وجودُ الجن …. وصلته الحِسيَّة بالإنسان
في ضَوءِ الكتاب والسنة
د. سامي عطا حسن
جامعة آل البيت- المملكة الأردنية الهاشمية – المفرق
[ملخص]
عالم الجن حقيقة لا يشك فيها مسلم ، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم ، كما ذكرته الكتب السماوية ، وتكلمت عنه الديانات الوضعية على اختلاف نزعاتها ، فهو تراث مغرق في القدم ، عميق الجذور ولكن شاب هذا التراث الموروث كثير من الأوهام التي شغلت الأفكار ، وعكرت صفوها ، فتولدت عنها الأباطيل والخزعبلات ، التي لا تمت للحقيقة بصلة . والتصديق بالقرآن الكريم يستلزم التصديق بأن هناك عوالم غيبية ، منها عالم الجن والشياطين ، ولكن ذلك لا يستلزم التصديق بالخرافات التي أشيعت بين عامة الناس ، بحيث أصبحت عقيدة لا يجوز إنكارها ، أوبيان تهافتها ، فكان هذا البحث الذي حاولت أن أبين فيه أن الجن حقيقة قائمة ، وخلق من مخلوقات الله سبحانه ، ورصدت الأقوال التي تثبت الصلة الحسية للجن بالانسان، والأقوال التي تنفيها ، واخترت من بينها ماأميل إليه ، مؤيدا ذلك بطائفة من آراء أهل الذكر ، فإن أصبت فبها ونعمت ، والا فحسبي أنني اجتهدت ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، ثم أما بعد :
فقد شاعت في السنوات الأخيرة خرافات كثيرة حول الجن ، وانتشرت بين قطاع كبير من العامة والمتعلمين حتى أصبحت حقيقة مسلمة لدى كثير منهم ، مثل : إمكانية زواج الجني بالإنسية ، أو زواج الإنسي بالجنية ، وإمكانية تسخير الجن ، بل ظهرت كتب خاصة لإقرارها وبيان معالمها، وعلاج آثارها ، وصار كثير من الخاصة والعامة يتحدثون فيها حديث المُقِرّ الراضي ، ويُدندنون بنصوصٍ وآثار صحيحة غير صريحة ، أو صريحة غير صحيحة ، وبحكايات غثة وسقيمة ، أشبه بخيالات ألف ليلة وليلة .
والأنكى من ذلك كله ، أن بعض العلماء سلَّموا بتلك الخرافات دون بحث أو دراسة ، أما العوامّ فقد وافقت تلك الخرافات هواهم ، واقتنعت بها عقولهم الساذجة ، فانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم ، بل جعلوا الجن سبباً في أمراضهم العضوية والنفسية ومشاكلهم وأخطائهم .. و تبارت القنوات الإعلامية المقروءة والمسموعة من خلال المسلسلات والأفلام في ترويج هذه الضلالات .. فكان هذا البحث لإلقاء بعض الضوء على هذه المسألة ..
وجعلته في مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة على النحو التالي :
ففي المقدمة : بينت سبب اختيار هذا الموضوع .
وفي التمهيد : تحدثت عن وجود الجن بين المثبتين والنافين .
وفي المبحث الأول : تحدثت عن الجن في لغة العرب
وفي المبحث الثاني: بينت بعض عقائد العرب قبل الإسلام وغيرهم من الأمم في الجن .
وبينت في المبحث الثالث : آراء المؤيدين لصلة الجن الحسية بالإنسان :
وبينت في المبحث الرابع : آراء المنكرين اتصال الجن بالإنس وتسخيرالإنس للجن .
وفي الخاتمة : بينت أهم ما توصلت إليه من نتائج ..
والله أسأل أن يلقى هذا البحث قبولاً لدى قارئيه ، ويكون سبباً في زوال كثير من الشكوك والأوهام ، التي افترتها العقول السقيمة ، والأوهام العليلة ، والأهواء المُلتاثة .
تمهيد
حَسَمَ القرآنُ قضية وجود الجن ..حين أشار إلى وجود مخلوقات يطلق عليها اسم الجن ..وجعلهم مقابلين للإنس ..بل أدرجهم مع الإنس تحت اسم الثقلين( ) وأخبرنا سبحانه أنهم مخلوقون من نار .. حيث قال :- [والجان خلقناه من قبل من نار السموم ]( ) وقال سبحانه: [ وخلق الجان من مارج من نار]( ) وخاطب الله سبحانه الجن وجعلهم مسئولين ومؤاخذين عما يأتونه من أعمال ، وتحدث عن مصيرهم ،كما خاطب الإنسان وتحدث عنه في أعماله ومصيره سواء بسواء ..قال تعالى:- [يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ]( ). لذا لا يجوز إنكار وجود الجن ، إذ أن من ينكر وجودهم يكذب بالقرآن الكريم، وينكر معلوما من الدين بالضرورة .
وإبليس كان من الجن وقيل :-( هو علم جنس للشيطان )( ) أو:هو أصل الجان قال أبو منصور الجواليقي :- ( إبليس ليس بعربي ، وإن وافق قولهم :أبلس الرجل إذا انقطعت حجته)( )
وقال الدُّميري :-( واعلم أن المشهور أن جميع الجن من ذرية إبليس ، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة ،
لأن الملائكة لا يتناسلون ، لأنهم ليس فيهم إناث ..)( ) .
وهناك أقوال كثيرة مختلفة في أصل الجن .. وأرجحها القول الذي أخذ به الفخر الرازي حيث يقول :- (لما ثبت أن إبليس كان من الجن ، وجب أن لا يكون من الملائكة،لقوله تعالى:- [ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهولاء إياكم كانوا يعبدون .قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن]( ) فهذه الآية صريحة في بيان الفرق بين الجن والملائكة )( )
ولم ينكر وُجودَ الجن من القدماء إلا بعض الفلاسفة كابن سينا..فعند تعريفه لكلمة-جن- أكَّدَ في غير مُواربة ، أنه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة ..وقد تجنب الفارابي البحث في ذلك تهرباً من النفي والإثبات..
وجعل ابن خلدون : الآيات التي تشير إلى الجن من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ( ) .
وكذلك صاحب التفسير المسمى(بالهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن) ( ) ، فنجده مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى : [والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد]( )- الشياطين : يطلقون على الصناع الماهرين، والأشقياء المجرمين، ومقرنين في الأصفاد :- مسلوكين في القيود ، ومنه نفهم أن سليمان كا يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم ) ثم صودر الكتاب واختفى الكاتب والكتاب عن أعين وأذهان الناس .
أما الشيخ محمد عبده ، فقد زل قلمه حين فسر إبليس في قوله تعالى :- [وإذ قلنا للملائكة ا سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ...] ( ) بأنه :- (القوة المودعة في الإنسان التي تعوقه عن بلوغ درجة الكمال ..
وفسر - الجن- كذلك بأنها عبارة عن -ميكروبات وأمراض خفية- ..!؟) ( )
وتابعه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ..فبعد أن ذكر في تفسيره( أن الجن لا ترى للإنسان على أي حال من الأحوال ) ورجح أن ( من ادعى رؤية الجن فذلك وهم وتخييل ولا حقيقة له في الخارج ) نجده يقول في تفسير المنار ما نصه : - ( وقد قلنا في المنار غير مرة أنه يصح أن يقال : إن الأجسام الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة …. وتسمى بالمكروبات ..يصح أن تكون نوعا من الجن ….!وقد ثبت أنها علل لكثير من الأمراض ..) ( ) .
وقد رد عليهما في حينه كثير من العلماء منهم : - عبد الرافع نصر- حيث قال: - ( إن ما قالاه تأويل لكتاب الله على غير ما أراد الله ..بما يخرق الإجماع، بل يصادم المعقول والمنقول ..) ( )
وكذلك فعل الدكتور محمد البهي ( ) في تفسيره لسورة الجن ، إذ ذهب فيه إلى عديد من الآراء المتناقضة حول حقيقة الجن في القرآن الكريم ، منها :( أن الملائكة هي الموجودات الأصلية للجن ، وأن الملائكة خلقت من نار ، وأن إبليس من الملائكة )، وتعسف في الاستدلال على صحة آرائه ، وأنكر الأحاديث التي لا مطعن في إسنادها ، وخرج على إجماع المفسرين والمحدثين .
كما خصص الدكتور طه حسين فصلا في كتابه -في الشعر الجاهلي -عن مسألة الجن في الدين والأدب ،تحت عنوان: ( الدين وانتحال الشعر) ، وبدأ الفصل بقوله : ( فكان هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي ؟!)( )
ثم قال : :-( وفي القرآن سورة تسمى سورة الجن ، أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهويتلو القرآن فلانت قلوبهم ، وآمنوا بالله ورسوله ، فلم يكد القصاص والرواة يقرءون هذه السورة ، وما يشابهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن ، حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب ، واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر ،
وفنون السجع ..)( ) ، ولا نريد أن نتعرض لما في هاتين النُّبذَتينِ من الَمغامِزِ المَّاسَّةِ بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحة نبوته ، فقد تولى ذلك نخبة من العلماء الأفذاذ ،من أبرزهم :- الإمام مصطفى صادق الرافعي في كتابه : تحت راية القرآن ، والمحامي الأديب محمد لطفي جمعة في كتابه : الشهاب الراصد .. وغيرهما ، ولكن كم وَدِدنا لو أن -طه حسين- احترم عقيدة معاصريه ، ومشار كيه في الجنس ، واللغة ، والوطن ..
أما مسألة الجن وذكره في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي ، فلا تقتضي تلك الحملة الشديدة المُتَجَنِّية الُمنكَرَة .. فليس القرآن هو الذي أوجد اعتقاد العرب في الجن ..حتى يُنطقوهُ بضُروبٍ من الشعر ، وفُنونٍ من السجع ...!
المبحث الأول :
الجن في لغة العرب
الباحث عن الجن في لغة العرب تهولُهُ وَفرةُ الكلمات الدالة عليه دلالة مباشرة أو غير مباشرة ، ولا غرابة في ذلك ، فقد آمنوا بقدسيتها وقدرتها على الأعمال الخارقة ..ونسبوا إليها كل عَجيبٍ وغريب ، وكل مَجهول مُعَمّى..فزعموا أنهم التقوا بها ، وأنهم رأوها في صُوَرٍ شتى ، أو لاحَ لهم خيالها ، أو سمعوا عَزيفَها، وبلغت بهم مزاعمهم أن قالوا: بأن منهم من تزوج إناثها ، وتوهموا أن بعض الحيوان من نسلِ الجن ..! وعَزَوا إليها إلهام الشعراء .... لقد كان للجن أثرٌ عميق في حياة العرب حتى نضحَت به لغتهم مُعبرةً في معظم ما عَبرت عن أمشاجٍ من أوهامَ .. ومزاعمَ .. وأكاذيب..
تُطلق كلمة – الجن – في لغة العرب على ما من شأنه الستر والخفاء ، وأكثر استعمالاتها تدور حول هذا المعنى ، فالجنة_بضم الجيم -: الوقاية والستر ، وكل ما واراكَ وَسَتَرَكَ ، وجَنَّهُ : ( بتشديد النون وفتحها مع فتح الجيم )
ستره ، وسُمِي الجَنين بذلك : لاستتاره في رحِمِ أُمهِ ، وكل مستور جنين، والمجنون : من ستر عقله ، وأجَنَّهُ الليل : ستره بظلمته ، والجنان : القلب ، وسمي بذلك لاستتاره ، والِمجَنّ : التُّرس يُتَّقى به ، والجَنة : البُستان الذي يستر الأرض بأشجاره .. والجنن
( بفتحتين ) : القبر ، لستره الموتى …
والجنة : ( بكسر الجيم ) : الجن ، لاستتارهم عن الأعين ، لهذا سميت الملائكة جنا أيضا ، وفي القاموس : الجن : الملائكة ، والجنة : طائفة من الجن ( ).. وعلى هذا الاستعمال اللغوي لِلجِنَّة ، جاء قول الحق سبحانه : - [ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون )( ) فالآية إنكار على المشركين الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ، فجعلوا بين الله وبين الجنة – أي : الملائكة _ نسبا ، ولقد علمت الجنة أنهم سيشهدون عذاب أولئك المشركين ، أو بعبارة البخاري : ستحضر للحساب .. ( ) ، فالجنة مشترك لفظي بين الجن والملائكة ، وكذلك يسمى ذهاب العقل جِنَّة ،كما في قوله تعالى : - [أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ] ( ).
وإذا فالقول : بأن الملائكة هم الجن لهذا الاشتراك اللفظي ، تلبيس لا يليق بقائله .
وقال ابن عبد البر : - الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان مُنَزلون على مراتب : فإذا ذكروا الجني خالصا قالوا : جِني …فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر ، والجمع عُمّار ، وعَوامر …
فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا: أرواح ....فإن خَبُثَ وتَعَرَّمَ ، أي : ازداد شراسةً وأَذىَ - فهو شيطان …فإن زاد على ذلك فهو : مارد .. فإن زاد على ذلك وقوي أمرُه قالوا : عفريت ، والجمع عفاريت ، وهم في الجملة : جِنٌّ وَخوافٍ - جمع خافٍ - ، قال أعشى باهلة :
يمشي ببيداءَ لا يمشي بها أحدٌ ولا يُحِسُّ سوى الخافي بها أثرُ .( )
فإن طَهُرَ الجني وصار خيراً كله ، فهو : مَلَك ..وإذا كفر الجني، وظلم ، وتعدى ، وأفسد ، قيل : شيطان ..
وإن قوي على البنيان ، والحِمل الثقيل ، وعلى استراق السمع ، قيل : مارد ..
فإن زاد فهو : عفريت …فإن زاد فهو : عَبقري ( ) .
ومن أصناف الجن كذلك في لغة العرب : الغُول .. وهي في زعمهم دابةٌ مَهُولة ذات أنياب وأظافر ..والغول في رأي القزويني أشهر الشياطين ، وهو كما زعموا :- (حيوان مُشَوَّه لم تُحكِمهُ الطبيعة ، وأنه لما خرج مفرداً لم يستأنس وتوحش ،وطلب القفار ، وهو يناسب الإنسان والبهيمة ، وأنه يتراءى لمن يسافر وحده في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهم أنه إنسان فيََصُدَّ المسافر عن الطريق..) ( ). ويقول الدُمَيري :- ( الغول بالضم : أحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين ، وهم سحرتهم ..! . ونقل عن الجوهري قوله :( وهو من السعالي والجمع أغوال وغيلان وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول .. ويقال تغولت المرأة : إذا تلونت .. ويقال غالته غول: إذا وقع في مهلكة ..)( )
وقال المسعودي:- ( وللعرب في الغيلان والتغول أخبار طريفة ..لأنهم يزعمون أن الغول يتلون لهم عند الخلوات .. وأنها تظهر لخواصهم في أنواع الصور يخاطبونها .. وربما باضعوها ..وقد أكثروا من ذلك في أشعارهم ،ويزعمون أن رِجليهِ رِجلَي عِير (أي حمار..!) فكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي والقفار يرتجزون فيقولون :
يا رِجلَ عِيرٍ انهقي نَهيقا لن نترك السَّبسَبَ والطَّريقا.
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي ، وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنها منهم ، فيتبعونها ..فَتُزيلَهُم عن الطريق الذي هُم عليه وتُتيهَهُم ، وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه، فلم يكونوا يَزولون عما هم عليه من القصد ، فإذا صِيحَ بها على ما وصفنا ، شَرَدَت عنهم في بطون الأودية، ورؤوس الجبال ..) ( )
والغول شخصيةٌ أساسية في الحكايات ، والقصص الشعبي ، وهو يؤثر بالإيجاب والسلب على أحداث القصة ، فهو يساعد على تطويرها سواء أكان في جانب البطل فيعاونه ويسهل له الصعاب ، أم كان الغول في الجانب الآخر المعادي للبطل فيهدد حياته ، ويحول دون الوصول إلى ما يبتغي ويريد ..
أما أنثى الغول فسموها :(السِّعلاة ). قال ابن منظور :-(إن السعلاة هي ساحرةُ الجن كما ذكر الدميري ،ثم أشار إلى أنها الغول بعينها التي تذكرها العرب في أشعارها ، وتُوصَفُ بالسعلاة : المرأة الحَديدة الطَّرف والذهن ..وكذلك المرأة الصَخّابة الخبيثة ).( )
وتتألف الجن في زعمهم من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القُربى وصلة الرحم .. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب ..! تتقاتل فيما بينها ، ويغزو بعضها بعضا ، كما أن لها مُلوكاً ، وحكاماً ، وسادات ..! مثل :-الشَّقناق ، والشَّيصَبان ، وَدُحرُش ، وقد ذُكِر الأول في شعر (بشار بن برد) ، وذُكِر الثاني في شعر (حسان بن ثابت)،
أما( دُحرش) فيعتبرونه من سادة الجن ، ويزعمون أنهم مثل الأنس ، فيهم الحَضَر أهل القرار، وفيهم المُتَنقِلة وهم : أعراب الجن.. وفيهم من يسير بالنهار ، وفيهم من يسير بالليل ، وهم سَراة الجن..( )
وكان الجاهليون يعتقدون جواز قتل الجن للأنسان ، واستمرت هذه العقيدة بالشيوع إلى صدر الإسلام الأول .. فلما توفي الصحابي الجليل \\\"سعد بن عبادة \\\" زعموا أن الجن قتلتهُ..إذ ادعى بعضهم أنه سمع هاتفا يقول شعراً جاء فيه :- قتلنا سيد الخزرج........سعدَ بن عبادة
رميناهُ بسهمين........فلم تُخطئ فؤاده( )
وقد ترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني ، وقال :- ( خرج إلى الشام فمات بحوران سنة خمس عشرة ، وقيل : سنة ست عشرة .. وقبره بالمنيحة –قرية بغوطة دمشق- ، وعن سعيد بن عبد العزيز أنه مات ببصرى )( ) ولم يذكر أحدٌ أن الجن قتلته ،بل مات موتاً طبيعياً..اللهم إلا ما انفرد به النوبختي الشيعي بقوله : ( إن سعداً قُتل بحوران ، قتله الروم ) ( )
لقد لعب الإيمان بالجن عند العرب في الجاهلية دوراً فاقَ الدور الذي لعبته الآلهة المزيفة في أخيلتهم ، فنسبوا إليها أعمالاً لم ينسبوها لآلهتم ، ولا تزال هذه العقيدة سارية في نفوس بعض الجاهلين في القرن العشرين .
ومن الكلمات الرائجة في لغة العرب قولهم :- الرَّئِي ..كالوَليّ ..وهو جني يتعرض للرجل يُريهِ كَهانةً ، أو طِبًّا ، أو يُلهمه شعراً..! واشتقاقه من الرؤية أو من الرأي ..ولذلك قيل :رَئِي القوم .. أي : صاحب رأيهم .
وقالوا : التَّوابع والزوابع ، فالتابع والتابعة : الجني أو الجنية يكونان مع الإنسان يتبعانه في صورةِ طائرٍ أو نحوه…
وقيل: التابع : جني يتبع المرأة يحبها ، والتابعة : جنية تتبع الرجل تُحِبُّه ..!
أما الزوابع :فجمعُ زوبَعَة ..بمعنى الشيطان المارد أو رئيس الجن ، وقد سُمي الإعصار زوبعة لدورانه وارتفاعه ، ولابن شهيد الأندلسي مقامة أسماها: التوابع والزوابع ( )
وقالوا : الخوافي .. وهي الجن .. وأرض خافية : أي بها جن ..
وقالوا : الخَبَل ..يعنون الجن ..وسمي المرض المؤثر في العقل والفكر خَبَلاً..
وقالوا : القرين : المصاحب للإنسان، من ملك، أو شيطان .
وقالوا : الهاتف: يعنون به الجني ..وهو أن تسمع صوتاً ولا ترى شخصاً .
وقالوا : الهاجس : والجمع هواجس ..ويعنون به ما يقع في خلدك أو ما تسمعه ولا تفهمه .
وقالوا : الثقلان : أي الإنس والجن .. والأَجَرّان: -بتشديد الراء- أي: الجنة والناس ، ويقال: جاء بجيش الأَجَرَّين أي : بجيش من الجن والإنس .
وفي مجال اتصال الجن بالإنس قالوا : رجل مَخدوم ، يقصدون به :الذي يدعي أنه يُسَخِّر الجن ، أي أنه إذا عزم على الشياطين ، والأرواح ، والعُمّار ، أطاعوه وأجابوه ، وقد أطلقوا على(عبد الله بن هلال الحميري) لقب: صَديق إبليس
وقالوا : رجل مَنظور ، وبه نظرة ..أي:أصابته عين من الجن ، تُحدِثُ له غَشيَة ، أو لَوثَة
وقالوا :إن الشيطان يصيب الإنسان بالمَسّ :أي الجنون .. والاستهواء أي: أن الجن تخطف الإنسان تستبقيه عندها زمناً، ثم تُرجِعُه إلى أهله .. والخَبطُ أي : أنها تصيبه بالصَّرع والجنون..
ونسبوا بعض الدواب إلى الجن ، فقالوا : إبِلٌ حُوشِيَّة أي: أنها من نسل ابل ضَرَبت فيها فُحولُ إبل الجن...!
وقالوا : سُيوفٌ مأثورة ، أي : أنها من عمل جن سليمان - عليه السلام- ...!
وسموا ما للجن من أماكن ومَكامِن فقالوا :- عَبقَر : وهي في زعمهم قرية يسكنها الجن ، وفي المثل : كأنهم جن عبقر ..وليس يدري أحد أين تقع ولا متى كانت ..؟ ويطلقون وصف- العبقري – على كل شيء يَعظُمُ في نفسه أو يَدِقُّ عمله ، تعجباً من حذق صنعته وجودته ، حتى قالوا : ظلمهُ ظلماً عبقرياً ..
وقالوا : وَبار.. وزعموا أنها أرضٌ تسكنها الجن ، وزعموا أن أرضَ وَبار خصبة شجراء مُثمرة ..إذا دنا منها إنسان حَثَوا في وجهه التراب ، فإن أبى الرجوع خَبَّلوه وربما قتلوه
ومن هذا الحشد من الحصاد اللغوي حول الجن -على إجماله- يتبين لنا ما كان للجن من أثرٍ عميقٍ في حياةِ العرب ..حتى نضحت به لغتهم -كما أسلفنا- مُعبِّرةً في معظم ما عبرت به عن أمشاجٍ من أوهام ومزاعمَ وأكاذيب ( ).
المبحث الثاني :
من عقائد العرب قبل الإسلام .. وغيرهم من الأمم ..في الجن
إن اعتقاد العرب وغيرهم بالجن ، سابقٌ على نزول القرآن الكريم..وكُتبت في ذلك الكتب ..وقيلت الأشعار ،
ولو أردنا أن نثبت هنا الأبيات المتفرقة في كتب الأدب، والتي يُستدلُّ منها على ما كان عليه العرب من اعتقادات باطلة في الجن ونحوه لضاق بنا المقام .. ولكن سنذكر شيئاً يسيراً من ذلك للتدليل على صحةِ ما ذهبنا إليه .
