
البؤساء
بقلم : محمد يوسف جبارين( أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين
وددت لو أرى ذلك المقلاع الذي قيل عنه ، بأنه لا مثيل له ، في كل مقاليع البؤساء في الأرض . فانطلقت الى أهلي الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، فاتخذوا من الأكواخ والخيام رمزا لعدم الثبات ، ولعدم الاستقرار في المكان ، وعنوانا للعودة الى الربوع ...
أولئك البؤساء الذين اتحدت أحلامهم بأحلامي وآمالهم بآمالي ، ومشاعرهم الوجدانية بمشاعر وجداني ، أولئك أحبابي الذين وضعوا طاقاتهم كلها في خدمة المبادىء التي ترسخت في عقولهم وفي نفوسهم ، حتى أنهم اذا باتوا ليلة عاشوا العودة في أحلامهم ، واذا أصبحوا انصرفوا الى بناء جسر العودة بأفكارهم وأموالهم وأرواحهم .
أولئك الذين ما يأسوا رغم الرزايا والبلايا التي حلت بهم .
التقيت البؤساء في مخيماتهم – ويا ما أروع ما رأت عيناي – وجدتهم يتحصنون بالحق وينزعون الحجارة عن مقاليعهم .. ويتأملون ، ويتصابرون .. وهو صبر فتشت عنه في نفوسهم ، فوجدته يعني ثبات الارادة على عناق آلامال في الحرية ، وثبات النزوع الى بذل كل متاح في حث السير ، على درب الخلاص من الواقع المرير، زحفا لا ينقطع ، نحو تفكيك العقبات التي تعترض ، وصولا الى سقاية الآمال التي تعمر النفس ، باجراء تبديل في الظروف القائمة ، بعثا وتنشئة لأخرى غيرها ، يتأتى في خلالها ترجمة حنين يأسر النفس الى شروق الحرية ، كنتاج عزم جماعي لا يكل ولا يلين في الاستجابة لكل ما يتوارى بالظلام ، باستدناء شمس الحرية من شروقها ، فنرى اليهم في أقوالهم ، وفي أفعالهم ، فكأنهم الارادة الواثقة من استوائها على مرادها ، وذلك على الرغم من كل الأهوال التي تحط لهم على الدرب وتنزل عصفا بهم ، فليس يتراءى لهم ، في غمرة ذلك كله ، سوى أن عبور جسر العودة مسألة ارادة ووقت ، ويعود للحياة خلاصها من أسرها ، ويعود للشرق صفاؤه ، فلقد عبر عابرون بكل ظلام ولم يمكنهم سوى أن يشربوا من ظلامهم ويفروا ، مثل غبار تحمله الريح ويسد الأفق ، ثم تتبدد كتله ، وتتلاشى بطيئا ثم تندثر ، فأي صلابة ارادة ، وأي مضاء عزيمة ، وأي نبل شكيمة ، وأي ايمان بالحق والعدل والحرية ، في مقابلة باعث الهوى ، فأي نوع من المخلوقات هؤلاء ؟! .
انهم يستعذبون العذاب في سبيل الحق ، ويتواصون كأنهم البنيان المرصوص ، ويتراحمون ، ويتسابقون الى الجنة ...، فذاك طفل بيده تمرات يتمتم ، بخ بخ ، أليس بيننا وبين الجنة الا أن نرشق هؤلاء بالحجارة ؟ فيلقي بالتمرات أرضا ويسارع الى الجنة ، وكأنما هو تمثل جند الله في عين جالوت .
وتلك فتاة راحت تذود ، بكل عناد الأحرار في مواطن الحق ، عن فتى أسمر راح هو يتمرغ بدمائه ، وقد نزفت من فمه من أثر رصاصة زرعتها قوى الظلام عن بعد في فكه الأيسر .
ولما حاولت الفتاة ، أن تشرح أسباب صلابتها ، في ذلك الموقف الذي نجحت فيه ، بمنع الفتى من أن تصل اليه قوات الظلام ، فتأخذه أسيرا .. قالت بأنها تذكرت في تلك اللحظات معركة أحد ، ولا تدري لماذا اعتراها احساس ، بأن لا يجب ان تكون هي أقل بسالة من نسيبة المازنية .
