
وأنا عـربي ُ أيضا
د. نعيم عودة
أنت ِ تعلمين أنني أعمل في التجارة ، ولا بدّ لي من السفر والترحال، صحيح أنني ذرّفت على الخامسة والستين ، وأن من هم في عمري قد غادر بعضهم ميمماً شطر الآخرة ، ومن بقي منهم حمل عصاً يتوكأ عليها ، أما أنا فترين يا رفيقة الدرب ، كما كنتُ قبلاً ، منتصب القامة أمشي، انظريني أذرع الغرفة ذهاباً وإياباً ، وأتمشى على الكورنيش غير آبـه بالمسافات الطوال ، ثم أعود إليك وقد غابت طيور الهموم وانطلقت في البعيد إلى غير رجعة..
لا بدّ لي من الترحال من أجل قوت العيال، وأنت ِ العزيزة التي تعشعش في خاطري أينما كنت وحيثما حللت ُ ، فلا تخشي أمراً مما يدور في صدرك.. انظري إلى هؤلاء الشباب يحيطون بك كأشجار الصنوبر ، ويحوطونك بالرعاية ، أنظر إليهم وكأنني أرى الأمس البعيد يجول أمام ناظري الساعة .. أتذكرين ؟
كنا شباباً ، وعندما قال والدك: سأفكر في الأمر . جـن ّ جنوني.. ظننته سيقول يوما: لا. عندما كنتُ أتذكر همهمتـه تلك، كانت الدنيا تدور بـي ، ولا أملك إلا أن أجلس إلى أمي وأتنهـد ، فتنظر إلى وجهي وقد علته الهمـوم , وتلـوّن بصفرة الجودي ّ ، فتضع يدها على رأسي ، تملس شعري وتتـمتم ، أشعر براحة غريبة لا تكاد تفارقني حتى الساعة.. كان صوت أمي دافئاً ، كان نسمة صيفية تمرّ عبر ليلة باردة.
لن يطول غيابي، أسبوع أو أسبوعان, وأعود ،،،،،،،،،،،،،
قلبها يحدثها أنّ مرور الغراب فوق سماء دارها كل صباح ، هو نذير شؤم، وأن لون الشمس في هذه الأيام من السنة يميل إلى الاغبرار ، وأن الامسيات تكون كالحة السواد ، عندما تسمع جارتها تحدث زوجها بصوت عال،، كانت تشعر بوجيب قلبها وتقطع أنفاسها دون جهد، مشغول بالها ، كثيرة تنهداتها ، وعندما تزوغ عيناها في اتجاه المجهول، تظن ّ أنها تبحث عن مفقود، وليس هناك من شئ تفقده .. تحولق وتتعوذ ثم تعود إلى ذاتها في صمت.
وصل إلى القارة الأخرى رجل أعمال جاوز الستين، فيه بقية من شباب دالت هامته ُ ، كانت عيناه تبرقان كلما رأى أنثى عليها صبغة من جمال، يحب أن يسير مشياً على الأقدام، المدينة مردحمة ، السير هنا صعب ُ ، المارة كثيرون والسيارات تنفث دخانها في فضاء الشوارع ، يحس بالاختناق ، من الصواب أن ينتقل إلى القرى،،،، القرى أطيب ريحاً ، وآنـق مظهرا، وأليـن عريكـة من المدينة ، وأهلها الطيبون، نعم .. طيبون.. وما إن كان المساء حتى حلّ ضيفا على فندق صغير ، نزل إلى مطعم الفندق وراح يتناول عشاءه في هدوء ، طلب فنجاناً من القهوة ، كان يرتشفه وعيناه تجولان في هدوء ، تمسحان فضاء المكان ، الوجوه هنا أكثر صفاءً ، العيون أكثر ملاحة ، والابتسامات الندية تطغى على الملامح ، وأحاديث الصبايا اللواتي يعبرن الشارع ، تلك تضحك فتتمايل أخرى على صوت موسيقاها، وتذكر كيف تتجمع طيور المساء على الشجرة الكبيرة في صحن داره ، وتبدأ نشيد المساء وهي تودع يوماً لتستقبل عند الفجر يوماً آخر،، العمر ُ صباح ومساء،، وأهزوجة طير نملأ بها صحائفنا..
أكثر من عشر مرات في نصف ساعة ، حاولت أن تذكره بها، وأنها في انتظاره ، وكان المحمول مغلقاً ، وأجراس الكنيسة لا تقرع إلا يوم الأحد، وأغاريد الصباح لا تنطلق إلا عندما يتسرب شعاع النور من خلال الفضاء ليعبر الزمان والمكان ، كم هي طويلة رحلة الشمس حتى تصل إلينا! ومع أن النجوم تموت في الفضاء السحيق، إلا أن نورها يظل في أعيننا سنيناً طوالا.. حدثتها نفسها : هذه عادة النجوم، وهو نجمي الذي لن يغيب.
