الأخبار
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي الفلسطينية(أكسيوس) يكشف تفاصيل محادثات قطرية أميركية إسرائيلية في البيت الأبيض بشأن غزةجامعة النجاح تبدأ استقبال طلبات الالتحاق لطلبة الثانوية العامة ابتداءً من الخميسالحوثيون: استهدفنا سفينة متجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وغرقت بشكل كاملمقررة أممية تطالب ثلاث دول أوروبية بتفسير توفيرها مجالاً جوياً آمناً لنتنياهوالنونو: نبدي مرونة عالية في مفاوضات الدوحة والحديث الآن يدور حول قضيتين أساسيتينالقسام: حاولنا أسر جندي إسرائيلي شرق خانيونسنتنياهو يتحدث عن اتفاق غزة المرتقب وآلية توزيع المساعدات"المالية": ننتظر تحويل عائدات الضرائب خلال هذا الموعد لصرف دفعة من الراتبغزة: 105 شهداء و530 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعةجيش الاحتلال: نفذنا عمليات برية بعدة مناطق في جنوب لبنانصناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمعالحرب المفتوحة أحدث إستراتيجياً إسرائيلية(حماس): المقاومة هي من ستفرض الشروطلبيد: نتنياهو يعرقل التوصل لاتفاق بغزة ولا فائدة من استمرار الحرب
2025/7/10
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أمل بالصحراء بقلم عماد عبد الغني

تاريخ النشر : 2010-05-18
أمل بالصحراء بقلم عماد عبد الغني
أمل في الصحراء


ما أجمل الصحراء و ما أعمقها !, ما أقربها و ما أبعدها!, غامضة و غريبة, واضحة و معروفة, الصحراء, من منا لا يعرف الصحراء؟, و لكننا نعرفها على أنها مكان مخيف, مكان جاف, مكان ميت, يخلو من الحياة إلا من بعض الأفاعي و الحشرات الزاحفة و الطيور الجارحة, معظمنا يظن أنها مكان جيد للموت, كثير منا يظن أنها معزولة عنا.

قصة محمد تثبت لنا عكس ذلك, قصة محمد تثبت لنا بأن الصحراء مكان مليء بالحياة, مكان مليء بالدروس و المواعظ, قصة محمد تبين لنا أن كل واحد منا في داخله صحراء كبيرة لا حدود لها, الصحراء مخلوق مثلنا, ذو جسد و روح.

في أحد أحياء مدينة القدس يعمل محمداً في مخزن للحبوب عند أحد التجار, كان محمد شابا ينحدر من أصول مصرية, فقد أتى جد أبيه مهاجرا من مصر و بالتحديد من القاهرة إلى مدينة القدس, حيث استقر هناك, و استمرت الأجيال من بعده في سكنى مدينة القدس, كان محمد ابن السادسة عشر, أمينا, ذو أخلاق عالية, و كان مجتهدا في عمله, و هذا ما جعل التاجر يتمسك به, حتى أنه وعده بزيادة أجرته كل سنة ضعف ما يأخذ.

في يوم من الأيام و بينما محمد يعمل في نقل أكياس الحبوب, سمع صوت يناديه, و إذا به التاجر

التاجر: يا محمد, يا محمد.

محمد: هاأنذا يا سيدي.

التاجر: تعال هنا يا بني.

ذهب إليه محمد على عجل

محمد: ماذا هناك يا سيدي؟

التاجر: أريدك بأمر سيسرك كثيرا يا بني.

يبتسم محمد: ما هو يا سيدي ؟

التاجر: سأجعلك تسافر في القافلة الذاهبة إلى المغرب العربي.

محمد: ماذا !, هل أنت جاد يا سيدي ؟

التاجر: نعم أنا جاد يا محمد, فأنت شاب ذو خلق و عهدت عنك الأمانة و الإخلاص في العمل, و ما هذه إلا البداية, و عندما تتعلم التجارة جيدا, سأجعلك تنوب عني في تلك الرحلات.

