
بكــــاء الفضيلــــة
كتبها- نعيم عودة
أنام مفكراً ، وأصحو معكراً ، وأتقلب على الجنبين تتصدرني أنفاس حرى، كأنها أنفاس جبل قرنطل في أريحا، صيفاً، وتترنح التي بجانبي وتخرج أنفاسها متقطعة كأنها تقول لي: أذهبت َ عن جفوني النوم، كفـــى حراكاً.
وعندما يتنفس الصبح كعادته كل صباح، أبحلق بعيــنيّ كالمأخوذ شدهاً ، وقد أشهق أحياناً دون أن أرى شيئاً, أبترد بحمام دافئ، وأخرج وقد تركت ُ كلّ أفكاري ورؤاي َ في الحمام ، على أمل أن يكون اليوم خيرا.
ألقي نظرة على جريدة الصباح، لتعود الرؤى الكئيبة ثانية وتحتلّ مكانها في مقدمة جبهتي، ويبدأ صداع الأحداث يعاودني ، وتتسرب الآهات من بين شفتيّ كلظى نفثـته ُ نار، مسكينة هذه الإنسية ، فقصتها تدمي كبدي قبل عيوني.
تزوجته عن رضى ً ، فليس لها رأي في رضاها ، وأصبحت امرأته ولم تكن زوجــه ، أنجبت البنين والبنات, وأرادت أن تكون سعيدة برضاها، فعلا عليها وعدا على رضاها وامتهن كرامتها.. بل تعدىذلك فسحق إنسانيتها ، أصبحت تحس بكونها حيواناً تعيش في بيت ، ويقترب منها وحش ٌ في المساء وقتما يشاء.. دخل العذاب وحشتها ، وعششت الخيبة في جوفها ، وتكونت في داخلها مرارات ٌ كثيرة ، انتشرت في كل أنحائها ، فأغمها القهر وأصابها الدوار، أصبحت تمشي في باحة الدار كأنها سنبلة على ساق تهزه الريح، وعيون الصغار ترقبها في ألم : حرام .. ماما مسكينة. تسمعهم فتترقرق الدمعة في محاجرها ، ثم تنحدر على خدين خطّت عليهما الدموع مساربها.. وتندفع التنهيدة وراء التنهيدة، لم تعـد تبصر دربها ،، فدارت حول نفسها ثم عادت إلى ركن جلست فيه، ووضعت رأسها بين كفيها وركبتيها وانفجرت تنوح، بينما التـــمّ شمل الصغار في الركن الاخر ، تحلّقوا في نصف دائرة ، وراحوا ينظرون إلى الأم في حسرة .. ماذا يمكن أن يفعل الصغار لأم ٍ سحقها أب !!
يحوم الليل حول المكان ، كما يحوم ذئب جارحٌ حول فريسة جريحة ، ثم يرخي سدوله على المدينة كلها ، وتتحدر الساعات خلف الساعات ، ودون استئذان يدخل البطل عبر الظلمة ، ينظر يمينه فيرى الصغار يتضورون ، وينظر يسرة فيرى لبؤة هدّها القهر، فيدلف إلى الداخل ليجد الخادمة في انتظاره ، وقد تزينت له ، واستعدّت للقائه وهي بذلك سعيدة ، فهي عنده أغلى من صاحبة البيت ، وأشدّ رغبة فيه ، ينقضّ عليها افتراساً ، بينما يجوس وطواطٌ سماء المكان معلناً عن لحظة سفاح جديد. وعندما صرخت ابنته ذات السنوات العشر، خرج إليها وقد اتقدت عيناه ، وعاجلها بلكمة أدمت أنفها، فخمدت أنفاسها الوجلة ، وراحت تشهق في صمت متقطع.