يقال :- إن - عبيد بن أيوب- كان من صعاليك العرب المشهورين ، وكان جوالاً في مجهول الأرض ،
ويروي ا لرواة له أشعاراً في الجن والغيلان والسعالي .. فمما قاله في ذلك:-
فلله دَرُّ الغــول أي رفيقـةٍ لصاحبِ قَفرٍ خائفٍ مُتنفِّرِ
أَرَنَّت بِلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت حَواليَّ نيراناً تلوحُ وتُزهِـرُ
وقال :-
أَقَلَّ بنو الإحسانِ حتى أَغَـرتُمُ على من يُثيرُ الجِنَّ وهي هُجودُ ( )
ويقول -جِران العود - عن الجن :-
حملنَ جِرانَ العُودِ حتى وَضعنَهُ ... بعلياءَ في أرجائها الجن تعزف( )
ولعل(ثابت بن جابر)المشهور بتأبط شرا ، أشهر من قال الشعر من الأعراب في الغيلان.. وأنه كان يلاقي الغيلان ويقتلها ويتأبط رؤوسها-كما يزعمون- ويأتي بها إلى الحي ..؟
وقالوا : كان( تأبط شرا ) يَعدُو على رِجليه – وكان فاتكاً شديد الفتك – فيأتي ليلة ذات ظُلمةٍ وَبَرقٍ في قاعٍ ( )
يقال لها :– رحى بطان – في بلاد هذيل ..فلقيته الغول ..! فلم يزل بها حتى قتلها ، ثم حملها تحت إِبطِهِ ، وجاء بها إلى أصحابه .. فقالوا : تأبَّطَ شَراً .. وأنشد :-
ألا من مُبلغ فتيانَ فَهمٍ ...............بما لاقيتُ عند رَحى بِطانِ
وإني قد لقيتُ الغولَ تهوي....... بِسَهبٍ كالصحيفةِ صحصحان
فقلت لها كِلانا نِضوَ أَينٍ.............أخو سَفرٍ فخلي لي مكاني
فَشدَّت شَدَّةً نحوي فأهوى...............لها كَفِّي بمصقولٍ يماني
فأضربها بلا دَهشٍ فَخَرَّت................صَريعاً لليدين وللجِرانِ .
وجاء في شعر -ذي الرمة-:
ورملٍ لعزفِ الجن في عَقَداتِهِ...... هَريرٌ كَتَضرابِ المُغَنين في الطَّبلِ ( )
كما كانوا يزعمون أن الجن تظهر لهم وتكلمهم ..من ذلك قول -شمر بن الحارث الضبي:-
أتوا ناري فقلتُ مَنونَ ، قالوا.......سراةَ الجن قلت :عِمُوا ظَلاماً
وقلتُ إلى الطعام فقال منهم........زعيمٌ ، نَحسِدُ الإنس الطَّعاما ( )
وقال جذع بن سنان - وأوردها الجاحظ لشمر بن الحارث الضبي- :-
أتوني سافرين فقلت أهلا ........رأيت وجوههم وُسماً صِباحاً
نحرتُ لهم وقلت ألا هلموا ........كُلوا مما طَهيتُ لكم سَماحا ( )
وشاع عند العرب في جاهليتهم ، أنه لكل شاعرٍ شيطانٌ يوحي إليه الشعر ويقولُهُ على لسانه( ) ، هذا ما استطاع العرب أن يتوصلوا إلى تعليله ، في عصرهم الأسطوري ، فيما يتعلق بمصدر النبوغ والإلهام عند شعرائهم المبرزين . فقد نسبوا إلهام الشعر إلى الجن جَرياً على عادتهم في نسبة كل ما هالَهُم ،وجهلوا حقيقته إلى الجن . وقد توهم كثيرٌ من الشعراء أن هنالك قوة عجيبة خفية ، تُرافقه وتُعينه على قول ما يتعذر على غيره من سائر الناس ، تختاره من بين أقرانه ، تعطفُ عليه وتُلهمه رائع الكلام في قالب موزون مُقٌفّى ، ليفتن به الناس ، قال أحدهم :
إني امرؤٌ تابعني شَيطانيه آخيتُه عُمري وقد آخانيه .
يشربُ من قُعبي وقد سَقانيه فالحمد لله الذي أعطانيه . ( )
فهذا الشيطان كما يتبين لنا من معنى البيت ، قادر على العجيب من نظم القوافي ، وبينه وبين الشاعر صلةُ أخذٍ وعطاء
وهذا ما كان العرب يعتقدونه ، بل يعتقدون أن الجن تقول الشعر وتلقيه على ألسنة الشعراء ، ويزعمون أن مع كل شاعر فحلٍ من الشعراء ، شيطانٌ من هذه الشياطين ، فكان -لافظ بن لاحظ- صاحب امرئ القيس.. ، و-هَبيد- صاحب عَبيد بن الأبرص... حتى قال قائلهم :- لولا هَبيد ما كان عَبيد ...وقال الشاعر الجاهلي( ) :-
إني وإن كنت صَغيرَ السِّن ...... وكان في العين نُبُوٌّ عني
فإن شيطاني أميرُ الجن....... يذهب بي في الشعر كل فن
وكان اسم شيطان -الأعشى-:مِسحِل... !ويُعرف بـمِسحل السكران بن جَـندل .
واسم شيطان- المُخَبَّل العبدي- : عَمرو.....! وهاذر : هو صاحب النابغة الذبياني . ( )
قال الأعشى:-
دعوتُ خليلي مِسحِلاً ودَعوا لَهُ...........جَهنّامَ ، بُعداً للغويّ الُمذَمَّمِ .
ويقر بأَفضالِهِ عليه ، وأنه لولاه لما تمكن من الإجادة ، فيقول :
وما كنتُ ذا قَولٍ ولكن حسبتني إذا مسحل يبري لي القول أنطق .
خليلان فيما بيننا من مودة شريكان جني وإنس موفق . ( )
وافتخر - أبو النجم- بأن شيطانه ذكر.. فقال :-
إني وكُلُّ شاعرٍ من البشر .........شيطانه أنثى وشيطاني ذَكَر
وقال -حسان بن ثابت-:-
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان ..........فطوراً أقولُ وطَوراً هُوَ .( )
وأخيرا هنالك شيطان مشترك بين جميع المُجيدين ويُدعى : الهَوبَر، وآخر بالمُسِفين ويدعى الهَوجَل ، فمن انفرد به الهَوبر ،جاد شعره وحسن كلامه . ومن انفرد به الهوجل ، ساء شعره ، وفسد كلامُه . ( )
ولم يكن لشعراء الجاهلية شياطينهم فحسب ، وإنما كان للشعراء الإسلاميين أيضا كالفرزدق ، وجرير ، وبشار ، وغيرهم من الفحول ، وارجع إلى جمهرة شعراء العرب للقرشي ، والأغاني للأصفهاني ، وبلوغ الأرب للآلوسي ، والشهاب الراصد لمحمد لطفي جمعة ، والخصائص لابن جني ، وبحث : جن الشعراء : للمستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر ، ترى الشيئ الكثير العجيب من عقائد الجاهليين في الجن .. لذا قال سبحانه : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) ليُبعِدَ أمثال هذه التصورات عن أذهان العرب ، مع أن العرب نبزوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر مُلهَم من الجن ، فَرَدَّ عليهم القرآن بقوله ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون )
( الطور / 29 )وبقوله : ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) ( الحاقة / 40-41 )
كما لم تكن أمة سامية أو آرية ، تخلو من الاعتقاد بالجن أو الأرواح الخيرة والشريرة ، قال - سبنسر- :- (إن اليونانيين القدماء كانوا يعتقدون بالجن، وأنهم يقطنون - هاديس- وأن للجن في اعتقاد اليونان أشباحا تكاد تكون مادية، وأنها تشرب دماء الذبائح وتخشى القتل ، وقال :والإسرائيليون يعتقدون في الجن، وأن بعض قبائل الهنود تعبد الجن ،ومعظم الأمم الحديثة تعتقد في الجن وتروي عنها الأخبار والنوادر ..) وهؤلاء جميعا من قدماء ومحدثين ، لا يعتقدون بالقرآن ولا يعرفون- سورة الجن- ، ولم يخطر ببالهم أن يدونوا تلك الأخبار ويرووها ، ليخلقوا جوا صالحا للاعتقاد بصحة سورة الجن ، وصدق ما جاء فيها ..!!ولم يصل التواطؤ بينهم وبين علماء صدر الإسلام الأول إلى هذه الدرجة..وربما كان اعتقاد بعض الأوروبيين في تدخل الجن في حياة البشر أضعاف ما يعتقده بعض المسلمين ..ولكن بعض نفاة وجود الجن يأبون إلا أن يضعوا كل ما يظنونه شاذا ، أو مخالفا للعقل - في نظرهم - على كاهل الإسلام ، وعلماء الإسلام ..؟( )
وقد حاول بعض أدباء العربية تعليل الشعر الذي زعم بعض الأعراب أنه للجن ..ومنهم –أبو اسحق المتكلم- حيث قال :- ( إن أصل ما يذكره بعض الأعراب من عزيف الجنان وتغوُّل الغيلان : أن الأعراب لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء ، والبعد عن الإنس استوحش ، وإذا استوحش الإنسان مَثُلَ له الشيء الصغير في صورة الكبير ، وارتاب وتفرق ذهنه ، وانتقضت أخلاطُه، فيرى ما لا يرى ، ويسمع ما لا يُسمَع ، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه .. وأحاديث توارثوها ، فازدادوا بذلك إيمانا ، ونشأ عليه الناشئ ورُبي الطفل ، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحَنادِس ، فعند أول وحشة أو فزعة ، وعند صياح بوم، ومجاوبة صَدى ، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور ، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاجا كذابا .وصاحب تشنيع وتهويل ، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة ، فعند ذلك يقول:- رأيت الغيلان ..وكلمت السعلاة .. ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول : قتلتها ... ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها ، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول : تزوجتها ..!!ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ،ومد لهم فيه ،أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار إلا أعرابيا مثلهم وإلا غبيا ( كذا..) لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب ، أو التصديق ، أو الشك ، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط ..)( ).
ومما يؤيد هذا الرأي ..وهو تنبه أهل الأجيال السالفة من المسلمين لكل دقيق وجليل من الأمور ، أن شاعراً عربياً قويّ الخيال ممن ينطبق عليهم بعض وصف - أبي اسحق المتكلم- وهو- أبو السري بن سهل بن أبي غالب الخز رجي- من فحول أواخر القرن الثاني - وَضَعَ كتاباً في الجن وأنسابهم وأشعارهم وحكمتهم، وادعى بأنه عاشر الجن ، فقال له - هرون الرشيد -بعد سماع شعره وأخباره :- ( إن كُنتَ رأيتَ ما ذكرت ..فقد رأيتَ عَجَباً .وإن كنت ما رأيته فقد وَضعتَ أَدَباً ) ( ) .
فأخبار الجن وأشخاصها إحدى لوازم الشعر في سائر الأمم ، ولم تنفرد بها العرب في الجاهلية ، أو في الإسلام ، بل شاركتها جميع الأمم القديمة والجديدة.. وإن كان شاعر قد نسب إلى الجن النطق بأبيات من الشعر ، فابتهج مؤلف
( في الشعر الجاهلي) ومن تابعه في رأيه من الكتاب المعاصرين ، واتخذوها وسيلة للطعن في عقائد المسلمين والتشهير بها ، والسخرية منها ، فقد أنطق اليونان والرومان ، والإنجليز، والألمان ، والطليان - قبل العرب وبعدهم- الآلهة ، والملائكة، والجن، والشياطين، بقصائد مطولة .. ولم ير - طه حسين- ومتابعوه في ذلك بأسا .. فهل يتخذ -طه حسين- من ذلك مَطعنا في عقائدهم أو عقولهم أو علمهم أو فطنتهم..؟ أم أن مطاعنهم وَقفٌ علينا، وعلى عقائدنا وعقولنا، وعلمنا، وفطنتنا ..ولا تتعدانا إلى سوانا ..؟
فهذه الإلياذة براعة الاستهلال فيها : استمداد المعونة من ربة الشعر .. وفي النشيد الأول ذكر-أبولون- و- أثينا – آلهة الحكمة ، و- تيتيس- إحدى بنات الماء ، و-زفس- أبي الآلهة ، و-هيرا- زوجته ، والإلياذة كلها محشوة بأسماء الكائنات الخيالية، والأرواح الخيرة والشريرة ..ولم ينفرد اليونان بهذا ..بل حذا الرومان حذوهم .. على لسان-فرجيلوس- كبير شعراء اللاتين في مطلع ملحمته.. ولما انتشرت النصرانية في أوروبا ظل فريق منهم يستمد عون ربات الشعر والأغاني ويذكر الجن في شعره ونثره.. كما فعل – تاسو- في فاتحة منظومته – أورشليم المحررة..!- وكما افتتح – ملتون- الإنجليزي ديوان –الفردوس الغابر -…. فالأوروبيون الأقدمون والمحدثون يعتقدون في الجن .. فهذا كتاب- فوست- أشهر مؤلفات-غوته- أكبر شعراء ألمانيا وأدبائها .. بَطَلُهُ من الجن .. واسمه :- مفستوفيليس- ووضع – وليم شكسبير-كبير شعراء إنجلترا-قبل غوتة- مسرحيةهاملت-التمثيلية ، وهي تدور على ظهور الجن(الشبح) لهاملت في صورة أبيه الملك المقتول ، وقد رآه الأمير ونفر من أصدقائه وعاهدوه على الثأر له..؟ وهذا ما كان يعتقده العرب الجاهليون من أن المقتول ظلما يقف على قبره طير يسمى- الهامة –( ) وتصيح إلى أن يؤخذ بثأره، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي بقوله :-
يا عمروُ إلا تَدَع شتمي ومَنقصتي ...... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني ..!
ولشكسبير أيضا رواية - العاصفة- ومدارها على الجن .. وتدخلهم في أعمال البشر ، وتدبير شئونهم ، وأمثلة ذلك كثيرة ، لا نستطيع استقصاءها،فذلك أمر بعيد المنال ..مما يدل على أن العرب لم ينفردوا بذكر أخبار الجن ..بل شاركهم في ذلك الأمم القديمة والحديثة كما أسلفنا ، فهم لم ينتحلوا قصص وأخبار وأشعار الجن تأييدا لورود- سورة الجن- في القرآن .. ولم يخطر ببال عاقل عندما يقرأ أخبار وقصص وأشعار الجن .. أن الجن قالته حقا وصدقا ..وأنها تنشد باللغة العربية ، والأوزان العربية ، شعرا عربيا في أمور دينية وسياسية .. ولكننا مذ قرأنا وأدركنا، نعلم أن هذا الشعر يتضمن فكرة الشاعر المعلوم أو المجهول الذي نظمه.. ولم ينسبه لنفسه .. وأن الجن ليست إلا وسيلة لروايته .. كما فعل شعراء الإفرنج مثل: غوته-وشكسبير-ودانتي- وملتون-فقد أنطقوا الجن في دواوينهم بالشعر والنثر .. وزاد دانتي ، وملتون، بالخوض في وصف الجنة والجحيم ، ورويا لنا من شعر الملائكة والأبالسة ..كما فعل -أبو العلاء المعري- من قبلهما في يتيمته -رسالة الغفران- فهل نصدق أن الملائكة، والشياطين، والجن، قالت هذا الشعر حقا ..؟ وهل يؤمن أحد بشاعرية الجن ؟ كما يصدق الطفل حديث - عقلة أو عقدة الإصبع- أو قصة - أليس في أرض الجن أو أرض العجائب- ؟
بل نعد هذا الشعر الذي نسب للجن من النوع التمثيلي الذي لم تنضج مواهب الشعراء العرب في بابه، لأنهم وإن لم ينظموا شعرا تمثيليا-اللهم إلا( ابن الهبارية)في ديوانه ( الصادح والباغم) ( ) الذي أنطق فيه الطير والحيوان، على نسق الرائعة الخالدة ( كليلة ودمنة ) - فإن خيالهم اتجه إلى هذا النوع من الأدب .
المبحث الثالث :
آراء المؤيدين لِصِلَةِ الإنسِ الحِسِّيةِ بالجن
من الظاهر أن خُرافة إمكانية الاتصال بالجن وتسخيره واستخدامه، وزواجه من الإنسية ، أو زواج الإنسي بالجنية ، عاشت مع العرب بعد انتقالهم من ظلمات الجاهلية والكفر إلى رحاب الإيمان والنور..... فزعموا أن للجن صلة حسية بالإنس ، وأن بإمكان الإنسان استحضار الجن والتحدث إليهم فيما يريده عن طريق الأدعية .. بل وضعوا الرسائل في ذلك مثل رسالة :(في استحضار الأرواح )( )
وكان الجاهليون يعتقدون مصاهرة الإنسان للجن ، فزعموا أنه كان \\\"لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي\\\" زوج من الجن ونسبوا بعض الأسر والقبائل مثل:- بني مالك .. وبني الشيصبان…وبني يربوع ..إلى الجن ..!
وقد تعرض –الجاحظ- لموضوع زواج الإنس من الجن وبالعكس ، وتعرض لقول من قال أن – بلقيس- كانت امرأة جنية ( )..!
وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط .. الذي شكك في إمكانه .. وقال:- (وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية
والقحطانية ، ونقرؤه في كتب السيرة قص به القصاص ، وسمروا به عند الملوك ) ( ).
وقال الدكتور جواد علي :- ( وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير ، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام ، ويظهر أنهم حذقوه وتفوقوا به على بقية العر ب الذين نسميهم العدنانيين ، بسبب دخول كثير منهم في اليهودية، وفي النصرانية ، وشرائهم الكتب ، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب ، والأساطير القديمة ، فمزجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم )( ) .
كما تهكم -الجاحظ- على ماشاع بين الناس من زواج الانس بالجن وبالعكس،وأطلق على هذا الزواج اسم-الزواج المركب.! كما أشار إلى قول الراجز:علباء بن أرقم :
يا قبَّــحَ اللهُ بَني السِّعــلاةِ عمرو بن يربوعٍ شرارُ الناتِ
ليسوا أعِفَّاءَ ولا أكياتِ( )
على أنه من الأدلة التي اتخذوها على صحة مزاعمهم : بأن السعلاة قد تتزوج من الإنسي وتلد البنين والبنات ….ولم يكن الجاهليون بدعا في هذه الأمور ، بل كان غيرهم من الشعوب القديمة : كالعبرانيين ، والسومريين ، والبابليين ، والاغريق ، والرومإن ، والمصريين ، والهنود ، يعتقدون ذلك
وفي الإسلام :- زعم بعض المسلمين أن بإمكان الجن التزوج بالإنسيات ومعاشرتهن كما في إمكان الإنسي التزوج من الجنيات ومعاشرتهن كذلك ..! كما زعموا أن بإمكان الجن التلبس بجسم الإنسان ، ويجعله طوع إرادته ،ويتكلم على لسانه ، ولا أجد في هذا القول خلافا لعقيدة -الحلول والاتحاد- التي حاربها الإسلام .
واستدل القائلون بهذا القول على ذلك بآراء بعض الفقهاء ، وكلامهم المستفيض في هذا الموضوع ، وبفتوى \\\"شيخ الإسلام ابن تيمية \\\"حيث يقول فيها ما نصه :- ( ودخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة ..!! قال تعالى :- [الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ...]( )، والآية المذكورة ليس فيها دليل على أن الشيطان يدخل بدن الإنسان ويحل فيه ، فقد ذكر المفسرون أن ذلك يكون يوم القيامة ، وقالوا في معنى الآية :- إن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع ..تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف ... إذن لا حلول ولا دخول ..
قال\\\"الخطيب الشربيني \\\" ما نصه :- ( فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان.. ؟ أجيب : بأنه وارد على ما تزعُمُ العرب من أن الشيطان يتخبط فيصرع .. والخبط : الضرب على غير استواء) ( ).
وقال \\\"القاضي أبو يعلى\\\": - ( ولا سبيل للشيطان إلى تخبيط الإنسي ، كما كان له سبيل إلى سلوكه ووسوسته ، وما تراه من الصرع والتخبط والإضطراب ليس من فعل الشيطان لاستحالة فعل الفاعل في غيرِ مَحَل قُدرته ، وإنما ذلك من فِعلِ الله تعالى بِجَريِ العادة ) ( )
وقال \\\" الإمام ابن حزم \\\" :- ( وأما كلام الشيطان على لسان المصروع ، فهذا من مخاريق العَزّامين ، ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز ، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام ، فكيف صار لسانه لسان الشيطان ..؟ إن هذا لتخليط ، وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها ، كما قال تعالى : - [ يوسوس في صدور الناس ] ( )
وكما قال تعالى : - [ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ] ( ) فهذا هو فعل الشيطان فقط ، وأما أن يتكلم على لسان أحد فَحُمقٌ عتيق ، وجنون ظاهر ، فنعوذ بالله من الخذلان ، والتصديق بالخرافات ) ( )
وأنكر\\\" القفال \\\"من الشافعية كون الصرع والجنون من الشيطان ، لأنه لا يقدر على ذلك ( )
وقال \\\"الفخر الرازي\\\" في قوله تعالى : - [ يتخبطه الشيطان من المس ] :
( إن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان ، وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوا من هذا ، وأيضا من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيقوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى :- [طلعها كأنه رؤوس الشياطين ] ( ).
وقال \\\"الزمخشري\\\" في تفسير الآية :( وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنس فيصرع ، والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون ) ( ) .
وقال \\\"محمد الطاهر بن عاشور\\\" عند تفسيره لقوله تعالى [ يتخبطه الشيطان من المس ] : ( وقوله : ( لا يقومون ) : حقيقة القيام النهوض والاستقلال ويطلق مجازا على تحسن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك : قامت السوق ، وقامت الحرب .
فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون – يوم يقوم الناس لرب العالمين – إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، أي قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان ، وإن كان القيام المجازي فالمعنى : إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم ، قاله – ابن عطية - ، ويجوز على هذا المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة ، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا ، فالآية على المعنى الحقيقي : وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر ، وهو المناسب لقوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) .. وهي على المعنى المجازي : تشنيع أو توعد بسوء الحال في الدنيا ، ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .. إلى أن يقول : - وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي ، مثل قوله [ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ] وقول إمرىء القيس :
( ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
إلا أن هذا أثره مشاهد ، وعلته متخيلة، والآخران متخيلان، لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة ، وعندنا هو أيضا مبني على تخييلهم … ) ( ).
وقال \\\"ابو الوفاء الشيخ درويش \\\"– أحد كبار جماعة أنصار السنة في مصر- ( يزعم الناس أن للشيطان قدرة على خبط الإنسان ، وضربه ، ومسه مسا ماديا يؤدي به إلى الصرع ، وهذا زعم باطل كل البطلان ، روجه في الناس طائفة من الدجالين الذين يحاولون أن يحتالوا على الناس ليسلبوهم أموالهم ، ويعبثوا بعقولهم ، وإنك إن حاولت أن تقنع بعض الذين ينتسبون إلى العلم بفساد هذا الزعم ، فسرعان ما ينبري لك صاجبنا محتجا بقوله تعالى : - [ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..] زاعماً أن المس في هذه الآية الكريمة هو ما يتوهمه … والحق أن المس في هذه الآية الكريمة معناه : الجنون ، يقال : فلان به مس .. أي : جنون ..