محمد: سأذهب لأخبر أبي و أمي.

التاجر: لا تنسى بأنك ستسافر في القافلة بعد غد.

محمد: حسنا يا سيدي.

يذهب محمد لإخبار أمه و أبيه و قلبه يملؤه الفرح, يصل محمد البيت

محمد: السلام عليكم يا أمي.

الأم : و عليكم السلام, أهلا بابني العزيز.

محمد: أين أبي يا أمي ؟

الأم: ما زال في المحل يا بني.
محمد: آه من أبي, ألم يئن له أن يرتاح من ذلك العمل الشاق, فطوال اليوم يقف في محل ذلك التاجر اللئيم, و يا ليته ينصفه.

الأم: و ماذا بإمكانه أن يفعل, أنت تعرف أننا بحاجة إلى المال, فأجرك الذي تتقاضاه لا يكفينا يا بني, و أنت تعلم أن إخوتك ما زالوا صغارا.

محمد: كان الله في عونه يا أمي.

الأم: آمين

محمد: آه, نسيت أن أخبرك خبرا هاماً يا أمي, لقد طلب مني التاجر الذي اعمل عنده أن ارحل بعد غد مع القافلة الذاهبة إلى المغرب العربي.

الأم: ماذا تقول!, لن اسمح لك بالذهاب أبدا, هل جننت!

محمد: لماذا يا أمي؟, ظننتك ستفرحين لهذا الخبر.

الأم: أفرح, أأفرح لغياب ابني عني عدة شهور و ربما سنة كاملة, أأفرح لأنك ستترك أباك وحده يعاني مرارة الحياة, لا يا بني, لا.

محمد: و لكني يا أمي سأصبح تاجرا و هذا ما وعدني ه سيدي.

الأم: أنا قلت لا, و يبقى القرار الأخير لوالدك, أن سمح لك بالذهاب فلا حول و لا قوة إلا بالله, و إن لم يسمح لك بذلك فهو قراره, و لكني لست راضية عن هذا القرار.

يخرج محمد من البيت عائداً إلى عمله, حزينا, مكتئبا, يراه التاجر و يعرف أن عائلته لم تسمح له بالذهاب, ينادي عليه التاجر

التاجر: لم يسمح لك والديك بالرحيل مع القافلة, أليس كذلك ؟

محمد: نعم يا سيدي, قالت لي أمي بأنها لن تسمح لي بأن اترك أبي وحيدا.

التاجر: فهمت الآن, اسمع, اذهب الآن إلى البيت و اخبر أبوك باني سآتي لزيارته عند المساء.

يذهب التاجر لمقابلة والد محمد في المساء, يقابله و يخبره بأنه سيدفع له أجر محمد مضاعفا إن سمح له بالذهاب مع القافلة, يقبل والد محمد تحت وقع أمرين, أولهما زيارة التاجر له, و الثاني النقود التي سيحصل عليها, الأمر الذي سيساعده في تحسين مستواه المعيشي.

تنطلق القافلة من مدينة القدس فجرا و تتوجه نحو مدينة غزة و من ثم إلى مصر و من ثم إلى المغرب العربي, كان محمد سعيدا جدا في رحلته هذه, فهناك البلدان و المدن التي يراها للمرة الأولى في حياته.