كل الخواطر تحركت في قلب الزوجة ، وكل الرؤى الغريبة تراءت لها ، وكل الأفكار الواردة والشاردة انفلتت من عقالها واصطفت أمام ناظريها لتختار منها ؛ أتهجم عليه وعليها وتذبحهما بسكين ؟ أتشعل النار في المنزل ليحترق كل من فيه ؟ أتصرخ ليلتــم ّ الناس عليها وعلى صغارها بعد منتصف الليل؟ أتستدعي الشرطة وتتسبب في فضيحة وقطيعة ؟ أتهرب؟ نعم .. تهرب .. وتنسلّ من حياته وحياتها وحياة صغارها..
وفي وسط الظلمة الحالكة واضطرام المشاعر ، لفـّـت وجهها بمسـفع ٍ , وانطلقت كسهم أخطأ هدفـه ، لن يكون أسوأ مما كان ... وضـجّ الصغار بصرخة ألمٍ ، بينما تجاهل البطل صرختهم ، فهو منغمس في نعيم مسـفـّع ، فلم يأبه لهم. انطلقت لا تدري إلى أين .. كانت تجري في خط ٍ مستقيم ، تتبع الطريق أينما دار َ ، لحقتها المشقة ، وأضناها القهر ُ ، ووجدت نفسها أمام مسجد.. هذا بيت الله .. إنه لكل الناس ، ويسع الجميع.. وألقت رحلها في أحد أركانه.. وغابت عن الدنيا في لحظة ، واستفاقت على صوت الأذان : اللـــه أكبر.. كان عليها أن تتسلل ثانية لتفادي السؤال والجواب، فخرجت إلى المجهول ثانية ،، فمشت ومشت ومشت ،،، وراحت تدور في الأسواق ، ومن سوق إلى سوق حتى انتهت إلى الجوع والعطش ، كانت تجلس في هذا الركن ثم في ذاك ، حتى لا يفطن إليها ناظر، ولما حـلّ الظلام ثانية ، عادت إلى المسجد تتلفع برضى ربها ، وتنشد مؤازرته، بينما صريخ أطفالها يـرن ّ في أذنيها كنعيق غراب أزعجه صقر. ليال مـرت وهي على هذا الحال، وبدا لها أن تفكر في حــل ّ ،، إلى أين ؟
الشرطة ؟ لا . فهذه فضيحة عليها شهود. أهل الخير؟ أنا لا أعرف احداً . أهلي؟ لا. فهم لم يتقبلوني قبل ذلك. الجمعيات الخيرية ؟ نعم. هم أهل الخير وسوف يعينونني على نائبتي. ودلفت إلى الجمعية: لكنك ِ لك أهل ، ولك زوج ، وقد هربت ِ من الجميع .. عودي إلى أهلك أو إلى زوجك، يبدو أنك ِ هربت ِ بسبب خطيئة .. عودي أدراجك وأصلحي من شأنكِ.
كم أنت ِ قاسية أيتها الدنيا ! كم أنت َ ظلوم ٌ أينها الإنسان ! يتمتع الظالم بخطيئته بينما ضحيته تتخبط في الظلمات ، تسير على غير هدى ، تتساقط أوراقها وقد انزلقت إلى خريف العمر في غير أوان.. تتربع خادمتها على عرشها ، بينما تبكي الفضيلة أمام كبرياء الرذيلة. ويخسر العفاف جولته أمام بطش الخيانة . كم أنت ِ قاسية أيتها الدنيا !!
قادتها قدماها إلى باب المحكمة ..
القاضي والكاتب وشهود لا تعرفهم ورجال شرطة ، ولأول مرة في حياتها تقف أمام القاضي,, رجل مهيب الطلعة ، يبدو متجهماً للوهلة الأولى، يكاد الكاتب يرتجف كلما نظر إليه القاضي، بينما يقف رجال الشرطة وكأنهم في طابور الصباح، لم تدـر ِ أتجلس أم تقف !
القاضي – ما اسمك ِ؟
هـــي – ( تطلعت حولها لتنظر هل هناك من يعرفها أم لا ) : أنا.. وغاب صوتها وسط النحيب..
القاضي – اقتربي يا بنيـة .. ما اسمك ِ ؟
هـــي – ( لا جواب ) شعورها بالمرارة يمنع صوتها من الانفلات خارج حلقها..