ثم أورد قولا \\\"للراغب \\\"، وآخر\\\" للفيروزآبادي \\\" ، ثم قال : وإذا كان التخبط هو الإفساد ، أو المس بالأذى كما يقول صاحب القاموس ، فلا جرم أنه الإفساد الذي يملكه ، والمس بالأذى الذي يملكه ، وهو الإغراء والوسوسة ، ولا إفساد أشد منهما ، ولا أذى أبلغ منهما ، لأنهما يضيعان على الإنسان دينه ، ويضيعان عليه آخرته ، وعلى ذلك يكون معنى الآية الكريمة : الذين يأكلون الربا هم من الذين أغراهم الشيطان بالفساد ، ولا يقومون من مجالسهم أو من قبورهم يوم القيامة ، إلا كما يقوم المجنون الذي يحاول أن ينهض فيسقط ، أو الذي لا يدري أين يتوجه ، أو الذي أفسده الشيطان فتنكب سبيل الرشد ، وسلك سبيل الغواية .. ثم يقول : - والعجب للناس ينسبون إلى الشيطان ما لم يجسر على ادعائه لنفسه ، لم يدع الشيطان لنفسه إلا الإغواء ، والإغراء ، والإضلال ، والتمنية ، والأمر بتبتيك آذان الأنعام ، والأمر بتغيير خلق الله ، فما لهم ينسبون إليه ما لم يدع لنفسه…؟ ولو أن الشيطان أوتي القدرة على ضرب الإنسان ، أو خبطه ، أو مسهة مسا ماديا ، لفتك بالإنسان فتكا ذريعا ، وما أبقى على الأرض من المؤمنين ديارا ، كيف وهو عدوهم الألد الذي يبغي لهم الغوائل ، ويتربص بهم الدوائر .. إلى أن يقول : ما ادعى الشيطان القدرة على شيء مما نسبتم إليه ، فكيف تدعون له ما لم يدع لنفسه ، وكيف تكونون شياطين أكثر من الشيطان …؟) ( )
أما ما يتناقله بعض الناس من أنه بإمكان الإنسي التزوج من جنية..ومعاشرتها ..فهو أمر غير مقبول ..لا عقلا ولا نقلا .. فالإنسي مخلوق من طين ، والجني مخلوق من نار ، وكيف يمكن التزاوج بين الطين والنار ..؟ أو بين عالم الغيب وهو الجن ..وعالم الشهادة وهو الأنس .. ؟ فبين الجنسين اختلاف واضح ، وقد تناقلت الكتب كثيرا من القصص والروايات السخيفة والخرافات التي استدل بها القائلون بإمكانية زاوج الإنسي بالجنية ،
أورد بعضها \\\"الدميري\\\" ( ) وأورد بعضها الآخر \\\" بدر الدين الشبلي\\\" في كتابه( آكام المرجان في أحكام الجان) ، منها:- قوله: حدثني شيخ من بجيلة ..؟ قال :- (علق رجل من الجن جارية لنا ..ثم خطبها وقال :إني أكره أن أنال منها محرما ..فزوجناها منه ..قال : وظهر معنا يحدثنا ..فقلنا : من أنتم..؟
فقال : أمم أمثالكم ..وفينا قبائل كقبائلكم..؟ قلنا : وفيكم هذه الأهواء ..؟ قال : نعم، فينا كل الأهواء،القدرية، والشيعية،والمرجئة..! قلنا : ومن أيها أنت ..؟ قال : من المرجئة..! ) .
إذن من الممكن أن تأتي امرأة ساقطة وتبرىء نفسها بالقول : بأن جنيا يأتيها ..وأنها لم تفعل الفاحشة ..!
ولهذا عندما سئل \\\"الامام مالك \\\"عن إمكانية زواج الجني من الانسية قال: ( أكره ذلك .. فإذا وجدت امرأة حامل وقيل لها من زوجك.؟ قالت : من الجن ، فيكثر الفساد في الإسلام بذلك )( )
و قال \\\"الإمام الشافعي\\\" : ( من زعم أنه يرى الجن ، أبطلنا شهادته ، لقوله تعالى :[ إنه يراكم وقبيله من حيث لا ترونهم ...الآية ] ( )
وعن \\\"الربيع \\\"قال : - (سمعت الشافعي يقول : من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن رُدَّت شهادته ، وعُزِّرَ لمخالفته قوله تعالى :[ إنه يراكم وقبيله ] إلا أن يكون الزاعم نبياً .
ويقول \\\"أبو القاسم بن عساكر\\\": وممن ترد شهادته ، ولا تسلم له عدالته، من يزعم أنه يرى الحن عيانا ...) ( ) .
كما خَرَّج مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :-( إن عفريتا من الجن.. .إلى أن يقول :فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون اليه أجمعون أو كلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان -[رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ]( ) - فرده الله خاسئا )( )
قال \\\"القاضي\\\" :- معنى قوله (ثم ذكرت قول أخي سليمان ): أنه مختص بهذا ..فامتنع نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ربطه )( ) وهذا ما نعتقده ..لأن تسخير الجن معجزة لسيدنا سليمان-عليه السلام- والمعجزة لا تتكرر .. بمعنى : أنه لا يستطيع أحد الإتيان بمثلها ، فإن تمكن أحد من الإتيان بمثلها لا تكون معجزة .. ولا يزال القرآن يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن ، وبالتأكيد لا يستطيعون ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
ومع أن هناك روايات صحيحة تنفي رؤية الرسول-صلى الله عليه وسلم- للجن ....
منها :- حديث -ابن عباس- الذي رواه البخاري [في كتاب الأذان باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ]ورواه مسلم [في كتاب الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن ]وهو عن مسدد ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :- (ما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على الجن ولا رآهم .. الحديث ) لذلك قال الفخر الرازي في تفسيره لسورة الجن :- (أما القول الأول -وهو مذهب ابن عباس - أنه ما رآهم .. قال تعالى :- [ قل أوحي إلي لأنه استمع نفر من الجن ]( ) وفي هذا دليل على أنه لم يرهم ، إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي...فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي )( )
إلا أن هناك روايات أخرى يفهم منها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – رآهم ، واجتمع بهم ، فاستماع الجن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – تكرر غير مرة ، المرة الأولى : وهي المذكورة في سورتي الأحقاف ، والجن ، ثم هذه المرة التي تفيد أنه رآهم كما يفهم من الحديث المروي عن عامر قال : سألت علقمة، هل كان ابن مسعود مع رسول الله ليلة الجن ، قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد ليلة الجن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، قال: لا .. ولكنا كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة ، ففقدنا فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير ، أو اغتيل ، قال : فبتنا شر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : أتاني داعي الجن، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ….) ( )
فهذا الحديث من الأدلة الواضحة على أن الجن خلق قائم بذاته ، ومُصَرِّح برؤية الرسول – صلى الله عليه وسلم – للجن ، وهو من خصوصياته ، فما يجوز له- صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لغيره،كما هو معلوم
أما رؤيتهم متشكلين : فلا أنازع في أن الجن قادر على التشكل على شكل حيوانات وما شابهها ، وكل من يستطيع الرؤية يرى هذه الحيوانات ، ولكن ما الذي يدرينا أن هذا الحيوان بالذات –دون غيره من الحيوانات الأخرى المشابهة لها - إنما هو شيطان ، ألا يجر ذلك إلى أوهام لا طائل وراءها …
قال قاضي القضاة \\\" شرف الدين البازري \\\" رداً على المسائل التي سأله إياها الشيخ \\\"جمال الدين الأسنوي\\\" :-
( لا يجوز للإنسي أن يتجوز بامرأة من الجن..لمفهوم الآيتين الكريمتين : قوله تعالى:-[والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ]( ) وقوله سبحانه:- [ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ..]( ) ،
قال المفسرون في معنى الآيتين :- (جعل لكم من أنفسكم أزواجا- أي : من جنسكم ونوعكم ، وعلى خلقكم ...كما قال تعالى :- [لقد جاءكم رسول من أنفسكم ]( ) أي: من الآدميين ولأن اللائي يحل نكاحهن : بنات العمومة،والخئولة، فدخل في ذلك من هي في نهاية البعد كما هو المفهوم من آية : [ وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك] ( ) والمحرمات غيرهن ،وهن الأصول والفروع ، وفروع أول الأصول ، وأول الفروع من باقي الأصول ..كما في آية التحريم في النساء .. فهذا كله في النسب ، وليس بين الجن والآدميين نسب ) انتهى حواب البازري .
وقال السيوطي :- ( فإن قلت ما عندك .؟ قلت : الذي أعتقده هو التحريم ..لوجوه ..
1- منها -ما تقدم من الآيتين .
2- ومنها ما روي عن حرب الكرماني في مسائله عن أحمد ، واسحق ، عن نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن نكاح الجن .
وروي المنع وعدم إمكانية هذا الزواج عن كل من الحسن البصري ، وقتادة، والحكم بن عيينة ، وإسحق بن راهويه ،
والأصم ، بل سئل الحسن البصري عن حكم التزوج بجنية هل يجوز ..؟
فكتبَ تحت السؤال :- يُصفَعُ السائل لحماقته ..!
وقال \\\" الجمال السجستاني \\\" –من الحنفية-في كتاب – منية المفتي -: (لا تجوز المناكحة بين الأنس والجن ..لاختلاف الجنس .. )
3 -ومنها : أن النكاح شرع للألفة ، والسكون ، والاستئناس والمودة ، وذلك مفقود في الجن ..بل الموجود فيهم ضد ذلك .. وهو : العداوة التي لا تزول .
4 -ومنها : أنه لم يرد الاذن من الشرع في ذلك ، فان الله تعالى قال :-
[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ]( ) والنساء : اسم لإناث بني آدم خاصة ، فبقي ما عداهن على التحريم ، لأن الأصل في الإبضاع الحرمة ، حتى يرد دليل على الحل .. ) إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها السيوطي في كتابه( ).
أما استنتاج بعض العلماء المعاصرين من قوله تعالى في -الحور العين- [ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ]( ) إمكانية وقوع التناكح بين الإنس والجن ، فهو استنتاج مردود ..لم يقل به أحد..ولا دليل عليه من الآية لا تصريحا ولا تلميحا..ولنرجع إلى كتب التفسير لنرى ما يقرره المفسرون الأعلام في ذلك .. يقول صاحب تفسير- الفتوحات الالهية- ما نصه :- ( أي: لم يطمث الانسيات منهن أحد من الانس ، ولم يطمث الجنيات منهن أحد من الجن ... إلى أن يقول:- إن الخطاب في قوله تعالى [فبأي آلاء ربكما تكذبان ] للجن والانس ، للامتنان عليهم بحور موصوفات تارة [بقاصرات الطرف] ، وأخرى (بمقصورات في الخيام) ، وبكونهن [لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان] ،وقوله تعالى [إنس قبلهم] ، أي :قبل الأزواج الإنسيين والجنيين ..أي :أن كل واحدمن أفراد النوعين يجد زوجاته في الجنة اللائي كن في الدنيا ، يجدهن أبكارا ، وإن كن في الدنيا ثيبات ، فلم يسبقه غيره على زوجته حتى يجيء هو ، والزوج الإنسي : زوجاته إنسيات ، والجني : زوجاته جنيات . وهذا مذهب الجمهور ..) ( )
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : [ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض..الآية]( ) :- والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه ، فاستمتاع الجن من الانس، أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم ، وتلذذ الانس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم ..)( ) فليس في هذه الآية ولا في غيرها أي دليل على إمكانية التزاوج بين الإنس والجن ، وإلا لما تفضل الله على عباده بنعمة الزواج بأن جعل أزواجهم من جنسهم وسلالتهم أي معنى ...فليس للإنس صلة حسية بالجن ، وعدم الصلة هذه ثابته بدليل من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن سنة رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى .. وما شاع على ألسنة الناس من أن بعض الدجالين يمكنه الاتصال بالجن عن طريق التلاوات والأدعية الخاصة ، لاستخدامهم في معرفة الغيب أو الكشف عن أشياء مغيبة ، لا حقيقة له ، كيف وقد نفى الله سبحانه عن الجن أنفسهم معرفة الغيب. …….!؟
قال تعالى في سورة –سبأ-عن جن سليمان –عليه السلام- [فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ..]( ) فقد أخبرنا الله سبحانه في هذه الآيات أن الجن ظلوا في عذاب مهين ، وهم يعملون أمام سليمان دون أن يشعروا بموته ، فلما أكلت دابة الأرض عصاه ووقع على الأرض علموا بموته..ويفتري بعض الدجالين بأن الجن يعرفون غيب الماضي فقط ، أما غيب المستقبل فلا يعلمونه ، وهؤلاء يكذبهم الواقع ، فلو كان الجن يعلمون غيب الماضي حقا لما ظلوا في العذاب المهين مدة من الزمن ،وهم يعتقدون أن سليمان - عليه السلام -حي ، بينما هو ميت لا يدري من أمرهم شيئا ، وإذا كانوا هم قد جهلوا موت سليمان الذي حدث قبل اكتشافهم له بمدة ، فكيف يعلمون الماضي فضلا عن غيب الحاضر والمستقبل....؟ بل نفى القرآن عن الجن معرفة الغيب مطلقا ، قال تعالى:-[وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ..]( ).
كما شاع على ألسنة أهل الجهل والدجالين من الناس : أن الجن قادر على أن يلبس جسم الإنسان ويتصرف فيه .! واستدلوا بأحاديث زعموا أنها تسند دعواهم ، منها :-
1 - ما أخرجه البخاري ، ومسلم ، عن صفية بنت حيي قالت : - كان النبي – صلىالله عليه وسلم – معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا ، ثم قمت لأنقلب فقام معي لِيَقلِبَني ( أي : ليردني إلى منزلي ) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي – صلى الله عليه وسلم – أسرعا ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : - ( على رِسلكما ، إنها صفية بنت حُيَي ) فقالا : - سبحان الله يا رسول الله ، قال : - ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا – أو شيئا - )( ) أي : بأن تظنا بي سوءاً ، لأني مع امرأة ما عرفتم من هي .. ونقول : إن الاستشهاد بهذا الحديث في غير محله ، لأن مناسبته تقتضي أن المراد به الوسوسة .
2 - عن محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثني عيينة بن عبد الرحمن حدثني أبي ، عن عثمان بن أبي العاص قال : لما استعملني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي ، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( ابن أبي العاص ..؟) قلت : نعم يا رسول الله ، قال : ( ما جاء بك ..؟ ) قلت : يا رسول الله ، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما اصلي ، قال : ( ذاك شيطان ، أدنه ) فدنوت منه ، فجلست على صدور قدمي ، قال : فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال : - (أخرج عدو الله ) ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : ( إِلحَق بعملك ) فقال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد )( )
ونقول : - هذاالحديث ضعيف ، فعبد الرحمن بن جوشن الغطفاني ليس معروفاً بالضبط ، ولا يُعرف له سماع من عثمان بن أبي العاص ، ثم إن هذا الحديث مخالف لحديث أصح منه ، فقد أخرج مسلم وغيره من طرق عن الجريري ، عن أبي العلاء بن الشخير أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : - ( ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثا ) ( ) ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ، فهذا الحديث صريح أنه من الوسوسة ، لا التلبس المزعوم ، وهذه الرواية أصح من الرواية السابقة .. وهكذا كل ما استشهدوا به على صحة مزاعمهم لا يخلو من مقال . ولا يَسلَمُ من النقد .( )
وقد لا أكون متجنيا ، أو مخالفا للحقيقة إن قلت : إن هذه الخرافات انتشرت بين المسلمين بفعل بعض مسلمة أهل الكتاب ، أو ممن يريدون تشويه صورة الإسلام في عيون أهله والراغبين فيه ، ففي إنجيل مرقس ( الإصحاح التاسع 14- 29 ) : ( ولما لحقوا بالتلاميذ ، رأوا جمعا كثيرا حولهم ، وبعض الكتبة يحاورونهم ، فما أبصره الجمع حتى دهشوا كلهم وسارعوا إلى السلام عليه ، فسألهم : فيم تجادلونهم ..؟ فأجابه رجل من الجمع : يا معلم ، أتيتك بابن لي فيه روح أبكم ، حيثما أخذه يصرعه ، فيزيد الصبي ويصر بأسنانه وييبس ، وقد سألت تلاميذك أن يطردوه فلم يقدروا ، فاجابهم : أيها الجيل الكافر ، حتام أبقى معكم ..؟ وإلام أحتملكم ..؟ علي به ، فأتوا به ، فما إن رآه الروح حتى خبطه، فوقع إلى الأرض يتمرغ ويزبد ، فسأل أباه : مذ كم يحدث له هذا ..؟ قال : منذ طفولته ، وكثيرا ما ألقاه في النار أو في الماء ليهلكه ، فإذا كنت تستطيع شيئا فأشفق علينا وأغثنا ، فقال له يسوع : إذا كنت تستطيع ، إن المؤمن يستطيع كل شيء ، فصاح أبو الصبي لوقته : آمنت فشدد إيماني الضعيف، ورأى يسوع الجمع يزدحمون ، فانتهز الروح النجس وقال له : أيها الروح الأخرس ، أنا آمرك ، أخرج منه ، ولا تعد إليه ، فصرخ ، وخبط خبطا عنيفا ، وخرج منه ، فعاد الصبي كالميت ، حتى قال جميع الناس : لقد مات ، فأخذ يسوع بيده وأنهضه ، فقام ، ولما دخل البيت انفرد به تلاميذه وسألوه : لماذا لم نستطع نحن أن نطرده ..؟ فقال لهم : إن هذا الجنس لا يطرد إلا بالصلاة …)
(وانظر كذلك الإصحاح الثامن ، والتاسع والعاشر في إنجيل متى ) وانظر كذلك ( الإصحاح السابع عشر في إنجيل متى 14-21) وانظر في إنجيل مرقس ( الإصحاح الأول –32-35) (وانظر الإصحاح الخامس ، والثامن ، والثالث عشر من إنجيل لوقا ) … أبعد هذا يقال : إن للجن صلة حسية بالإنس ..؟
المبحث الرابع :
آراء المُنكرين اتصال الجن بالإنس ، وتسخير الإنس للجن
إضافة إلى بعض الأقوال التي أوردتها في المبحث السابق ، سأورد أقوالا لطائفة من العلماء استئناسا بها ، للدلالة على فساد مزاعم من يثبت أن للجن صلة حسية بالإنس ، مبتدئا برأي علماء الشريعة ، منها : -
1- قال الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الازهر : في رَدِّهِ على سؤال ورده بهذا الصدد :- [ صَدَّقَ كثير من الناس ما شاع من ذلك عن الجن ، وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف الصالح ، واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفقهاء وفرضوا صحته ، واتخذوا من هذا الفرض مادة جعلوا منها حقلا للتدريب على تطبيق كثير من الاحكام الشرعية عليهم ، وكان منهم أن تحدثوا عن صحة التزوج بهم ، ومن وجوب الغسل على الإنسية إذا خالطها جني ، وعن انعقاد الجماعة بهم في الصلاة ، وعن مرورهم بين يدي المصلي ، وعن روايتهم عن الانس ، ورواية الانس عنهم ، وعن حكم استنجاء الانس بزادهم وهو العظم ، وعن حكم الاكل من ذبائحهم ، إلى غير ذلك مما تراه منثورا في كتب الفقه ، أو تجده في كتب خاصة ذات عناوين خاصة بالجن وإني أعتقد أن ذلك من فقهائنا لم يكن إلا مجرد تمرين فقهي جريا على سنتهم في افتراض الحالات والوقائع التي لا يرتقب وقوعها ، أو التي لا يمكن أن تقع..واذن..ففروض الفقهاء والتي لم يقصدوا بها إلا مجرد التدريب الفقهي ..لا تصلح أن تكون دليلا على الوقوع والتحقق ، فلنتركهم على سننهم يفترضون..ومردنا في ذلك إلى القرآن ..والسنة .. وفيهما كثير من الأدلة التي تبين بوضوح عدم صحة ما يقوله البعض عن صلة الانس بالجن .. ولكن ضعفاء العقول من الناس غفلوا عن هذه الحقائق الثابتة ، وصدقوا هذه الاوهام والجهالات التي تحكي هذه الصلة المزعومة ، بل ظنوها من عقائد الإسلام وهو منها براء .. وقد جاء في القرآن ما يرشد الناس إلى صلتهم بالجن ، فأخبرنا بأنها محصورة في - التزيين والوسوسة والاغراء- كما يحدث للناس من الناس ، واقرأ قول الله وهو يأمرنا بالاستعاذة من شياطين الانس والجن ..قال تعالى :-[قل أعوذ برب الناس ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ،من الجنة والناس ] ( ).
واقرأ أيضا ما جاء على لسان الشيطان نفسه في قوله تعالى :
[ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم..الآية ] ( )
ومن هنا نفهم أن صِلَة الجن بالانسان ليست أكثر من الوسوسة.. والإِغراء… والدعوة.. والوعد …
كما يقول تعالى :- [فوسوس لهما الشيطان ..]( ) وكما يقول سبحانه : [وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم
في الارض ولأغوينهم أجمعين ] ( )
أما ما عدا هذا من كلام الناس حول صلة بعضهم بالجن فهو افتراء ،وقول بلا حجة صحيحة ،والله أعلم) ( )
2- وقال الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ردا على سؤال وجه إليه يقول :
[ يسقط أناس مرضى ..ويزعم زاعمون أن الجن دخل أجسامهم ..ثم يستدعون أناسا آخرين ..لإخراج هذا الجان من أجسام هؤلاء ..فهل هذا صحيح ..؟]…….فأجاب –رحمه الله- عن هذا السؤال بقوله :- [من الظواهر الشائعة بين عامة المسلمين أنهم يكثرون من قولهم أن الجان سكن جسم هذا الرجل أو جسم هذه المرأة ..وأنه يتكلم بما يتلفظ به هذا الرجل المريض ..ويأتون بأناس يزعمون أن لهم قدرة على إخراج الجان من أجسام هؤلاء وهذه ظاهرة خطيرة تتيح فرصا لسوء الاستغلال وابتزاز الأموال من الجهلة الاغرار ..وهذه الحالات المرضية تكون في الغالب من قبيل التشنج العصبي كما يقول الأطباء ، وهم يذكرون أن أفضل علاج له هو جودة الطعام وكثرة الرياضة في الأماكن النقية الهواء الجميلة المناظر المريحة للأعصاب ، وتجنب المثيرات والمكدرات ، مع تناول الأدوية المحددة لذاك المرض ، والله الذي خلق الداء خلق الدواء كما أخبرنا بذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، وهناك من قدماء العلماء من يقولون أن نسبة هذا المرض إلى الجن أو الشيطان أمر باطل ، لأن القرآن يقول حكاية عن الشيطان [وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .. ]( )
وقال هؤلاء :-إن قول الله تعالى في آكلي الربا :- [الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..]( ) وارد على طريقة العرب الذين الذي نزل القرآن بلغتهم ..وهذا مجاز يراد منه تصوير مدى الضلال والخبال الذي يحدث لأكلة الربا ..فإن الربا يفتح أبوابا للخسران والوبال ..