كان من المفترض أن تسير على الخط الساحلي وصولا للمغرب العربي, و لكن رئيس القافلة, و كان رجلا يدعى عبد الرحمن قرر أن يسير بالقافلة اتجاها إلى القاهرة و من ثم إلى الفيوم ليعبر الصحراء الغربية, و عند احتجاج البعض ممن كانوا في القافلة, قال لهم بأنهم يجب أن يغيروا طريق القافلة خوفا من اللصوص و قطاع الطرق, اصطحب عبد الرحمن معه رجلا من أهل البادية ليكون له دليلا في عبور تلك الصحراء الشاسعة, و فعلا غير عبد الرحمن اتجاه القافلة و عبر إلى الصحراء الغربية, في منتصف الصحراء, و في احد الأيام عند المساء قرر عبد الرحمن أن يجعل محمدا يحرس القافلة للصباح, ذهب الجميع للنوم, بينما بقي محمد مستيقظا لحراسة القافلة, و قبل بزوغ الفجر بساعة واحدة ذهب إليه عبد الرحمن و طلب منه أن ينام , ذهب محمد للنوم, و كان محمد بأشد الحاجة للنوم, حتى شعر بأن أياما لن تكفيه نوما, استيقظ محمد على شمس الضحى, و كانت ملتهبة, تحرق جسده, نهض محمد و التفت من حوله و لكنه لم يجد أحدا, كان الكل قد غادر و تركوه وحيدا وسط ارض لا يعرف عنها شيئا, و يا ليتها أي ارض, إنها الصحراء, بدأ محمد يجري و يجري, أملا باللحاق بالقافلة, و لكن كل تعبه ذهب هباءً.

أيقن محمد بأنه سيموت في تلك الصحراء, جلس في ظل الكثبان الرملية مفكرا بأمه التي لم ترد له أن يذهب و كأنها كانت تعرف بأن مكروها سيحدث لابنها, و بأبيه المسكين الذي يعمل طوال النهار, و بإخوته, و بأصدقائه, و بقدسه التي لم تفارقه لحظة واحدة, استلقى محمد يئساً, لا يعلم ماذا يفعل, هل يستسلم للموت بكل سهولة, أم يحاول العودة من حيث أتى, و بينما هو في غمرة تفكيره و إذا به يرى طائرا يحلق في السماء, يتساءل محمد " لو لم يكن هذا الطائر قادرا على عبور الصحراء و العيش بها لما حلق فوقها, إذا هو يأكل و يشرب, و لا بد من طريق للحاق بهذا الطائر, للوصول على الأقل إلى مصدر المياه الذي يشرب منه.", بدأ محمد يلحق بالطائر, و لكنه اكتشف أن ما كان يفعله هو غباء لا أكثر, فهذا طائر يجوب الصحراء كلها, و ليس بالإمكان تتبعه, عطش محمد كثيرا, و بدا له لولهة انه سيموت من العطش, و كان يرى السراب من بعيد, يهرع إليه معتقدا أنه ماء, و لكنه كان يكتشف بأنه سراب لا أكثر, نام ليلته محمد خائفا من أن يكون طعاما لوحوش ليل الصحراء, و كان يغمض عينيه قليلا ثم يفتحها ليتأكد بأنه لا يوجد هناك وحوش, استيقظ محمد فجرا ليرى غمامة من الضباب تحيط بالمكان, فلم يكد يرى قدميه من كثافة الضباب, و شعر بأن هذه الغمامة تمطر ماءً, عندها علم بأن هذا هو الندى, خلع محمد حذائه و وضعه على الأرض, و بعد ساعة واحدة انقشع الغمام و كان الحذاء فيه ما يسد به محمد رمقه من الماء, و عندها علم محمد أن بإمكانه أن يجمع ماء الندى.

بدأ محمد بأكل الحشرات و ما تطاله يده من حيوانات صغيرة, حتى يبقي نفسه على قيد الحياة, تعلم محمد منذ اليوم الأول أن يمشي و يصطاد في الصحراء ليلا, و أن يوفر طاقته في النهار, و هكذا كان يهتدي بمؤشرين مهمين, أولهما النجوم, فقد سمع من عدة تجار كيفية الاهتداء بالنجوم في الصحراء, و ثانيهما شروق الشمس و غروبها, و كان في كل ليلة عند الفجر يستريح و يخلع حذائه و يضع ما تطاله يده و يصلح لجمع الماء مثل جماجم حيوانات نافقة, و هكذا كان يحصل على القليل من الماء.