وذاك رجل سمعته ينادي النساء ، اضربن يا بنات يعرب ، فلا أقدس من العروبة والاسلام لواء نزرعه فوق هذه الربوع ، وآخر كهلا سمعته يصرخ بملء شدقيه ، اضربي يا عفراء ، فهذا زمان لا يتطهر فيه التراب الا بالتراب ، وترد هي عليه ينصرك الله يا خالد بن الوليد .
وعلى البعد رأيت فتى عاري الصدر ينقض كما الشهاب الثاقب ، سألت ، من يكون ؟! قالوا: ضرار ، أولا تراهم يفرون من أمامه ؟ . قلت ومن تكون تلك الفتاة التي بيدها عصا ، تكر ولا تفر ؟ ، قالوا : تلك خولة أخت ضرار ، ألم تكتب الصحافة عنها ؟! .
زاد انبهاري الى أن تحولت دهشة عقلي الى ذهول ، لم أنفك منه الا بتلك الأصوات المتلاحقة التي دقت على أذني ، فانتبهت ، فاذا به طفل يقول لي : فما بالك شارد الذهن ؟ الى أين تأخذ بك عملية التفكير ؟ ، قلت أندهش لما تراه عيناي من صور الماضي المجيد ، ومع ذلك فالحقيقة الموضوعية تؤكد على أن كل ما أراه أمامي واقع في الواقع الذي نحياه ، فكيف سبيلي الى الفهم ؟! ، قال : الناس هنا تحولوا الى أوعية للقرآن ، فراحوا يدبون على الأرض كما كان يدب على الأرض أجدادهم ، ومن هنا تشابهت صور أشرقت في الماضي بصور تشرق في الحاضر . وبرغم أن هناك فروقا طفيفة بين الصور ، الا أننا لا نستطيع أن نرد هذه الفروق الى المبادىء فقط ، وانما أيضا الى الطبيعة البشرية ، والى تبدل أحوال الأرض في الزمان ، والى مدى انفعال العقل بالطبيعة ، ويكفي ما نحن فيه دليلا على أننا بدأنا بالفعل في بناء حضارتنا الماجدة من جديد . فهذا البناء من مهمة أهالي المخيم ، قلت : فأين الحضارة التي تتكلم عنها ؟! ، قال : ويحك .. أو ليس التحرر والتحرير هما القاعدة الأساسية التي تقوم عليها حضارتنا ؟ ، قلت : بلى .. فالحرية أولا ، قال : ونحن الآن في مرحلة وضع القواعد ، سألته ، فمن أين كانت البداية الحقيقية ؟ ، فسارع هو الى الاجابة بقوله : من هناك ، حيث يجب أن تكون البداية ، قلت : فمن أين ؟ ، قال : هناك في الفكر والروح والوجدان ، بدأنا في بناء حضارتنا ، ومن هناك انبعثنا ، فشرعنا في اجراء جراحة سياسية في الوجود من حولنا ، قلت : فما علاقة الايمان بالحضارة ؟ ، قال : أعطني ايمانا أعطيك ثورة ، والثورة ضرورة انبعاث وقيام للحضارة ، وفي كل الأحوال ، فالايمان يملي ضرورة التزود بتصور شامل متكامل للحياة ، وللكون كذلك من حولنا ، بما في ذلك مستقبلنا في هذه الأرض . بمعنى أننا يجب أن نفهم بأن دولة الاسلام انما هي الضرورة القصوى التي يلح عليها الايمان ، وذلك تنفيذا لما استقر عليه العقل من اختياره الاسلام دينا ، واننا لكي نطبق الاسلام ونحياه ، انما يتوجب علينا أن نعمل سوية كجماعة بشرية واحدة ، حرة الاختيار ، حرة الارادة ، طليقة القدرة ، وذلك لكي نقدر على تنظيم جهودنا وبذلها في بناء حضارتنا . وأيضا لكي نستطيع أن نسهم في اثراء الحضارة الانسانية . اذن فحاجتنا الدولة التي لا مفر لنا منها ، ليس الا لكي تنتظم أمورنا ، ولا بعد ذلك من مناص أو مفر من الأرض كبقعة جغرافية ، لا بد منها لتقوم هذه الدولة أو هذا النظام فوق ربوعها ، تلك حاجتنا ، وليس بيننا وبين حاجتنا ، الا أن يضغط الايمان بنا على القيود التي تحول بيننا وبين حاجتنا .