ولكن جمهور العلماء يقولون :-إن الشيطان هو كل عات متمرد من إنس، أو جن ، أو دابة ..والجن والعفاريت في لسان الشرع أجسام نارية غير مركبة وهي تنفذ إلى الاجسام نفاذ الهواء ..ومنهم الصالحون ، ومنهم الضالون.. ووجودهم ثابت في القرآن والسنة ..وقد استغل كثيرون هذا الأمر فراحوا يقولون عن كل شخص يصيبه مرض فيه تشنج أو اضطراب أعصاب : أن الجن قد دخل جسمه ..وسيطر عليه ..وتكلم بلسانه ..ولا يمكن أن يتحقق له الشفاء إلا على يد انسان مخصوص ..له قدرة يدعيها على إخراج الجن من أجسام المرضى..وهذا الاستغلال البشع هو الذي يشكو منه عقلاء المسلمين مر الشكوى لأنه يظهرنا بمظهر لا يليق أمام الأمم المثقفة المتعلمة المتقدمة في وسائل العلاج .والذي ينبغي للإنسان المريض هو أن يطلب الشفاء بتوفيق الله وعونه ، عن طريق الطبيب الثقة الحاذق المؤمن ، لأن الله تعالى قد هدى الإنسان إلى كثير من أسباب التطبب والعلاج ، سبحانه.. [علم الإنسان ما لم يعلم] ( )..ولقد تقدم العلاج النفسي كما تقدم العلاج الحسي فمن لم يجد علاجه عند طبيب الاجسام طلبه عند طبيب النفس ..والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم..]( )
3- وقال الشيخ علي الطنطاوي :
ردا على سؤال من طالبات في جامعة الملك عبد العزيز..إن محاضرة من خارج الجامعة ألقت محاضرة عن الجن قالت فيها :- (بأن الانسي يتزوج جنية ..وتلد له أولادا ..وأنها-أي المحاضرة- تعرف حوادث من هذا القبيل .! فهل هذاصحيح.. ؟) فأجاب –رحمه الله- بقوله : إنه ليس بصحيح ،وأن هذا إفساد لعقول الطالبات ، لا يجوز أن يلقى في الجامعة ..والعاقل لا يصدق إلا واحدا من اثنين : شيئا ماديا قام عليه الدليل العقلي ، أو ثبت بالتجربة ، أو كان ممكنا ونقل نقلا قطعيا ،وشيئا من الغيب نزل به الوحي فنص عليه في القرآن ، أو أتت به الأخبار في السنة .. وما تقوله السائلات :إن المحاضرة زعمته من زواج الرجل بجنية لم يقم عليه دليل نقلي ، ولا دليل عقلي ،وهو من خرافات العجائز وأوهام العوام ، وإن ورد مثله في تراجم بعض رجال القرن الماضي ..]( ).
4- قال الشيخ محمد الغزالي :
( تحدث معي بعض أهل العلم الديني ،وكأنهم رأوا إنكاري على أولئك المرضى ، وقالوا لي : لماذا ترفض فكرة احتلال الشياطين لأجسامهم ..؟ كان جوابي محددا : لقد شرح القرآن الكريم عداوة إبليس وذريته لآدم وبنيه ، وبين أن هذه العداوة لا تعدو الوساوس والخداع ، [ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا]( ). وليس يملك الشيطان في هذا الهجوم شيئا قاهرا ، إنه يملك استغفال المغفلين فحسب ، [ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ] ( )
وقد تكرر هذا المعنى في موضع آخر : [ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . وما كان له عليهم من سلطان ] ( ) . إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب إلى المسجد ..! ولا يدفع سكرانا في قفاه ليكرع الإثم من إحدى الحانات ..! إنه يملك الاحتيال والمخادعة ، ولا يقدر على أكثر من ذلك )( )
5- قال الدكتور عبد المحسن صالح- أستاذ الكيمياء بحامعة الاسكندرية-:
( إن بعض المتعلمين ممن حصلوا على مؤهلات جامعية قد جاءوني يوما وأسروا الي أن المدعو : \\\" الشيخ طلعت \\\" يستطيع أن يشفي بعض الأمراض عن طريق نفر من الجن ..!! وأن لذلك الجن صولات وجولات ..وأنه يأتمر بأمر الشيخ ..! ويحضر أدوية من تحضير الجن ولقد كانوا في حديثهم هذا جادين كل الجدية ، ولما أظهرت لهم استيائي من هذه الخزعبلات ..قام أحدهم وأحضر بعض الكبسولات ، وزعم أن الجن قد ألقاها في الهواء لتستقر في راحة شيخهم المزعوم ..ولما استأذنت في فحص محتويات احدى الكبسولات وفتحت واحدة منها ، وجدت بها مسحوقا ناعما ارتبت أن يكون دقيقا لبعض الحبوب ..وبالكشف عليه بقطرة من محلول اليود تحول لونه إلى أزرق غامق ..وبهذا الكشف الكيميائي المعروف عرفت أن محتويات الكبسولة ليست إلا مادة نشوية ..وهذه التجربة يعرفها حق المعرفة تلاميذ المدارس الثانوية....أضف إلى ذلك : أن تلك الكبسولات كانت من صناعة \\\" شركة سِيد \\\" (الشركة الكيميائية الدولية بالقاهرة ) ..والتي تستخدمها في تعبئة المضادات الحيوية .. ولما استقصينا الأمر أكثر ..توصلنا إلى أن لهذا الشيخ قريبا يعمل في ذات الشركة ..ومن المحتمل جدا أن يكون صاحبنا قد أحضر له كمية من الكبسولات الفارغة ، ليعبئها الشيخ بمعرفته دقيقا ، أو ما شابه ذلك ، وارتاب القوم فيما توصلت اليه وشككوا فيه ، وأكدوا أن جن -الشيخ طلعت- يفعل المعجزات ..! وأن كل ما يطلبه منه يجاب ..!وحددوا لي مقابلة مع شيخهم..وتمت المقابلة بحضور ستة منهم .. وبدأنا مناقشة طويلة لكي أستدرج شيخهم إلى الفخ ، ومن الطبيعي أنه أخذ يؤكد لي أن له على الجن سلطانا عظيما بأمر الله ، وأن الله سخرهم لخدمتنا ..و...و .. ومزاعم باطلة أراد أن يُخيفني بها..
وهنا قلتُ له :- إذا كان صحيحاً ما تقول ..فإنني أطلب خدمة تنفعني في ديني ودنياي ولا أظن أن الجن سيخيب أملي ما داموا مسخرين لخدمتنا ..وما دمت أنت -والحديث موجه إلى الشيخ- قادرا على توجيههم .. فانني أرجو وألح في الرجاء ، أن ترجو جنك المزعوم في احضار مادة كيميائية -أسميتها له-، لأننا نحتاج إلى هذه المادة الوحيدة في إجراء تجربة علمية في أحد المعامل ، وبهذه التجربة قد نخدم البشرية -وكان هذا الاجتماع بالشيخ قد تم في القاهرة- وبدلا من تجشمي السفرإلى جامعة الاسكندرية لإحضارها، فما أيسر على جِنِّك أن ييسر على الناس الأمر في العلاج والبحوث ..فماذا أنت قائل ..؟ عندئذ صمت الشيخ ما يقرب من دقيقة ..وراح فيما يشبه الغيبوبة ..وظن الحاضرون أنه على اتصال بجنه لا محالة .. وأنه سيفحمني بمعجزاته الخارقة .. وبعدها قال بنبرة فيها ثقة واعتداد :- إن الجن لا يقبل التحدي..! ولهذا يرفض احضار الزجاجة ..
فقلت بثقة واعتداد أيضا:- أنت ذكي ، وما عداك مخدوع غبي …..فالشيخ المزعوم الذي تحََدثنا عنه استطاع أن يحصل من كل واحدٍ وواحدةٍ من المجموعة التي تثق في مُعجزاته على مئات الجنيهات ..وبعضها جنيهات ذهبية.. لأن الجن على حد زعمه تهوى الذهب .. ولا تعمل ولا تستجيب إلا في وجود هذا المعدن النفيس ....... إن مثل هذه الخرافات لا تجوز حقا إلا على أصحاب العقول الضعيفة..وأن الجن الذي يزعمون تحضيره وتسخيره ، ويُحضِرُ لهم الشيء من لا شيء ، إنما هو شعوذة حقيقية تُرتكب باسم الدين ، والدين منها بريء ، فهو دين العقل والحكمة ،والموعظة الحسنةلا دين هؤلاء المشعوذين الذين يضحكون على عباد الله الطيبين ) ( )
6- رأي علماء النفس :
لعلماء النفس رأي في هذه القضية كذلك ..لا بد من إيراده لنستكمل الموضوع من جميع جوانبه ..ولتتضح الحقيقة لمن يريد أن يفهمها .. يقول الدكتور عادل صادق - وهو من أشهر الأطباء النفسيين في مصر والعالم- : ( في رأيي أن الإنسان سيظل حتى نهاية الحياة يؤمن بهذه الخرافات التي وجدت منذ أن وجد الإنسان ، فمنذ أن نزل الإنسان على الأرض، والشيء الوحيد الذي لا يعلم عنه شيئا هو :- غده ، أي : المستقبل ، وحين يأتي المستقبل فإنه قد يحمل معه خيرا ، أو شرا ، ومن هنا تعلم الإنسان القلق من أجل المستقبل، وتعلم أيضا الشعور بالخوف ..ولهذا فهو يحاول دائما استقراء الغد، ولكن هيهات أن يعلم عنه شيئا ، فهذه حكمة الخالق فهذا القلق هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وإلى الحذر..ولو انكشف لنا الحجاب عن المستقبل لتوقف الإنسان ..ولانتهت حياته منذ زمن بعيد ..
ثم يقول : من غير شك يزداد الايمان بهذه الظواهر بين غير المتعلمين ..وفي الشعوب المتخلفة ، فقلقهم من أجل المستقبل أعظم ، وكان من مصلحة الاستعمار الأجنبي الذي سيطر على هذه الشعوب أن يغذي هذه الخرافات لديهم ، ليعيشوا في الوهم وليبتعدوا عن التطور العلمي العالمي ،وبذلك تتم السيطرة عليهم ، واستنزافهم لفترة أطول ..
وهذا يمثل الجانب السياسي في ظاهرة انتشار الخرافات في الشعوب البدائية والمتخلفة ..وقلق الإنسان قد يتحول إلى يأس حين يُواجَهُ بمشكلة في حاضِرِه يعجز عن حَلِّها ..وخاصة المشاكل المَرَضية التي يعجز عن حلها العلم الحديث ، هنا لا يكون أمامه غير اللجوء إلى عالم السحر والجن .....
وأشهر الشخصيات المرضية المعروفة هي الشخصية الهستيرية .. وهي شخصية غير ناضجة انفعاليا تتميز بالسطحية في التفكير ، والوجدان ، والميل إلى المبالغة والتهويل ، مع استعدادها لتقبل الايحاء ، والقصص التي نسمعها عن الجن والمتصلين بالجن ، يرجع الفضل في انتشارها وبالطريقة التي نسمعها بها ، إلى أصحاب الشخصيات الهستيرية الذين لديهم الاستعداد لتصديق كل شيء وترويجه بصورة مُبالغ فيها .....
إلى أن يقول : وفي مجال الأمراض العقلية يوجد مرض اسمه -الشيزوفرينا- وهو في الحقيقة أكثر من مرض ، وقد يكون في صور متعددة للغاية، إحدى هذه الصور:-هي-الهلاوس- ، وهو أن يرى المريض أو يسمع أشياء لا وجود لها ، وفي المجتمعات البدائية ، وبالذات في القرى والبوادي والأرياف ، حيث يعتقد الناس أن هذا المريض تسيطر عليه روح شريرة ، أو أنه تحت سيطرة الجان ..أو أن ما يراه وما يسمعه أشياء حقيقية من عالم الجن والأرواح ، وقد تسيطر على المريض فكرة أنه على اتصال بالجن والأرواح ، وقد يصدقه بعض الناس ، وفي بعض المجتمعات يعامل هؤلاء معاملة خاصة على أن لهم قدرات غير عادية ، أو أنهم من أصحاب الكرامات ،بينما هم في الحقيقة من المرضى العقليين، ولاشك أن بعض المنحرفين ممن يسميهم الطب النفسي-السيكوباتيين-يلجأون إلى هذا الادعاء ، وهو قدرتهم على الاتصال بالجن ، وشفاء المرضى ، من أجل القيام بعمليات النصب والاحتيال ، والارتزاق غير الشريف ، وهم يمثلون الغالبية العظمى ممن يمتهنون هذه الأعمال ، وخاصة في مجتمعنا ، وهم بلا شك يتمتعون بذكاء وقدرة على التأثير والاقناع ، وخاصة أن زوارهم من المرضى ومحدودي الذكاء ، وممن لديهم قابلية مرتفعة للايحاء .. وقد يقول البعض:-إن بعض مرضاهم يشفون ، وهذه حقيقة ، لأنهم ليسوا مرضى حقيقيين ، ولكنهم مرضى بالوهم ، وبأعراض هستيرية مؤقتة قابلة للشفاء تحت تأثير الإيحاء ، وقد وصل الطب إلى هذه الحقيقة باختراع نوعية معينة من العقاقير لهؤلاء المرضى ، عقاقير ليست مؤثرة ولا فعالة ، ويسمى هذا العقار:- بالعقار المُمَوَّه ، أو :الدُّمية ، وحين يتعاطاه المريض يشفى من أمراضه ، رغم أنه عقارٌ غيرفعال ، وهذا دليل على قابلية المريض الشديدة للإيحاء ....) ( ).
الخاتمة
نستنتج من كل ما سلف ، أن لا صحة لقول من أنكر وجود الجن ، أو زعم أنه يتلبس
بدن الإنسان .. أو أن للإنسان القدرة على تسخير الجن ، أو زواج الإنسي بالجنية ،
أو الجني من الإنسية ، وأن كل ذلك أوهام، درج المشعوذون في كل العصور على
غرسها في نفوس ضعاف العقول والإيمان ، وساعدهم في ذلك طائفة من المُتَّسِمين بِسَمتِ
أهل العلم والدين ، الذين انطلت عليهم بعض الحكايات والقصص الموضوعة ، والأحاديث الضعيفة التي لا يُقبل الاحتجاج بها ، ولا تصلح بمجموعها أن تتقوى ، لأن أغلبها شديد الضعف ، واضح النَّكارة ، أفسدوا بها حياة الناس ، وصرفوهم عن السنن الطبيعية في العلم والعمل ، وعن النافع المفيد . وجدير بالمسلمين أن لا يجعلوا لدجل المشعوذين سبيلا إلى قلوبهم ، وليعرفوا ما أوجب الله عليهم معرفته ، مما يفتح لهم أبواب الخير والسعادة ، ولم تلق هذهالحكايات والقصص رواجاً عند كثير من علمائنا الأعلام ، ناهيك عن أن يكون ذلك باتفاق أهل السنة والجماعة ، البريئين من هذا القول براءة الذئب من دم ابن يعقوب ...
مراجع البحث
1. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ،لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني ، وبهامشه صحيح مسلم بشرح النووي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
2. - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (825هـ)، مكتبة الكليات الأزهرية 1969م.
3. - الأغاني،لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني( 360هـ) ،طبع دار الكتب المصرية ،1927م.
4. - آكام المرجان في أحكام الجان ، للقاضي بدر الدين الشبلي .مكتبة القرآن ، القاهرة .
5. - الإنسان الحائر بين العلم والخرافة ، د . عبد المحسن صالح ، سلسلة عالم المعرفة الكويتية،رقم235.
6. - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ، عني بشرحه وضبطه محمد بهجة الأثري ، دار الكتب الحديثة ، للسيد محمود شكري الألوسي.
7. - تاج العروس من جواهر القاموس ، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (1205هـ) ، مكتبة الحياة ببيروت .
8. - تفسير التحرير والتنوير ، الاستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ، دار سحنون للنشر ،تونس .
9. -تفسيرالقرآن الكريم المسمى بالسراج المنير، للخطيب الشربيتي،دار المعرفة ،بيروت .
10. - تفسيرالقرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ، طبع محمد علي صبيح بالقاهرة 1948م
11. - تفسيرالقرآن الكريم، جزء عم، للشيخ محمد عبده، ط2/1329للهجرة
12. -التفسير والمفسرون ، لشيخنا الدكتور محمد حسين الذهبي،ط2/1976، دار إحياء التراث العربي. بيروت .
13. - تقريب التهذيب ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ،حققه عبد الوهاب عبد اللطيف ، الطبعة الثانية بدار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 1395هـ ، 1975م .
14. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ، لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ( 430هـ) مطبعة الظاهر بمصر ، سنة 1326هـ.
15. - الجن بين الحقائق والأساطير، مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1970م ، للأستاذ على الجندي ، عميد دار العلوم سابقا
16. - الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي ، (671هـ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة ، 1987م .
17. - حياة الحيوان الكبرى-لكمال الدين محمد بن موسى الدميري( 808هـ) ويليه عجائب المخلوقات ، للعلامة زكريا بن محمد بن محمود القزويني (600هـ) الطبعة الرابعة ، 1389هـ، 1969م . شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي – القاهرة .
18. – الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ ، ( 255هـ)تحقيق عبد السلام هارون ، ط/ دار الجيل ، بيروت .
19. - دائرة المعارف الاسلامية :مادة(جن)المجلد السابع ، ترجمة أحمد الشنتاوي وزملاؤه ، دار المعرفة ، بيروت /لبنان
20. - ديوان الصادح والباغم، للأديب الشاعر محمد بن محمد بن صالح العباسي الهاشمي المعروف (بابن الهبارية)نشره وشرح ألفاظه،عزت العطار، 1936م بالقاهرة .
21. - الرسائل الحكيمة في أسرار الروحانية، يعقوب بن اسحق الكندي ، نشرتها مجلة المورد العراقية.
22. -رسالة الغفران ،لأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله ( 449هـ)، تحقيق وشرح الدكتورة عائشة عبد الرحمن طبع دار المعارف بالقاهرة ، 1969م .
23. - سنن ابن ماجة : محمد بن يزيد القزويني (275هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، نشر عيسى الحلبي .
24. - السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، الشيخ محمد الغزالي ، الطبعة الرابعة 1989م ، مكتبة دار الشروق – القاهرة
25. -شرح السيرة النبوية ، رواية ابن هشام ، تأليف الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الفقيه أبو ذر بن محمد بن مسعود الخشني ، طبع بمطبعة هنية بالموسكي ، القاهرة عام 1329هـ .
26. - الشهاب الراصد ، للاستاذ محمد لطفي جمعة ، ط المقتطف بالقاهرةسنة1926م.
27. - صحيح الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، وشرح الإمام النووي يحيى بن شرف ( 676هـ) على صحيح مسلم ، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت
28. - صحيح البخاري محمد بن اسماعيل بن ابراهيمبن المغيرة البخاري ( 256هـ) وبهامشه حاشية أبي الحسن السندي ، طبعة مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة سنة 1953م .
29. - فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الافتاء بالسعودية .
30. - صراع بين الحق والباطل، للاستاذ سعد صادق محمد،ط ،أنصار السنة المحمدية، القاهرة .
31. - صواعق من نار في الرد على صاحب المنار ، عبد الرافع نصر، طبع القاهرة
32. -صيحة الحق : ابو الوفاء الشيخ محمد درويش ،المكتبة العصرية ، بيروت ، 1982م .
33. - علاقة الجن بالانسان، حسان عبد المنان، نشر مكتبة برهومة، عمان ط1/1995م.
34. - الفتاوى -للشيخ محمود شلتوت ، طبع دار المعارف ، القاهرة ..
35. - فتاوى الشيخ علي الطنطاوي ، مكتبة الشواف بالرياض
36. - الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية ، سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل
( 1204 هـ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
37. - فرق الشيعة، لأبي محمدالحسن بن موسىالنوبختي، المطبعة الحيدرية بالنجف .
38. -في الشعر الجاهلي ، د. طه حسين -طبع دار المعارف بالقاهرة .
39. -كتاب البغال ، من رسائل الجاحظ- تحقيق عبد السلام هرون.
40. - لسان العرب،لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ( 711هـ) دار صادر ، بيروت
41. - لسان الميزان ، لابن حجر العسقلاني ، دار الكتاب الاسلامي ، بيروت .
42. - اللهجات العربية نشأة وتطورا ، د. عبد الغفار حامد هلال ، ط2 1410 هـ، 1990م
43. - مجموع فتاوىشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الخنبلي . المجلد التاسع عشر .
44. - مختار الصحاح ، لأبي بكر الرازي ، طبع الاميرية بمصر
45. - مروج الذهب، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ، ط دار الشعب بالقاهرة .
46. - المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911هـ)تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرين ، الطبعةالرابعة ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1958م.
47. - المعتد في أصول الدين ، أبو يعلي محمد بن الحسين بن خلف الحنبلي ، تحقيق د. وديع زيدان حداد ، دار المشرق ، بيروت
48. - معجم المصطلحات النحوية والصرفية ،للدكتور محمد سمير نجيب اللبدي ، ط مؤسسة الرسالة198 8م .
49. - معجم مقاييس اللغة ، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، تحقيق عبد السلام هارون ، الطبعة الثانية ، 389هـ، 1969م ، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي ، القاهرة .
50. - المعرب من الكلام الأعجمي ، لأبي منصور الجواليقي، تحقيق وشرح :أحمد محمد شاكر ، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، 1942م .
51. - مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير ، للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي ( 606هـ) ، دار الكتب العلمية ، طهران ، الطبعة الثانية .
52. - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام –للدكتور جواد علي ط1، دار العلم للملايين ، بيروت
53. - الموسوعة الفقهية ، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ، دولة الكويت ، ج16 (مادة جن – ص 89 ) الطبعة الثانية ، سنة 1989م .
54. -النص القرآني بين التفسير والتأويل ، رسالة دكتوراة بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف تفسير تحت
رقم ( 950 ) ، مكتوبة بالآلة الكاتبة، د. عبد الفتاح ابراهيم سلامة .
55. - يسألونك في الدين والحياة ، للشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ، دار الكتب الحديثة بمصر
دوريات
1- مجلة الصراط المستقيم ، الصادرة في الهند، سنة1986م، عدد/50 نقلا عن بيان القرآن لغلام أحمد القادياني .
مجلة الهلال المصرية ، عدد يوليو سنة 1983م .
2- مجموعة المنار لسنة1320هـ .. .
3- مجلة الجامعة الاسلامية ، غزة ، ( سلسلة الدراسات الاسلامية ) مجلد: 15 ، عدد:2 . يونية:2007م.
بحث(الجن المسلم )، دراسة توثيقية تحليلية . أ.د نافذ حماد ، ود. زكريا زين الدين .
