم راح يصفعه بلطف ، تململ .. فتح عينيه .. بدا الذهول فيهما .. أسنده برفق .. أراد ان يصحبه خارج البيت فلم تطاوعه قدماه ، عاد ينظر إلى الوجوه من حوله نظرات ملؤها الألم والعتاب وقع بصره عليها ، كانت تحاول حبس دموعها ، ففشلت ، شىء فى نظراته يلومها .. يحملها مسئولية حرمانه من وداع أمه ، فكادت تنهار تحت ذلك الاحساس ، إلا أن قوة ما أجبرتها على التماسك ، ربما رأفة بحاله .
اقتربت منه .. ربتت على كتفه.. حثته على اتباع الرجل .. طاطأ راسه متحاشيا النظر إلى عينيها ، فبدرت عنه همهمات حاول كتمها فانفجرت نحيبا زعزع النفوس من حوله ، ضمته إليها.. علا نحيبها ..امتزجت دموعهما مصحوبة بهمهمات تتعالى على مقربة مهددة بانقلاب الوضع من جديد ، مما حدا بالرجل إلى التدخل واصطحاب الفتى إلى الخارج .
خيم الآسى على الوجوه .. ألقى بظلاله الكالحة عليها ، فبدت حزينه .. واجمة ، تنزلق على مساحاتها عبرات ، تطل حينا وتختفى حينا آخر .
جلسن فى أماكنهن .. كان الصمت سيد الموقف لا ينازعه شيء سوى نظرات تائهة .. شاردة تبحث عن ثغر تنفد من خلاله ، أملا فى كسر الطوق المفروض على المكان
- الرجال لا تبكي .
اخترقت العبارة آذان النساء .. جاءتهن من خارج البيت ، فحركت فى النفوس أشجانا دارت لها العيون .
- ياحسرتى عليك يا ولدى . ، قالت أم أحلام ضاربة كفا بكف .
- الله يكون فى عونه . ، غمغمت أحلام بصوت مخنوق .
الله يرحم أمه إللى ماتت وقلبها عليه . ، قالت الحاجة مصيونه ، ثم تابعت: والله ما شافت يوم تبكي علية .. ياحسرتى عليها .. عاشت تعبانة وماتت تعبانة ، من أيام ملبس وأحنا قاسمين الشقى بينا .. تتذكري يا مريم ؟ . وجهت سؤالها إلى أم أحلام .
- مثل الحلم يا حاجة .. كنت في عمر هذه البنت . ، وأشارت إلى طفلة لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات ، كانت تجوب الساحة محتضنة بعض الخرق تهدهدها حينا وتناغي لها حينا، دون أن تلتفت للعيون التي ترمقها أو ترى البسمة التي لمعت للحظة ثم اختفت .
- كان هذا قبل 36 ولا بعدها ؟ . ، سألت أحلام مستفسرة .-
- مش فاكرة قبل ولا بعد ، لكن اللي فاكرته منيح نزوحنا عن البلد عام 48 وقعودنا في جباليا لحد ما انسحب اليهود منها .
- شفتي شو صار فينا ! ، قالت مصيونة معقبة عليها .
- هو اللي صار بينتسى .