
لم يطل غياب الشرطي طويلاً،فقد عاد ومعه شاب أسمر،ذو ملامح
شرقية،عرفت من خلالها بأنه عربي.
تحدث الشرطي مع الشاب بضع كلمات بلغة لم أفهمها،ثم نظرَ الشاب نحوي وقال:
هذا الشرطي يريد منك أن تخلع ثيابك كي يفتشك.
فقلت:ولماذا ?! أنا لوحدي..أنا فقط..يريد أن يفتشني،وبهذه الطريقة المهينة.
فرد قائلاً:إنه يريد إخافتك حتى تعطيه بعض النقود،وأنصحك أن تعطيه
بدلاً من أن يطبق عليك قوانينه الدنيئة.
للحظات اعتقدت بأن الشاب يخدعني،وربما يكون متعاون مع الشرطي ضدي،فحاولت
المراوغة،وقلت:ولكني لا أملك نقوداً،فأنا قادم مع صديقي،وهو قد خرج قبلي.
ابتسم الشاب وقال:لا عليك أنا سوف اعطيه،وأخرج من جيبه عشرة دولارات
ودسها في جيب الشرطي،عندها ابتسم الشرطي،وأعطاني جواز سفري وعليه
تأشيرة الدخول،وأشارَ لي بيده أن أذهب.
شكرت الشاب كثيراً،وطلبت منه أن يرافقني إلى خارج المطار،لكي أطلب من أيمن
نقوداً،أعيدها له بدلاً من النقود التي دفعها للشرطي،ولكنه رفض وغادر من
أمامي بسرعة،حتى لم يعطيني الفرصة لأسأله عن اسمه.
خرجت من مبنى المطار،فوجدت أيمن ينتظرني وقد بدت على وجهه علامات الخجل
والأسف،فبادرني بالقول:أرجوك لا تؤاخذني فقد سهوت عنك،لأن تفكيري كله عند
أهلي في القرية،ولم أشعر وأنا أخرج من دونك.
فقلت له:لا عليك،أنا أقدر ظرفك،وقصصت عليه ما جرى معي في المطار،وكيف
ساعدني الشاب العربي.
كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل،استقلينا سيارة
أجرة،انطلقت بنا وسط شوارع المدينة متجهين إلى بيت أيمن.
كنت أنظر من نافذة السيارة إلى المباني المرتفعة والشوارع الخالية من المارة
وكأنني أشاهد فيلم سينمائي لأول مرة،ومن شدة تعبي،كنت لا أشعر بجسدي معي،كنت
أشعر بأنني أطير،ولا أفكر إلا بسرير أرتمي عليه ولا أستيقظ قبل ثلاثة أيام.
وصلنا إلى الحي الذي يسكن فيه أيمن،وكان في أطراف المدينة،في منطقة أكثرُ
سكانها من الغجر،ومع أن الوقت كان متأخراً،إلا أن بعض منهم كان يجلس في
الشارع ينتظر غنيمة يغتنمها من فتاة عائدة من مرقص،أو من شاب سكران
أو من مسافر يحمل حقائبه الكثيرة مثلنا.
بعد أن نزلنا من السيارة،جاء أثنين من الغجر وعرضوا على أيمن المساعدة
في حمل الحقائب،وطبعاً رفض،وحذرني أن أنتبه منهم جيداً.
حملنا الحقائب،ودخلنا المبنى الذي يقيم فيه أيمن،وعندما حاول فتح باب
المصعد لنركب فيه،أصبنا بالأحباط،فقد كان المصعد معطلاً،فقلت له لا عليك
هيا لنصعد على الدرج،ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء،ونظرَ إلى الأعلى،وكأنه
ينظر إلى السماء،وقال:البيت في الطابق العاشر.
عندما سمعت بالطابق العاشر،خارت قواي وشعرت بدوار في رأسي،ولكن بشيء
من العزيمة والصمود صعدنا على الدرج،وأنا أفكر بالسرير المريح الذي
ينتظرني،وكنا نرتاح كلما صعدنا من طابق لأخر،حتى وصلنا في النهاية
إلى الطابق العاشر،وقد تقطعت أنفاسي من التعب.