في ضَوءِ الكتاب والسنة
د. سامي عطا حسن
جامعة آل البيت- المملكة الأردنية الهاشمية – المفرق
[ملخص]
عالم الجن حقيقة لا يشك فيها مسلم ، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم ، كما ذكرته الكتب السماوية ، وتكلمت عنه الديانات الوضعية على اختلاف نزعاتها ، فهو تراث مغرق في القدم ، عميق الجذور ولكن شاب هذا التراث الموروث كثير من الأوهام التي شغلت الأفكار ، وعكرت صفوها ، فتولدت عنها الأباطيل والخزعبلات ، التي لا تمت للحقيقة بصلة . والتصديق بالقرآن الكريم يستلزم التصديق بأن هناك عوالم غيبية ، منها عالم الجن والشياطين ، ولكن ذلك لا يستلزم التصديق بالخرافات التي أشيعت بين عامة الناس ، بحيث أصبحت عقيدة لا يجوز إنكارها ، أوبيان تهافتها ، فكان هذا البحث الذي حاولت أن أبين فيه أن الجن حقيقة قائمة ، وخلق من مخلوقات الله سبحانه ، ورصدت الأقوال التي تثبت الصلة الحسية للجن بالانسان، والأقوال التي تنفيها ، واخترت من بينها ماأميل إليه ، مؤيدا ذلك بطائفة من آراء أهل الذكر ، فإن أصبت فبها ونعمت ، والا فحسبي أنني اجتهدت ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، ثم أما بعد :
فقد شاعت في السنوات الأخيرة خرافات كثيرة حول الجن ، وانتشرت بين قطاع كبير من العامة والمتعلمين حتى أصبحت حقيقة مسلمة لدى كثير منهم ، مثل : إمكانية زواج الجني بالإنسية ، أو زواج الإنسي بالجنية ، وإمكانية تسخير الجن ، بل ظهرت كتب خاصة لإقرارها وبيان معالمها، وعلاج آثارها ، وصار كثير من الخاصة والعامة يتحدثون فيها حديث المُقِرّ الراضي ، ويُدندنون بنصوصٍ وآثار صحيحة غير صريحة ، أو صريحة غير صحيحة ، وبحكايات غثة وسقيمة ، أشبه بخيالات ألف ليلة وليلة .
والأنكى من ذلك كله ، أن بعض العلماء سلَّموا بتلك الخرافات دون بحث أو دراسة ، أما العوامّ فقد وافقت تلك الخرافات هواهم ، واقتنعت بها عقولهم الساذجة ، فانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم ، بل جعلوا الجن سبباً في أمراضهم العضوية والنفسية ومشاكلهم وأخطائهم .. و تبارت القنوات الإعلامية المقروءة والمسموعة من خلال المسلسلات والأفلام في ترويج هذه الضلالات .. فكان هذا البحث لإلقاء بعض الضوء على هذه المسألة ..
وجعلته في مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة على النحو التالي :
ففي المقدمة : بينت سبب اختيار هذا الموضوع .
وفي التمهيد : تحدثت عن وجود الجن بين المثبتين والنافين .
وفي المبحث الأول : تحدثت عن الجن في لغة العرب
وفي المبحث الثاني: بينت بعض عقائد العرب قبل الإسلام وغيرهم من الأمم في الجن .
وبينت في المبحث الثالث : آراء المؤيدين لصلة الجن الحسية بالإنسان :
وبينت في المبحث الرابع : آراء المنكرين اتصال الجن بالإنس وتسخيرالإنس للجن .
وفي الخاتمة : بينت أهم ما توصلت إليه من نتائج ..
والله أسأل أن يلقى هذا البحث قبولاً لدى قارئيه ، ويكون سبباً في زوال كثير من الشكوك والأوهام ، التي افترتها العقول السقيمة ، والأوهام العليلة ، والأهواء المُلتاثة .
تمهيد
حَسَمَ القرآنُ قضية وجود الجن ..حين أشار إلى وجود مخلوقات يطلق عليها اسم الجن ..وجعلهم مقابلين للإنس ..بل أدرجهم مع الإنس تحت اسم الثقلين( ) وأخبرنا سبحانه أنهم مخلوقون من نار .. حيث قال :- [والجان خلقناه من قبل من نار السموم ]( ) وقال سبحانه: [ وخلق الجان من مارج من نار]( ) وخاطب الله سبحانه الجن وجعلهم مسئولين ومؤاخذين عما يأتونه من أعمال ، وتحدث عن مصيرهم ،كما خاطب الإنسان وتحدث عنه في أعماله ومصيره سواء بسواء ..قال تعالى:- [يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ]( ). لذا لا يجوز إنكار وجود الجن ، إذ أن من ينكر وجودهم يكذب بالقرآن الكريم، وينكر معلوما من الدين بالضرورة .
وإبليس كان من الجن وقيل :-( هو علم جنس للشيطان )( ) أو:هو أصل الجان قال أبو منصور الجواليقي :- ( إبليس ليس بعربي ، وإن وافق قولهم :أبلس الرجل إذا انقطعت حجته)( )
وقال الدُّميري :-( واعلم أن المشهور أن جميع الجن من ذرية إبليس ، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة ،
لأن الملائكة لا يتناسلون ، لأنهم ليس فيهم إناث ..)( ) .
وهناك أقوال كثيرة مختلفة في أصل الجن .. وأرجحها القول الذي أخذ به الفخر الرازي حيث يقول :- (لما ثبت أن إبليس كان من الجن ، وجب أن لا يكون من الملائكة،لقوله تعالى:- [ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهولاء إياكم كانوا يعبدون .قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن]( ) فهذه الآية صريحة في بيان الفرق بين الجن والملائكة )( )
ولم ينكر وُجودَ الجن من القدماء إلا بعض الفلاسفة كابن سينا..فعند تعريفه لكلمة-جن- أكَّدَ في غير مُواربة ، أنه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة ..وقد تجنب الفارابي البحث في ذلك تهرباً من النفي والإثبات..
وجعل ابن خلدون : الآيات التي تشير إلى الجن من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ( ) .
وكذلك صاحب التفسير المسمى(بالهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن) ( ) ، فنجده مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى : [والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد]( )- الشياطين : يطلقون على الصناع الماهرين، والأشقياء المجرمين، ومقرنين في الأصفاد :- مسلوكين في القيود ، ومنه نفهم أن سليمان كا يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم ) ثم صودر الكتاب واختفى الكاتب والكتاب عن أعين وأذهان الناس .
أما الشيخ محمد عبده ، فقد زل قلمه حين فسر إبليس في قوله تعالى :- [وإذ قلنا للملائكة ا سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ...] ( ) بأنه :- (القوة المودعة في الإنسان التي تعوقه عن بلوغ درجة الكمال ..
وفسر - الجن- كذلك بأنها عبارة عن -ميكروبات وأمراض خفية- ..!؟) ( )
وتابعه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ..فبعد أن ذكر في تفسيره( أن الجن لا ترى للإنسان على أي حال من الأحوال ) ورجح أن ( من ادعى رؤية الجن فذلك وهم وتخييل ولا حقيقة له في الخارج ) نجده يقول في تفسير المنار ما نصه : - ( وقد قلنا في المنار غير مرة أنه يصح أن يقال : إن الأجسام الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة …. وتسمى بالمكروبات ..يصح أن تكون نوعا من الجن ….!وقد ثبت أنها علل لكثير من الأمراض ..) ( ) .
وقد رد عليهما في حينه كثير من العلماء منهم : - عبد الرافع نصر- حيث قال: - ( إن ما قالاه تأويل لكتاب الله على غير ما أراد الله ..بما يخرق الإجماع، بل يصادم المعقول والمنقول ..) ( )
وكذلك فعل الدكتور محمد البهي ( ) في تفسيره لسورة الجن ، إذ ذهب فيه إلى عديد من الآراء المتناقضة حول حقيقة الجن في القرآن الكريم ، منها :( أن الملائكة هي الموجودات الأصلية للجن ، وأن الملائكة خلقت من نار ، وأن إبليس من الملائكة )، وتعسف في الاستدلال على صحة آرائه ، وأنكر الأحاديث التي لا مطعن في إسنادها ، وخرج على إجماع المفسرين والمحدثين .
كما خصص الدكتور طه حسين فصلا في كتابه -في الشعر الجاهلي -عن مسألة الجن في الدين والأدب ،تحت عنوان: ( الدين وانتحال الشعر) ، وبدأ الفصل بقوله : ( فكان هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي ؟!)( )
ثم قال : :-( وفي القرآن سورة تسمى سورة الجن ، أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهويتلو القرآن فلانت قلوبهم ، وآمنوا بالله ورسوله ، فلم يكد القصاص والرواة يقرءون هذه السورة ، وما يشابهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن ، حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب ، واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر ،
وفنون السجع ..)( ) ، ولا نريد أن نتعرض لما في هاتين النُّبذَتينِ من الَمغامِزِ المَّاسَّةِ بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحة نبوته ، فقد تولى ذلك نخبة من العلماء الأفذاذ ،من أبرزهم :- الإمام مصطفى صادق الرافعي في كتابه : تحت راية القرآن ، والمحامي الأديب محمد لطفي جمعة في كتابه : الشهاب الراصد .. وغيرهما ، ولكن كم وَدِدنا لو أن -طه حسين- احترم عقيدة معاصريه ، ومشار كيه في الجنس ، واللغة ، والوطن ..
أما مسألة الجن وذكره في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي ، فلا تقتضي تلك الحملة الشديدة المُتَجَنِّية الُمنكَرَة .. فليس القرآن هو الذي أوجد اعتقاد العرب في الجن ..حتى يُنطقوهُ بضُروبٍ من الشعر ، وفُنونٍ من السجع ...!
المبحث الأول :
الجن في لغة العرب
الباحث عن الجن في لغة العرب تهولُهُ وَفرةُ الكلمات الدالة عليه دلالة مباشرة أو غير مباشرة ، ولا غرابة في ذلك ، فقد آمنوا بقدسيتها وقدرتها على الأعمال الخارقة ..ونسبوا إليها كل عَجيبٍ وغريب ، وكل مَجهول مُعَمّى..فزعموا أنهم التقوا بها ، وأنهم رأوها في صُوَرٍ شتى ، أو لاحَ لهم خيالها ، أو سمعوا عَزيفَها، وبلغت بهم مزاعمهم أن قالوا: بأن منهم من تزوج إناثها ، وتوهموا أن بعض الحيوان من نسلِ الجن ..! وعَزَوا إليها إلهام الشعراء .... لقد كان للجن أثرٌ عميق في حياة العرب حتى نضحَت به لغتهم مُعبرةً في معظم ما عَبرت عن أمشاجٍ من أوهامَ .. ومزاعمَ .. وأكاذيب..
تُطلق كلمة – الجن – في لغة العرب على ما من شأنه الستر والخفاء ، وأكثر استعمالاتها تدور حول هذا المعنى ، فالجنة_بضم الجيم -: الوقاية والستر ، وكل ما واراكَ وَسَتَرَكَ ، وجَنَّهُ : ( بتشديد النون وفتحها مع فتح الجيم )
ستره ، وسُمِي الجَنين بذلك : لاستتاره في رحِمِ أُمهِ ، وكل مستور جنين، والمجنون : من ستر عقله ، وأجَنَّهُ الليل : ستره بظلمته ، والجنان : القلب ، وسمي بذلك لاستتاره ، والِمجَنّ : التُّرس يُتَّقى به ، والجَنة : البُستان الذي يستر الأرض بأشجاره .. والجنن
( بفتحتين ) : القبر ، لستره الموتى …
والجنة : ( بكسر الجيم ) : الجن ، لاستتارهم عن الأعين ، لهذا سميت الملائكة جنا أيضا ، وفي القاموس : الجن : الملائكة ، والجنة : طائفة من الجن ( ).. وعلى هذا الاستعمال اللغوي لِلجِنَّة ، جاء قول الحق سبحانه : - [ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون )( ) فالآية إنكار على المشركين الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ، فجعلوا بين الله وبين الجنة – أي : الملائكة _ نسبا ، ولقد علمت الجنة أنهم سيشهدون عذاب أولئك المشركين ، أو بعبارة البخاري : ستحضر للحساب .. ( ) ، فالجنة مشترك لفظي بين الجن والملائكة ، وكذلك يسمى ذهاب العقل جِنَّة ،كما في قوله تعالى : - [أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ] ( ).
وإذا فالقول : بأن الملائكة هم الجن لهذا الاشتراك اللفظي ، تلبيس لا يليق بقائله .
وقال ابن عبد البر : - الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان مُنَزلون على مراتب : فإذا ذكروا الجني خالصا قالوا : جِني …فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر ، والجمع عُمّار ، وعَوامر …
فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا: أرواح ....فإن خَبُثَ وتَعَرَّمَ ، أي : ازداد شراسةً وأَذىَ - فهو شيطان …فإن زاد على ذلك فهو : مارد .. فإن زاد على ذلك وقوي أمرُه قالوا : عفريت ، والجمع عفاريت ، وهم في الجملة : جِنٌّ وَخوافٍ - جمع خافٍ - ، قال أعشى باهلة :
يمشي ببيداءَ لا يمشي بها أحدٌ ولا يُحِسُّ سوى الخافي بها أثرُ .( )
فإن طَهُرَ الجني وصار خيراً كله ، فهو : مَلَك ..وإذا كفر الجني، وظلم ، وتعدى ، وأفسد ، قيل : شيطان ..
وإن قوي على البنيان ، والحِمل الثقيل ، وعلى استراق السمع ، قيل : مارد ..
فإن زاد فهو : عفريت …فإن زاد فهو : عَبقري ( ) .
ومن أصناف الجن كذلك في لغة العرب : الغُول .. وهي في زعمهم دابةٌ مَهُولة ذات أنياب وأظافر ..والغول في رأي القزويني أشهر الشياطين ، وهو كما زعموا :- (حيوان مُشَوَّه لم تُحكِمهُ الطبيعة ، وأنه لما خرج مفرداً لم يستأنس وتوحش ،وطلب القفار ، وهو يناسب الإنسان والبهيمة ، وأنه يتراءى لمن يسافر وحده في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهم أنه إنسان فيََصُدَّ المسافر عن الطريق..) ( ). ويقول الدُمَيري :- ( الغول بالضم : أحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين ، وهم سحرتهم ..! . ونقل عن الجوهري قوله :( وهو من السعالي والجمع أغوال وغيلان وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول .. ويقال تغولت المرأة : إذا تلونت .. ويقال غالته غول: إذا وقع في مهلكة ..)( )
وقال المسعودي:- ( وللعرب في الغيلان والتغول أخبار طريفة ..لأنهم يزعمون أن الغول يتلون لهم عند الخلوات .. وأنها تظهر لخواصهم في أنواع الصور يخاطبونها .. وربما باضعوها ..وقد أكثروا من ذلك في أشعارهم ،ويزعمون أن رِجليهِ رِجلَي عِير (أي حمار..!) فكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي والقفار يرتجزون فيقولون :
يا رِجلَ عِيرٍ انهقي نَهيقا لن نترك السَّبسَبَ والطَّريقا.
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي ، وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنها منهم ، فيتبعونها ..فَتُزيلَهُم عن الطريق الذي هُم عليه وتُتيهَهُم ، وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه، فلم يكونوا يَزولون عما هم عليه من القصد ، فإذا صِيحَ بها على ما وصفنا ، شَرَدَت عنهم في بطون الأودية، ورؤوس الجبال ..) ( )
والغول شخصيةٌ أساسية في الحكايات ، والقصص الشعبي ، وهو يؤثر بالإيجاب والسلب على أحداث القصة ، فهو يساعد على تطويرها سواء أكان في جانب البطل فيعاونه ويسهل له الصعاب ، أم كان الغول في الجانب الآخر المعادي للبطل فيهدد حياته ، ويحول دون الوصول إلى ما يبتغي ويريد ..
أما أنثى الغول فسموها :(السِّعلاة ). قال ابن منظور :-(إن السعلاة هي ساحرةُ الجن كما ذكر الدميري ،ثم أشار إلى أنها الغول بعينها التي تذكرها العرب في أشعارها ، وتُوصَفُ بالسعلاة : المرأة الحَديدة الطَّرف والذهن ..وكذلك المرأة الصَخّابة الخبيثة ).( )
وتتألف الجن في زعمهم من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القُربى وصلة الرحم .. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب ..! تتقاتل فيما بينها ، ويغزو بعضها بعضا ، كما أن لها مُلوكاً ، وحكاماً ، وسادات ..! مثل :-الشَّقناق ، والشَّيصَبان ، وَدُحرُش ، وقد ذُكِر الأول في شعر (بشار بن برد) ، وذُكِر الثاني في شعر (حسان بن ثابت)،
أما( دُحرش) فيعتبرونه من سادة الجن ، ويزعمون أنهم مثل الأنس ، فيهم الحَضَر أهل القرار، وفيهم المُتَنقِلة وهم : أعراب الجن.. وفيهم من يسير بالنهار ، وفيهم من يسير بالليل ، وهم سَراة الجن..( )
وكان الجاهليون يعتقدون جواز قتل الجن للأنسان ، واستمرت هذه العقيدة بالشيوع إلى صدر الإسلام الأول .. فلما توفي الصحابي الجليل \\\"سعد بن عبادة \\\" زعموا أن الجن قتلتهُ..إذ ادعى بعضهم أنه سمع هاتفا يقول شعراً جاء فيه :- قتلنا سيد الخزرج........سعدَ بن عبادة
رميناهُ بسهمين........فلم تُخطئ فؤاده( )
وقد ترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني ، وقال :- ( خرج إلى الشام فمات بحوران سنة خمس عشرة ، وقيل : سنة ست عشرة .. وقبره بالمنيحة –قرية بغوطة دمشق- ، وعن سعيد بن عبد العزيز أنه مات ببصرى )( ) ولم يذكر أحدٌ أن الجن قتلته ،بل مات موتاً طبيعياً..اللهم إلا ما انفرد به النوبختي الشيعي بقوله : ( إن سعداً قُتل بحوران ، قتله الروم ) ( )
لقد لعب الإيمان بالجن عند العرب في الجاهلية دوراً فاقَ الدور الذي لعبته الآلهة المزيفة في أخيلتهم ، فنسبوا إليها أعمالاً لم ينسبوها لآلهتم ، ولا تزال هذه العقيدة سارية في نفوس بعض الجاهلين في القرن العشرين .
ومن الكلمات الرائجة في لغة العرب قولهم :- الرَّئِي ..كالوَليّ ..وهو جني يتعرض للرجل يُريهِ كَهانةً ، أو طِبًّا ، أو يُلهمه شعراً..! واشتقاقه من الرؤية أو من الرأي ..ولذلك قيل :رَئِي القوم .. أي : صاحب رأيهم .
وقالوا : التَّوابع والزوابع ، فالتابع والتابعة : الجني أو الجنية يكونان مع الإنسان يتبعانه في صورةِ طائرٍ أو نحوه…
وقيل: التابع : جني يتبع المرأة يحبها ، والتابعة : جنية تتبع الرجل تُحِبُّه ..!
أما الزوابع :فجمعُ زوبَعَة ..بمعنى الشيطان المارد أو رئيس الجن ، وقد سُمي الإعصار زوبعة لدورانه وارتفاعه ، ولابن شهيد الأندلسي مقامة أسماها: التوابع والزوابع ( )
وقالوا : الخوافي .. وهي الجن .. وأرض خافية : أي بها جن ..
وقالوا : الخَبَل ..يعنون الجن ..وسمي المرض المؤثر في العقل والفكر خَبَلاً..
وقالوا : القرين : المصاحب للإنسان، من ملك، أو شيطان .
وقالوا : الهاتف: يعنون به الجني ..وهو أن تسمع صوتاً ولا ترى شخصاً .
وقالوا : الهاجس : والجمع هواجس ..ويعنون به ما يقع في خلدك أو ما تسمعه ولا تفهمه .
وقالوا : الثقلان : أي الإنس والجن .. والأَجَرّان: -بتشديد الراء- أي: الجنة والناس ، ويقال: جاء بجيش الأَجَرَّين أي : بجيش من الجن والإنس .
وفي مجال اتصال الجن بالإنس قالوا : رجل مَخدوم ، يقصدون به :الذي يدعي أنه يُسَخِّر الجن ، أي أنه إذا عزم على الشياطين ، والأرواح ، والعُمّار ، أطاعوه وأجابوه ، وقد أطلقوا على(عبد الله بن هلال الحميري) لقب: صَديق إبليس
وقالوا : رجل مَنظور ، وبه نظرة ..أي:أصابته عين من الجن ، تُحدِثُ له غَشيَة ، أو لَوثَة
وقالوا :إن الشيطان يصيب الإنسان بالمَسّ :أي الجنون .. والاستهواء أي: أن الجن تخطف الإنسان تستبقيه عندها زمناً، ثم تُرجِعُه إلى أهله .. والخَبطُ أي : أنها تصيبه بالصَّرع والجنون..
ونسبوا بعض الدواب إلى الجن ، فقالوا : إبِلٌ حُوشِيَّة أي: أنها من نسل ابل ضَرَبت فيها فُحولُ إبل الجن...!
وقالوا : سُيوفٌ مأثورة ، أي : أنها من عمل جن سليمان - عليه السلام- ...!
وسموا ما للجن من أماكن ومَكامِن فقالوا :- عَبقَر : وهي في زعمهم قرية يسكنها الجن ، وفي المثل : كأنهم جن عبقر ..وليس يدري أحد أين تقع ولا متى كانت ..؟ ويطلقون وصف- العبقري – على كل شيء يَعظُمُ في نفسه أو يَدِقُّ عمله ، تعجباً من حذق صنعته وجودته ، حتى قالوا : ظلمهُ ظلماً عبقرياً ..
وقالوا : وَبار.. وزعموا أنها أرضٌ تسكنها الجن ، وزعموا أن أرضَ وَبار خصبة شجراء مُثمرة ..إذا دنا منها إنسان حَثَوا في وجهه التراب ، فإن أبى الرجوع خَبَّلوه وربما قتلوه
ومن هذا الحشد من الحصاد اللغوي حول الجن -على إجماله- يتبين لنا ما كان للجن من أثرٍ عميقٍ في حياةِ العرب ..حتى نضحت به لغتهم -كما أسلفنا- مُعبِّرةً في معظم ما عبرت به عن أمشاجٍ من أوهام ومزاعمَ وأكاذيب ( ).
المبحث الثاني :
من عقائد العرب قبل الإسلام .. وغيرهم من الأمم ..في الجن
إن اعتقاد العرب وغيرهم بالجن ، سابقٌ على نزول القرآن الكريم..وكُتبت في ذلك الكتب ..وقيلت الأشعار ،
ولو أردنا أن نثبت هنا الأبيات المتفرقة في كتب الأدب، والتي يُستدلُّ منها على ما كان عليه العرب من اعتقادات باطلة في الجن ونحوه لضاق بنا المقام .. ولكن سنذكر شيئاً يسيراً من ذلك للتدليل على صحةِ ما ذهبنا إليه .