ذات مساء، وبينما كانت بعض الصبايا يتراشقن الحديث عائدات إلى كُنُســهنّ ، تضاحكن ، وتمايلن ، كان قابعاً في صالة الفندق الصغير ، يرقب الطريق... خفق وجدانه والتمعت عيناه، ووجد نفسه ينسل ّ من الصالة الصغيرة يمشي خلف سرب القطا، وراحت الصبايا يفترقن واحدة فواحدة ، وعند أحد الأبواب تسمّـر ، لحظة ، نظر حواليه ثم استدار وعاد إلى الفندق. كان قد أنس إلى أحدهم في الشارع ، ذهب إليه وسامره وقتاً كان عليه ثقيلا، ثم تنحنح مرات قبل أن يقول : أريدك في خدمة ولك الحلوان..
ما هي إلا ساعة ، حتى كان الرجلان في ضيافة ذلك البيت ، تنفس والد الفتاة بعمق ِ ، وتنهد أكثر من مرة ،، تراءت له ابنته الجميلة في صباها الغض، ودلالها عليه وعلى أمها، تطلع إلى المستقبل الذي رسمه لها.. لاحت له خطوط متقاطعة تنتشر في خياله ولا تصل إلى نهاية.. أيكون نصيبها ....؟
وبينما كان الضيفان يتحادثان ، سرح بخواطره ،،وفجأة سأل ضيفه: من أي البلاد أنت؟ وجاءه الجواب سريعاً : وأنا عـربي أيضا. تململ في جلسته ثم قام إلى الغرفة المجاورة ، ثم عاد ، لم يجلس بل ذهب إلى الغرفة المجاورة مرة أخرى،، وسُمع حسيس صوت نسائي يهمس في وجل : وماله ؟؟؟؟؟؟
ارتفعت الطائرة في الأجواء، وانتقلت من إفريقيا إلى آسيا ، وعبرت البحر الذي انكشفت أرضه تحت أقدام موسـى , وكان فيها رجل يحمل بين جنبيه زهوراً يحبها ، بينما يحمل في يمينه عصا تشبه عصا موسى لكنها قدّت من عوسجة.
د. نعيم عودة
أنت ِ تعلمين أنني أعمل في التجارة ، ولا بدّ لي من السفر والترحال، صحيح أنني ذرّفت على الخامسة والستين ، وأن من هم في عمري قد غادر بعضهم ميمماً شطر الآخرة ، ومن بقي منهم حمل عصاً يتوكأ عليها ، أما أنا فترين يا رفيقة الدرب ، كما كنتُ قبلاً ، منتصب القامة أمشي، انظريني أذرع الغرفة ذهاباً وإياباً ، وأتمشى على الكورنيش غير آبـه بالمسافات الطوال ، ثم أعود إليك وقد غابت طيور الهموم وانطلقت في البعيد إلى غير رجعة..
لا بدّ لي من الترحال من أجل قوت العيال، وأنت ِ العزيزة التي تعشعش في خاطري أينما كنت وحيثما حللت ُ ، فلا تخشي أمراً مما يدور في صدرك.. انظري إلى هؤلاء الشباب يحيطون بك كأشجار الصنوبر ، ويحوطونك بالرعاية ، أنظر إليهم وكأنني أرى الأمس البعيد يجول أمام ناظري الساعة .. أتذكرين ؟
كنا شباباً ، وعندما قال والدك: سأفكر في الأمر . جـن ّ جنوني.. ظننته سيقول يوما: لا. عندما كنتُ أتذكر همهمتـه تلك، كانت الدنيا تدور بـي ، ولا أملك إلا أن أجلس إلى أمي وأتنهـد ، فتنظر إلى وجهي وقد علته الهمـوم , وتلـوّن بصفرة الجودي ّ ، فتضع يدها على رأسي ، تملس شعري وتتـمتم ، أشعر براحة غريبة لا تكاد تفارقني حتى الساعة.. كان صوت أمي دافئاً ، كان نسمة صيفية تمرّ عبر ليلة باردة.
لن يطول غيابي، أسبوع أو أسبوعان, وأعود ،،،،،،،،،،،،،
قلبها يحدثها أنّ مرور الغراب فوق سماء دارها كل صباح ، هو نذير شؤم، وأن لون الشمس في هذه الأيام من السنة يميل إلى الاغبرار ، وأن الامسيات تكون كالحة السواد ، عندما تسمع جارتها تحدث زوجها بصوت عال،، كانت تشعر بوجيب قلبها وتقطع أنفاسها دون جهد، مشغول بالها ، كثيرة تنهداتها ، وعندما تزوغ عيناها في اتجاه المجهول، تظن ّ أنها تبحث عن مفقود، وليس هناك من شئ تفقده .. تحولق وتتعوذ ثم تعود إلى ذاتها في صمت.