أدخل أيمن يده بجيبه ليخرج مفتاح الباب،ولكن يده كانت تخرج فارغة،وكان
يعاود أدخالها وأخراجها في جيوبه،وهو يتصبب عرقاً،ولكن عبثاً،فقلت له أن
يبحث في حقائبه،ربما وضع فيها المفتاح من غير أن يشعر،وفعلاً فتح كل حقائبه
وبعثر محتوياتها على الأرض ولكن لا جدوى،أوقف البحث،وأطرق رأسه نحو الأرض ثم
نفخ نفخة،أحسست بقوتها تلامس جبيني،وقال:لقد نسيت المفتاح في القرية،وأعتقد
أننا سنبقى هنا حتى الصباح،ريثما تعود صديقتي روكسانا لتفتح لنا الباب،فهي
الوحيدة التي تحمل مفتاح أخر،وهي الأن في مدينة أخرى،و سوف تصل في الصباح،كما
تواعدنا قبل أن أسافر.
لم تكن ليلة سوداء من الظلام فقط،بل كانت ليلة سوداء من العذاب،في القرية
وعلى الطريق،وفي المطار،والمصعد المعطل،والمفتاح المفقود.
استلقيت على الأرض بجانب باب البيت،و وضعت حقيبتي تحت رأسي،واغمضت عيوني
محاولاً النوم،ولكني لم أستطيع من قساوة الأرض ورطوبتها،ومع أن فصل الصيف كان
في نهايته إلا أن الجو في اوروبا كان بارداً بعض الشيء،فكنت أتقلب مرة على
الجانب الأيمن،ومرة على الجانب الأيسر،لأخفف عن جسدي قساوة الارض ورطوبتها.
شيئاً فشيئاً بدأ نور الشمس يتسرب إلى داخل المبنى معلناً بداية نهار جديد
وبين النوم واليقظة،والحلم والعلم،رأيت إمراءة عجوز ترتدي ثوب طويل أخضر
عليه نقط بيضاء،شعرها قصير أبيض،تناهز السبعين من العمر،خرجت من الباب
المقابل لبيت أيمن.نظرت إلينا وقد بدت علامات الدهشة والأستغراب على
وجهها،اقتربت منا،وهي تتكلم بلغتها التي لا افهم منها شيئاً،وبدأت تحدث
أيمن،وكانت تتكلم بصوت عالي ظناً منها بأننا مثلها،سمعنا ضعيف.
طلب أيمن منها الدخول إلى بيتها ليستعمل الحمام،فسمحت له بالدخول،وتركني
معها تكلمني وتناقشني،وأنا كنت أهز برأسي دائماً،وأبتسم عندما تبتسم،وأحزن
عندما تتغير معالم وجهها،وأرفع حاجبي عندما يجب ان أندهش،كي لا أشعرها
بالأحراج،وعندما عاد أيمن،لا أدري ماذا قالت له حتى أضحكته رغم العذاب
الذي نحن فيه.سألت أيمن عن سبب ضحكه،فقال:إنها تمتدحك كثيراً وتقول إنك متفهم
لكل الأمور وأسعدها كثيراً الكلام معك،وأخذت أنا أيضاً أضحك بالرغم من
التعاسة التي أنا فيها،وكانت خيبة العجوز كبيرة عندما علمت بسبب ضحكنا.
اقتربت مني العجوز ومدت يدها وقالت ماريا،فقال لي أيمن:العمة ماريا تعرفك
بنفسها،فمدت يدي مصافحاً وقلت لها:فارس أنا فارس،صديق أيمن،وكان أيمن يترجم
الحديث بيننا،الذي طال كثيراً.
ذهبت العمة ماريا إلى السوق،وقالت وهي تنزل الدرج:عندما أعود سوف تدخلون
إلى بيتي ريثما تعود روكسانا.
ولكني لا أعتقد أن هذا سيحصل،لأن العمة ماريا سوف تمضي نصف النهار
عندما تعود من السوق لتصعد الدرج إلى الطابق العاشر.