القاضي – ما هي مشكلتك ِ ؟
هـــي – يضربني ، وينام مع الخادمة أمامي وأمام صغاري.
القاضي – اكتبي لنا اسمه وعنوانه عند الكاتب.. واحضري بعد غــد ٍ صباحاً. اذهبي الآن.
وبينما كان القاضي خارجاً من المحكمة بعد الظهر، رأى المرأة ذاتها تجلس على درجات المدخل ، فعرفها وقال : ألست ِ أنت ِ التي كنت ِ هنا في الصباح؟
قالت : نعم . قال: ألا تذهبين إلى مكان يأويك ؟ قالت : ليس لي مكان يأويني. واحتار القاضي في أمرها ، فأمر رجال الشرطة بأخذها إلى حيث يضعون بعض النساء في حالات مشابهة..
وكان لقاؤها في المحكمة بعد يومين ، هـي والزوج ، والقاضي والكاتب والشرطة والخادمة وأطفال وأناس جالسون على المقاعد .
القاضي – أيها الرجل ، أهذه زوجتك؟
الرجل – نعــم ، وقد هربت من البيت .
القاضي – لماذا هربت من البيت ؟ هل ضربتها ؟
الرجل – لست أدري لماذا هربت ! ولم أضربها. لعلها تعشق أحداً غيري..
القاضي – أتتهمهــا؟ عليك بالدليل.
الرجل – دليلي أنها هربت ليلاً وتركت صغارها يصرخون في جوف الليل ، وهل من دليل أكبر على سوء فعلتها؟
القاضي – أيها الشرطي.. خذ هذا الرجل خارج القاعة حتى أستدعيه..
القاضي – ( يدعو ابنة الرجل) قولي لي أيتها الصغيرة, أين كان أبوك ِ عندما خرجت أمك من المنزل؟
البنت – ( تتردد ) كان في داخل البيت.
القاضي – وأين كانت أمك وأين كنت ِ أنت ِ وإخوتك ؟
البنت – كنا في ساحة البيت ، كانت أمي في زاوية وكنت ُ أنا وإخوتي في زاوية أخرى , ننظر إليها، كانت تبكي.
القاضي – أين كانت الخادمة ؟
البنت – داخل البيت . أنا أكرهها.. ( قالتها بحدة المقهور)
القاضي – لماذا تكرهين الخادمة ؟ إنها تساعد أمك في البيت ..
البنت – رأيتها يوماً تضرب أمي أمام أبي..
القاضي – ( آه ) هاتوا الخادمة . لماذا ضربت ِ صاحبة البيت أمام زوجها؟
الخادمة – هو طلب مني ذلك. هو لا يحبها .. هو ....
القاضي – اســكتي . هاتوا المرأة , لماذا ضربتك هذه الخادمة أمام زوجك؟
المرأة – وجدتها تتقلب على سريري فصرخت عليهما,, فأغلق الباب وأمرها أن تضربني..
القاضي – هاتوا الرجل. أيها الرجل ، اعترفت خادمتك أنها أمرتها أن تضرب زوجتك أمامك.. لماذا فعلت ذلك؟
الرجل – أنا ؟ هما اعتركتا, والخادمة غلبت عليها، وقد أصلحت ُ بينهما,
القاضي – وأين دارت هذه المعركة ؟ في غرفة نومك.
الرجل – كانت الخادمة تصلح السرير وترتب الغرفة ،، هذا أمر طبيعي..
البنت – ( وقد أخذها حماس غريب ) لا.. هذا أمر غير طبيعي..
كان لا بدّ للقاضي من أن يصدر قراره، فهنا رجل ٌ ظالم ، وخادمة ٌ لعبت بعقل رجل ضلّ وأضـل ، وزوجة خذلتها المقادير وشردتها المحاذير ، وأطفال يعيشون في بيت يرعاه أب ٌ لا يمكن أن يكون أباً صالحاً .
وضع القاضي رأسه بين كفيه، وغاب في صمته لحظة ً ، ثم أصدر حكمــاً عـادلاً.