وهنا وفي هذه اللحظة بالذات ، اذا بها اشارة تأتي الى الطفل من أخ له في الكفاح ، تقول له أن تعال سريعا ، فيسارع هو بمشاعرة الى أخيه ، بينما كان لسانه يستودع في عقلي قوله : اكتبوا عنا كثيرا ، اجعلوا الكتابة عن الانتفاضة صنعة ليلكم ونهاركم ، اكتبوا الحقائق كما ترونها بأم أعينكم ، فان حالوا بينكم وبين الوصول الينا فاصنعوا صور الحقائق بأقلامكم ، وكفاكم الحقائق كاملة غير منقوصة ، اشرحوا سيل الدم الذي يسيل من بطون وأكباد شعب فلسطين ، اشرحوا ذلك الى كل عقل في هذا العالم ، خاطبوا عقول العالم وخاطبوا غرائز العالم – وما أسهل الحديث الى غرائز الناس ، وما أصعب الحديث الى عقولهم - سيطروا على صحافة العالم ، بل على وسائل الاعلام العالمي كلها ، فالرأي العام العالمي قوة جبارة تتحكم بمصائر الشعوب ، وتحركها كيف تشاء ، وتعالوا الينا بهدية نحن بانتظارها ونريدها ، وهي قوة الضمير العالمي ، وقد صحت من غفوتها ، لتنحاز بكل عنفوانها الى جانبنا .
وراح يسارع بخفة الطير الى العطاء ، تأخذ به قدماه الى أخيه في الكفاح ، وفي أعماق وعيه يتمنى أن تكون في انتظاره مهمة شاقة ، تزيد في احساسه بقدرته على العطاء ، وتزيد في فرحته حين الأداء .
وللأمانة فقد كانت كلمات الطفل تدق على الذاكرة ، فتعيد الى نفسي ذكرى طفولة تمردت ، وراح يكبر تمردها الى أن طوت جاهلية عمياء في رمال الصحراء ، وغير ذلك استفسار راح يعتور كياني النفسي كله ؛ فلماذا جاء هذا الطفل متأخرا في الزمان ؟ ، لماذا لم يأت منذ زمان بعيد ، والى الساحل ، ليصد كتل الظلام الزاحفة نحونا ؟ ، لماذا ظل ينتظر حتى أرخى الظلام سدوله على الأرض كلها ؟ ، هل كان ينقصه الايمان ؟ ، أم كان ينقصه التنظيم والانضباط في نظام مقاومة يشمل الجماهير الشعبية كلها ؟ ، أم أنها كانت تنقصه هذه كلها ؟ .
لقد تهيأ لي في زحمة تلك التساؤلات ، التي راحت تتكاثر في تلك اللحظات في ذهني ، بأن الطفل كان على موعد مع دوره في تحريك حركة التاريخ ، ولهذا ظل هناك يتربع في قلب الأمل الكامن في أعماق اليأس ، الى أن اشتدت وطأة الظلام ، واشتد معها اليأس حتى ظنت قوى الظلام ، بأنها أوشكت أو كادت توشك أن تعتصر بالعنف جذوة الحياة وتلغي وجودها ، فاذا به اليأس لا يمكن له الا أن يكون يائسا ، واذا به الطفل يشع بخيوط الأمل في كل اتجاه ، يمزق بها ظلمات اليأس ، ويطوق بعزيمته وصبره واصراره تلك اللفائف من الظلام ، ليأخذ يلقي بها غدا في نفايات التاريخ .
وعلى قدر انبهاري بقدرة الطفل ، على استنهاض قواه الروحية التي ظلت مدفونة في داخله زمنا طويلا ، وعلى قدر اعجابي بقدرته على حرف التاريخ عن مساره ، على قدر ما اكتنف الأسى نفسي حزنا على أعراب وعرب تخدروا – في الوطن العربي – في تدبيج قصائد المديح في الطفل ، وهم عاجزون أو لا يجرؤون أن يتظاهروا أو يحركوا مظاهرة واحدة ، يسندون بغضبها المتفجر سيل الدم في ربوع أرضنا الطيبة ، وربما يكون ذاك هو الأسى الذي فاض في زفرات من نفوس كثيرة راحت تتساءل قائلة ، هل هو الطفل المارد بحاجة الى صفات البطولة تأتيه من قاعدين ؟ ، بل الطفل يريد أن يرى أمته الى جانبه ، فلا قاعد منها ولا قعود .