لم يطول انتظارنا كثيراً،حتى سمعنا أصوات أقدام تصعد الدرج،كانت فتاة في
الخامسة والعشرين من عمرها،نحيلة الجسد،ممسوحة الصدر،شعرها أصفر قصير تربطه
إلى الوراء،تلبس بنطال أبيض،وقميص أصفر،وتنتعل حذاء رياضي،خلت من معالمها
الأنوثة،لا تتميز عن الذكور إلا بصوتها النسائي.
اقتربت من أيمن وعانقته بشوق ولهفة،وتبادلوا القبلات الحارة حتى أني خجلت
من النظر إليهم،ورحت أسعل لأذكرهم بوجودي.
نظرَ أيمن نحوي وقال: لا تهتم يا صديقي،هذه الأمور عادية هنا،أنت في أوروبا
يا رجل،ثم قدمني إلى صديقته قائلاً: هذا فارس و هذه روكسانا،فمدت يدها،ولكن
ليس لتصافحني،فقد رفعتها حتى اقتربت من وجهي،فقال أيمن:العادة هنا عندما
يصافح الرجل إمراءة،يقبل يدها.فقلت له أنا لا أُقبل سوى يد أمي،ثم مددت يدي
وصافحتها كما أصافح الرجال،فشعرت بأنها تضايقت من ذلك.
فتحت روكسانا باب البيت،ثم دخلنا إلى غرفة صغيرة،وضع فيها كرسي ومنضدة
وبجانبهما أريكة صغيرة،وتلفاز صغير بحجم الراديو الذي يستمع إليه أبي.
جلس أيمن وركسانا ،وأخذوا يتهامسون ويتحابون،وكأنهم لا يروني.
انتظرت قليلاً حتى يُدخلني أيمن إلى غرفتي لكي أنام،ولكن أيمن لم يهتم بي،كان شغله
الشاغل ملاطفة روكسانا،فقاطعت خلوتهم قائلاً:أريد أن أدخل غرفتي لكي أرتاح
وترتاحون أنتم أيضاً،ولكن أيمن راح يضحك وكأنني دغدغته بكلامي،ثم قال لي وهو
يحاول أيقاف نفسه عن الضحك:هذا البيت يتكون من غرفة واحدة فقط.فقلت له:
حسناً دعني أدخل إلى الغرفة لكي أنام فأنا مرهق.ولكنه عاد للضحك مرة ثانية
وهو يقول:هذه هي الغرفة،نحن نجلس فيها،والأبواب التي تراها هي أبواب المطبخ
والحمام.أصبت بصدمة عندما سمعت كلامه،فهل يُعقل أن كل هذا العذاب والأنتظار
والصعود للطابق العاشر وفي النهاية،البيت غرفة بحجم مطبخ أمي في القرية.
استلقيت على الاريكة،وأرخيت جسدي المتعب،وسلمت أمري إلى الله.
عندما استيقظت كانت الساعة الثالثة بعد العصر،كنت أشعر بالجوع والعطش
و كانت عظامي تؤلمني من النوم على باب البيت،ورقبتي قد تشنجت من النوم من
دون وسادة،نظرت حولي فلم أجد أحداً في الغرفة،فرحت أنادي على أيمن بصوت
منخفض،فلم يجيب أحد.
دخلت إلى المطبخ الذي لا يتعدى طوله مترين وعرضه متر واحد،وقد وضع بداخله
ثلاجة صفيرة جداً،ومغسلة ممتلئة بالصحون التي لم تُغسل منذ وقت طويل،وبعض
الرفوف بجانب المغسلة.فتحت الصنبور كي أشرب،فسال منه ماء بني اللون ممزوج
بالتراب،لا يصلح للشرب،ثم فتحت الثلاجة لعلي أجد فيها بعض الطعام،ولكنها
كانت خاوية مثل النملية التي تركتها في غرفتي.
جلست على الأريكة أنتظر أيمن،ومرَ وقت طويل،وطال إنتظاري،واشتد جوعي،وجف
حلقي،وبدأت الأفكار والظنون تدور في رأسي،أين ذهب أيمن? ماذا أفعل الأن
وحيداً في هذه الغرفة? أسئلة كثيرة لم أجد لها جواب.