يقال :- إن - عبيد بن أيوب- كان من صعاليك العرب المشهورين ، وكان جوالاً في مجهول الأرض ،
ويروي ا لرواة له أشعاراً في الجن والغيلان والسعالي .. فمما قاله في ذلك:-
فلله دَرُّ الغــول أي رفيقـةٍ لصاحبِ قَفرٍ خائفٍ مُتنفِّرِ
أَرَنَّت بِلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت حَواليَّ نيراناً تلوحُ وتُزهِـرُ
وقال :-
أَقَلَّ بنو الإحسانِ حتى أَغَـرتُمُ على من يُثيرُ الجِنَّ وهي هُجودُ ( )
ويقول -جِران العود - عن الجن :-
حملنَ جِرانَ العُودِ حتى وَضعنَهُ ... بعلياءَ في أرجائها الجن تعزف( )
ولعل(ثابت بن جابر)المشهور بتأبط شرا ، أشهر من قال الشعر من الأعراب في الغيلان.. وأنه كان يلاقي الغيلان ويقتلها ويتأبط رؤوسها-كما يزعمون- ويأتي بها إلى الحي ..؟
وقالوا : كان( تأبط شرا ) يَعدُو على رِجليه – وكان فاتكاً شديد الفتك – فيأتي ليلة ذات ظُلمةٍ وَبَرقٍ في قاعٍ ( )
يقال لها :– رحى بطان – في بلاد هذيل ..فلقيته الغول ..! فلم يزل بها حتى قتلها ، ثم حملها تحت إِبطِهِ ، وجاء بها إلى أصحابه .. فقالوا : تأبَّطَ شَراً .. وأنشد :-
ألا من مُبلغ فتيانَ فَهمٍ ...............بما لاقيتُ عند رَحى بِطانِ
وإني قد لقيتُ الغولَ تهوي....... بِسَهبٍ كالصحيفةِ صحصحان
فقلت لها كِلانا نِضوَ أَينٍ.............أخو سَفرٍ فخلي لي مكاني
فَشدَّت شَدَّةً نحوي فأهوى...............لها كَفِّي بمصقولٍ يماني
فأضربها بلا دَهشٍ فَخَرَّت................صَريعاً لليدين وللجِرانِ .
وجاء في شعر -ذي الرمة-:
ورملٍ لعزفِ الجن في عَقَداتِهِ...... هَريرٌ كَتَضرابِ المُغَنين في الطَّبلِ ( )
كما كانوا يزعمون أن الجن تظهر لهم وتكلمهم ..من ذلك قول -شمر بن الحارث الضبي:-
أتوا ناري فقلتُ مَنونَ ، قالوا.......سراةَ الجن قلت :عِمُوا ظَلاماً
وقلتُ إلى الطعام فقال منهم........زعيمٌ ، نَحسِدُ الإنس الطَّعاما ( )
وقال جذع بن سنان - وأوردها الجاحظ لشمر بن الحارث الضبي- :-
أتوني سافرين فقلت أهلا ........رأيت وجوههم وُسماً صِباحاً
نحرتُ لهم وقلت ألا هلموا ........كُلوا مما طَهيتُ لكم سَماحا ( )
وشاع عند العرب في جاهليتهم ، أنه لكل شاعرٍ شيطانٌ يوحي إليه الشعر ويقولُهُ على لسانه( ) ، هذا ما استطاع العرب أن يتوصلوا إلى تعليله ، في عصرهم الأسطوري ، فيما يتعلق بمصدر النبوغ والإلهام عند شعرائهم المبرزين . فقد نسبوا إلهام الشعر إلى الجن جَرياً على عادتهم في نسبة كل ما هالَهُم ،وجهلوا حقيقته إلى الجن . وقد توهم كثيرٌ من الشعراء أن هنالك قوة عجيبة خفية ، تُرافقه وتُعينه على قول ما يتعذر على غيره من سائر الناس ، تختاره من بين أقرانه ، تعطفُ عليه وتُلهمه رائع الكلام في قالب موزون مُقٌفّى ، ليفتن به الناس ، قال أحدهم :
إني امرؤٌ تابعني شَيطانيه آخيتُه عُمري وقد آخانيه .
يشربُ من قُعبي وقد سَقانيه فالحمد لله الذي أعطانيه . ( )
فهذا الشيطان كما يتبين لنا من معنى البيت ، قادر على العجيب من نظم القوافي ، وبينه وبين الشاعر صلةُ أخذٍ وعطاء
وهذا ما كان العرب يعتقدونه ، بل يعتقدون أن الجن تقول الشعر وتلقيه على ألسنة الشعراء ، ويزعمون أن مع كل شاعر فحلٍ من الشعراء ، شيطانٌ من هذه الشياطين ، فكان -لافظ بن لاحظ- صاحب امرئ القيس.. ، و-هَبيد- صاحب عَبيد بن الأبرص... حتى قال قائلهم :- لولا هَبيد ما كان عَبيد ...وقال الشاعر الجاهلي( ) :-
إني وإن كنت صَغيرَ السِّن ...... وكان في العين نُبُوٌّ عني
فإن شيطاني أميرُ الجن....... يذهب بي في الشعر كل فن
وكان اسم شيطان -الأعشى-:مِسحِل... !ويُعرف بـمِسحل السكران بن جَـندل .
واسم شيطان- المُخَبَّل العبدي- : عَمرو.....! وهاذر : هو صاحب النابغة الذبياني . ( )
قال الأعشى:-
دعوتُ خليلي مِسحِلاً ودَعوا لَهُ...........جَهنّامَ ، بُعداً للغويّ الُمذَمَّمِ .
ويقر بأَفضالِهِ عليه ، وأنه لولاه لما تمكن من الإجادة ، فيقول :
وما كنتُ ذا قَولٍ ولكن حسبتني إذا مسحل يبري لي القول أنطق .
خليلان فيما بيننا من مودة شريكان جني وإنس موفق . ( )
وافتخر - أبو النجم- بأن شيطانه ذكر.. فقال :-
إني وكُلُّ شاعرٍ من البشر .........شيطانه أنثى وشيطاني ذَكَر
وقال -حسان بن ثابت-:-
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان ..........فطوراً أقولُ وطَوراً هُوَ .( )
وأخيرا هنالك شيطان مشترك بين جميع المُجيدين ويُدعى : الهَوبَر، وآخر بالمُسِفين ويدعى الهَوجَل ، فمن انفرد به الهَوبر ،جاد شعره وحسن كلامه . ومن انفرد به الهوجل ، ساء شعره ، وفسد كلامُه . ( )
ولم يكن لشعراء الجاهلية شياطينهم فحسب ، وإنما كان للشعراء الإسلاميين أيضا كالفرزدق ، وجرير ، وبشار ، وغيرهم من الفحول ، وارجع إلى جمهرة شعراء العرب للقرشي ، والأغاني للأصفهاني ، وبلوغ الأرب للآلوسي ، والشهاب الراصد لمحمد لطفي جمعة ، والخصائص لابن جني ، وبحث : جن الشعراء : للمستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر ، ترى الشيئ الكثير العجيب من عقائد الجاهليين في الجن .. لذا قال سبحانه : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) ليُبعِدَ أمثال هذه التصورات عن أذهان العرب ، مع أن العرب نبزوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر مُلهَم من الجن ، فَرَدَّ عليهم القرآن بقوله ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون )
( الطور / 29 )وبقوله : ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) ( الحاقة / 40-41 )
كما لم تكن أمة سامية أو آرية ، تخلو من الاعتقاد بالجن أو الأرواح الخيرة والشريرة ، قال - سبنسر- :- (إن اليونانيين القدماء كانوا يعتقدون بالجن، وأنهم يقطنون - هاديس- وأن للجن في اعتقاد اليونان أشباحا تكاد تكون مادية، وأنها تشرب دماء الذبائح وتخشى القتل ، وقال :والإسرائيليون يعتقدون في الجن، وأن بعض قبائل الهنود تعبد الجن ،ومعظم الأمم الحديثة تعتقد في الجن وتروي عنها الأخبار والنوادر ..) وهؤلاء جميعا من قدماء ومحدثين ، لا يعتقدون بالقرآن ولا يعرفون- سورة الجن- ، ولم يخطر ببالهم أن يدونوا تلك الأخبار ويرووها ، ليخلقوا جوا صالحا للاعتقاد بصحة سورة الجن ، وصدق ما جاء فيها ..!!ولم يصل التواطؤ بينهم وبين علماء صدر الإسلام الأول إلى هذه الدرجة..وربما كان اعتقاد بعض الأوروبيين في تدخل الجن في حياة البشر أضعاف ما يعتقده بعض المسلمين ..ولكن بعض نفاة وجود الجن يأبون إلا أن يضعوا كل ما يظنونه شاذا ، أو مخالفا للعقل - في نظرهم - على كاهل الإسلام ، وعلماء الإسلام ..؟( )
وقد حاول بعض أدباء العربية تعليل الشعر الذي زعم بعض الأعراب أنه للجن ..ومنهم –أبو اسحق المتكلم- حيث قال :- ( إن أصل ما يذكره بعض الأعراب من عزيف الجنان وتغوُّل الغيلان : أن الأعراب لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء ، والبعد عن الإنس استوحش ، وإذا استوحش الإنسان مَثُلَ له الشيء الصغير في صورة الكبير ، وارتاب وتفرق ذهنه ، وانتقضت أخلاطُه، فيرى ما لا يرى ، ويسمع ما لا يُسمَع ، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه .. وأحاديث توارثوها ، فازدادوا بذلك إيمانا ، ونشأ عليه الناشئ ورُبي الطفل ، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحَنادِس ، فعند أول وحشة أو فزعة ، وعند صياح بوم، ومجاوبة صَدى ، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور ، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاجا كذابا .وصاحب تشنيع وتهويل ، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة ، فعند ذلك يقول:- رأيت الغيلان ..وكلمت السعلاة .. ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول : قتلتها ... ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها ، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول : تزوجتها ..!!ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ،ومد لهم فيه ،أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار إلا أعرابيا مثلهم وإلا غبيا ( كذا..) لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب ، أو التصديق ، أو الشك ، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط ..)( ).
ومما يؤيد هذا الرأي ..وهو تنبه أهل الأجيال السالفة من المسلمين لكل دقيق وجليل من الأمور ، أن شاعراً عربياً قويّ الخيال ممن ينطبق عليهم بعض وصف - أبي اسحق المتكلم- وهو- أبو السري بن سهل بن أبي غالب الخز رجي- من فحول أواخر القرن الثاني - وَضَعَ كتاباً في الجن وأنسابهم وأشعارهم وحكمتهم، وادعى بأنه عاشر الجن ، فقال له - هرون الرشيد -بعد سماع شعره وأخباره :- ( إن كُنتَ رأيتَ ما ذكرت ..فقد رأيتَ عَجَباً .وإن كنت ما رأيته فقد وَضعتَ أَدَباً ) ( ) .
فأخبار الجن وأشخاصها إحدى لوازم الشعر في سائر الأمم ، ولم تنفرد بها العرب في الجاهلية ، أو في الإسلام ، بل شاركتها جميع الأمم القديمة والجديدة.. وإن كان شاعر قد نسب إلى الجن النطق بأبيات من الشعر ، فابتهج مؤلف
( في الشعر الجاهلي) ومن تابعه في رأيه من الكتاب المعاصرين ، واتخذوها وسيلة للطعن في عقائد المسلمين والتشهير بها ، والسخرية منها ، فقد أنطق اليونان والرومان ، والإنجليز، والألمان ، والطليان - قبل العرب وبعدهم- الآلهة ، والملائكة، والجن، والشياطين، بقصائد مطولة .. ولم ير - طه حسين- ومتابعوه في ذلك بأسا .. فهل يتخذ -طه حسين- من ذلك مَطعنا في عقائدهم أو عقولهم أو علمهم أو فطنتهم..؟ أم أن مطاعنهم وَقفٌ علينا، وعلى عقائدنا وعقولنا، وعلمنا، وفطنتنا ..ولا تتعدانا إلى سوانا ..؟
فهذه الإلياذة براعة الاستهلال فيها : استمداد المعونة من ربة الشعر .. وفي النشيد الأول ذكر-أبولون- و- أثينا – آلهة الحكمة ، و- تيتيس- إحدى بنات الماء ، و-زفس- أبي الآلهة ، و-هيرا- زوجته ، والإلياذة كلها محشوة بأسماء الكائنات الخيالية، والأرواح الخيرة والشريرة ..ولم ينفرد اليونان بهذا ..بل حذا الرومان حذوهم .. على لسان-فرجيلوس- كبير شعراء اللاتين في مطلع ملحمته.. ولما انتشرت النصرانية في أوروبا ظل فريق منهم يستمد عون ربات الشعر والأغاني ويذكر الجن في شعره ونثره.. كما فعل – تاسو- في فاتحة منظومته – أورشليم المحررة..!- وكما افتتح – ملتون- الإنجليزي ديوان –الفردوس الغابر -…. فالأوروبيون الأقدمون والمحدثون يعتقدون في الجن .. فهذا كتاب- فوست- أشهر مؤلفات-غوته- أكبر شعراء ألمانيا وأدبائها .. بَطَلُهُ من الجن .. واسمه :- مفستوفيليس- ووضع – وليم شكسبير-كبير شعراء إنجلترا-قبل غوتة- مسرحيةهاملت-التمثيلية ، وهي تدور على ظهور الجن(الشبح) لهاملت في صورة أبيه الملك المقتول ، وقد رآه الأمير ونفر من أصدقائه وعاهدوه على الثأر له..؟ وهذا ما كان يعتقده العرب الجاهليون من أن المقتول ظلما يقف على قبره طير يسمى- الهامة –( ) وتصيح إلى أن يؤخذ بثأره، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي بقوله :-
يا عمروُ إلا تَدَع شتمي ومَنقصتي ...... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني ..!
ولشكسبير أيضا رواية - العاصفة- ومدارها على الجن .. وتدخلهم في أعمال البشر ، وتدبير شئونهم ، وأمثلة ذلك كثيرة ، لا نستطيع استقصاءها،فذلك أمر بعيد المنال ..مما يدل على أن العرب لم ينفردوا بذكر أخبار الجن ..بل شاركهم في ذلك الأمم القديمة والحديثة كما أسلفنا ، فهم لم ينتحلوا قصص وأخبار وأشعار الجن تأييدا لورود- سورة الجن- في القرآن .. ولم يخطر ببال عاقل عندما يقرأ أخبار وقصص وأشعار الجن .. أن الجن قالته حقا وصدقا ..وأنها تنشد باللغة العربية ، والأوزان العربية ، شعرا عربيا في أمور دينية وسياسية .. ولكننا مذ قرأنا وأدركنا، نعلم أن هذا الشعر يتضمن فكرة الشاعر المعلوم أو المجهول الذي نظمه.. ولم ينسبه لنفسه .. وأن الجن ليست إلا وسيلة لروايته .. كما فعل شعراء الإفرنج مثل: غوته-وشكسبير-ودانتي- وملتون-فقد أنطقوا الجن في دواوينهم بالشعر والنثر .. وزاد دانتي ، وملتون، بالخوض في وصف الجنة والجحيم ، ورويا لنا من شعر الملائكة والأبالسة ..كما فعل -أبو العلاء المعري- من قبلهما في يتيمته -رسالة الغفران- فهل نصدق أن الملائكة، والشياطين، والجن، قالت هذا الشعر حقا ..؟ وهل يؤمن أحد بشاعرية الجن ؟ كما يصدق الطفل حديث - عقلة أو عقدة الإصبع- أو قصة - أليس في أرض الجن أو أرض العجائب- ؟
بل نعد هذا الشعر الذي نسب للجن من النوع التمثيلي الذي لم تنضج مواهب الشعراء العرب في بابه، لأنهم وإن لم ينظموا شعرا تمثيليا-اللهم إلا( ابن الهبارية)في ديوانه ( الصادح والباغم) ( ) الذي أنطق فيه الطير والحيوان، على نسق الرائعة الخالدة ( كليلة ودمنة ) - فإن خيالهم اتجه إلى هذا النوع من الأدب .
المبحث الثالث :
آراء المؤيدين لِصِلَةِ الإنسِ الحِسِّيةِ بالجن
من الظاهر أن خُرافة إمكانية الاتصال بالجن وتسخيره واستخدامه، وزواجه من الإنسية ، أو زواج الإنسي بالجنية ، عاشت مع العرب بعد انتقالهم من ظلمات الجاهلية والكفر إلى رحاب الإيمان والنور..... فزعموا أن للجن صلة حسية بالإنس ، وأن بإمكان الإنسان استحضار الجن والتحدث إليهم فيما يريده عن طريق الأدعية .. بل وضعوا الرسائل في ذلك مثل رسالة :(في استحضار الأرواح )( )
وكان الجاهليون يعتقدون مصاهرة الإنسان للجن ، فزعموا أنه كان \\\"لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي\\\" زوج من الجن ونسبوا بعض الأسر والقبائل مثل:- بني مالك .. وبني الشيصبان…وبني يربوع ..إلى الجن ..!
وقد تعرض –الجاحظ- لموضوع زواج الإنس من الجن وبالعكس ، وتعرض لقول من قال أن – بلقيس- كانت امرأة جنية ( )..!
وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط .. الذي شكك في إمكانه .. وقال:- (وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية
والقحطانية ، ونقرؤه في كتب السيرة قص به القصاص ، وسمروا به عند الملوك ) ( ).
وقال الدكتور جواد علي :- ( وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير ، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام ، ويظهر أنهم حذقوه وتفوقوا به على بقية العر ب الذين نسميهم العدنانيين ، بسبب دخول كثير منهم في اليهودية، وفي النصرانية ، وشرائهم الكتب ، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب ، والأساطير القديمة ، فمزجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم )( ) .
كما تهكم -الجاحظ- على ماشاع بين الناس من زواج الانس بالجن وبالعكس،وأطلق على هذا الزواج اسم-الزواج المركب.! كما أشار إلى قول الراجز:علباء بن أرقم :
يا قبَّــحَ اللهُ بَني السِّعــلاةِ عمرو بن يربوعٍ شرارُ الناتِ
ليسوا أعِفَّاءَ ولا أكياتِ( )
على أنه من الأدلة التي اتخذوها على صحة مزاعمهم : بأن السعلاة قد تتزوج من الإنسي وتلد البنين والبنات ….ولم يكن الجاهليون بدعا في هذه الأمور ، بل كان غيرهم من الشعوب القديمة : كالعبرانيين ، والسومريين ، والبابليين ، والاغريق ، والرومإن ، والمصريين ، والهنود ، يعتقدون ذلك
وفي الإسلام :- زعم بعض المسلمين أن بإمكان الجن التزوج بالإنسيات ومعاشرتهن كما في إمكان الإنسي التزوج من الجنيات ومعاشرتهن كذلك ..! كما زعموا أن بإمكان الجن التلبس بجسم الإنسان ، ويجعله طوع إرادته ،ويتكلم على لسانه ، ولا أجد في هذا القول خلافا لعقيدة -الحلول والاتحاد- التي حاربها الإسلام .
واستدل القائلون بهذا القول على ذلك بآراء بعض الفقهاء ، وكلامهم المستفيض في هذا الموضوع ، وبفتوى \\\"شيخ الإسلام ابن تيمية \\\"حيث يقول فيها ما نصه :- ( ودخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة ..!! قال تعالى :- [الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ...]( )، والآية المذكورة ليس فيها دليل على أن الشيطان يدخل بدن الإنسان ويحل فيه ، فقد ذكر المفسرون أن ذلك يكون يوم القيامة ، وقالوا في معنى الآية :- إن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع ..تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف ... إذن لا حلول ولا دخول ..
قال\\\"الخطيب الشربيني \\\" ما نصه :- ( فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان.. ؟ أجيب : بأنه وارد على ما تزعُمُ العرب من أن الشيطان يتخبط فيصرع .. والخبط : الضرب على غير استواء) ( ).
وقال \\\"القاضي أبو يعلى\\\": - ( ولا سبيل للشيطان إلى تخبيط الإنسي ، كما كان له سبيل إلى سلوكه ووسوسته ، وما تراه من الصرع والتخبط والإضطراب ليس من فعل الشيطان لاستحالة فعل الفاعل في غيرِ مَحَل قُدرته ، وإنما ذلك من فِعلِ الله تعالى بِجَريِ العادة ) ( )
وقال \\\" الإمام ابن حزم \\\" :- ( وأما كلام الشيطان على لسان المصروع ، فهذا من مخاريق العَزّامين ، ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز ، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام ، فكيف صار لسانه لسان الشيطان ..؟ إن هذا لتخليط ، وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها ، كما قال تعالى : - [ يوسوس في صدور الناس ] ( )
وكما قال تعالى : - [ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ] ( ) فهذا هو فعل الشيطان فقط ، وأما أن يتكلم على لسان أحد فَحُمقٌ عتيق ، وجنون ظاهر ، فنعوذ بالله من الخذلان ، والتصديق بالخرافات ) ( )
وأنكر\\\" القفال \\\"من الشافعية كون الصرع والجنون من الشيطان ، لأنه لا يقدر على ذلك ( )
وقال \\\"الفخر الرازي\\\" في قوله تعالى : - [ يتخبطه الشيطان من المس ] :
( إن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان ، وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوا من هذا ، وأيضا من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيقوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى :- [طلعها كأنه رؤوس الشياطين ] ( ).
وقال \\\"الزمخشري\\\" في تفسير الآية :( وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنس فيصرع ، والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون ) ( ) .
وقال \\\"محمد الطاهر بن عاشور\\\" عند تفسيره لقوله تعالى [ يتخبطه الشيطان من المس ] : ( وقوله : ( لا يقومون ) : حقيقة القيام النهوض والاستقلال ويطلق مجازا على تحسن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك : قامت السوق ، وقامت الحرب .
فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون – يوم يقوم الناس لرب العالمين – إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، أي قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان ، وإن كان القيام المجازي فالمعنى : إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم ، قاله – ابن عطية - ، ويجوز على هذا المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة ، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا ، فالآية على المعنى الحقيقي : وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر ، وهو المناسب لقوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) .. وهي على المعنى المجازي : تشنيع أو توعد بسوء الحال في الدنيا ، ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .. إلى أن يقول : - وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي ، مثل قوله [ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ] وقول إمرىء القيس :
( ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
إلا أن هذا أثره مشاهد ، وعلته متخيلة، والآخران متخيلان، لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة ، وعندنا هو أيضا مبني على تخييلهم … ) ( ).
وقال \\\"ابو الوفاء الشيخ درويش \\\"– أحد كبار جماعة أنصار السنة في مصر- ( يزعم الناس أن للشيطان قدرة على خبط الإنسان ، وضربه ، ومسه مسا ماديا يؤدي به إلى الصرع ، وهذا زعم باطل كل البطلان ، روجه في الناس طائفة من الدجالين الذين يحاولون أن يحتالوا على الناس ليسلبوهم أموالهم ، ويعبثوا بعقولهم ، وإنك إن حاولت أن تقنع بعض الذين ينتسبون إلى العلم بفساد هذا الزعم ، فسرعان ما ينبري لك صاجبنا محتجا بقوله تعالى : - [ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..] زاعماً أن المس في هذه الآية الكريمة هو ما يتوهمه … والحق أن المس في هذه الآية الكريمة معناه : الجنون ، يقال : فلان به مس .. أي : جنون ..