مشيت مثقلا بهموم الثورة في ربوع بلادي ، أتمنى لو أن هذا الطفل يغدو مدرسة يتخرج منها الأطفال في ربوع الجغرافية العربية والاسلامية كلها .
وبينما أنا كذلك أتمنى وأشق طريقي بعيدا ، عن ذلك الموقع الذي كان يطل على ذلك الطريق ، الذي تركه الأطفال ، دون اغلاقه بالصخور ، ليتاح منه الفرار لقوات الظلام ، كانت تلابيب الظلام المدفونة عند الشفق الأحمر تدل على أن سكونا مقبلا ، وسكينة تنتظر أهالي المخيم في ليل ، سوف يكون مناسبة تعانق عيون الأطفال فيها جمال النجوم في أعماق السماء .
وما لبثت دقائق معدودات غارقا في الأمل ، وفي هموم الأمل ، حتى رأيت في سفح الجبل فتيانا أربعة ، قد نال منهم العطش ، بعدما مهمات صدامية طال وقتها ، فلما جاءوا بالماء اليهم ، أخذ الواحد منهم يدفع بالماء الى الآخر ، والى أن تقدم فحسم الأمر بينهم أخ لهم في الكفاح ، دمعت عيناه لمشهد من تراحم بين اخوة كفاح ، مؤمنين بصدق قضيتهم وعدالتها .
رأيت - بعد ذلك – واحدا من الفتيان الأربعة ينهض من مكانه ويستأذن ذلك الأخ ، في حديث لم يصل الى أذني منه شيئا ، اللهم الا في اليوم التالي ، فقد شاع الخبر في المخيم بأن الفتى الأخضر قد طلب الزواج من زهوة بنت ياسر قائد المخيم – ووافقت الفتاة على الزواج من الفتى على أن يكون مهرها حفظ سورة البقرة ورشق ألف حجر ، فلما فوجئت الفتاة بأن الفتى الأخضر قد استوفى شروطها ، من فبل أن يطلب يدها ، اقيم حفل زفاف ، هو بمثابة ذكر لبطولات الشهداء ، وعرض بسيط لمقاليعهم ... ، وفيما أذكره عن تلك الليلة ، أني سألت القائد ياسر ، عن السبب الذي أدى الى اطلاق اسم البؤساء على المخيم ، فاجأبني بهدوء نادر ، قائلا : يا بني ، من الأسماء ما هو نداء نتوجه به الى عموم أبناء شعبنا ، وهذا هو شأننا مع اسم البؤساء ، فشظف العيش واجب تفرضه الانتفاضة ، وهو ولا شك مجاهدة للنفس ، لكن هذه المجاهدة لا يجب فصلها أبدا عن دور المقلاع في الانتفاضة ، وما لنا حيال حصار تلو حصار تفرضه قوات الظلام علينا ، الا أن نعتاد شظف العيش دعما اقتصاديا للانتفاضة ، ولا أقل من أن تفهم دوافع قوات الظلام الى قطع المياه ، والى حصارات التجويع ، لتجد شعار البؤساء شعار ضرورة لدعم الانتفاضة .
في صبيحة اليوم التالي كان لقائي الأخير مع المقلاع الذي كان قوة اجتذابي الى مخيم البؤساء . قرأت المكتوب عليه والذي يكتبه ، فاذا به الانتماء وتحقيق الانتماء . سألته عن الخماسية التي ذاع ذكرها في البلدان ، فقال: الصلوات خمس وأصابع اليد خمسة ، والخماسية هي الأرض والانسان والقرآن واللغة العربية والتاريخ ، ولذلك أقوم برشق الحجارة الخمسة دفعة واحدة ، فحجرا في وجه من اعتدى على الأرض ، وحجرا في وجه من ظلم الانسان ، وحجرا في وجه من تطاول على القرآن ، وحجرا في وجه من هزء باللغة العربية ، وحجرا في وجه من زيف التاريخ ، فهي خماسية البؤساء في الدفاع عن الانتماء .