كتبها- نعيم عودة
أنام مفكراً ، وأصحو معكراً ، وأتقلب على الجنبين تتصدرني أنفاس حرى، كأنها أنفاس جبل قرنطل في أريحا، صيفاً، وتترنح التي بجانبي وتخرج أنفاسها متقطعة كأنها تقول لي: أذهبت َ عن جفوني النوم، كفـــى حراكاً.
وعندما يتنفس الصبح كعادته كل صباح، أبحلق بعيــنيّ كالمأخوذ شدهاً ، وقد أشهق أحياناً دون أن أرى شيئاً, أبترد بحمام دافئ، وأخرج وقد تركت ُ كلّ أفكاري ورؤاي َ في الحمام ، على أمل أن يكون اليوم خيرا.
ألقي نظرة على جريدة الصباح، لتعود الرؤى الكئيبة ثانية وتحتلّ مكانها في مقدمة جبهتي، ويبدأ صداع الأحداث يعاودني ، وتتسرب الآهات من بين شفتيّ كلظى نفثـته ُ نار، مسكينة هذه الإنسية ، فقصتها تدمي كبدي قبل عيوني.
تزوجته عن رضى ً ، فليس لها رأي في رضاها ، وأصبحت امرأته ولم تكن زوجــه ، أنجبت البنين والبنات, وأرادت أن تكون سعيدة برضاها، فعلا عليها وعدا على رضاها وامتهن كرامتها.. بل تعدىذلك فسحق إنسانيتها ، أصبحت تحس بكونها حيواناً تعيش في بيت ، ويقترب منها وحش ٌ في المساء وقتما يشاء.. دخل العذاب وحشتها ، وعششت الخيبة في جوفها ، وتكونت في داخلها مرارات ٌ كثيرة ، انتشرت في كل أنحائها ، فأغمها القهر وأصابها الدوار، أصبحت تمشي في باحة الدار كأنها سنبلة على ساق تهزه الريح، وعيون الصغار ترقبها في ألم : حرام .. ماما مسكينة. تسمعهم فتترقرق الدمعة في محاجرها ، ثم تنحدر على خدين خطّت عليهما الدموع مساربها.. وتندفع التنهيدة وراء التنهيدة، لم تعـد تبصر دربها ،، فدارت حول نفسها ثم عادت إلى ركن جلست فيه، ووضعت رأسها بين كفيها وركبتيها وانفجرت تنوح، بينما التـــمّ شمل الصغار في الركن الاخر ، تحلّقوا في نصف دائرة ، وراحوا ينظرون إلى الأم في حسرة .. ماذا يمكن أن يفعل الصغار لأم ٍ سحقها أب !!
يحوم الليل حول المكان ، كما يحوم ذئب جارحٌ حول فريسة جريحة ، ثم يرخي سدوله على المدينة كلها ، وتتحدر الساعات خلف الساعات ، ودون استئذان يدخل البطل عبر الظلمة ، ينظر يمينه فيرى الصغار يتضورون ، وينظر يسرة فيرى لبؤة هدّها القهر، فيدلف إلى الداخل ليجد الخادمة في انتظاره ، وقد تزينت له ، واستعدّت للقائه وهي بذلك سعيدة ، فهي عنده أغلى من صاحبة البيت ، وأشدّ رغبة فيه ، ينقضّ عليها افتراساً ، بينما يجوس وطواطٌ سماء المكان معلناً عن لحظة سفاح جديد. وعندما صرخت ابنته ذات السنوات العشر، خرج إليها وقد اتقدت عيناه ، وعاجلها بلكمة أدمت أنفها، فخمدت أنفاسها الوجلة ، وراحت تشهق في صمت متقطع.