ثم أورد قولا \\\"للراغب \\\"، وآخر\\\" للفيروزآبادي \\\" ، ثم قال : وإذا كان التخبط هو الإفساد ، أو المس بالأذى كما يقول صاحب القاموس ، فلا جرم أنه الإفساد الذي يملكه ، والمس بالأذى الذي يملكه ، وهو الإغراء والوسوسة ، ولا إفساد أشد منهما ، ولا أذى أبلغ منهما ، لأنهما يضيعان على الإنسان دينه ، ويضيعان عليه آخرته ، وعلى ذلك يكون معنى الآية الكريمة : الذين يأكلون الربا هم من الذين أغراهم الشيطان بالفساد ، ولا يقومون من مجالسهم أو من قبورهم يوم القيامة ، إلا كما يقوم المجنون الذي يحاول أن ينهض فيسقط ، أو الذي لا يدري أين يتوجه ، أو الذي أفسده الشيطان فتنكب سبيل الرشد ، وسلك سبيل الغواية .. ثم يقول : - والعجب للناس ينسبون إلى الشيطان ما لم يجسر على ادعائه لنفسه ، لم يدع الشيطان لنفسه إلا الإغواء ، والإغراء ، والإضلال ، والتمنية ، والأمر بتبتيك آذان الأنعام ، والأمر بتغيير خلق الله ، فما لهم ينسبون إليه ما لم يدع لنفسه…؟ ولو أن الشيطان أوتي القدرة على ضرب الإنسان ، أو خبطه ، أو مسهة مسا ماديا ، لفتك بالإنسان فتكا ذريعا ، وما أبقى على الأرض من المؤمنين ديارا ، كيف وهو عدوهم الألد الذي يبغي لهم الغوائل ، ويتربص بهم الدوائر .. إلى أن يقول : ما ادعى الشيطان القدرة على شيء مما نسبتم إليه ، فكيف تدعون له ما لم يدع لنفسه ، وكيف تكونون شياطين أكثر من الشيطان …؟) ( )
أما ما يتناقله بعض الناس من أنه بإمكان الإنسي التزوج من جنية..ومعاشرتها ..فهو أمر غير مقبول ..لا عقلا ولا نقلا .. فالإنسي مخلوق من طين ، والجني مخلوق من نار ، وكيف يمكن التزاوج بين الطين والنار ..؟ أو بين عالم الغيب وهو الجن ..وعالم الشهادة وهو الأنس .. ؟ فبين الجنسين اختلاف واضح ، وقد تناقلت الكتب كثيرا من القصص والروايات السخيفة والخرافات التي استدل بها القائلون بإمكانية زاوج الإنسي بالجنية ،
أورد بعضها \\\"الدميري\\\" ( ) وأورد بعضها الآخر \\\" بدر الدين الشبلي\\\" في كتابه( آكام المرجان في أحكام الجان) ، منها:- قوله: حدثني شيخ من بجيلة ..؟ قال :- (علق رجل من الجن جارية لنا ..ثم خطبها وقال :إني أكره أن أنال منها محرما ..فزوجناها منه ..قال : وظهر معنا يحدثنا ..فقلنا : من أنتم..؟
فقال : أمم أمثالكم ..وفينا قبائل كقبائلكم..؟ قلنا : وفيكم هذه الأهواء ..؟ قال : نعم، فينا كل الأهواء،القدرية، والشيعية،والمرجئة..! قلنا : ومن أيها أنت ..؟ قال : من المرجئة..! ) .
إذن من الممكن أن تأتي امرأة ساقطة وتبرىء نفسها بالقول : بأن جنيا يأتيها ..وأنها لم تفعل الفاحشة ..!
ولهذا عندما سئل \\\"الامام مالك \\\"عن إمكانية زواج الجني من الانسية قال: ( أكره ذلك .. فإذا وجدت امرأة حامل وقيل لها من زوجك.؟ قالت : من الجن ، فيكثر الفساد في الإسلام بذلك )( )
و قال \\\"الإمام الشافعي\\\" : ( من زعم أنه يرى الجن ، أبطلنا شهادته ، لقوله تعالى :[ إنه يراكم وقبيله من حيث لا ترونهم ...الآية ] ( )
وعن \\\"الربيع \\\"قال : - (سمعت الشافعي يقول : من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن رُدَّت شهادته ، وعُزِّرَ لمخالفته قوله تعالى :[ إنه يراكم وقبيله ] إلا أن يكون الزاعم نبياً .
ويقول \\\"أبو القاسم بن عساكر\\\": وممن ترد شهادته ، ولا تسلم له عدالته، من يزعم أنه يرى الحن عيانا ...) ( ) .
كما خَرَّج مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :-( إن عفريتا من الجن.. .إلى أن يقول :فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون اليه أجمعون أو كلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان -[رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ]( ) - فرده الله خاسئا )( )
قال \\\"القاضي\\\" :- معنى قوله (ثم ذكرت قول أخي سليمان ): أنه مختص بهذا ..فامتنع نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ربطه )( ) وهذا ما نعتقده ..لأن تسخير الجن معجزة لسيدنا سليمان-عليه السلام- والمعجزة لا تتكرر .. بمعنى : أنه لا يستطيع أحد الإتيان بمثلها ، فإن تمكن أحد من الإتيان بمثلها لا تكون معجزة .. ولا يزال القرآن يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن ، وبالتأكيد لا يستطيعون ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
ومع أن هناك روايات صحيحة تنفي رؤية الرسول-صلى الله عليه وسلم- للجن ....
منها :- حديث -ابن عباس- الذي رواه البخاري [في كتاب الأذان باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ]ورواه مسلم [في كتاب الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن ]وهو عن مسدد ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :- (ما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على الجن ولا رآهم .. الحديث ) لذلك قال الفخر الرازي في تفسيره لسورة الجن :- (أما القول الأول -وهو مذهب ابن عباس - أنه ما رآهم .. قال تعالى :- [ قل أوحي إلي لأنه استمع نفر من الجن ]( ) وفي هذا دليل على أنه لم يرهم ، إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي...فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي )( )
إلا أن هناك روايات أخرى يفهم منها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – رآهم ، واجتمع بهم ، فاستماع الجن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – تكرر غير مرة ، المرة الأولى : وهي المذكورة في سورتي الأحقاف ، والجن ، ثم هذه المرة التي تفيد أنه رآهم كما يفهم من الحديث المروي عن عامر قال : سألت علقمة، هل كان ابن مسعود مع رسول الله ليلة الجن ، قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد ليلة الجن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، قال: لا .. ولكنا كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة ، ففقدنا فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير ، أو اغتيل ، قال : فبتنا شر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : أتاني داعي الجن، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ….) ( )
فهذا الحديث من الأدلة الواضحة على أن الجن خلق قائم بذاته ، ومُصَرِّح برؤية الرسول – صلى الله عليه وسلم – للجن ، وهو من خصوصياته ، فما يجوز له- صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لغيره،كما هو معلوم
أما رؤيتهم متشكلين : فلا أنازع في أن الجن قادر على التشكل على شكل حيوانات وما شابهها ، وكل من يستطيع الرؤية يرى هذه الحيوانات ، ولكن ما الذي يدرينا أن هذا الحيوان بالذات –دون غيره من الحيوانات الأخرى المشابهة لها - إنما هو شيطان ، ألا يجر ذلك إلى أوهام لا طائل وراءها …
قال قاضي القضاة \\\" شرف الدين البازري \\\" رداً على المسائل التي سأله إياها الشيخ \\\"جمال الدين الأسنوي\\\" :-
( لا يجوز للإنسي أن يتجوز بامرأة من الجن..لمفهوم الآيتين الكريمتين : قوله تعالى:-[والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ]( ) وقوله سبحانه:- [ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ..]( ) ،
قال المفسرون في معنى الآيتين :- (جعل لكم من أنفسكم أزواجا- أي : من جنسكم ونوعكم ، وعلى خلقكم ...كما قال تعالى :- [لقد جاءكم رسول من أنفسكم ]( ) أي: من الآدميين ولأن اللائي يحل نكاحهن : بنات العمومة،والخئولة، فدخل في ذلك من هي في نهاية البعد كما هو المفهوم من آية : [ وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك] ( ) والمحرمات غيرهن ،وهن الأصول والفروع ، وفروع أول الأصول ، وأول الفروع من باقي الأصول ..كما في آية التحريم في النساء .. فهذا كله في النسب ، وليس بين الجن والآدميين نسب ) انتهى حواب البازري .
وقال السيوطي :- ( فإن قلت ما عندك .؟ قلت : الذي أعتقده هو التحريم ..لوجوه ..
1- منها -ما تقدم من الآيتين .
2- ومنها ما روي عن حرب الكرماني في مسائله عن أحمد ، واسحق ، عن نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن نكاح الجن .
وروي المنع وعدم إمكانية هذا الزواج عن كل من الحسن البصري ، وقتادة، والحكم بن عيينة ، وإسحق بن راهويه ،
والأصم ، بل سئل الحسن البصري عن حكم التزوج بجنية هل يجوز ..؟
فكتبَ تحت السؤال :- يُصفَعُ السائل لحماقته ..!
وقال \\\" الجمال السجستاني \\\" –من الحنفية-في كتاب – منية المفتي -: (لا تجوز المناكحة بين الأنس والجن ..لاختلاف الجنس .. )
3 -ومنها : أن النكاح شرع للألفة ، والسكون ، والاستئناس والمودة ، وذلك مفقود في الجن ..بل الموجود فيهم ضد ذلك .. وهو : العداوة التي لا تزول .
4 -ومنها : أنه لم يرد الاذن من الشرع في ذلك ، فان الله تعالى قال :-
[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ]( ) والنساء : اسم لإناث بني آدم خاصة ، فبقي ما عداهن على التحريم ، لأن الأصل في الإبضاع الحرمة ، حتى يرد دليل على الحل .. ) إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها السيوطي في كتابه( ).
أما استنتاج بعض العلماء المعاصرين من قوله تعالى في -الحور العين- [ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ]( ) إمكانية وقوع التناكح بين الإنس والجن ، فهو استنتاج مردود ..لم يقل به أحد..ولا دليل عليه من الآية لا تصريحا ولا تلميحا..ولنرجع إلى كتب التفسير لنرى ما يقرره المفسرون الأعلام في ذلك .. يقول صاحب تفسير- الفتوحات الالهية- ما نصه :- ( أي: لم يطمث الانسيات منهن أحد من الانس ، ولم يطمث الجنيات منهن أحد من الجن ... إلى أن يقول:- إن الخطاب في قوله تعالى [فبأي آلاء ربكما تكذبان ] للجن والانس ، للامتنان عليهم بحور موصوفات تارة [بقاصرات الطرف] ، وأخرى (بمقصورات في الخيام) ، وبكونهن [لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان] ،وقوله تعالى [إنس قبلهم] ، أي :قبل الأزواج الإنسيين والجنيين ..أي :أن كل واحدمن أفراد النوعين يجد زوجاته في الجنة اللائي كن في الدنيا ، يجدهن أبكارا ، وإن كن في الدنيا ثيبات ، فلم يسبقه غيره على زوجته حتى يجيء هو ، والزوج الإنسي : زوجاته إنسيات ، والجني : زوجاته جنيات . وهذا مذهب الجمهور ..) ( )
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : [ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض..الآية]( ) :- والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه ، فاستمتاع الجن من الانس، أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم ، وتلذذ الانس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم ..)( ) فليس في هذه الآية ولا في غيرها أي دليل على إمكانية التزاوج بين الإنس والجن ، وإلا لما تفضل الله على عباده بنعمة الزواج بأن جعل أزواجهم من جنسهم وسلالتهم أي معنى ...فليس للإنس صلة حسية بالجن ، وعدم الصلة هذه ثابته بدليل من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن سنة رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى .. وما شاع على ألسنة الناس من أن بعض الدجالين يمكنه الاتصال بالجن عن طريق التلاوات والأدعية الخاصة ، لاستخدامهم في معرفة الغيب أو الكشف عن أشياء مغيبة ، لا حقيقة له ، كيف وقد نفى الله سبحانه عن الجن أنفسهم معرفة الغيب. …….!؟
قال تعالى في سورة –سبأ-عن جن سليمان –عليه السلام- [فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ..]( ) فقد أخبرنا الله سبحانه في هذه الآيات أن الجن ظلوا في عذاب مهين ، وهم يعملون أمام سليمان دون أن يشعروا بموته ، فلما أكلت دابة الأرض عصاه ووقع على الأرض علموا بموته..ويفتري بعض الدجالين بأن الجن يعرفون غيب الماضي فقط ، أما غيب المستقبل فلا يعلمونه ، وهؤلاء يكذبهم الواقع ، فلو كان الجن يعلمون غيب الماضي حقا لما ظلوا في العذاب المهين مدة من الزمن ،وهم يعتقدون أن سليمان - عليه السلام -حي ، بينما هو ميت لا يدري من أمرهم شيئا ، وإذا كانوا هم قد جهلوا موت سليمان الذي حدث قبل اكتشافهم له بمدة ، فكيف يعلمون الماضي فضلا عن غيب الحاضر والمستقبل....؟ بل نفى القرآن عن الجن معرفة الغيب مطلقا ، قال تعالى:-[وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ..]( ).
كما شاع على ألسنة أهل الجهل والدجالين من الناس : أن الجن قادر على أن يلبس جسم الإنسان ويتصرف فيه .! واستدلوا بأحاديث زعموا أنها تسند دعواهم ، منها :-
1 - ما أخرجه البخاري ، ومسلم ، عن صفية بنت حيي قالت : - كان النبي – صلىالله عليه وسلم – معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا ، ثم قمت لأنقلب فقام معي لِيَقلِبَني ( أي : ليردني إلى منزلي ) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي – صلى الله عليه وسلم – أسرعا ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : - ( على رِسلكما ، إنها صفية بنت حُيَي ) فقالا : - سبحان الله يا رسول الله ، قال : - ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا – أو شيئا - )( ) أي : بأن تظنا بي سوءاً ، لأني مع امرأة ما عرفتم من هي .. ونقول : إن الاستشهاد بهذا الحديث في غير محله ، لأن مناسبته تقتضي أن المراد به الوسوسة .
2 - عن محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثني عيينة بن عبد الرحمن حدثني أبي ، عن عثمان بن أبي العاص قال : لما استعملني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي ، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( ابن أبي العاص ..؟) قلت : نعم يا رسول الله ، قال : ( ما جاء بك ..؟ ) قلت : يا رسول الله ، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما اصلي ، قال : ( ذاك شيطان ، أدنه ) فدنوت منه ، فجلست على صدور قدمي ، قال : فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال : - (أخرج عدو الله ) ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : ( إِلحَق بعملك ) فقال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد )( )
ونقول : - هذاالحديث ضعيف ، فعبد الرحمن بن جوشن الغطفاني ليس معروفاً بالضبط ، ولا يُعرف له سماع من عثمان بن أبي العاص ، ثم إن هذا الحديث مخالف لحديث أصح منه ، فقد أخرج مسلم وغيره من طرق عن الجريري ، عن أبي العلاء بن الشخير أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : - ( ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثا ) ( ) ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ، فهذا الحديث صريح أنه من الوسوسة ، لا التلبس المزعوم ، وهذه الرواية أصح من الرواية السابقة .. وهكذا كل ما استشهدوا به على صحة مزاعمهم لا يخلو من مقال . ولا يَسلَمُ من النقد .( )
وقد لا أكون متجنيا ، أو مخالفا للحقيقة إن قلت : إن هذه الخرافات انتشرت بين المسلمين بفعل بعض مسلمة أهل الكتاب ، أو ممن يريدون تشويه صورة الإسلام في عيون أهله والراغبين فيه ، ففي إنجيل مرقس ( الإصحاح التاسع 14- 29 ) : ( ولما لحقوا بالتلاميذ ، رأوا جمعا كثيرا حولهم ، وبعض الكتبة يحاورونهم ، فما أبصره الجمع حتى دهشوا كلهم وسارعوا إلى السلام عليه ، فسألهم : فيم تجادلونهم ..؟ فأجابه رجل من الجمع : يا معلم ، أتيتك بابن لي فيه روح أبكم ، حيثما أخذه يصرعه ، فيزيد الصبي ويصر بأسنانه وييبس ، وقد سألت تلاميذك أن يطردوه فلم يقدروا ، فاجابهم : أيها الجيل الكافر ، حتام أبقى معكم ..؟ وإلام أحتملكم ..؟ علي به ، فأتوا به ، فما إن رآه الروح حتى خبطه، فوقع إلى الأرض يتمرغ ويزبد ، فسأل أباه : مذ كم يحدث له هذا ..؟ قال : منذ طفولته ، وكثيرا ما ألقاه في النار أو في الماء ليهلكه ، فإذا كنت تستطيع شيئا فأشفق علينا وأغثنا ، فقال له يسوع : إذا كنت تستطيع ، إن المؤمن يستطيع كل شيء ، فصاح أبو الصبي لوقته : آمنت فشدد إيماني الضعيف، ورأى يسوع الجمع يزدحمون ، فانتهز الروح النجس وقال له : أيها الروح الأخرس ، أنا آمرك ، أخرج منه ، ولا تعد إليه ، فصرخ ، وخبط خبطا عنيفا ، وخرج منه ، فعاد الصبي كالميت ، حتى قال جميع الناس : لقد مات ، فأخذ يسوع بيده وأنهضه ، فقام ، ولما دخل البيت انفرد به تلاميذه وسألوه : لماذا لم نستطع نحن أن نطرده ..؟ فقال لهم : إن هذا الجنس لا يطرد إلا بالصلاة …)
(وانظر كذلك الإصحاح الثامن ، والتاسع والعاشر في إنجيل متى ) وانظر كذلك ( الإصحاح السابع عشر في إنجيل متى 14-21) وانظر في إنجيل مرقس ( الإصحاح الأول –32-35) (وانظر الإصحاح الخامس ، والثامن ، والثالث عشر من إنجيل لوقا ) … أبعد هذا يقال : إن للجن صلة حسية بالإنس ..؟
المبحث الرابع :
آراء المُنكرين اتصال الجن بالإنس ، وتسخير الإنس للجن
إضافة إلى بعض الأقوال التي أوردتها في المبحث السابق ، سأورد أقوالا لطائفة من العلماء استئناسا بها ، للدلالة على فساد مزاعم من يثبت أن للجن صلة حسية بالإنس ، مبتدئا برأي علماء الشريعة ، منها : -
1- قال الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الازهر : في رَدِّهِ على سؤال ورده بهذا الصدد :- [ صَدَّقَ كثير من الناس ما شاع من ذلك عن الجن ، وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف الصالح ، واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفقهاء وفرضوا صحته ، واتخذوا من هذا الفرض مادة جعلوا منها حقلا للتدريب على تطبيق كثير من الاحكام الشرعية عليهم ، وكان منهم أن تحدثوا عن صحة التزوج بهم ، ومن وجوب الغسل على الإنسية إذا خالطها جني ، وعن انعقاد الجماعة بهم في الصلاة ، وعن مرورهم بين يدي المصلي ، وعن روايتهم عن الانس ، ورواية الانس عنهم ، وعن حكم استنجاء الانس بزادهم وهو العظم ، وعن حكم الاكل من ذبائحهم ، إلى غير ذلك مما تراه منثورا في كتب الفقه ، أو تجده في كتب خاصة ذات عناوين خاصة بالجن وإني أعتقد أن ذلك من فقهائنا لم يكن إلا مجرد تمرين فقهي جريا على سنتهم في افتراض الحالات والوقائع التي لا يرتقب وقوعها ، أو التي لا يمكن أن تقع..واذن..ففروض الفقهاء والتي لم يقصدوا بها إلا مجرد التدريب الفقهي ..لا تصلح أن تكون دليلا على الوقوع والتحقق ، فلنتركهم على سننهم يفترضون..ومردنا في ذلك إلى القرآن ..والسنة .. وفيهما كثير من الأدلة التي تبين بوضوح عدم صحة ما يقوله البعض عن صلة الانس بالجن .. ولكن ضعفاء العقول من الناس غفلوا عن هذه الحقائق الثابتة ، وصدقوا هذه الاوهام والجهالات التي تحكي هذه الصلة المزعومة ، بل ظنوها من عقائد الإسلام وهو منها براء .. وقد جاء في القرآن ما يرشد الناس إلى صلتهم بالجن ، فأخبرنا بأنها محصورة في - التزيين والوسوسة والاغراء- كما يحدث للناس من الناس ، واقرأ قول الله وهو يأمرنا بالاستعاذة من شياطين الانس والجن ..قال تعالى :-[قل أعوذ برب الناس ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ،من الجنة والناس ] ( ).
واقرأ أيضا ما جاء على لسان الشيطان نفسه في قوله تعالى :
[ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم..الآية ] ( )
ومن هنا نفهم أن صِلَة الجن بالانسان ليست أكثر من الوسوسة.. والإِغراء… والدعوة.. والوعد …
كما يقول تعالى :- [فوسوس لهما الشيطان ..]( ) وكما يقول سبحانه : [وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم
في الارض ولأغوينهم أجمعين ] ( )
أما ما عدا هذا من كلام الناس حول صلة بعضهم بالجن فهو افتراء ،وقول بلا حجة صحيحة ،والله أعلم) ( )
2- وقال الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ردا على سؤال وجه إليه يقول :
[ يسقط أناس مرضى ..ويزعم زاعمون أن الجن دخل أجسامهم ..ثم يستدعون أناسا آخرين ..لإخراج هذا الجان من أجسام هؤلاء ..فهل هذا صحيح ..؟]…….فأجاب –رحمه الله- عن هذا السؤال بقوله :- [من الظواهر الشائعة بين عامة المسلمين أنهم يكثرون من قولهم أن الجان سكن جسم هذا الرجل أو جسم هذه المرأة ..وأنه يتكلم بما يتلفظ به هذا الرجل المريض ..ويأتون بأناس يزعمون أن لهم قدرة على إخراج الجان من أجسام هؤلاء وهذه ظاهرة خطيرة تتيح فرصا لسوء الاستغلال وابتزاز الأموال من الجهلة الاغرار ..وهذه الحالات المرضية تكون في الغالب من قبيل التشنج العصبي كما يقول الأطباء ، وهم يذكرون أن أفضل علاج له هو جودة الطعام وكثرة الرياضة في الأماكن النقية الهواء الجميلة المناظر المريحة للأعصاب ، وتجنب المثيرات والمكدرات ، مع تناول الأدوية المحددة لذاك المرض ، والله الذي خلق الداء خلق الدواء كما أخبرنا بذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، وهناك من قدماء العلماء من يقولون أن نسبة هذا المرض إلى الجن أو الشيطان أمر باطل ، لأن القرآن يقول حكاية عن الشيطان [وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .. ]( )
وقال هؤلاء :-إن قول الله تعالى في آكلي الربا :- [الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..]( ) وارد على طريقة العرب الذين الذي نزل القرآن بلغتهم ..وهذا مجاز يراد منه تصوير مدى الضلال والخبال الذي يحدث لأكلة الربا ..فإن الربا يفتح أبوابا للخسران والوبال ..