بقلم : محمد يوسف جبارين( أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين
وددت لو أرى ذلك المقلاع الذي قيل عنه ، بأنه لا مثيل له ، في كل مقاليع البؤساء في الأرض . فانطلقت الى أهلي الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، فاتخذوا من الأكواخ والخيام رمزا لعدم الثبات ، ولعدم الاستقرار في المكان ، وعنوانا للعودة الى الربوع ...
أولئك البؤساء الذين اتحدت أحلامهم بأحلامي وآمالهم بآمالي ، ومشاعرهم الوجدانية بمشاعر وجداني ، أولئك أحبابي الذين وضعوا طاقاتهم كلها في خدمة المبادىء التي ترسخت في عقولهم وفي نفوسهم ، حتى أنهم اذا باتوا ليلة عاشوا العودة في أحلامهم ، واذا أصبحوا انصرفوا الى بناء جسر العودة بأفكارهم وأموالهم وأرواحهم .
أولئك الذين ما يأسوا رغم الرزايا والبلايا التي حلت بهم .
التقيت البؤساء في مخيماتهم – ويا ما أروع ما رأت عيناي – وجدتهم يتحصنون بالحق وينزعون الحجارة عن مقاليعهم .. ويتأملون ، ويتصابرون .. وهو صبر فتشت عنه في نفوسهم ، فوجدته يعني ثبات الارادة على عناق آلامال في الحرية ، وثبات النزوع الى بذل كل متاح في حث السير ، على درب الخلاص من الواقع المرير، زحفا لا ينقطع ، نحو تفكيك العقبات التي تعترض ، وصولا الى سقاية الآمال التي تعمر النفس ، باجراء تبديل في الظروف القائمة ، بعثا وتنشئة لأخرى غيرها ، يتأتى في خلالها ترجمة حنين يأسر النفس الى شروق الحرية ، كنتاج عزم جماعي لا يكل ولا يلين في الاستجابة لكل ما يتوارى بالظلام ، باستدناء شمس الحرية من شروقها ، فنرى اليهم في أقوالهم ، وفي أفعالهم ، فكأنهم الارادة الواثقة من استوائها على مرادها ، وذلك على الرغم من كل الأهوال التي تحط لهم على الدرب وتنزل عصفا بهم ، فليس يتراءى لهم ، في غمرة ذلك كله ، سوى أن عبور جسر العودة مسألة ارادة ووقت ، ويعود للحياة خلاصها من أسرها ، ويعود للشرق صفاؤه ، فلقد عبر عابرون بكل ظلام ولم يمكنهم سوى أن يشربوا من ظلامهم ويفروا ، مثل غبار تحمله الريح ويسد الأفق ، ثم تتبدد كتله ، وتتلاشى بطيئا ثم تندثر ، فأي صلابة ارادة ، وأي مضاء عزيمة ، وأي نبل شكيمة ، وأي ايمان بالحق والعدل والحرية ، في مقابلة باعث الهوى ، فأي نوع من المخلوقات هؤلاء ؟! .
انهم يستعذبون العذاب في سبيل الحق ، ويتواصون كأنهم البنيان المرصوص ، ويتراحمون ، ويتسابقون الى الجنة ...، فذاك طفل بيده تمرات يتمتم ، بخ بخ ، أليس بيننا وبين الجنة الا أن نرشق هؤلاء بالحجارة ؟ فيلقي بالتمرات أرضا ويسارع الى الجنة ، وكأنما هو تمثل جند الله في عين جالوت .
وتلك فتاة راحت تذود ، بكل عناد الأحرار في مواطن الحق ، عن فتى أسمر راح هو يتمرغ بدمائه ، وقد نزفت من فمه من أثر رصاصة زرعتها قوى الظلام عن بعد في فكه الأيسر .
ولما حاولت الفتاة ، أن تشرح أسباب صلابتها ، في ذلك الموقف الذي نجحت فيه ، بمنع الفتى من أن تصل اليه قوات الظلام ، فتأخذه أسيرا .. قالت بأنها تذكرت في تلك اللحظات معركة أحد ، ولا تدري لماذا اعتراها احساس ، بأن لا يجب ان تكون هي أقل بسالة من نسيبة المازنية .