كل الخواطر تحركت في قلب الزوجة ، وكل الرؤى الغريبة تراءت لها ، وكل الأفكار الواردة والشاردة انفلتت من عقالها واصطفت أمام ناظريها لتختار منها ؛ أتهجم عليه وعليها وتذبحهما بسكين ؟ أتشعل النار في المنزل ليحترق كل من فيه ؟ أتصرخ ليلتــم ّ الناس عليها وعلى صغارها بعد منتصف الليل؟ أتستدعي الشرطة وتتسبب في فضيحة وقطيعة ؟ أتهرب؟ نعم .. تهرب .. وتنسلّ من حياته وحياتها وحياة صغارها..
وفي وسط الظلمة الحالكة واضطرام المشاعر ، لفـّـت وجهها بمسـفع ٍ , وانطلقت كسهم أخطأ هدفـه ، لن يكون أسوأ مما كان ... وضـجّ الصغار بصرخة ألمٍ ، بينما تجاهل البطل صرختهم ، فهو منغمس في نعيم مسـفـّع ، فلم يأبه لهم. انطلقت لا تدري إلى أين .. كانت تجري في خط ٍ مستقيم ، تتبع الطريق أينما دار َ ، لحقتها المشقة ، وأضناها القهر ُ ، ووجدت نفسها أمام مسجد.. هذا بيت الله .. إنه لكل الناس ، ويسع الجميع.. وألقت رحلها في أحد أركانه.. وغابت عن الدنيا في لحظة ، واستفاقت على صوت الأذان : اللـــه أكبر.. كان عليها أن تتسلل ثانية لتفادي السؤال والجواب، فخرجت إلى المجهول ثانية ،، فمشت ومشت ومشت ،،، وراحت تدور في الأسواق ، ومن سوق إلى سوق حتى انتهت إلى الجوع والعطش ، كانت تجلس في هذا الركن ثم في ذاك ، حتى لا يفطن إليها ناظر، ولما حـلّ الظلام ثانية ، عادت إلى المسجد تتلفع برضى ربها ، وتنشد مؤازرته، بينما صريخ أطفالها يـرن ّ في أذنيها كنعيق غراب أزعجه صقر. ليال مـرت وهي على هذا الحال، وبدا لها أن تفكر في حــل ّ ،، إلى أين ؟
الشرطة ؟ لا . فهذه فضيحة عليها شهود. أهل الخير؟ أنا لا أعرف احداً . أهلي؟ لا. فهم لم يتقبلوني قبل ذلك. الجمعيات الخيرية ؟ نعم. هم أهل الخير وسوف يعينونني على نائبتي. ودلفت إلى الجمعية: لكنك ِ لك أهل ، ولك زوج ، وقد هربت ِ من الجميع .. عودي إلى أهلك أو إلى زوجك، يبدو أنك ِ هربت ِ بسبب خطيئة .. عودي أدراجك وأصلحي من شأنكِ.
كم أنت ِ قاسية أيتها الدنيا ! كم أنت َ ظلوم ٌ أينها الإنسان ! يتمتع الظالم بخطيئته بينما ضحيته تتخبط في الظلمات ، تسير على غير هدى ، تتساقط أوراقها وقد انزلقت إلى خريف العمر في غير أوان.. تتربع خادمتها على عرشها ، بينما تبكي الفضيلة أمام كبرياء الرذيلة. ويخسر العفاف جولته أمام بطش الخيانة . كم أنت ِ قاسية أيتها الدنيا !!
قادتها قدماها إلى باب المحكمة ..
القاضي والكاتب وشهود لا تعرفهم ورجال شرطة ، ولأول مرة في حياتها تقف أمام القاضي,, رجل مهيب الطلعة ، يبدو متجهماً للوهلة الأولى، يكاد الكاتب يرتجف كلما نظر إليه القاضي، بينما يقف رجال الشرطة وكأنهم في طابور الصباح، لم تدـر ِ أتجلس أم تقف !
القاضي – ما اسمك ِ؟
هـــي – ( تطلعت حولها لتنظر هل هناك من يعرفها أم لا ) : أنا.. وغاب صوتها وسط النحيب..
القاضي – اقتربي يا بنيـة .. ما اسمك ِ ؟
هـــي – ( لا جواب ) شعورها بالمرارة يمنع صوتها من الانفلات خارج حلقها..