تعلم محمد في العشرين يوما أن يكون ابنا للصحراء لا أن يكون ندا لها, تعلم أن تكون له دليلا و مرشدا, لا أن يتيه بين كثبانها الرملية, بعد عشرين يوما تعلم محمد كيف يصطاد و كيف يعيش وسط الصحراء, بعد عشرين يوما تعلم محمد أن يتبع قلبه.

في اليوم الخامس و العشرين من السير التقى محمد برعاة بدو يرعون في أطراف الصحراء, أرشده الرعاة إلى أقرب بلدة عليهم, ذهب محمد إليها و منها انطلق إلى القاهرة, و كان لا بد من أن يجمع محمد بعض النقود لكي يعود إلى القدس, و بدأ بالبحث عن عمل, حتى وجد عملا لدى حداد.

قص محمد قصته للحداد, أدهشت القصة الحداد, و قرر مساعدته, فقال له

الحداد: اسمع يا بني, إن قصتك حزينة و مؤثرة جدا, و لا شك بأن هناك مؤامرة حيكت ضدك, و المهم أن تخرج سالما من هذه المؤامرة بأقل الخسائر الممكنة و أن تكون قد تعلمت ما لا يمكن أن تتعلم بغيرها.

محمد: لقد تعلمت الكثير خلال هذه المحنة يا سيدي, تعلمت الثقة بالنفس, تعلمت أن نسخر الأشياء لمصلحتنا, تعلمت أن الصحراء مدرسة كبرى لا تنتهي دروسها, تعلمت أن الصحراء أم تعيش في داخلنا إن نحن عايشناها و فهمناها, تعلمت أنه إن صدقت النية مع بارئك فعندها سيسخر كل الأشياء لخدمتك و نجاتك.

الحداد: أنت الآن معلم و لست تلميذ, اسمع يا بني, أريد أن أعلمك الحدادة, و سترجع إلى بلدك متقنا لفن الحدادة.

محمد: هذا معروف لن أنساه لك ما حييت يا سيدي.

يبقى محمد يعمل لدى الحداد لمدة ثلاثة أشهر متتالية حتى يتقن فن الحدادة, و عنها يقرر أن يعود إلى بلده القدس.

محمد: لا اعرف كيف سأشكرك يا سيدي, و لكن كل ما استطيع قوله لك, بأني لن أنسى معروفي لك هذا ما حييت.
الحداد: لا تقل هذا يا محمد, فلقد فتح الله عليّ مذ عرفتك, و انظر للمحل كيف أصبح, فلقد تحسن العمل فيه كثيرا, هذا الحصان هو هدية مني لك.
محمد: و لكن هذا كثير يا سيدي.

الحداد: كلا يا محمد, ليس كثيرا على شاب شجاع مثلك.

يمتطي محمد الحصان و يمضي عائدا إلى القدس.

عند حلول المساء و كان محمد في منتصف الطريق, قرر أن يبيت ليلته في مكانه و يكمل طريقه في الصباح الباكر, و في منتصف الليل, استيقظ محمد على سيف يوضع على رقبته, و صوت يقول له
" لا تتحرك من مكانك هذا و إلا قطعت رأسك ".

محمد: حسنا, حسنا, لا داعي لكل ذلك, هوّن على نفسك يا رجل, هل تراني أنا من يحمل سيفا أم أنت؟

الرجل: حسنا, لقد أنقذك لسانك, و لكن إياك أن تقدم على أي حركة قد تندم عليها.

محمد: ليس هناك من داع لأي حركة يا رجل.

الرجل: أولست خائفا يا هذا.

محمد: و لم أخاف, و قد كتب الله لنا اجلنا مذ كنا في بطون أمهاتنا, فان كان اجلي سينتهي الليلة, فسينتهي, بسببك أو بسبب آخر, و ما بضّارة و لا نافعة إلا من عند الله, فلن تقّدم شيئا و لن تؤخر شيئا, ما أنت إلا عبد من عباد الله.