وذاك رجل سمعته ينادي النساء ، اضربن يا بنات يعرب ، فلا أقدس من العروبة والاسلام لواء نزرعه فوق هذه الربوع ، وآخر كهلا سمعته يصرخ بملء شدقيه ، اضربي يا عفراء ، فهذا زمان لا يتطهر فيه التراب الا بالتراب ، وترد هي عليه ينصرك الله يا خالد بن الوليد .
وعلى البعد رأيت فتى عاري الصدر ينقض كما الشهاب الثاقب ، سألت ، من يكون ؟! قالوا: ضرار ، أولا تراهم يفرون من أمامه ؟ . قلت ومن تكون تلك الفتاة التي بيدها عصا ، تكر ولا تفر ؟ ، قالوا : تلك خولة أخت ضرار ، ألم تكتب الصحافة عنها ؟! .
زاد انبهاري الى أن تحولت دهشة عقلي الى ذهول ، لم أنفك منه الا بتلك الأصوات المتلاحقة التي دقت على أذني ، فانتبهت ، فاذا به طفل يقول لي : فما بالك شارد الذهن ؟ الى أين تأخذ بك عملية التفكير ؟ ، قلت أندهش لما تراه عيناي من صور الماضي المجيد ، ومع ذلك فالحقيقة الموضوعية تؤكد على أن كل ما أراه أمامي واقع في الواقع الذي نحياه ، فكيف سبيلي الى الفهم ؟! ، قال : الناس هنا تحولوا الى أوعية للقرآن ، فراحوا يدبون على الأرض كما كان يدب على الأرض أجدادهم ، ومن هنا تشابهت صور أشرقت في الماضي بصور تشرق في الحاضر . وبرغم أن هناك فروقا طفيفة بين الصور ، الا أننا لا نستطيع أن نرد هذه الفروق الى المبادىء فقط ، وانما أيضا الى الطبيعة البشرية ، والى تبدل أحوال الأرض في الزمان ، والى مدى انفعال العقل بالطبيعة ، ويكفي ما نحن فيه دليلا على أننا بدأنا بالفعل في بناء حضارتنا الماجدة من جديد . فهذا البناء من مهمة أهالي المخيم ، قلت : فأين الحضارة التي تتكلم عنها ؟! ، قال : ويحك .. أو ليس التحرر والتحرير هما القاعدة الأساسية التي تقوم عليها حضارتنا ؟ ، قلت : بلى .. فالحرية أولا ، قال : ونحن الآن في مرحلة وضع القواعد ، سألته ، فمن أين كانت البداية الحقيقية ؟ ، فسارع هو الى الاجابة بقوله : من هناك ، حيث يجب أن تكون البداية ، قلت : فمن أين ؟ ، قال : هناك في الفكر والروح والوجدان ، بدأنا في بناء حضارتنا ، ومن هناك انبعثنا ، فشرعنا في اجراء جراحة سياسية في الوجود من حولنا ، قلت : فما علاقة الايمان بالحضارة ؟ ، قال : أعطني ايمانا أعطيك ثورة ، والثورة ضرورة انبعاث وقيام للحضارة ، وفي كل الأحوال ، فالايمان يملي ضرورة التزود بتصور شامل متكامل للحياة ، وللكون كذلك من حولنا ، بما في ذلك مستقبلنا في هذه الأرض . بمعنى أننا يجب أن نفهم بأن دولة الاسلام انما هي الضرورة القصوى التي يلح عليها الايمان ، وذلك تنفيذا لما استقر عليه العقل من اختياره الاسلام دينا ، واننا لكي نطبق الاسلام ونحياه ، انما يتوجب علينا أن نعمل سوية كجماعة بشرية واحدة ، حرة الاختيار ، حرة الارادة ، طليقة القدرة ، وذلك لكي نقدر على تنظيم جهودنا وبذلها في بناء حضارتنا . وأيضا لكي نستطيع أن نسهم في اثراء الحضارة الانسانية . اذن فحاجتنا الدولة التي لا مفر لنا منها ، ليس الا لكي تنتظم أمورنا ، ولا بعد ذلك من مناص أو مفر من الأرض كبقعة جغرافية ، لا بد منها لتقوم هذه الدولة أو هذا النظام فوق ربوعها ، تلك حاجتنا ، وليس بيننا وبين حاجتنا ، الا أن يضغط الايمان بنا على القيود التي تحول بيننا وبين حاجتنا .
