في المقهى
نحرق بعضا من همومنا كما السجائر التي تحرق صدورنا عندما تحترق ، في المقهى العربي من المحيط الى الخليج تتراكم الهموم على كراسي متناثرة حول الطاولة أو على حافة الرصيف تنفث دخانها فتعكر صفو البيئة وتمتص بقايا البن في قعر الفنجان ، وقرقعة ( الأرجيلة) تعزف لحن الاحباط والضيق ، كنت هناك أتفرس في الوجوه الشاحبة التي كساها الشعر ربما لانعدام ثمن شفرة الحلاقة والمعجون وربما لغياب مبررات حلاقة الدقن ، والعيون الذابلة تنظرالى اللا شيء في فضاء يعبق بالأدخنة وزفير المحبطين ، جلس على كرسي مقابل يمص سيجارته حتى أستطيع القول انه يأكلها، بثيابه الرثة ولحية تدلت على غاربها ولعاب يسيل من جانبي فمه يعطيك انطباعا بالبلاهة أو لقلة الأسنان في ذاك الفم ...
طلبت من النادل ان يسقيه مشروبا على حسابي ، نظر الي وتوجه حاملا كرسيه وشاركني طاولتي مستغربا رغم أننا في السبعينات وكان الأمر عاديا تقريبا أن يدفع شخص ما الحساب عن الآخر ولم تكن الطريقة الأمريكية سائدة في تلك الفترة ...
لا أنكر انني توهمت أن هذا الشيخ الكبير مجنونا أو أصيب بالخرف مثلا أو فقد عقله لسبب ما ، كان الأمر لا يعنيني فلست أكثر من عابر سبيل حيث اقامتي في لبنان ليست سوى أيام و دخلت الى هذا المقهى بمحض الصدفة ...
بدأ يحدثني فعرفت من لهجته أنه فلسطيني لاجيء الى لبنان ، مما جعلني أشعر وأن هذا الشيخ زاد كمية القهر التي ضاق صدري بها وصارت تسيل مني الى حواف الطرقات ..
:ــ كلهم يقولون عني مجنون... قال بأسى وصمت منتظرا رأيي .
:ــ أنت الخير والبركة يا عم ... قلت .
:ــ يابني أنا فعلا مجنون ومن الطبيعي أن أكون مجنونا ..
:ــ ماذا ؟؟ سألت باستغراب ولا أنكر انه لفت انتباهي .
:ــ يا بني أنا من مدينة حيفا في فلسطين ، كنت أسكن في بيت بالأجرة وعملت بالتجارة وربنا رزقني فبنيت بيتا كبيرا على سفح جبل الكرمل ، بيتا جميلا يطل على البحر له شرفة من الناحية الغربية تخيلت نفسي كثيرا أجلس عليها أشرب القهوة وأشاهد قرص الشمس يبتلعه البحر كل مساء ، أصبح البيت جاهزا للسكن ، فاقترحت زوجتي أن نؤجل قليلا رحيلنا للبيت حتى نشتري أثاثا وفرشا جديدا ، قامت الحرب ، وبدل أن نرحل الى بيتنا الجديد الجميل وجدتني أحمل بعض الملابس فقط ومع زوجتي وأولادي على عربة شحن كبيرة الى لبنان واذا بي أسكن في خيمة ، أليس هذا كاف لما انا فيه ؟؟ من الطبيعي أن أجن ... ومن غير الطبيعي أن لا أكون مجنونا !!!!!!
أحمد يوسف ياسين
عانين ــ جنين
نحرق بعضا من همومنا كما السجائر التي تحرق صدورنا عندما تحترق ، في المقهى العربي من المحيط الى الخليج تتراكم الهموم على كراسي متناثرة حول الطاولة أو على حافة الرصيف تنفث دخانها فتعكر صفو البيئة وتمتص بقايا البن في قعر الفنجان ، وقرقعة ( الأرجيلة) تعزف لحن الاحباط والضيق ، كنت هناك أتفرس في الوجوه الشاحبة التي كساها الشعر ربما لانعدام ثمن شفرة الحلاقة والمعجون وربما لغياب مبررات حلاقة الدقن ، والعيون الذابلة تنظرالى اللا شيء في فضاء يعبق بالأدخنة وزفير المحبطين ، جلس على كرسي مقابل يمص سيجارته حتى أستطيع القول انه يأكلها، بثيابه الرثة ولحية تدلت على غاربها ولعاب يسيل من جانبي فمه يعطيك انطباعا بالبلاهة أو لقلة الأسنان في ذاك الفم ...
طلبت من النادل ان يسقيه مشروبا على حسابي ، نظر الي وتوجه حاملا كرسيه وشاركني طاولتي مستغربا رغم أننا في السبعينات وكان الأمر عاديا تقريبا أن يدفع شخص ما الحساب عن الآخر ولم تكن الطريقة الأمريكية سائدة في تلك الفترة ...
لا أنكر انني توهمت أن هذا الشيخ الكبير مجنونا أو أصيب بالخرف مثلا أو فقد عقله لسبب ما ، كان الأمر لا يعنيني فلست أكثر من عابر سبيل حيث اقامتي في لبنان ليست سوى أيام و دخلت الى هذا المقهى بمحض الصدفة ...
بدأ يحدثني فعرفت من لهجته أنه فلسطيني لاجيء الى لبنان ، مما جعلني أشعر وأن هذا الشيخ زاد كمية القهر التي ضاق صدري بها وصارت تسيل مني الى حواف الطرقات ..
:ــ كلهم يقولون عني مجنون... قال بأسى وصمت منتظرا رأيي .
:ــ أنت الخير والبركة يا عم ... قلت .
:ــ يابني أنا فعلا مجنون ومن الطبيعي أن أكون مجنونا ..
:ــ ماذا ؟؟ سألت باستغراب ولا أنكر انه لفت انتباهي .
:ــ يا بني أنا من مدينة حيفا في فلسطين ، كنت أسكن في بيت بالأجرة وعملت بالتجارة وربنا رزقني فبنيت بيتا كبيرا على سفح جبل الكرمل ، بيتا جميلا يطل على البحر له شرفة من الناحية الغربية تخيلت نفسي كثيرا أجلس عليها أشرب القهوة وأشاهد قرص الشمس يبتلعه البحر كل مساء ، أصبح البيت جاهزا للسكن ، فاقترحت زوجتي أن نؤجل قليلا رحيلنا للبيت حتى نشتري أثاثا وفرشا جديدا ، قامت الحرب ، وبدل أن نرحل الى بيتنا الجديد الجميل وجدتني أحمل بعض الملابس فقط ومع زوجتي وأولادي على عربة شحن كبيرة الى لبنان واذا بي أسكن في خيمة ، أليس هذا كاف لما انا فيه ؟؟ من الطبيعي أن أجن ... ومن غير الطبيعي أن لا أكون مجنونا !!!!!!
أحمد يوسف ياسين
عانين ــ جنين