الرجل: يا الهي, أتيت لأسرقك فها أنت تسرقني, أي نوعه من الفتيان أنت!

محمد: ما أنا إلا شاب يخشى الله, و لذلك أبعد الله الخوف عن قلبه.

الرجل: من أين أنت؟, و ما الذي يفعله شاب في مثل سنك في مكان كهذا؟

يقص محمد قصته كاملة على الرجل, و عندها يقول له الرجل

الرجل: و الله بعد هذا الذي سمعت لن أتركك أبدا حتى أرى عبد الرحمن ذاك, فأقتله.

محمد: كلا, فان رددنا الشر بالشر, فلن يكون هناك مكان للخير أبدا, لا بد للخير أن يكون موجودا, و أما بالنسبة لعبد الرحمن فحسابه على الله.

الرجل: أنا خليل, من بلاد الله الواسعة, كنت متزوجا, و لم يرزقنا الله بأولاد, و عندما ضاقت بي الدنيا, رحلت عني زوجتي و تركتني, بحثت عنها في كل مكان فلم أجدها, و بعد فترة سنتين, وجدتها متزوجة رجل آخر.

محمد: يا الهي العظيم!, و كيف ذلك و هي على ذمة رجل آخر؟

خليل: أخبرته بأنها عزباء, و تزوجها.

محمد: و ماذا فعلت؟

خليل: لقد قمت بقتلها و قتل رجلها الثاني, لأنه لم يصدقني , قال بأني أنوي سلب زوجته منه.

محمد: استغفر الله العظيم, صدقا لا أعلم ماذا أقول لك, أأواسيك, أم ادعوك لأن تستغفر الله على فعلتك هذه, القتل شيء عظيم يا خليل.

خليل: أعلم, و لكن كرامتي لم تسمح لي بأن أراها مع رجل آخر.
محمد: و ماذا جرى بعد ذلك؟

خليل: لقد هربت, و ها أنا ذا كما ترى, قاطعا للطرق, سارقا, سالبا الناس أرواحهم و أموالهم.

محمد: لا عليك يا خليل, لا عليك, فليس المهم أن لا نذنب, و لكن الأهم من ذلك, انه عندما نذنب نتوب إلى الله, و ننظر إلى قلوبنا, و عندها سنعرف الاتجاه الصحيح.

خليل: صدقت, و لذلك أنا أسأل قلبي الآن, و أراه يجيبني أن أذهب معك إلى حيث تذهب.

يضحك الاثنان, ثم ينامان, و في الصباح الباكر يكملان مسيرهما إلى القدس, أخيرا يصل محمد معه خليل إلى القدس, يذهب محمداً إلى أمه أولا يقبل يديها, ثم يذهب إلى أبيه و يفعل بالمثل, و عندما سألاه ما الذي عاد به مبكراً, اخبرهم بأنه كان يجب عليه أن يعود ليساعد التاجر في إدارة مخازنه.

ذهب محمد بعد ذلك إلى التاجر, عندما رآه التاجر صعق

التاجر: ما الذي أتى بك يا محمد؟

محمد: لقد أراد عبد الرحمن قتلي يا سيدي بأن تركني وسط الصحراء وحيدا ليلا, لأستيقظ في الصباح وحيدا بلا ماء و لا طعام.

التاجر: ما هذا الذي تقول!

محمد: هذا ما حدث يا سيدي, و لولا عناية الله, لكنت الآن في عداد الأموات.

التاجر: لم أكن أعتقد في يوم من الأيام بأن عبد الرحمن من الممكن أن يفعل ذلك, و لكن اسمع, ستغيب عن القدس في هذه الفترة, إلى أن يعود عبد الرحمن و نرى لما فعل ذلك.

محمد: و لكن إلى أين سأذهب يا سيدي؟

التاجر: سأرسلك إلى أحد معارفي التجار في مدينة نابلس, و ستقيم عنده إلى أن ابعث في أثرك.