القاضي – ما هي مشكلتك ِ ؟
هـــي – يضربني ، وينام مع الخادمة أمامي وأمام صغاري.
القاضي – اكتبي لنا اسمه وعنوانه عند الكاتب.. واحضري بعد غــد ٍ صباحاً. اذهبي الآن.
وبينما كان القاضي خارجاً من المحكمة بعد الظهر، رأى المرأة ذاتها تجلس على درجات المدخل ، فعرفها وقال : ألست ِ أنت ِ التي كنت ِ هنا في الصباح؟
قالت : نعم . قال: ألا تذهبين إلى مكان يأويك ؟ قالت : ليس لي مكان يأويني. واحتار القاضي في أمرها ، فأمر رجال الشرطة بأخذها إلى حيث يضعون بعض النساء في حالات مشابهة..
وكان لقاؤها في المحكمة بعد يومين ، هـي والزوج ، والقاضي والكاتب والشرطة والخادمة وأطفال وأناس جالسون على المقاعد .
القاضي – أيها الرجل ، أهذه زوجتك؟
الرجل – نعــم ، وقد هربت من البيت .
القاضي – لماذا هربت من البيت ؟ هل ضربتها ؟
الرجل – لست أدري لماذا هربت ! ولم أضربها. لعلها تعشق أحداً غيري..
القاضي – أتتهمهــا؟ عليك بالدليل.
الرجل – دليلي أنها هربت ليلاً وتركت صغارها يصرخون في جوف الليل ، وهل من دليل أكبر على سوء فعلتها؟
القاضي – أيها الشرطي.. خذ هذا الرجل خارج القاعة حتى أستدعيه..
القاضي – ( يدعو ابنة الرجل) قولي لي أيتها الصغيرة, أين كان أبوك ِ عندما خرجت أمك من المنزل؟
البنت – ( تتردد ) كان في داخل البيت.
القاضي – وأين كانت أمك وأين كنت ِ أنت ِ وإخوتك ؟
البنت – كنا في ساحة البيت ، كانت أمي في زاوية وكنت ُ أنا وإخوتي في زاوية أخرى , ننظر إليها، كانت تبكي.
القاضي – أين كانت الخادمة ؟
البنت – داخل البيت . أنا أكرهها.. ( قالتها بحدة المقهور)
القاضي – لماذا تكرهين الخادمة ؟ إنها تساعد أمك في البيت ..
البنت – رأيتها يوماً تضرب أمي أمام أبي..
القاضي – ( آه ) هاتوا الخادمة . لماذا ضربت ِ صاحبة البيت أمام زوجها؟
الخادمة – هو طلب مني ذلك. هو لا يحبها .. هو ....
القاضي – اســكتي . هاتوا المرأة , لماذا ضربتك هذه الخادمة أمام زوجك؟
المرأة – وجدتها تتقلب على سريري فصرخت عليهما,, فأغلق الباب وأمرها أن تضربني..
القاضي – هاتوا الرجل. أيها الرجل ، اعترفت خادمتك أنها أمرتها أن تضرب زوجتك أمامك.. لماذا فعلت ذلك؟
الرجل – أنا ؟ هما اعتركتا, والخادمة غلبت عليها، وقد أصلحت ُ بينهما,
القاضي – وأين دارت هذه المعركة ؟ في غرفة نومك.
الرجل – كانت الخادمة تصلح السرير وترتب الغرفة ،، هذا أمر طبيعي..
البنت – ( وقد أخذها حماس غريب ) لا.. هذا أمر غير طبيعي..
كان لا بدّ للقاضي من أن يصدر قراره، فهنا رجل ٌ ظالم ، وخادمة ٌ لعبت بعقل رجل ضلّ وأضـل ، وزوجة خذلتها المقادير وشردتها المحاذير ، وأطفال يعيشون في بيت يرعاه أب ٌ لا يمكن أن يكون أباً صالحاً .
وضع القاضي رأسه بين كفيه، وغاب في صمته لحظة ً ، ثم أصدر حكمــاً عـادلاً.