ولكن جمهور العلماء يقولون :-إن الشيطان هو كل عات متمرد من إنس، أو جن ، أو دابة ..والجن والعفاريت في لسان الشرع أجسام نارية غير مركبة وهي تنفذ إلى الاجسام نفاذ الهواء ..ومنهم الصالحون ، ومنهم الضالون.. ووجودهم ثابت في القرآن والسنة ..وقد استغل كثيرون هذا الأمر فراحوا يقولون عن كل شخص يصيبه مرض فيه تشنج أو اضطراب أعصاب : أن الجن قد دخل جسمه ..وسيطر عليه ..وتكلم بلسانه ..ولا يمكن أن يتحقق له الشفاء إلا على يد انسان مخصوص ..له قدرة يدعيها على إخراج الجن من أجسام المرضى..وهذا الاستغلال البشع هو الذي يشكو منه عقلاء المسلمين مر الشكوى لأنه يظهرنا بمظهر لا يليق أمام الأمم المثقفة المتعلمة المتقدمة في وسائل العلاج .والذي ينبغي للإنسان المريض هو أن يطلب الشفاء بتوفيق الله وعونه ، عن طريق الطبيب الثقة الحاذق المؤمن ، لأن الله تعالى قد هدى الإنسان إلى كثير من أسباب التطبب والعلاج ، سبحانه.. [علم الإنسان ما لم يعلم] ( )..ولقد تقدم العلاج النفسي كما تقدم العلاج الحسي فمن لم يجد علاجه عند طبيب الاجسام طلبه عند طبيب النفس ..والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم..]( )
3- وقال الشيخ علي الطنطاوي :
ردا على سؤال من طالبات في جامعة الملك عبد العزيز..إن محاضرة من خارج الجامعة ألقت محاضرة عن الجن قالت فيها :- (بأن الانسي يتزوج جنية ..وتلد له أولادا ..وأنها-أي المحاضرة- تعرف حوادث من هذا القبيل .! فهل هذاصحيح.. ؟) فأجاب –رحمه الله- بقوله : إنه ليس بصحيح ،وأن هذا إفساد لعقول الطالبات ، لا يجوز أن يلقى في الجامعة ..والعاقل لا يصدق إلا واحدا من اثنين : شيئا ماديا قام عليه الدليل العقلي ، أو ثبت بالتجربة ، أو كان ممكنا ونقل نقلا قطعيا ،وشيئا من الغيب نزل به الوحي فنص عليه في القرآن ، أو أتت به الأخبار في السنة .. وما تقوله السائلات :إن المحاضرة زعمته من زواج الرجل بجنية لم يقم عليه دليل نقلي ، ولا دليل عقلي ،وهو من خرافات العجائز وأوهام العوام ، وإن ورد مثله في تراجم بعض رجال القرن الماضي ..]( ).
4- قال الشيخ محمد الغزالي :
( تحدث معي بعض أهل العلم الديني ،وكأنهم رأوا إنكاري على أولئك المرضى ، وقالوا لي : لماذا ترفض فكرة احتلال الشياطين لأجسامهم ..؟ كان جوابي محددا : لقد شرح القرآن الكريم عداوة إبليس وذريته لآدم وبنيه ، وبين أن هذه العداوة لا تعدو الوساوس والخداع ، [ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا]( ). وليس يملك الشيطان في هذا الهجوم شيئا قاهرا ، إنه يملك استغفال المغفلين فحسب ، [ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ] ( )
وقد تكرر هذا المعنى في موضع آخر : [ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . وما كان له عليهم من سلطان ] ( ) . إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب إلى المسجد ..! ولا يدفع سكرانا في قفاه ليكرع الإثم من إحدى الحانات ..! إنه يملك الاحتيال والمخادعة ، ولا يقدر على أكثر من ذلك )( )
5- قال الدكتور عبد المحسن صالح- أستاذ الكيمياء بحامعة الاسكندرية-:
( إن بعض المتعلمين ممن حصلوا على مؤهلات جامعية قد جاءوني يوما وأسروا الي أن المدعو : \\\" الشيخ طلعت \\\" يستطيع أن يشفي بعض الأمراض عن طريق نفر من الجن ..!! وأن لذلك الجن صولات وجولات ..وأنه يأتمر بأمر الشيخ ..! ويحضر أدوية من تحضير الجن ولقد كانوا في حديثهم هذا جادين كل الجدية ، ولما أظهرت لهم استيائي من هذه الخزعبلات ..قام أحدهم وأحضر بعض الكبسولات ، وزعم أن الجن قد ألقاها في الهواء لتستقر في راحة شيخهم المزعوم ..ولما استأذنت في فحص محتويات احدى الكبسولات وفتحت واحدة منها ، وجدت بها مسحوقا ناعما ارتبت أن يكون دقيقا لبعض الحبوب ..وبالكشف عليه بقطرة من محلول اليود تحول لونه إلى أزرق غامق ..وبهذا الكشف الكيميائي المعروف عرفت أن محتويات الكبسولة ليست إلا مادة نشوية ..وهذه التجربة يعرفها حق المعرفة تلاميذ المدارس الثانوية....أضف إلى ذلك : أن تلك الكبسولات كانت من صناعة \\\" شركة سِيد \\\" (الشركة الكيميائية الدولية بالقاهرة ) ..والتي تستخدمها في تعبئة المضادات الحيوية .. ولما استقصينا الأمر أكثر ..توصلنا إلى أن لهذا الشيخ قريبا يعمل في ذات الشركة ..ومن المحتمل جدا أن يكون صاحبنا قد أحضر له كمية من الكبسولات الفارغة ، ليعبئها الشيخ بمعرفته دقيقا ، أو ما شابه ذلك ، وارتاب القوم فيما توصلت اليه وشككوا فيه ، وأكدوا أن جن -الشيخ طلعت- يفعل المعجزات ..! وأن كل ما يطلبه منه يجاب ..!وحددوا لي مقابلة مع شيخهم..وتمت المقابلة بحضور ستة منهم .. وبدأنا مناقشة طويلة لكي أستدرج شيخهم إلى الفخ ، ومن الطبيعي أنه أخذ يؤكد لي أن له على الجن سلطانا عظيما بأمر الله ، وأن الله سخرهم لخدمتنا ..و...و .. ومزاعم باطلة أراد أن يُخيفني بها..
وهنا قلتُ له :- إذا كان صحيحاً ما تقول ..فإنني أطلب خدمة تنفعني في ديني ودنياي ولا أظن أن الجن سيخيب أملي ما داموا مسخرين لخدمتنا ..وما دمت أنت -والحديث موجه إلى الشيخ- قادرا على توجيههم .. فانني أرجو وألح في الرجاء ، أن ترجو جنك المزعوم في احضار مادة كيميائية -أسميتها له-، لأننا نحتاج إلى هذه المادة الوحيدة في إجراء تجربة علمية في أحد المعامل ، وبهذه التجربة قد نخدم البشرية -وكان هذا الاجتماع بالشيخ قد تم في القاهرة- وبدلا من تجشمي السفرإلى جامعة الاسكندرية لإحضارها، فما أيسر على جِنِّك أن ييسر على الناس الأمر في العلاج والبحوث ..فماذا أنت قائل ..؟ عندئذ صمت الشيخ ما يقرب من دقيقة ..وراح فيما يشبه الغيبوبة ..وظن الحاضرون أنه على اتصال بجنه لا محالة .. وأنه سيفحمني بمعجزاته الخارقة .. وبعدها قال بنبرة فيها ثقة واعتداد :- إن الجن لا يقبل التحدي..! ولهذا يرفض احضار الزجاجة ..
فقلت بثقة واعتداد أيضا:- أنت ذكي ، وما عداك مخدوع غبي …..فالشيخ المزعوم الذي تحََدثنا عنه استطاع أن يحصل من كل واحدٍ وواحدةٍ من المجموعة التي تثق في مُعجزاته على مئات الجنيهات ..وبعضها جنيهات ذهبية.. لأن الجن على حد زعمه تهوى الذهب .. ولا تعمل ولا تستجيب إلا في وجود هذا المعدن النفيس ....... إن مثل هذه الخرافات لا تجوز حقا إلا على أصحاب العقول الضعيفة..وأن الجن الذي يزعمون تحضيره وتسخيره ، ويُحضِرُ لهم الشيء من لا شيء ، إنما هو شعوذة حقيقية تُرتكب باسم الدين ، والدين منها بريء ، فهو دين العقل والحكمة ،والموعظة الحسنةلا دين هؤلاء المشعوذين الذين يضحكون على عباد الله الطيبين ) ( )
6- رأي علماء النفس :
لعلماء النفس رأي في هذه القضية كذلك ..لا بد من إيراده لنستكمل الموضوع من جميع جوانبه ..ولتتضح الحقيقة لمن يريد أن يفهمها .. يقول الدكتور عادل صادق - وهو من أشهر الأطباء النفسيين في مصر والعالم- : ( في رأيي أن الإنسان سيظل حتى نهاية الحياة يؤمن بهذه الخرافات التي وجدت منذ أن وجد الإنسان ، فمنذ أن نزل الإنسان على الأرض، والشيء الوحيد الذي لا يعلم عنه شيئا هو :- غده ، أي : المستقبل ، وحين يأتي المستقبل فإنه قد يحمل معه خيرا ، أو شرا ، ومن هنا تعلم الإنسان القلق من أجل المستقبل، وتعلم أيضا الشعور بالخوف ..ولهذا فهو يحاول دائما استقراء الغد، ولكن هيهات أن يعلم عنه شيئا ، فهذه حكمة الخالق فهذا القلق هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وإلى الحذر..ولو انكشف لنا الحجاب عن المستقبل لتوقف الإنسان ..ولانتهت حياته منذ زمن بعيد ..
ثم يقول : من غير شك يزداد الايمان بهذه الظواهر بين غير المتعلمين ..وفي الشعوب المتخلفة ، فقلقهم من أجل المستقبل أعظم ، وكان من مصلحة الاستعمار الأجنبي الذي سيطر على هذه الشعوب أن يغذي هذه الخرافات لديهم ، ليعيشوا في الوهم وليبتعدوا عن التطور العلمي العالمي ،وبذلك تتم السيطرة عليهم ، واستنزافهم لفترة أطول ..
وهذا يمثل الجانب السياسي في ظاهرة انتشار الخرافات في الشعوب البدائية والمتخلفة ..وقلق الإنسان قد يتحول إلى يأس حين يُواجَهُ بمشكلة في حاضِرِه يعجز عن حَلِّها ..وخاصة المشاكل المَرَضية التي يعجز عن حلها العلم الحديث ، هنا لا يكون أمامه غير اللجوء إلى عالم السحر والجن .....
وأشهر الشخصيات المرضية المعروفة هي الشخصية الهستيرية .. وهي شخصية غير ناضجة انفعاليا تتميز بالسطحية في التفكير ، والوجدان ، والميل إلى المبالغة والتهويل ، مع استعدادها لتقبل الايحاء ، والقصص التي نسمعها عن الجن والمتصلين بالجن ، يرجع الفضل في انتشارها وبالطريقة التي نسمعها بها ، إلى أصحاب الشخصيات الهستيرية الذين لديهم الاستعداد لتصديق كل شيء وترويجه بصورة مُبالغ فيها .....
إلى أن يقول : وفي مجال الأمراض العقلية يوجد مرض اسمه -الشيزوفرينا- وهو في الحقيقة أكثر من مرض ، وقد يكون في صور متعددة للغاية، إحدى هذه الصور:-هي-الهلاوس- ، وهو أن يرى المريض أو يسمع أشياء لا وجود لها ، وفي المجتمعات البدائية ، وبالذات في القرى والبوادي والأرياف ، حيث يعتقد الناس أن هذا المريض تسيطر عليه روح شريرة ، أو أنه تحت سيطرة الجان ..أو أن ما يراه وما يسمعه أشياء حقيقية من عالم الجن والأرواح ، وقد تسيطر على المريض فكرة أنه على اتصال بالجن والأرواح ، وقد يصدقه بعض الناس ، وفي بعض المجتمعات يعامل هؤلاء معاملة خاصة على أن لهم قدرات غير عادية ، أو أنهم من أصحاب الكرامات ،بينما هم في الحقيقة من المرضى العقليين، ولاشك أن بعض المنحرفين ممن يسميهم الطب النفسي-السيكوباتيين-يلجأون إلى هذا الادعاء ، وهو قدرتهم على الاتصال بالجن ، وشفاء المرضى ، من أجل القيام بعمليات النصب والاحتيال ، والارتزاق غير الشريف ، وهم يمثلون الغالبية العظمى ممن يمتهنون هذه الأعمال ، وخاصة في مجتمعنا ، وهم بلا شك يتمتعون بذكاء وقدرة على التأثير والاقناع ، وخاصة أن زوارهم من المرضى ومحدودي الذكاء ، وممن لديهم قابلية مرتفعة للايحاء .. وقد يقول البعض:-إن بعض مرضاهم يشفون ، وهذه حقيقة ، لأنهم ليسوا مرضى حقيقيين ، ولكنهم مرضى بالوهم ، وبأعراض هستيرية مؤقتة قابلة للشفاء تحت تأثير الإيحاء ، وقد وصل الطب إلى هذه الحقيقة باختراع نوعية معينة من العقاقير لهؤلاء المرضى ، عقاقير ليست مؤثرة ولا فعالة ، ويسمى هذا العقار:- بالعقار المُمَوَّه ، أو :الدُّمية ، وحين يتعاطاه المريض يشفى من أمراضه ، رغم أنه عقارٌ غيرفعال ، وهذا دليل على قابلية المريض الشديدة للإيحاء ....) ( ).
الخاتمة
نستنتج من كل ما سلف ، أن لا صحة لقول من أنكر وجود الجن ، أو زعم أنه يتلبس
بدن الإنسان .. أو أن للإنسان القدرة على تسخير الجن ، أو زواج الإنسي بالجنية ،
أو الجني من الإنسية ، وأن كل ذلك أوهام، درج المشعوذون في كل العصور على
غرسها في نفوس ضعاف العقول والإيمان ، وساعدهم في ذلك طائفة من المُتَّسِمين بِسَمتِ
أهل العلم والدين ، الذين انطلت عليهم بعض الحكايات والقصص الموضوعة ، والأحاديث الضعيفة التي لا يُقبل الاحتجاج بها ، ولا تصلح بمجموعها أن تتقوى ، لأن أغلبها شديد الضعف ، واضح النَّكارة ، أفسدوا بها حياة الناس ، وصرفوهم عن السنن الطبيعية في العلم والعمل ، وعن النافع المفيد . وجدير بالمسلمين أن لا يجعلوا لدجل المشعوذين سبيلا إلى قلوبهم ، وليعرفوا ما أوجب الله عليهم معرفته ، مما يفتح لهم أبواب الخير والسعادة ، ولم تلق هذهالحكايات والقصص رواجاً عند كثير من علمائنا الأعلام ، ناهيك عن أن يكون ذلك باتفاق أهل السنة والجماعة ، البريئين من هذا القول براءة الذئب من دم ابن يعقوب ...
مراجع البحث
1. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ،لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني ، وبهامشه صحيح مسلم بشرح النووي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
2. - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (825هـ)، مكتبة الكليات الأزهرية 1969م.
3. - الأغاني،لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني( 360هـ) ،طبع دار الكتب المصرية ،1927م.
4. - آكام المرجان في أحكام الجان ، للقاضي بدر الدين الشبلي .مكتبة القرآن ، القاهرة .
5. - الإنسان الحائر بين العلم والخرافة ، د . عبد المحسن صالح ، سلسلة عالم المعرفة الكويتية،رقم235.
6. - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ، عني بشرحه وضبطه محمد بهجة الأثري ، دار الكتب الحديثة ، للسيد محمود شكري الألوسي.
7. - تاج العروس من جواهر القاموس ، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (1205هـ) ، مكتبة الحياة ببيروت .
8. - تفسير التحرير والتنوير ، الاستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ، دار سحنون للنشر ،تونس .
9. -تفسيرالقرآن الكريم المسمى بالسراج المنير، للخطيب الشربيتي،دار المعرفة ،بيروت .
10. - تفسيرالقرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ، طبع محمد علي صبيح بالقاهرة 1948م
11. - تفسيرالقرآن الكريم، جزء عم، للشيخ محمد عبده، ط2/1329للهجرة
12. -التفسير والمفسرون ، لشيخنا الدكتور محمد حسين الذهبي،ط2/1976، دار إحياء التراث العربي. بيروت .
13. - تقريب التهذيب ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ،حققه عبد الوهاب عبد اللطيف ، الطبعة الثانية بدار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 1395هـ ، 1975م .
14. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ، لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ( 430هـ) مطبعة الظاهر بمصر ، سنة 1326هـ.
15. - الجن بين الحقائق والأساطير، مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1970م ، للأستاذ على الجندي ، عميد دار العلوم سابقا
16. - الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي ، (671هـ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة ، 1987م .
17. - حياة الحيوان الكبرى-لكمال الدين محمد بن موسى الدميري( 808هـ) ويليه عجائب المخلوقات ، للعلامة زكريا بن محمد بن محمود القزويني (600هـ) الطبعة الرابعة ، 1389هـ، 1969م . شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي – القاهرة .
18. – الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ ، ( 255هـ)تحقيق عبد السلام هارون ، ط/ دار الجيل ، بيروت .
19. - دائرة المعارف الاسلامية :مادة(جن)المجلد السابع ، ترجمة أحمد الشنتاوي وزملاؤه ، دار المعرفة ، بيروت /لبنان
20. - ديوان الصادح والباغم، للأديب الشاعر محمد بن محمد بن صالح العباسي الهاشمي المعروف (بابن الهبارية)نشره وشرح ألفاظه،عزت العطار، 1936م بالقاهرة .
21. - الرسائل الحكيمة في أسرار الروحانية، يعقوب بن اسحق الكندي ، نشرتها مجلة المورد العراقية.
22. -رسالة الغفران ،لأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله ( 449هـ)، تحقيق وشرح الدكتورة عائشة عبد الرحمن طبع دار المعارف بالقاهرة ، 1969م .
23. - سنن ابن ماجة : محمد بن يزيد القزويني (275هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، نشر عيسى الحلبي .
24. - السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، الشيخ محمد الغزالي ، الطبعة الرابعة 1989م ، مكتبة دار الشروق – القاهرة
25. -شرح السيرة النبوية ، رواية ابن هشام ، تأليف الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الفقيه أبو ذر بن محمد بن مسعود الخشني ، طبع بمطبعة هنية بالموسكي ، القاهرة عام 1329هـ .
26. - الشهاب الراصد ، للاستاذ محمد لطفي جمعة ، ط المقتطف بالقاهرةسنة1926م.
27. - صحيح الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، وشرح الإمام النووي يحيى بن شرف ( 676هـ) على صحيح مسلم ، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت
28. - صحيح البخاري محمد بن اسماعيل بن ابراهيمبن المغيرة البخاري ( 256هـ) وبهامشه حاشية أبي الحسن السندي ، طبعة مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة سنة 1953م .
29. - فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الافتاء بالسعودية .
30. - صراع بين الحق والباطل، للاستاذ سعد صادق محمد،ط ،أنصار السنة المحمدية، القاهرة .
31. - صواعق من نار في الرد على صاحب المنار ، عبد الرافع نصر، طبع القاهرة
32. -صيحة الحق : ابو الوفاء الشيخ محمد درويش ،المكتبة العصرية ، بيروت ، 1982م .
33. - علاقة الجن بالانسان، حسان عبد المنان، نشر مكتبة برهومة، عمان ط1/1995م.
34. - الفتاوى -للشيخ محمود شلتوت ، طبع دار المعارف ، القاهرة ..
35. - فتاوى الشيخ علي الطنطاوي ، مكتبة الشواف بالرياض
36. - الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية ، سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل
( 1204 هـ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
37. - فرق الشيعة، لأبي محمدالحسن بن موسىالنوبختي، المطبعة الحيدرية بالنجف .
38. -في الشعر الجاهلي ، د. طه حسين -طبع دار المعارف بالقاهرة .
39. -كتاب البغال ، من رسائل الجاحظ- تحقيق عبد السلام هرون.
40. - لسان العرب،لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ( 711هـ) دار صادر ، بيروت
41. - لسان الميزان ، لابن حجر العسقلاني ، دار الكتاب الاسلامي ، بيروت .
42. - اللهجات العربية نشأة وتطورا ، د. عبد الغفار حامد هلال ، ط2 1410 هـ، 1990م
43. - مجموع فتاوىشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الخنبلي . المجلد التاسع عشر .
44. - مختار الصحاح ، لأبي بكر الرازي ، طبع الاميرية بمصر
45. - مروج الذهب، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ، ط دار الشعب بالقاهرة .
46. - المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911هـ)تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرين ، الطبعةالرابعة ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1958م.
47. - المعتد في أصول الدين ، أبو يعلي محمد بن الحسين بن خلف الحنبلي ، تحقيق د. وديع زيدان حداد ، دار المشرق ، بيروت
48. - معجم المصطلحات النحوية والصرفية ،للدكتور محمد سمير نجيب اللبدي ، ط مؤسسة الرسالة198 8م .
49. - معجم مقاييس اللغة ، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، تحقيق عبد السلام هارون ، الطبعة الثانية ، 389هـ، 1969م ، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي ، القاهرة .
50. - المعرب من الكلام الأعجمي ، لأبي منصور الجواليقي، تحقيق وشرح :أحمد محمد شاكر ، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، 1942م .
51. - مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير ، للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي ( 606هـ) ، دار الكتب العلمية ، طهران ، الطبعة الثانية .
52. - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام –للدكتور جواد علي ط1، دار العلم للملايين ، بيروت
53. - الموسوعة الفقهية ، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ، دولة الكويت ، ج16 (مادة جن – ص 89 ) الطبعة الثانية ، سنة 1989م .
54. -النص القرآني بين التفسير والتأويل ، رسالة دكتوراة بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف تفسير تحت
رقم ( 950 ) ، مكتوبة بالآلة الكاتبة، د. عبد الفتاح ابراهيم سلامة .
55. - يسألونك في الدين والحياة ، للشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ، دار الكتب الحديثة بمصر
دوريات
1- مجلة الصراط المستقيم ، الصادرة في الهند، سنة1986م، عدد/50 نقلا عن بيان القرآن لغلام أحمد القادياني .
مجلة الهلال المصرية ، عدد يوليو سنة 1983م .
2- مجموعة المنار لسنة1320هـ .. .
3- مجلة الجامعة الاسلامية ، غزة ، ( سلسلة الدراسات الاسلامية ) مجلد: 15 ، عدد:2 . يونية:2007م.
بحث(الجن المسلم )، دراسة توثيقية تحليلية . أ.د نافذ حماد ، ود. زكريا زين الدين .