محمد: نسيت أن أقول لك بأني تعلمت الحدادة في رحلتي تلك يا سيدي.

التاجر: عظيم, إذن سأكتب رسالة إلى صديقي عبد الله, ليساعدك في افتتاح محل للحدادة في نابلس.

محمد: شكرا لك يا سيدي.

التاجر: لا تشكرني يا محمد, و دعنا الآن نرى ما قصة عبد الرحمن هذا, اذهب الآن و استرح أنت و صديقك, و لا تخرج من بيتك مدة يومين متتاليين حتى لا يعلم أحد بعودتك, و في فجر اليوم الثالث, اذهب برسالتي هذه إلى صديقي عبد الله في نابلس, فهو تاجر صابون معروف, و سلمه و قل له سيدي أبا جعفر يهديك السلام.

محمد: حسنا يا سيدي

يفعل محمد كما يأمره سيده التاجر, و في فجر اليوم الثالث يخرج محمد و صديقه إلى نابلس, و عند وصوله يسأل عن التاجر عبد الله, و يسلمه رسالة التاجر أبي جعفر, يرحب بهما عبد الله أيما ترحيب, و يكرمهما, و بعد عدة أيام من الضيافة يفتتح عبد الله محلا للحدادة لمحمد, و يبدأ محمد العمل بالمحل هو و صديقه خليل.

بعد خمسة أشهر أخرى تصل القافلة عائدة من المغرب العربي إلى القدس, و لكن محمدا ليس معهم

أبا جعفر: أهلا بعودتكم يا أخي عبد الرحمن.
عبد الرحمن: أهلا بك يا سيدي.

أبا جعفر: و لكني لا أرى محمداً بينكم, أين هو؟

عبد الرحمن يبدأ بالبكاء: لا أعلم ما أقول يا سيدي .

أبا جعفر: هات ما عندك, هل حصل له مكروه.

عبد الرحمن: لقد مرض مرضا شديدا يا سيدي و نحن في طريقنا, و لم تمهله المنية حتى نصل إلى المغرب العربي, لقد مات يا سيدي و قمنا بدفنه هناك.

أبا جعفر: لا حول و لا قوة إلا بالله, اللهم صبر والديه, ماذا سأقول الآن لوالديه!, أيمكنك أن ترشدني إلى قبره يا عبد الرحمن؟

عبد الرحمن: و لكن يا سيدي, أنا بحاجة إلى الراحة بعد هذه الرحلة الطويلة.

أبو جعفر: طبعا, طبعا, سترتاح أسبوعا كاملا, و من ثم سنمضي أنا و إياك لزيارة قبره, فمن واجبي أن أزور قبره يا عبد الرحمن, فلبا تنسى أنني أنا من تسبب بموته.

عبد الرحمن: حسنا يا سيدي.

يعود عبد الرحمن إلى منزله مثقلا بالهموم, حزينا, مكتئبا, لا يعلم ما يفعل.

محمد في مدينة نابلس, يعمل بجد و نشاط في محل الحدادة الذي فتحه له التاجر عبد الله, و في يوم من الأيام و بعد شهرين من العمل الجاد, قال محمد لعبد الله

محمد: سيدي, أريدك الليلة في أمر هام.

عبد الله: خيرا إنشاء الله ؟

محمد: لا تقلق يا سيدي, إنما هو أمر يقلقني و يرهق تفكيري, و أريد أن القيه عن كاهلي.

عبد الله: حسنا إذا, انتظرك مساءً في بيتي.

يذهب محمد عند المساء إلى منزل عبد الله, و بعد أن يرحب عبد الله بمحمد و صديقه, و يقدم لهم واجب الضيافة, يسأل محمد عن حاجته

عبد الله: خيرا يا محمد, ما هو الموضوع الذي يرهق تفكيرك؟

محمد: أعلم يا سيدي, انك قد أكرمتننا, و قد ساعدتنا, و قد كنت خير صديق لسيدي أبا جعفر, و قد فتحت لي محلاً استرزق منه, و من واجبي أن أكون خفيف الظل.