شرقية،عرفت من خلالها بأنه عربي.
تحدث الشرطي مع الشاب بضع كلمات بلغة لم أفهمها،ثم نظرَ الشاب نحوي وقال:
هذا الشرطي يريد منك أن تخلع ثيابك كي يفتشك.
فقلت:ولماذا ?! أنا لوحدي..أنا فقط..يريد أن يفتشني،وبهذه الطريقة المهينة.
فرد قائلاً:إنه يريد إخافتك حتى تعطيه بعض النقود،وأنصحك أن تعطيه
بدلاً من أن يطبق عليك قوانينه الدنيئة.
للحظات اعتقدت بأن الشاب يخدعني،وربما يكون متعاون مع الشرطي ضدي،فحاولت
المراوغة،وقلت:ولكني لا أملك نقوداً،فأنا قادم مع صديقي،وهو قد خرج قبلي.
ابتسم الشاب وقال:لا عليك أنا سوف اعطيه،وأخرج من جيبه عشرة دولارات
ودسها في جيب الشرطي،عندها ابتسم الشرطي،وأعطاني جواز سفري وعليه
تأشيرة الدخول،وأشارَ لي بيده أن أذهب.
شكرت الشاب كثيراً،وطلبت منه أن يرافقني إلى خارج المطار،لكي أطلب من أيمن
نقوداً،أعيدها له بدلاً من النقود التي دفعها للشرطي،ولكنه رفض وغادر من
أمامي بسرعة،حتى لم يعطيني الفرصة لأسأله عن اسمه.
خرجت من مبنى المطار،فوجدت أيمن ينتظرني وقد بدت على وجهه علامات الخجل
والأسف،فبادرني بالقول:أرجوك لا تؤاخذني فقد سهوت عنك،لأن تفكيري كله عند
أهلي في القرية،ولم أشعر وأنا أخرج من دونك.
فقلت له:لا عليك،أنا أقدر ظرفك،وقصصت عليه ما جرى معي في المطار،وكيف
ساعدني الشاب العربي.
كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل،استقلينا سيارة
أجرة،انطلقت بنا وسط شوارع المدينة متجهين إلى بيت أيمن.
كنت أنظر من نافذة السيارة إلى المباني المرتفعة والشوارع الخالية من المارة
وكأنني أشاهد فيلم سينمائي لأول مرة،ومن شدة تعبي،كنت لا أشعر بجسدي معي،كنت
أشعر بأنني أطير،ولا أفكر إلا بسرير أرتمي عليه ولا أستيقظ قبل ثلاثة أيام.
وصلنا إلى الحي الذي يسكن فيه أيمن،وكان في أطراف المدينة،في منطقة أكثرُ
سكانها من الغجر،ومع أن الوقت كان متأخراً،إلا أن بعض منهم كان يجلس في
الشارع ينتظر غنيمة يغتنمها من فتاة عائدة من مرقص،أو من شاب سكران
أو من مسافر يحمل حقائبه الكثيرة مثلنا.
بعد أن نزلنا من السيارة،جاء أثنين من الغجر وعرضوا على أيمن المساعدة
في حمل الحقائب،وطبعاً رفض،وحذرني أن أنتبه منهم جيداً.
حملنا الحقائب،ودخلنا المبنى الذي يقيم فيه أيمن،وعندما حاول فتح باب
المصعد لنركب فيه،أصبنا بالأحباط،فقد كان المصعد معطلاً،فقلت له لا عليك
هيا لنصعد على الدرج،ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء،ونظرَ إلى الأعلى،وكأنه
ينظر إلى السماء،وقال:البيت في الطابق العاشر.
عندما سمعت بالطابق العاشر،خارت قواي وشعرت بدوار في رأسي،ولكن بشيء
من العزيمة والصمود صعدنا على الدرج،وأنا أفكر بالسرير المريح الذي
ينتظرني،وكنا نرتاح كلما صعدنا من طابق لأخر،حتى وصلنا في النهاية
إلى الطابق العاشر،وقد تقطعت أنفاسي من التعب.
أدخل أيمن يده بجيبه ليخرج مفتاح الباب،ولكن يده كانت تخرج فارغة،وكان
يعاود أدخالها وأخراجها في جيوبه،وهو يتصبب عرقاً،ولكن عبثاً،فقلت له أن
يبحث في حقائبه،ربما وضع فيها المفتاح من غير أن يشعر،وفعلاً فتح كل حقائبه
وبعثر محتوياتها على الأرض ولكن لا جدوى،أوقف البحث،وأطرق رأسه نحو الأرض ثم
نفخ نفخة،أحسست بقوتها تلامس جبيني،وقال:لقد نسيت المفتاح في القرية،وأعتقد
أننا سنبقى هنا حتى الصباح،ريثما تعود صديقتي روكسانا لتفتح لنا الباب،فهي
الوحيدة التي تحمل مفتاح أخر،وهي الأن في مدينة أخرى،و سوف تصل في الصباح،كما
تواعدنا قبل أن أسافر.
لم تكن ليلة سوداء من الظلام فقط،بل كانت ليلة سوداء من العذاب،في القرية
وعلى الطريق،وفي المطار،والمصعد المعطل،والمفتاح المفقود.
استلقيت على الأرض بجانب باب البيت،و وضعت حقيبتي تحت رأسي،واغمضت عيوني
محاولاً النوم،ولكني لم أستطيع من قساوة الأرض ورطوبتها،ومع أن فصل الصيف كان
في نهايته إلا أن الجو في اوروبا كان بارداً بعض الشيء،فكنت أتقلب مرة على
الجانب الأيمن،ومرة على الجانب الأيسر،لأخفف عن جسدي قساوة الارض ورطوبتها.
شيئاً فشيئاً بدأ نور الشمس يتسرب إلى داخل المبنى معلناً بداية نهار جديد
وبين النوم واليقظة،والحلم والعلم،رأيت إمراءة عجوز ترتدي ثوب طويل أخضر
عليه نقط بيضاء،شعرها قصير أبيض،تناهز السبعين من العمر،خرجت من الباب
المقابل لبيت أيمن.نظرت إلينا وقد بدت علامات الدهشة والأستغراب على
وجهها،اقتربت منا،وهي تتكلم بلغتها التي لا افهم منها شيئاً،وبدأت تحدث
أيمن،وكانت تتكلم بصوت عالي ظناً منها بأننا مثلها،سمعنا ضعيف.
طلب أيمن منها الدخول إلى بيتها ليستعمل الحمام،فسمحت له بالدخول،وتركني
معها تكلمني وتناقشني،وأنا كنت أهز برأسي دائماً،وأبتسم عندما تبتسم،وأحزن
عندما تتغير معالم وجهها،وأرفع حاجبي عندما يجب ان أندهش،كي لا أشعرها
بالأحراج،وعندما عاد أيمن،لا أدري ماذا قالت له حتى أضحكته رغم العذاب
الذي نحن فيه.سألت أيمن عن سبب ضحكه،فقال:إنها تمتدحك كثيراً وتقول إنك متفهم
لكل الأمور وأسعدها كثيراً الكلام معك،وأخذت أنا أيضاً أضحك بالرغم من
التعاسة التي أنا فيها،وكانت خيبة العجوز كبيرة عندما علمت بسبب ضحكنا.
اقتربت مني العجوز ومدت يدها وقالت ماريا،فقال لي أيمن:العمة ماريا تعرفك
بنفسها،فمدت يدي مصافحاً وقلت لها:فارس أنا فارس،صديق أيمن،وكان أيمن يترجم
الحديث بيننا،الذي طال كثيراً.
ذهبت العمة ماريا إلى السوق،وقالت وهي تنزل الدرج:عندما أعود سوف تدخلون
إلى بيتي ريثما تعود روكسانا.
ولكني لا أعتقد أن هذا سيحصل،لأن العمة ماريا سوف تمضي نصف النهار
عندما تعود من السوق لتصعد الدرج إلى الطابق العاشر.