وصل إلى القارة الأخرى رجل أعمال جاوز الستين، فيه بقية من شباب دالت هامته ُ ، كانت عيناه تبرقان كلما رأى أنثى عليها صبغة من جمال، يحب أن يسير مشياً على الأقدام، المدينة مردحمة ، السير هنا صعب ُ ، المارة كثيرون والسيارات تنفث دخانها في فضاء الشوارع ، يحس بالاختناق ، من الصواب أن ينتقل إلى القرى،،،، القرى أطيب ريحاً ، وآنـق مظهرا، وأليـن عريكـة من المدينة ، وأهلها الطيبون، نعم .. طيبون.. وما إن كان المساء حتى حلّ ضيفا على فندق صغير ، نزل إلى مطعم الفندق وراح يتناول عشاءه في هدوء ، طلب فنجاناً من القهوة ، كان يرتشفه وعيناه تجولان في هدوء ، تمسحان فضاء المكان ، الوجوه هنا أكثر صفاءً ، العيون أكثر ملاحة ، والابتسامات الندية تطغى على الملامح ، وأحاديث الصبايا اللواتي يعبرن الشارع ، تلك تضحك فتتمايل أخرى على صوت موسيقاها، وتذكر كيف تتجمع طيور المساء على الشجرة الكبيرة في صحن داره ، وتبدأ نشيد المساء وهي تودع يوماً لتستقبل عند الفجر يوماً آخر،، العمر ُ صباح ومساء،، وأهزوجة طير نملأ بها صحائفنا..
أكثر من عشر مرات في نصف ساعة ، حاولت أن تذكره بها، وأنها في انتظاره ، وكان المحمول مغلقاً ، وأجراس الكنيسة لا تقرع إلا يوم الأحد، وأغاريد الصباح لا تنطلق إلا عندما يتسرب شعاع النور من خلال الفضاء ليعبر الزمان والمكان ، كم هي طويلة رحلة الشمس حتى تصل إلينا! ومع أن النجوم تموت في الفضاء السحيق، إلا أن نورها يظل في أعيننا سنيناً طوالا.. حدثتها نفسها : هذه عادة النجوم، وهو نجمي الذي لن يغيب.
ذات مساء، وبينما كانت بعض الصبايا يتراشقن الحديث عائدات إلى كُنُســهنّ ، تضاحكن ، وتمايلن ، كان قابعاً في صالة الفندق الصغير ، يرقب الطريق... خفق وجدانه والتمعت عيناه، ووجد نفسه ينسل ّ من الصالة الصغيرة يمشي خلف سرب القطا، وراحت الصبايا يفترقن واحدة فواحدة ، وعند أحد الأبواب تسمّـر ، لحظة ، نظر حواليه ثم استدار وعاد إلى الفندق. كان قد أنس إلى أحدهم في الشارع ، ذهب إليه وسامره وقتاً كان عليه ثقيلا، ثم تنحنح مرات قبل أن يقول : أريدك في خدمة ولك الحلوان..
ما هي إلا ساعة ، حتى كان الرجلان في ضيافة ذلك البيت ، تنفس والد الفتاة بعمق ِ ، وتنهد أكثر من مرة ،، تراءت له ابنته الجميلة في صباها الغض، ودلالها عليه وعلى أمها، تطلع إلى المستقبل الذي رسمه لها.. لاحت له خطوط متقاطعة تنتشر في خياله ولا تصل إلى نهاية.. أيكون نصيبها ....؟
وبينما كان الضيفان يتحادثان ، سرح بخواطره ،،وفجأة سأل ضيفه: من أي البلاد أنت؟ وجاءه الجواب سريعاً : وأنا عـربي أيضا. تململ في جلسته ثم قام إلى الغرفة المجاورة ، ثم عاد ، لم يجلس بل ذهب إلى الغرفة المجاورة مرة أخرى،، وسُمع حسيس صوت نسائي يهمس في وجل : وماله ؟؟؟؟؟؟
ارتفعت الطائرة في الأجواء، وانتقلت من إفريقيا إلى آسيا ، وعبرت البحر الذي انكشفت أرضه تحت أقدام موسـى , وكان فيها رجل يحمل بين جنبيه زهوراً يحبها ، بينما يحمل في يمينه عصا تشبه عصا موسى لكنها قدّت من عوسجة.