عبد الله: ما الذي ترمي إليه يا محمد؟

محمد: سيدي, أرجو أن تقبل من أجرة للمحل الذي فتحته لي.

عبد الله: و هل عهدت عنا قلة الشهامة و المروءة يا محمد, و الله إن كلماتك لاهانة لي لا اقبلها, و لولا صديقي أبا جعفر و أنك في بيتي لقتلتك.

يتبسم محمد: هدئ من روعك يا سيدي, فما قصدت ما قد فهمت.

عبد الله: و ما قصدك إذا؟

محمد: أتعتبرني أحد أبناءك أم لا؟

عبد الله: طبعا.

محمد: جيد, و هل تقبل لابنك أن يعيش عالة على غيره؟, ألا تحب أن يشق ابنك طريقه لوحده في الحياة حتى يشعر بقيمة ما يجني, ألا تحب أن يكون ابنك رجلا يعتمد على نفسه, أقسم يا سيدي أنك لم تبخل علينا بشيء, و انك خير مضيف, و ما عهدنا من أهل نابلس إلا الكرم و الشهامة و الشجاعة و الشرف, و لكن أريد فقط أن أخبر أمي عندما أعود بأني أصبحت رجلا يُعتَمَدُ عليه, و عندها أستطيع أن أطلب الزواج من أي فتاة.

يضحك محمد لتهدئة عبد الله


عبد الله: لقد غلبتني أيها الشاب, و لكن لن آخذ منك أجرة على المحل, بل سآخذ عشر ما تجمعه من المحل, ما رأيك؟

محمد: كما يريد سيدي, و إني لأشكرك من كل قلبي على تفهمك يا سيدي.

ينصرف محمدا من عند عبد الله, تاركا الأثر العميق في نفس عبد الله, فقد أعجب فيه عبد الله أيما إعجاب.


في القدس, ما زال عبد الرحمن حائراً, جاهلاً كيف سيتخلص من محنته التي أوقع نفسه فيها,و أخيرا توصل لحل ربما يريحه إلى الأبد, ألا و هو قتل التاجر أبو جعفر, لم يعد يشغله الآن كيفية التملص من محنته, بل قتل أبو جعفر, الأيام تمضي و مهلة الأسبوعين قد اقتربت من نهايتها, و لذلك كان لا بد له من الإسراع في تنفيذ المهمة قبل أن يكتشف أمره فيفضح, قرر أن ينفذ مهمته قبل نهاية الموعد بيومين, و كانت خطته تقضي بأن يقتله بينما يكون عائدا إلى منزله في المساء, و فعلا و في الموعد المحدد, ربض عبد الرحمن مختبئ في أحد الأزقة منتظرا قدوم أبو جعفر, ها هو أبو جعفر قادم, يتهيأ عبد الرحمن للانقضاض على أبو جعفر, يدعه يمر, حتى يأتيه من الخلف فلا يرى من قتله, ينقض عليه شاهرا سيفه, و إذا بصوت مرتفع ينادي "احذر", يلتفت أبو جعفر, و يشهر سيفه, و يبدأ الرجال المسلحين بالخروج من كل زاوية.

تفاجأ عبد الرحمن مما رأى, يقف ساكنا بلا حراك, فكل ما يفعله هو الالتفات يمنة و يسرة, منزلاً سيفه إلى الأرض, يطلب منه الرجال أن يلقي سيفه, ينصاع للأمر, يأخذه الرجال إلى محل أبو جعفر و يدخل معهم أبو جعفر

أبو جعفر: لما أردت قتلي يا عبد الرحمن؟

عبد الرحمن: لم أكن أنوي قتلك يا سيدي, إنما اعتقدتك لصا يجوب الأزقة.