لم يطول انتظارنا كثيراً،حتى سمعنا أصوات أقدام تصعد الدرج،كانت فتاة في
الخامسة والعشرين من عمرها،نحيلة الجسد،ممسوحة الصدر،شعرها أصفر قصير تربطه
إلى الوراء،تلبس بنطال أبيض،وقميص أصفر،وتنتعل حذاء رياضي،خلت من معالمها
الأنوثة،لا تتميز عن الذكور إلا بصوتها النسائي.
اقتربت من أيمن وعانقته بشوق ولهفة،وتبادلوا القبلات الحارة حتى أني خجلت
من النظر إليهم،ورحت أسعل لأذكرهم بوجودي.
نظرَ أيمن نحوي وقال: لا تهتم يا صديقي،هذه الأمور عادية هنا،أنت في أوروبا
يا رجل،ثم قدمني إلى صديقته قائلاً: هذا فارس و هذه روكسانا،فمدت يدها،ولكن
ليس لتصافحني،فقد رفعتها حتى اقتربت من وجهي،فقال أيمن:العادة هنا عندما
يصافح الرجل إمراءة،يقبل يدها.فقلت له أنا لا أُقبل سوى يد أمي،ثم مددت يدي
وصافحتها كما أصافح الرجال،فشعرت بأنها تضايقت من ذلك.
فتحت روكسانا باب البيت،ثم دخلنا إلى غرفة صغيرة،وضع فيها كرسي ومنضدة
وبجانبهما أريكة صغيرة،وتلفاز صغير بحجم الراديو الذي يستمع إليه أبي.
جلس أيمن وركسانا ،وأخذوا يتهامسون ويتحابون،وكأنهم لا يروني.
انتظرت قليلاً حتى يُدخلني أيمن إلى غرفتي لكي أنام،ولكن أيمن لم يهتم بي،كان شغله
الشاغل ملاطفة روكسانا،فقاطعت خلوتهم قائلاً:أريد أن أدخل غرفتي لكي أرتاح
وترتاحون أنتم أيضاً،ولكن أيمن راح يضحك وكأنني دغدغته بكلامي،ثم قال لي وهو
يحاول أيقاف نفسه عن الضحك:هذا البيت يتكون من غرفة واحدة فقط.فقلت له:
حسناً دعني أدخل إلى الغرفة لكي أنام فأنا مرهق.ولكنه عاد للضحك مرة ثانية
وهو يقول:هذه هي الغرفة،نحن نجلس فيها،والأبواب التي تراها هي أبواب المطبخ
والحمام.أصبت بصدمة عندما سمعت كلامه،فهل يُعقل أن كل هذا العذاب والأنتظار
والصعود للطابق العاشر وفي النهاية،البيت غرفة بحجم مطبخ أمي في القرية.
استلقيت على الاريكة،وأرخيت جسدي المتعب،وسلمت أمري إلى الله.
عندما استيقظت كانت الساعة الثالثة بعد العصر،كنت أشعر بالجوع والعطش
و كانت عظامي تؤلمني من النوم على باب البيت،ورقبتي قد تشنجت من النوم من
دون وسادة،نظرت حولي فلم أجد أحداً في الغرفة،فرحت أنادي على أيمن بصوت
منخفض،فلم يجيب أحد.
دخلت إلى المطبخ الذي لا يتعدى طوله مترين وعرضه متر واحد،وقد وضع بداخله
ثلاجة صفيرة جداً،ومغسلة ممتلئة بالصحون التي لم تُغسل منذ وقت طويل،وبعض
الرفوف بجانب المغسلة.فتحت الصنبور كي أشرب،فسال منه ماء بني اللون ممزوج
بالتراب،لا يصلح للشرب،ثم فتحت الثلاجة لعلي أجد فيها بعض الطعام،ولكنها
كانت خاوية مثل النملية التي تركتها في غرفتي.
جلست على الأريكة أنتظر أيمن،ومرَ وقت طويل،وطال إنتظاري،واشتد جوعي،وجف
حلقي،وبدأت الأفكار والظنون تدور في رأسي،أين ذهب أيمن? ماذا أفعل الأن
وحيداً في هذه الغرفة? أسئلة كثيرة لم أجد لها جواب.