وهنا وفي هذه اللحظة بالذات ، اذا بها اشارة تأتي الى الطفل من أخ له في الكفاح ، تقول له أن تعال سريعا ، فيسارع هو بمشاعرة الى أخيه ، بينما كان لسانه يستودع في عقلي قوله : اكتبوا عنا كثيرا ، اجعلوا الكتابة عن الانتفاضة صنعة ليلكم ونهاركم ، اكتبوا الحقائق كما ترونها بأم أعينكم ، فان حالوا بينكم وبين الوصول الينا فاصنعوا صور الحقائق بأقلامكم ، وكفاكم الحقائق كاملة غير منقوصة ، اشرحوا سيل الدم الذي يسيل من بطون وأكباد شعب فلسطين ، اشرحوا ذلك الى كل عقل في هذا العالم ، خاطبوا عقول العالم وخاطبوا غرائز العالم – وما أسهل الحديث الى غرائز الناس ، وما أصعب الحديث الى عقولهم - سيطروا على صحافة العالم ، بل على وسائل الاعلام العالمي كلها ، فالرأي العام العالمي قوة جبارة تتحكم بمصائر الشعوب ، وتحركها كيف تشاء ، وتعالوا الينا بهدية نحن بانتظارها ونريدها ، وهي قوة الضمير العالمي ، وقد صحت من غفوتها ، لتنحاز بكل عنفوانها الى جانبنا .
وراح يسارع بخفة الطير الى العطاء ، تأخذ به قدماه الى أخيه في الكفاح ، وفي أعماق وعيه يتمنى أن تكون في انتظاره مهمة شاقة ، تزيد في احساسه بقدرته على العطاء ، وتزيد في فرحته حين الأداء .
وللأمانة فقد كانت كلمات الطفل تدق على الذاكرة ، فتعيد الى نفسي ذكرى طفولة تمردت ، وراح يكبر تمردها الى أن طوت جاهلية عمياء في رمال الصحراء ، وغير ذلك استفسار راح يعتور كياني النفسي كله ؛ فلماذا جاء هذا الطفل متأخرا في الزمان ؟ ، لماذا لم يأت منذ زمان بعيد ، والى الساحل ، ليصد كتل الظلام الزاحفة نحونا ؟ ، لماذا ظل ينتظر حتى أرخى الظلام سدوله على الأرض كلها ؟ ، هل كان ينقصه الايمان ؟ ، أم كان ينقصه التنظيم والانضباط في نظام مقاومة يشمل الجماهير الشعبية كلها ؟ ، أم أنها كانت تنقصه هذه كلها ؟ .
لقد تهيأ لي في زحمة تلك التساؤلات ، التي راحت تتكاثر في تلك اللحظات في ذهني ، بأن الطفل كان على موعد مع دوره في تحريك حركة التاريخ ، ولهذا ظل هناك يتربع في قلب الأمل الكامن في أعماق اليأس ، الى أن اشتدت وطأة الظلام ، واشتد معها اليأس حتى ظنت قوى الظلام ، بأنها أوشكت أو كادت توشك أن تعتصر بالعنف جذوة الحياة وتلغي وجودها ، فاذا به اليأس لا يمكن له الا أن يكون يائسا ، واذا به الطفل يشع بخيوط الأمل في كل اتجاه ، يمزق بها ظلمات اليأس ، ويطوق بعزيمته وصبره واصراره تلك اللفائف من الظلام ، ليأخذ يلقي بها غدا في نفايات التاريخ .
وعلى قدر انبهاري بقدرة الطفل ، على استنهاض قواه الروحية التي ظلت مدفونة في داخله زمنا طويلا ، وعلى قدر اعجابي بقدرته على حرف التاريخ عن مساره ، على قدر ما اكتنف الأسى نفسي حزنا على أعراب وعرب تخدروا – في الوطن العربي – في تدبيج قصائد المديح في الطفل ، وهم عاجزون أو لا يجرؤون أن يتظاهروا أو يحركوا مظاهرة واحدة ، يسندون بغضبها المتفجر سيل الدم في ربوع أرضنا الطيبة ، وربما يكون ذاك هو الأسى الذي فاض في زفرات من نفوس كثيرة راحت تتساءل قائلة ، هل هو الطفل المارد بحاجة الى صفات البطولة تأتيه من قاعدين ؟ ، بل الطفل يريد أن يرى أمته الى جانبه ، فلا قاعد منها ولا قعود .
مشيت مثقلا بهموم الثورة في ربوع بلادي ، أتمنى لو أن هذا الطفل يغدو مدرسة يتخرج منها الأطفال في ربوع الجغرافية العربية والاسلامية كلها .
وبينما أنا كذلك أتمنى وأشق طريقي بعيدا ، عن ذلك الموقع الذي كان يطل على ذلك الطريق ، الذي تركه الأطفال ، دون اغلاقه بالصخور ، ليتاح منه الفرار لقوات الظلام ، كانت تلابيب الظلام المدفونة عند الشفق الأحمر تدل على أن سكونا مقبلا ، وسكينة تنتظر أهالي المخيم في ليل ، سوف يكون مناسبة تعانق عيون الأطفال فيها جمال النجوم في أعماق السماء .
وما لبثت دقائق معدودات غارقا في الأمل ، وفي هموم الأمل ، حتى رأيت في سفح الجبل فتيانا أربعة ، قد نال منهم العطش ، بعدما مهمات صدامية طال وقتها ، فلما جاءوا بالماء اليهم ، أخذ الواحد منهم يدفع بالماء الى الآخر ، والى أن تقدم فحسم الأمر بينهم أخ لهم في الكفاح ، دمعت عيناه لمشهد من تراحم بين اخوة كفاح ، مؤمنين بصدق قضيتهم وعدالتها .
رأيت - بعد ذلك – واحدا من الفتيان الأربعة ينهض من مكانه ويستأذن ذلك الأخ ، في حديث لم يصل الى أذني منه شيئا ، اللهم الا في اليوم التالي ، فقد شاع الخبر في المخيم بأن الفتى الأخضر قد طلب الزواج من زهوة بنت ياسر قائد المخيم – ووافقت الفتاة على الزواج من الفتى على أن يكون مهرها حفظ سورة البقرة ورشق ألف حجر ، فلما فوجئت الفتاة بأن الفتى الأخضر قد استوفى شروطها ، من فبل أن يطلب يدها ، اقيم حفل زفاف ، هو بمثابة ذكر لبطولات الشهداء ، وعرض بسيط لمقاليعهم ... ، وفيما أذكره عن تلك الليلة ، أني سألت القائد ياسر ، عن السبب الذي أدى الى اطلاق اسم البؤساء على المخيم ، فاجأبني بهدوء نادر ، قائلا : يا بني ، من الأسماء ما هو نداء نتوجه به الى عموم أبناء شعبنا ، وهذا هو شأننا مع اسم البؤساء ، فشظف العيش واجب تفرضه الانتفاضة ، وهو ولا شك مجاهدة للنفس ، لكن هذه المجاهدة لا يجب فصلها أبدا عن دور المقلاع في الانتفاضة ، وما لنا حيال حصار تلو حصار تفرضه قوات الظلام علينا ، الا أن نعتاد شظف العيش دعما اقتصاديا للانتفاضة ، ولا أقل من أن تفهم دوافع قوات الظلام الى قطع المياه ، والى حصارات التجويع ، لتجد شعار البؤساء شعار ضرورة لدعم الانتفاضة .
في صبيحة اليوم التالي كان لقائي الأخير مع المقلاع الذي كان قوة اجتذابي الى مخيم البؤساء . قرأت المكتوب عليه والذي يكتبه ، فاذا به الانتماء وتحقيق الانتماء . سألته عن الخماسية التي ذاع ذكرها في البلدان ، فقال: الصلوات خمس وأصابع اليد خمسة ، والخماسية هي الأرض والانسان والقرآن واللغة العربية والتاريخ ، ولذلك أقوم برشق الحجارة الخمسة دفعة واحدة ، فحجرا في وجه من اعتدى على الأرض ، وحجرا في وجه من ظلم الانسان ، وحجرا في وجه من تطاول على القرآن ، وحجرا في وجه من هزء باللغة العربية ، وحجرا في وجه من زيف التاريخ ، فهي خماسية البؤساء في الدفاع عن الانتماء .