أبو جعفر: و هل يوحي مظهري و ملابسي بأني لص!, أعتقد أنك يجب أن تأتي بحجة أفصح من تلك, لقد كنت على يقين بأنك ستقوم بذلك, و لذلك كنت دائما أراقبك ليل نهار, و الليلة كنت على علم بأنك تنتظرني لتقتلني, و لذلك وضعت لك الرجال, ما الذي دفعك لقتلي يا عبد الرحمن؟

عبد الرحمن: بما انك كنت على يقين بأني سأقتلك, فأنت إذا تعلم.

أبو جعفر: و لماذا قتلت إذا محمد.

عبد الرحمن: طلبت منك أكثر من مرة أن تسمح لي باصطحاب ابني معي, و لكنك كنت ترفض في كل مرة, بحجة أنه سيعيق القافلة و ما إلى ذلك من الحجج, ولكنك طلبت من محمد أن يذهب, لقد فضلت محمداً على ابني, و لم أكن لأسمح لأي احد كان, بأن يكون أفضل من ابني, و لذلك أردت التخلص منه, حتى لا يبقى محمدا في طريقه.

أبو جعفر: لقد أعياك الحقد يا عبد الرحمن, حتى بت لا ترى غير مصلحتك, أحياة أحدهم أهون عليك من أن يكون أفضل من ابنك, لا حول و لا قوة إلا بالله, جردوه أيها الرجال من سيفه و ارموه خارجا.

يجرده الرجال من سيفه و يرموه خارج المحل, و كانت تلك إشارة من أبو جعفر لعبد الرحمن بأنه لم يعد يرغب به في تجارته, و بعد أن أشيع بين الناس ما فعل عبد الرحمن بدأ الجميع يبتعد عنه, حتى أصبح وحيدا بلا عمل, و يبقى عبد الرحمن على غير علم بأن محمد على قيد الحياة.

بعث أبو جعفر في اثر محمد, حضر محمد و بقي صديقه في نابلس لإدارة محله, حدث أبو جعفر محمد بما جرى, و أخبره بأن عبد الرحمن يجلس في البيت بلا عمل, و في نفس الوقت حدث محمد عبد الرحمن بما جرى مع صديقه عبد الله.

أخبر أبو جعفر بأنه يرغب بأن يزوج ابنته من محمد, وافق محمد مسروراً, و قال لأبو جعفر

محمد: أظن يا سيدي بأنه يجب علينا أن لا نترك عبد الرحمن.

أبو جعفر: إذا أردت أن نزج به في السجن فسنفعل.

محمد: كلا يا سيدي, و لكن ما قصدت, يجب علينا أن نعيده إلى عمله, فلا تنسى أن لديه عائلة و أولاد, و لا تنسى قوله تعالى" والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين ", صدق الله العظيم.

أبو جعفر: صدق الله العظيم, لا أعلم ما أقول لك يا بني, لقد زادتك الصحراء ورعا و تقوى, و الله إني لن أجد خير منك زوجا لابنتي.

محمد: لا تقل هذا يا سيدي, الدنيا مليئة بالخير, كما هي مليئة بالشر, و لكن يجب علينا أن ننظر إلى الخير كما ننظر إلى الشر, و أن نرى الفرق بينهما, و عندها ستتبع نفسك الخير.لأن الخير يدوم و الشر لا يدوم.

يذهب محمد لزيارة عبد الرحمن في منزله, يفاجأ عبد الرحمن من نجاة محمد من الصحراء, و يخبره بالقصة كاملة, يجثو عبد الرحمن على الأرض ليقبل يدي محمد, و لكن محمد يرفض و يقبل رأس عبد الرحمن, و يعتذر منه على ما بدر من الرجال عندما القوه خارجا, أعاد له سيفه و أخبره بأن سيده أبو جعفر يريده منذ صباح الغد معاونا في تجارته.

تزوج محمد ابنة أبا جعفر, و عاد و اشترى المحل من عبد الله و تركه لصديقه يعمل به

و هكذا علمنا كيف نجا محمد من الصحراء, و كيف كانت الصحراء معلما لا
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف